المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نشأة المناهج العلمية وتطورها - أصول البحث الأدبي ومصادره - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مقدمة في أصول البحث الأدبي ومصادره

- ‌كلمة "بحث": معناها، ودلالتها

- ‌العرب والثروة الأدبية

- ‌الطرق التي ساعدت العرب على حفظ تراثهم

- ‌الدرس: 2 العرب والبحث العلمي - مناهج التأليف عند العرب (1)

- ‌هل كان العرب مجرد مبدعين أم أنهم عرفوا طريق البحث العلمي

- ‌أدوات البحث العلمي عند العرب

- ‌اتجاهات التأليف عند العرب "اتجاه الاختيارات الأدبية المجرد

- ‌الدرس: 3 مناهج التأليف عند العرب (2)

- ‌بعض المصادر التي تمثل اتجاه الاختيارات المجردة

- ‌الاتجاه الثاني "اتجاه أصحاب الطبقات والتراجم

- ‌الدرس: 4 مناهج التأليف عند العرب (3)

- ‌كتاب (الشعر والشعراء) كنموذج على اتجاه الطبقات والتراجم

- ‌الاتجاه الثالث: "اتجاه الدراسة الأدبية والنقدية

- ‌الدرس: 5 مناهج التأليف عند العرب (4)

- ‌الاتجاه الرابع "الموسوعات العلمية

- ‌الصور التي جاءت عليها الموسوعات، ونماذج لها

- ‌الدرس: 6 مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث

- ‌حقيقة المنهج وأهميته في مجال البحث العلمي

- ‌نشأة المناهج العلمية وتطورها

- ‌الدرس: 7 المنهج التاريخي

- ‌المنهج التاريخي: مفهومه، ونشأته، ومقياس الجودة عند أصحابه

- ‌قيمة المنهج التاريخي في مجال البحث الأدبي

- ‌الدرس: 8 المنهج النفسي

- ‌صلة الأدب بالنفس

- ‌حقيقة المنهج النفسي، وعلاقة النفس بالأدب

- ‌نشأة المنهج النفسي، وتطوره في العصر الحديث

- ‌مقياس الجودة الفنية عند أصحاب المنهج النفسي، وقيمته

- ‌المآخذ على المنهج النفسي

- ‌الدرس: 9 نظرية الفلسفة الجمالية وعلاقتها بالدراسات الأدبية

- ‌نظرية الفلسفة الجمالية وقيمتها في مجال البحث الأدبي

- ‌رؤية العربي لفكرة الجمال الأدبي

- ‌الدرس: 10 المنهج المتكامل وقيمته في مجال البحث الأدبي الحديث

- ‌أهم المناهج البحثية: المنهج المتكامل

- ‌ملاحظات لمن يريد استخدام المنهج المتكامل، وبيان قيمته

- ‌الدرس: 11 خطوات البحث الأدبي (1)

- ‌مادة البحث الأدبي

- ‌خطوات البحث العلمي: اختيار موضوع البحث

- ‌الدرس: 12 خطوات البحث الأدبي (2)

- ‌رسم الخطة

- ‌تحديد المصادر والمراجع

- ‌الدرس: 13 خطوات البحث الأدبي (3)

- ‌استقراء المصادر والمراجع

- ‌كيفية استخدام القدماء والمحدثين للمصادر

- ‌الدرس: 14 خطوات البحث الأدبي (4)

- ‌صياغة البحث

- ‌مراعاة قواعد الكتابة العربية في صياغة البحث

- ‌الدرس: 15 مفهوم التحقيق والتوثيق وشروط المحقق

- ‌(مفهوم التحقيق والتوثيق

- ‌شروط المحقق

- ‌الدرس: 16 كيف نحقق نصا أو مخطوطا

- ‌جمع النُسخ، وترتيبها

- ‌تحقيق العنوان، واسم المؤلف، ونسبة الكتاب

- ‌الدرس: 17 تحقيق متن المخطوط

- ‌مقدمات الدخول إلى النص

- ‌الخطأ وكيفية علاجه

- ‌الدرس: 18 الخروم والسقط، والتصحيف والتحريف

- ‌(الخروم والسقط

- ‌التصحيف والتحريف

- ‌أسباب انتشار ظاهرة التصحيف والتحريف

- ‌الدرس: 19 تخريج النصوص وإخراج المخطوط

- ‌(تخريج النصوص

- ‌عملية إخراج المخطوط

- ‌الدرس: 20 صنع الفهارس

- ‌التعريف بالفهارس وأنواعها

- ‌كيفية صناعة الفهارس

- ‌فهرسة المخطوطات

الفصل: ‌نشأة المناهج العلمية وتطورها

النظريات والمناهج؛ بقصد الوصول إلى نتائج أكثر دقة، لا يعيش بمعزل عن المناهج والنظريات العلمية الحديثة، التي تتصل بالأدب، والتي يمكنه الإفادة منها في مجال البحث الأدبي.

وقد نصادف باحثًا فطنًا لبيبًا، يتصور طريقًا يسلكها بحثًا عن الحقيقة، لم تحدد أصول هذه الطريقة من قبل، الطريقة التي يتصورها الباحث لم تحدد أصولها من قبل، لكنه اقتنع بها، ورآها صالحة مجدية، ومناسبة للموضوع الذي يعالجه في بحثه، ورأى أنه بإمكانه التوصل من خلال هذه الطريقة إلى نتائج مرضية، ماذا نفعل في هذه الحالة؟ هل نقبل منه ذلك المنهج، أم نرفضه؛ لأنه ليس منهجًا مشهورًا؟

الحقيقة: أنه في هذه الحالة يحسب ذلك للباحث، إذ من حقه أن ينظم أفكاره بالطريقة، التي يراها صالحة، بحيث تكون صحيحة في النهاية، وتسلم إلى نتائج دقيقة، وتسمى هذه الطريقة حينئذ بالمنهج التلقائي، ولو اطلع عليه علماء المناهج فيما بعد، لربما ارتضوا منهجًا ضمن مناهجهم البحثية في مجال الأدب والنقد، إذا تحققت عندهم المقاييس الموضوعة في علم المناهج، هذا بالنسبة لمفهوم المنهج، وأهميته في مجال الدراسات الأدبية.

‌نشأة المناهج العلمية وتطورها

أما عن نشأة المناهج العلمية وتطورها، فيمكن القول:

إن أرسطو يعد أول من استخدم منهجًا علميًّا في البحث، واتخذه طريقًا للاستدلال والاستنباط، حين تحدث عن الكليات الخمس المعروفة لدينا: الجنس، النوع، الفصل، الخاصة، العرض.

وقد لعبت هذه الكليات دورًا عظيمًا في دراسة جميع العلوم عند العرب، استفاد منها العرب في الحقيقة في مجال التأليف، وأهم من الكليات عند أرسطو، تلك

ص: 100

القضايا التي تتكون منها مقدمات القياس، وتتنوع أشكال القياس عنده تنوعًا واسعًا، وقد اهتم العرب بمنطق أرسطو، منذ أن طرقوا باب التأليف، فأخذوا يترجمونه ويشرحونه، ويلخصونه في مؤلفات كثيرة، لم يقفوا عند هذا الحد، ولكنهم استخدموه منهجًا لهم في وضع علومهم، ليس في مجال الأدب فحسب، وإنما نجده ماثلًا في علم الفقه مثلًا، وأصول الفقه، حيث تحدث الفقهاء عن الحدود والتعاريف، والكلي، والجزئي، والعام، والخاص، والقياس.

كما وضح في علوم اللغة والنحو، حين توسع النحاة في الحديث عن القياس، كما توسعوا في الحديث عن العلل، التي يقوم عليها القياس، وهم بذلك في الحقيقة يحاكون أرسطو، حين تحدث عن العلل الأربعة: المادية والصورية والفاعلية والغائية، وقد أدرك العرب قبل غيرهم أن القياس الأرسطي قياس رياضي، يبدأ من الكليات، ثم يطرد في المفردات الجزئية، وإن صح ذلك في الرياضيات، لا يصح في مجال الدراسات الطبيعية والإنسانية، فإن القياس في هذه الدراسات، يبدأ من المفردات الجزئية إلى الكلية العامة، ومن ثم عد الاستقراء، والملاحظة أصلين أساسيين في دراسة تلك العلوم وبحثها.

وضمت التجربة إلى العلوم الطبيعية، هذا في الحقيقة يشهد بعبقرية العرب، وأنهم لا يكونوا مجرد مقلدين، وإنما كانت لهم رؤيتهم الفكرية والمنهجية، التي أدركوا من خلالها أن القياس الأرسطي قياس رياضي، وفهموا ذلك فهمًا عميقًا، ومن خلال إدراك العرب ذلك، تمكنوا من تحقيق نهضة علمية شاملة، تجاوزت حدود العلوم اللغوية والدينية، وحققت ازدهارًا عظيمًا في مجال الطب والصيدلة، والكيمياء، والفلك؛ بفضل التجارب الكثيرة، التي كان يجريها العلماء، وبفضل العبقرية التي كانوا يتصفون بها، والتي من خلالها قدموا إضافاتهم إلى ذلك المنطق الأرسطي.

ص: 101

ومن أهم البحوث الأدبية عند العرب، التي اتضح فيها المنهج الأرسطي، كتاب (البرهان في وجوه البيان)، لابن وهب، الذي نشر باسم (نقد النشر)، ونسب إلى قدامة، فقد عقد المؤلف فيه فصلًا للقياس، تحدث فيه عن الحد والوصف والمقولات، وفصل صور القياس، وصرح أنه نقل الفصل كله عن المناطقة، هذه أمانة علمية ينبغي التنبه لها.

فإذا تركنا كتاب (البرهان) إلى كتاب آخر، وليكن مثلًا كتاب (الأغاني) للأصفهاني، وهو أكبر مصنف يحتوي على ترا جم الشعراء في العصر الجاهلي، وما تلاه من عصور، يعرض المؤلف لآراء النقاد في هؤلاء الشعراء، نراه حين يتناول شاعرًا من الشعراء، يعرض أخبارًا متفرقة عن الشاعر في مواقف شتى، لا يعرضها عرضًا تاريخيًّا منظمًا أو مرتبًا، ليس معنى ذلك أنها أخبار غير دقيقة، لا هي في نفس الوقت تتسم بالدقة، لا تلبث هذه الأخبار المتفرقة، لا تلبث حين تمسها يد صناع، أن تسوى منها حياة الشاعر، وأطورها، وتكشف عن ثقافته وظروفه وفنه.

يعني: نعرف من خلال هذه الأخبار المتفرقة، كل ما يتصل بالشاعر من قريب أو بعيد، ونحس ونحن نقرأ هذه الأخبار ميل الأصفهاني الشديد، إلى لاستقصاء والاستقراء، ودقة الملاحظة، والاستنباط، هذه كلها تتصل بالمنطق الأرسطي، ولكن ذلك المنطق وظف توظيفًا جيدًا.

وعلى هذا النحو كان العرب يستضيئون بمنطق أرسطو في بحوثهم الأدبية، وغيرها، وكانت لهم محاولات خصبة للعناية بالجزئيات، والمفردات، واكتمال الاستقراء، وصحة الاستنباط تتسع في الملاحظة اتساعًا شديدًا، وقد ظلوا مع ذلك يحتكمون إلى المنطق الأرسطي، مكثرين من القواعد والضوابط والأقيسة،

ص: 102

وكانت لهم رؤيتهم الخاصة، وهم يتعاملون مع هذا الفكر، حسبما تقتضيه طبيعة علومهم، وبيئتهم، ظلوا على ذلك حتى ظهر عصر النهضة.

هذا عن موقف العرب من المناهج، وهو موقف مشرف، إن دل فإنما يدل على صحة فكرهم، وعبقريتهم في ذلك المجال، بدليل تلك الإضافات والنهضة العلمية الرائعة، التي لا زلنا إلى الآن ننبهر، ونحن نتعمق فيها.

أما الغرب فإنهم بدأوا يتعرفون على العلوم العربية، عرفنا الآن ما قدمه العرب نتيجة استخدامهم لهذا المنطق، وتوظيفهم له، وإضافتهم إليه، الغرب تعرف على العلوم العربية ومؤلفاتهم وتأملوها بدقة، وقفوا أمام تجاربهم، تأملوا ما نادى به العلماء والمفكرون العرب، من العناية بالاستقراء الكامل، والملاحظة والتجربة.

استوعب الغربيون كل ذلك الفكر العربي استيعابًا جيدًا، وبدأ بعض الفلاسفة الغربيين يهاجم منطق أرسطو، والسر في ذلك هو الفهم العميق، لما قدمه العرب، فالفكر العربي هو الشرارة، التي انطلق منها البحث العلمي، أو المناهج البحثية عند الغرب، استوعب الغربيون الفكر العربي استيعابًا جيدًا، وبدأ بعض الفلاسفة الغربيين، يهاجموا منطق أرسطو.

فرأينا الفيلسوف الإنجليزي روجر بيكون، الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، رأيناه يهاجم المنطق الأرسطي، وما يفضي إليه من اعتماد العلم على الطريقة القياسية فحسب، لم يعجبه هذا، وقال: إنه ينبغي أن يعتمد على التجربة قبل كل شيء، وهذا ليس بجديد، وإنما فعله العرب من قبله، وهاجم أتباع أرسطو روجر بيكون، لم يعجبهم رأيه، هاجموه مهاجمة عنيفة حينذاك.

ص: 103

لكن فكرته ظلت حية، حتى بعث فيها الحياة من جديد أحد أتباع مدرسته، وهو الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون، الذي عاش في النصف الثاني من القرن السادس عشر، والربع الأول من القرن السابع عشر الميلادي.

تأمل هذا التسلسل، وذلك الترتيب ونحن نتحدث عن نشأة المناهج الحديثة، كيف نشأت وتبلورت؟ فرانيسيس بيكون الذي عاش في النصف الثاني من القرن السادس عشر، يعد فاتحة عصر جديد في مجال البحث العلمي، ماذا فعل فرانسيس بيكون في هذا المجال؟ أخذ هذا الرجل يحذر من استخدام المنطق الأرسطي، وأقيسته في علوم الطبيعة لماذا؟ لماذا حذر فرنيسيس بيكون من استخدام هذا المنطق، وأقيسته في علوم الطبيعة؟ أو في العلوم الطبيعية؟

لاعتماده على أمثلة جزئية في وضع القوانين الطبيعية العامة؛ لأنه يعتمد أمثلة جزئية، ورأى أنه لا بد من الاستقراء الكامل، والاستعانة بالتجارب المتعددة بجانب الأقيسة، والاعتماد على هذه الأمثلة الجزئية، إضافات تعلم من العرب، تعلم كيف يتعامل مع الفكر الأرسطي، وسبقه العرب في الحقيقة إلى ذلك.

كما رأى أن هذا أيضًا لا يكفي، رأى أن الاستقراء الكامل، والاستعانة بالتجارب المتعددة، رأى أن هذا أيضًا لا يكفي في مجال البحث في العلوم الطبيعية، بل لا بد من جمع الأمثلة القليلة، التي تنقض القانون العام، لماذا؟ لأن الأمثلة مهما كثرت وكانت صحيحة حقيقية، يمكن لمثال واحد سلبي أن ينقضها جميعها، ومن ثم فهو يرتب أمثلة أي قانون، فهو يرتب أمثلة أي قانون في ثلاث مجموعات مهمة، مجموعة إيجابية مجموعة سلبية، مجموعة متفاوتة الدرجة، يعني بين الإيجاب والسلب.

ص: 104

ودائمًا في كل خطواته لا بد من التجريب، والتجربة وحدها لا تكفي عنده، التجربة وحدها لا تكفي عنده، بل لا بد من الاستنباط والنشاط العقلي، تأمل ماذا فعل الرجل فرانيسيس بيكون؟ إنه أحدث ثورة حقيقية في مجال البحث العلمي، مهتديًا بأفكار العرب، ورؤيتهم التي أضافوها إلى منطق أرسطو، فالمنهج العلمي في البحث عن فرانسيس بيكون، يتمثل في الجمع بين التجربة، وبين القياس، أو بعبارة أخرى أدق: هو الذي يجمع بين الاستقراء القائم على التجربة، وبين القياس العقلي المحكم، يجمع بين الاستقراء القائم على التجربة، وبين القياس العقلي المحكم.

أين هذا مما فعله العرب من قبله؟ هل هذا بجديد؟ إطلاقًا، هذا ما سلكه العرب من قبله في بحوثهم، التي أشرنا إليها، ثم ظهر بعد ذلك الفيلسوف الفرنسي ديكارت، في القرن السابع عشر، ورأى أن يضع للعلوم كلها رياضية، وطبيعية منهجًا واحدًا، صور هذا المنهج في مبحثه، أو في بحثه مقال في المنهج، أولًا: هاجم منطق أرسطو، كما هاجمه الفلاسفة من قبله، لماذا هاجمه؟ لأنه يفترض في مقدمات أقيسته، أنها يقينية لا يرقى إليها شك.

ديكارت طبعًا لا يرضى بهذا على الإطلاق، كما سيتضح، أرسطو يفترض في مقدمات أقيسته أنها يقينية لا يرقى إليها شك، طيب ما موقفه من فرانسيس بيكون؟ الفيلسوف السابق ما موقف ديكارت من فلسفة فرانسيس بيكون؟ هاجمها كما هاجم منطق أرسطو، هاجم فرانسيس بيكون لماذا؟ لأنه اعتقد بالتجربة والمشاهدة الحية، في استنباط القوانين الطبيعية، اعتد بالتجربة والمشاهدة الحية في استنباط القوانين الطبيعية.

وبدأ الرجل ديكارت يكشف عن منهجه الجديد، وهو منهج يعتمد على البراهين الرياضية، إذ العقل الإنساني في جوهره يكون وحدة، وما دام هذا العقل يسلم بقوانين الرياضة، فلابد أن تكون قوانينه عامة، تشمل الرياضة والطبيعة معًا، هذه هي وجهة نظر ديكارت، وهو يؤصل لمنهج موحد، يشمل العلوم جميعها

ص: 105

رياضية وطبيعية، ويرى أنه لكي نقف على المنهج القويم، لهذا العقل في البحث العلمي، ينبغي أن نعتمد على القياس.

لكن لا قياس أرسطو، هو لا يقصد قياس أرسطو، بل نحلل نحن القياس، فنراه يبتدئ بأشياء بسيطة يسلم بها العقل، وهي البدهات وينتهي إلى أشياء مركبة، وقد رأى ديكارت أن يضع مكان قواعد المنطق الأرسطي القديم، الشديدة التعقيد من وجهة نظره أربع قواعد، تختصر المنهج السديد، لكل البحوث النظرية، يعني: اختصر منطق أرسطو، وما جاء به فرانسيس بيكون، وكل ما سبقه من معلومات، أو من فلسفة منهجية، حصرها في قواعد أربعة، يمكن أن نجملها فيما يلي:

القاعدة الأولى: التوثيق وهي تفرض على الباحث ألا يسلم بشيء، إلا إذا بدى بديهي في نظر العقل، في الحقيقة هذا شيء جيد التوثيق، فالبحوث أيا كان نوعها يعتمد على مجموعة من الوثائق، والباحث يحللها ويشرحها، ويفسرها، يتعامل معها بطريقة من الطرق، التي يختارها؛ ليصل إلى النتيجة من خلالها.

القاعدة الثانية: التحليل وهي تفرض على الباحث، أن يقسم كل مشكلة، يتناولها بالبحث إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء، التي يمكن أن تدرك بالحدث المباشر لماذا؟ لماذا لجأ ديكارت إلى هذه القاعدة؟ وهي تحليلية تحليل المشكلة إلى جزئيات صغيرة، يمكن أن تدرك بالحدث المباشر؛ لأنه بهذا يضمن صدق الإدراك لكل خطوة من خطوات البحث على حدة، كما تتاح له فرصة الكشف عن الجوانب المجهولة من المشكلة، كلما جزئت إلى جزئيات صغيرة، كان من السهل إدراك حقيقة هذه الجزئيات، ومعرفة اليقيني من غير اليقيني، يدركها يحيط بها.

ص: 106

القاعدة الثالثة: التركيب وهي تفرض على الباحث، أن يعيد ترتيب ما سبق أن حلله من مشكلة، أو من العناصر التي حلل المشكلة إليها، مراعيًا التسلسل المنطقي في ترتيب هذه العناصر، يعني بعدما يحلل هذه العناصر إلى جزئيات صغيرة، ويتعرف على كل جزئية، ويدرك أبعادها، وينظر فيها تفسيرًا وتحليل، يبدأ من جديد يعيد ترتيب هذه العناصر في تسلسل منطقي، بحيث تكون كل فكرة نتيجة لازمة للفكرة، التي سبقتها، ومقدمة طبيعية توجب الفكرة التي بعدها، يعني: فيه ترابط قوي بين هذه التركيبات، التي يعيدها الباحث في القاعدة، أو كما ذكر أو في الخطوة الثالثة.

القاعدة الرابعة: المراجعة النهائية، وفيها يقوم الباحث في النهاية بإحصاء دقيق، ومراجعة تامة شاملة لكل جوانب المشكلة، وتفصيلاتها المختلفة، لا ينتهي عند هذا الحد، إنما التوثيق آه، تأكد من صحة المعلومات؟ نعم، يبدأ يحلل يفسر يشرح يتعامل مع هذه الوثائق، ويحللها إلى عناصر صغيرة، وإذا ما أحاط بها تفسيرًا وإدراكًا وتحليلًا، يبدأ في إعادة تركيبها، لا يقف عند هذا الحد، وإنما يراجع مراجعة، دقة مراجعة نهائية، يقوم الباحث في النهاية بإحصاء دقيق، ومراجعة تامة شاملة لكل جوانب المشكلة، وتفصيلاتها المختلفة.

إذا تأملنا هذا نجد أن أساس الفلسفة الديكارتية، هو الشك المنهجي، إذا تأملنا هذه القواعد وما ذكره الرجل والفلسفة، التي يدعو إليها، وتصوره لمنهج موحد للعلوم الرياضية والطبيعية، نجد أن أساس الفلسفة الديكارتية هو الشك المنهجي، فهو يشك في جميع معارفه؛ لاحتمال أن يكون مخدوعًا فيها، وفي هذا قال عبارته المشهورة: أنا أفكر وإذن أنا موجود.

هذا ديكارت فليسوف القرن السابع عشر، وهكذا نلاحظ أن هذا القرن، قد شهد ثورة فكرية على المنطق الأرسطي، تمخضت هذه الثورة عن ظهور منطق

ص: 107

حديث، عبر بمصطلح جديد يسمى علم مناهج البحث، نتج عن هذه الثورة الفكرية في مجال علم المناهج، نتج عنه ظهور علم له أصوله وقواعده، وتعنى به الجامعات، والأقسام الأكاديمية، يسمى علم مناهج البحث.

كما أسفرت هذه الثورة أيضًا، عن ظهور ثلاثة مناهج أساسية: المنهج الاستقرائي، والمنهج الاستدلالي، والمنهج الاستردادي، والمنهج الأول هو منهج العلوم الطبيعية، المنهج الأول من المناهج، التي جاءت كثمرة لهذه الثورة الفكرية في القرن السابع عشر، على يد ديكارت والسابقين عليه، المنهج الأول وهو ما يسمى بالمنهج الاستقرائي، وهو منهج العلوم الطبيعية، ويعتمد هذا المنهج على الملاحظة والتجربة والفرض.

والمنهج الثاني: هو المنهج الاستدلالي وهو منهج العلوم الرياضية، وهو منهج استنباطي، ينتهي في الباحث إلى النتائج المأخوذة من المقدمات، دون حاجة إلى الملاحظة، وأما المنهج الاستردادي، فهو المنهج المستخدم في العلوم التاريخية وما شابهها، وفيه يقوم الباحث بعملية استرداد للماضي من خلال الآثار، التي خلفها يعني: يسترجع المعلومات، وهو استرجاع أو استرداد يراد به الكشف عن حركة سير التاريخ، وتفسيرها، والربط بين خطواتها.

ثم تلى بيكون وديكارت فلاسفة، ومفكرون مختلفون اتفقوا جميعًا على أن المنطق الأرسطي، لم يعد صالحًا كمنهج للبحث العلمي، وأنه قد انتهى زمنه، وبدأوا يبحثون عن مناهج علمية جديد، تعتمد على دراسة الظاهرة ورصدها، مع الجمع بين التفكير النظري والملاحظة، والتجربة في إطار قوانين علم مناهج البحث.

ص: 108

وفي بداية القرن التاسع عشر، شهد الشرق العربي تتطورًا ملحوظًا في شتى مجالات الحياة: السياسية، والاجتماعية، والأدبية، والفكرية بوجه عام، وقوي اتصال الشرق بالغرب، وازدهرت الحركة العلمية والفكرية، وتعمقت الصلة بين الأدب والعلوم الأخرى، وامتزج الأدب بهذه العلوم امتزاجًا لا ينكر هذه حقيقة؛ لدرجة أننا أصبحنا أمام ألوان من الإبداع الفكري المعقد، لا يمكن استكشاف عوالمه اعتمادًا على القيم الفنية المجردة، التي كان يعتمد عليها الباحثون في القديم، ويعدونها أسًّا مهمًّا من أسس البحث العلمي، أو الأدبي.

أضف إلى ذلك ما رأيناه من صراع شديد بين العلوم، والفنون في ابتكار الأنظمة، والقوانين التي تحكم كل علم أو فن، هذه حقيقة نلمسها جميعًا، ثورة علمية في شتى المجالات، وهناك تسابق، هناك صراع شديد بين العلوم جميعها، والفنون جميعها في محاولة ابتكار الأنظمة، والمقاييس والمعايير، التي تحكم كل فن، ويحتكم إليها الباحثون في هذا المجال، ولا ننسى ونحن نتحدث في هذا السياق.

ولا ننسى استقرار الحياة الجامعية في عالمنا العربي، وتأصل تقاليدها، ومقوماتها العلمية في مجال البحث، بصورة منهجية دقيقة، لا ننسى ذلك اهتمت الجامعات بهذه المناهج؛ من أجل الكشف عن مناطق جديدة في عالم المعرفة، الذي لا حدود له، هذا أيضًا واضح أمامنا على مستوى الجامعات في العالم العربي أجمع، من أجل ذلك كان لازمًا على القائمين بالبحث الأدبي التنبه لهذا التطور، والوقوف على المناهج العلمية الجديدة في مجال البحث العلمي، والأدبي خاصة؛ للتعامل مع الأدب الجديد، والكشف عن خصائصه.

نعم وجد العلماء الذين يبحثون في الأدب أنفسهم، أمام نماذج أدبية معقدة لو أنهم اعتمدوا على الخصائص الفنية الموجودة في الأدب وحدها، لم يستطيعوا الكشف عن حقيقة ذلك الأدب، وسبب تعقيدها أنها امتزجت بالعلوم الأخرى،

ص: 109

فأصبح لزامًا عليهم التعرف على حقيقة هذا المزيج، هذا العنصر الجديد، الذي أصبح باديًا في الأدب، فكان لا بد للتعامل مع الأدب الجديد تعامل تعاملًا علميًّا حقيقيًّا، والكشف عن خصائصه، والوصول إلى نتائج حقيقة في هذا المجال.

كان لا بد أو كان لزامًا عليهم من الوقوف على المناهج العلمية الجديدة، في مجال البحث العلمي والأدبي خاصة، وبدت الحاجة ملحة إلى التدقيق والتنظيم، وتحديد الغاية، والتفكير في الطرق، التي تتناسب مع التطور الجديد في الحقل الأدبي، وعلى إثر ذلك تطورت مناهج البحث الأدبي تطورًا ملحوظًا، خاصة بعد إخضاعها للمناهج والنظريات، التي أسفرت عنها الحركة العلمية النشطة، في شتى مجالات العلم والمعرفة.

ففي مجال العلوم التجريبية ظهرت القوانين، التي تحكمها، ثم حاول دارسوا الأدب وناقدوه الإفادة من تلك القوانين، وتطبيقها على الأدب، وترددت بعض المصطلحات الخاصة بالعلوم التجريبية، على ألسنة الباحثين والنقاد، وأصبحنا نعلم ديناميكية الأدب، إستاتيكية الأدب، النمو الطبيعي، النبض، وغير ذلك من مصطلحات منقولة، من المجال التجريبي إلى ميدان الأدب والنقد.

هذا في مجال العلوم التجريبية، انتقلت المصطلحات من هذه العلوم، وأصبحت تجري على ألسنة الباحثين والنقاد، والمبدعين أنفسهم، وفي مجال الدراسات الإنسانية، كعلم النفس والاجتماع والتاريخ والأخلاق، وغير ذلك، سجل الباحثون تقدمًا ملحوظًا، ووصلوا إلى عدة نظريات أفاد منها الأدب إلى حد كبير، إذ حاول دارسوا الأدب، وناقدوه تطبيقها في المجال الأدبي الإبداعي منه، والنقدي.

ورغم تسرب تلك النظريات إلى الأدب تسربًا ملحوظًا، وسيطرتها على المجال البحثي فيه، ظلت طائفة من الباحثين، يعتقدون أن الأدب ينبغي أن يكون بمعزل عن تلك العلوم، هذا رأيهم وحجتهم أن هذه العلوم، لو اعتمدنا عليها في

ص: 110

بحوثنا الأدبية، فإنها تحول الأدب إلى قواعد جامدة، فالفن الأدبي عند هؤلاء مهما لحقه من تطور، لا يخرج عن كونه فنًّا، يخضع في المقام الأول لذوق الباحث والناقد، وتأثره ونبضه وشعوره، ولا يمكن إخضاع ذلك لقانون ثابت، كقوانين العلوم التجريبية، وكان لهؤلاء منهجهم الواضح في البحث الأدبي، وهو منهج يقوم على تفسير العمل الأدبي، وتحليله من خلال عناصره المعروفة: الخيال، والعاطفة، والفكرة، والأسلوب.

من هنا كانت تعدد المناهج في مجال البحث الأدبي، فرأينا المنهج التاريخي، والمنهج النفسي، والمنهج الفني، والمنهج المتكامل، كلها تعبر عن وجهات أصحابها، وتصور تلك الحركة العلمية النشطة في ذلك الوقت، وهكذا يتضح لنا من الحديث السابق، أن مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث متشعبة تشعبًا لا حد له، وأن الباحث مطالب حتمًا باستكمال أدواته المعرفية، من خلال الاطلاع على علم المناهج الحديثة؛ لمعرفة آخر ما وصل إليه العلم في هذا المجال، والوقوف على أصحها، وأنسبها، وهو علم متطور دائمًا بتطور العلوم التاريخية والاجتماعية والنفسية، وبقية العلوم الإنسانية الأخرى.

وجدير بالذكر أنه لا يصح الاعتماد على منهج واحد، في مجال البحث الأدبي، بل لا بد من توظيف هذه المناهج كلها، حتى تكون النتائج دقيقة مثمرة؛ لأن الأدب نتاج بشري معقد، والعنصر البشري يؤثر ويتأثر بكل ما يحيط به، فمن اللازم أن يحيط الباحث في الأدب بكل هذه المؤثرات، بيئية كانت أم غير بيئية، كما أنه من الخير للأدب أن نأخذ بكل هذه المناهج، ونحاول الإفادة منها، ونحن نبحث في الأدب، فبذلك نربط الأدب بالحياة في تطورها، وهذا ما ينبغي أن يكون، إذ لا يليق بالباحث الأدبي، أو الأديب عمومًا أن يعيش بمعزل عن عالمه، بما فيه من حركة تطورية ناهضة.

بهذا العرض السريع الموجز، نكون قد انتهينا من الحديث عن نشأة المناهج البحثية الحديثة في مجال الأدب، تعرفنا من خلاله على مفهوم المنهج، وأهميته في مجال البحث العلمي، ثم أشرنا إلى نشأته وتطوره، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 111