الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع
(نظرية الفلسفة الجمالية وعلاقتها بالدراسات الأدبية)
نظرية الفلسفة الجمالية وقيمتها في مجال البحث الأدبي
الحمد لله، الذي خالق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فالجمال سمة بارزة من سمات هذا الوجود، وهو نوع من النظام، والتناغم، والانسجام ذو مظاهر لا تحد، وتجليات لا حصر لها، فالدقة، والرقة، والتناسق، والتوازن، والترابط، ومظاهر أخرى كثيرة يشعر بها الإنسان في هذا الوجود، وإن لم يستطع التعبير عنها، أو بمعنى آخر: الجمال هو كل ما يثير الحواس، ويلهب المشاعر الإنسانية، وهو مصدر من مصادر الإحساس بالمتعة والرضا عن الفنون.
وإذا تأملنا تعريفات الجمال لدى الفلاسفة، وجدنها تنحصر في عدة اتجاهات:
الاتجاه الأول: يجعل علم الجمال مجرد دراسة للمفاهيم والمصطلحات الجمالية؛ فيكون هناك تحليل لمعاني الشكل، والمضمون، والنمط، والذوق. وفي هذا الصدد يقول عالم الجمال الفرنسي "فيلدمن" في كتابه "علم الجمال الفرنسي المعاصر": علم الجمال هو بحث في أحكام الناس الجمالية. ويقصره هذا الفيلسوف على البحث في أحكام الناس الجمالية من خلال التحليل: تحليل الشكل، تحليل المضمون. أما "للدند" في معجمه الفلسفي، فيقصره على دراسة موضوع حكم التقدير والذوق، يعني: يحتكم إلى تقدير القيم الجمالية، ومدى تذوقها.
أما الاتجاه الثاني: فهو اتجاه يجعل علم الجمال دراسة للصور الفنية، وفي هذا يقول عالم الجمالي الفرنسي "سريو": إن غاية علم الجمال هي الوقوف على المقولات الأساسية، أو المبادئ الصورية الثابتة التي تنتظم وفقا لها شتى المظاهر الجمالية لهذا الكون المنظم.
أما الاتجاه الثالث: فإنه يربط كل هذه الاتجاهات بالإنسان؛ حيث يرى أن الفن نتاج إنساني، وأن التذوق بعد إنساني، وأن الحكم سمة إنسانية، وأن الصور الفنية منتجات إنسانية. ويتمثل هذا الاتجاه عند "هيجل" بصفة خاصة، فهو الذي يرى أن علم الجمال هو فلسفة الفن الجميل، ورغم إحساس البشر جميعًا بالجمال، وتمتعهم به إلا أن مقاييسه تظل نسبية عند كل أمة من الأمم، بل عند كل فرد من الأفراد.
ولو نظرنا إلى الجمال وتأملناه جيدا لعلمنا أنه من القيم المطلقة التي لا تحد بحدود، وقديما قال أفلاطون: الروح هي التي تدرك الجمال. أما الحواس فلا غير انعكاسات ظلال الجمال.
ولكن عندما نبحث عن الجمال في الأدب: لابد أن نفرق بين الجمال في الفنون، والجمال المطلق، أما الجمال المطلق: فهو موجود في الطبيعة سواء حوله الفنان إلى عمل فني أم لا. وأصحاب الفلسفة الجمالية لا يعنيهم جمال الطبيعة، أي: لا يعنيهم الجمال المطلق، وإنما يعنيهم الجمال الموجود في الفنون، الجمال الذي يثير فينا نوعًا من الشعور عندما نتأمله، ونعيش معه.
والفنان عندما ينقل جمال الطبيعة إلى عمل فني لا ينقله مجردًا، وإنما يخلع عليه من نفسه وذاته ما يجعلنا نراه في صورة أخرى غير الصورة التي كنا نراه عليها في مظاهر الطبيعة، ونتأثر به، ويثير فينا نوعًا من المشاعر والعواطف التي تتناسب معه. وليس بلازم أن يأتي العمل الفني موافقًا للطبيعة من حيث الجمال والقبح؛ فقد يتناول الأدبية حقيقة من حقائق الطبيعة تتسم بالقبح في الواقع ليس فيها ملمح جمالي، لكنه يحاولها إلى لوحة فنية جمالية بما يضفي عليها من نفسه، وحسه، ويصبغه عليها من ذاته، يعني: ينقل الجمال في الطبيعة، ويبدو هذا
الجمال لنا، ونتأثر به، ونحس بقيمته من خلال أحاسيس الشاعر، فهي التي تصوره، وهي التي تلبسه حلة جمالية جديدة حتى لو كان قبيحا في الطبيعة.
ونظرية الفلسفة الجمالية تبحث عن الجمال، وكيفية إدراكه في العمل الفني، كما تكشف عن مقاييسه التي تحكمه، وهي التي تعد ضمن مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث، وهي تهدف إلى دراسة القيم الجمالية في العمل الأدبي من أجل تقويمه، ووضعه في مكانه الصحيح بين الأعمال الأدبية الأخرى التي تمثل التطور الفني لتاريخ الأدب.
وهو لذلك يتقارب إلى درجة كبيرة من مناهج النقد الأدبي، لو تأملناه من خلال هذا المفهوم، وهذه الوظيفة لرأيناه فعلًا يتقارب جدًّا من مناهج النقد الأدبي، ومن ثم كان طبيعي أن يكون الأساس الذي يقوم عليه أساسًا نقديًّا، ومنهج البحث في نطاق نظرية الفلسفة الجمالية يدور حول محورين: المحور الأول: يتعلق بالمتلقي، ومسألة تذوقه، وتقديره للقيمة الجمالية، ثم الانعكاسات النفسية للعمل الأدبي عليه.
وأما المحور الثاني: فيتعلق بجانب الإبداع، والمقاييس الجمالية التي اصطلح عليها النقاد؛ لتقويم ذلك الإبداع على حسب نوعه، أو الجنس الذي ينتمي إليه، والكشف عن ملامح العبقرية فيه.
والفلسفة الجمالية لا تبحث بحثًا جزئيًّا في المفردات الفنية، ولا تنظر في قيمتها من حيث الجودة والرداءة، وإنما تبحث في الفنون عامة بحثًا كليًّا من حيث الإبداع، وتذوق جماله، والحكم عليه، بمعنى: أنها تبحث في القيم الفلسفية التي تفسر الجمال في الفنون جميعها، لا في فن بعينه، يعني: لا تأخذ فنًّا مستقلا، إنما تنظر إلى الجنس الأدبي أو الفن الأدبي نظرة عامة، نظرة كلية من خلال مقاييس
موضوعة، وقد تبحث في فن من الفنون، ولكن لكي تصل من خلال هذا البحث إلى أحكام كلية، تصلح لتطبيقها على جميع الفروع التي تندرج تحت هذا الفن؛ لتصل إلى أحكام كلية تطبق على جميع الفنون بلا استثناء. ولذا يتضح لنا أن البحث في الفنانين، وبيئاتهم وعصورهم، وظروفهم، وخصائصهم من أجل الوصول إلى نتائج تتعلق بكل جزئية من تلك الجزئيات خاصة، مثل هذا البحث ليس من مجالات الفلسفة الجمالية، وإنما من عمل من يؤرخون للفنون.
لابد أن نفرق بين عمل الباحث الذي يؤرخ للفن أو للفنان، وبين عمل الباحث الذي يبحث للأدب من خلال فلسفة جمالية. وكذلك البحث في قصيدة بعينها أو قصة أو مسرحية؛ للكشف عن معايير الجودة في كلا منها، لا يدخل ضمن مباحث الفلسفة الجمالية.
وفكرة الفلسفة الجمالية فكرة قديمة، نجدها عن أفلاطون في حديثه عن قضية الإلهام في الشعر، فإنه ذكر أنه حين النظم يأخذه ما يشبه الجنون وأنه -أي الشاعر- يصدر في شعره عن عقله الباطن، أو عن اللاشعور. كما ذهب أفلاطون إلى أن الشعر يحاكي حقائق الواقع، وهي في رأيه صورة للجمال المطلق، وعالمه المثالي.
وبهذا يكون أفلاطون أول من تحدث عن الجمال الكلي بين الفلاسفة. أما تلميذه أرسطو: فهو أول من تحدث عن اللذة التي نحثها في الفنون حين تحدث عن نظرية التطهير. ونمضي حتى نصل إلى القرن الثالث الميلادي، فنلتقي بالناقد الإغريقي "لون جنيوس"، وما ذهب إليه من أن غاية الشعر جمالية ليس إلا، تتمثل هذه الغاية: في التأثير في المتلقي تأثيرًا جماليًّا، وليست وراءه غاية تربوية، أو أخلاقية، أو نفسية. ورغم أنه لم يستخدم مصطلح الفلسفة الجمالية في بحوثه، لكنه يعد أول فيلسوف جمالي.
ظلت فكرة لون جنيوس كامنة حتى كان القرن الثامن عشر؛ فأخذت مكانها بين دراسة الأدب، والفنون عامة على يد فيلسوف مشهور يسمى:"باوم جارتن"، وهو ألماني في كتابه الذي وضعه باللغة اللاتينية، واتخذ مصطلح "الإستطيقا" عنوانًا له، ومنذ هذا الوقت شاع المصطلح، وصار محل بحث لدى الفلاسفة، وفي مقدمتهم: الفليسوف "كانت"، و"هيجل"، وشوبن هور". يرى "كانت" أن الفن ليس له غاية إلا المتعة الجمالية الخالصة التي تحدث من الانسجام بين ملكاتنا الإنسانية، ويعتقد "كانت" أن وعي المرء بجمال الأشياء يتأتى أولًا: من تأمله الدقيق للأشياء. وثانيا: من حصول التوافق والانسجام بين إدراكه، وتصوره من ناحية وبين ميزات تلك الأشياء المادية من ناحية أخرى.
والمعيار الجمالي الأمثل عند "كانت": هو مدى تطابق أحداث وشخوص الرواية، أو القصيدة على أحداث الواقع، أي: أنه يربطها بالواقع. أما "هيجل": فيذهب إلى أن الجمال الفني يتألف من المادة المحسوسة، والتصور العقلي المجرد. أما "شوبن هور": فكان يرى أن الفن تأمل صوفي تكاد تنمحي فيه الإرادة تماما، بل إنه يتحرر منها تحررا تامًّا، بحيث ينسى فيه الفنان إرادته وفرديته مستغرقا في الوجود أو في المثال المطلق.
ويعد "باوم جارتن" الألماني أول من استخدم مصطلح الفلسفة الجمالية، أو الاستطيقا، وظلت ألمانيا تقود حركة مباحث الفلسفة الجمالية حتى إذا كان القرن التاسع عشر، أخذت تلك المباحث تنشط في فرنسا وإنجلترا وغيرهما من بقية البلدان نشاطًا ملحوظًا، وكثر الحديث عن الجمال الفني، وحقيقته، ومعاييره، وعناصره، وكل ما يتعلق بهذه النظرية أو الفلسفة.
ففي فرنسا سيطر فكر الروحانيين على نظرية الفلسفة الجمالية، وهم يرون أن الجمال ظاهرة روحية لا يمكن حصرها في الوجود المادي، ورغم أنهم أقروا
المعايير المادية، مثل: وحدة البناء والتكامل، وقوة تأثير اللون، والمرونة الإنسانية في الشكل، رغم ذلك إلا أنهم أصروا بأنه لا يمكن لهذه العناصر أن تتضافر لإنتاج ما هو جميل إلا إذا كانت ذات تأثير، وسيطرة، وقوة عليا سامية غير مادية، الأمر الذي صبغ كل أفكارهم بصبغة روحانية واضحة. هذا بالنسبة للمدرسة الفرنسية.
أما المدرسة الإنجليزية: فقد اهتم أصحابها بالعميلة السيكولوجية في تفسيرهم للجمال، وانقسموا قسمين: الحدثيون: الذين اعتبروا الجمال ظاهرة موضوعية يتم إدراكها بالبداهة، هؤلاء هم الحدثيون.
أما الفريق الثاني: فهم التحليليون: الذين اعتبروا الجمال ظاهرة أعقد بكثير مما يمكن أن تعالج بالحدث والبديهة، وإنما يتطلب إدراكها الكامل التحليل العلمي للعمل الأدبي، لا يمكن عند هؤلاء التحليليين أن ندرك الجمال الكامل إلا إذا قمنا بتحليل العمل الأدبي تحليلًا دقيقًا شاملًا.
وتعددت بحوث الفلاسفة للبحث في كيان الجمال، وهل يكون في المضمون أم في الشكل؟ اختلفوا في هذا، ذهب بعضهم إلى أن المضمون لا يعني الموضوع، فالموضوع واحد، ولكن تتغير صورته من مبدع إلى آخر.
فهناك فرق بين الموضوع ومضمون القصيدة، فالمضمون: هو الإبداع نفسه. لابد أن نتبنه لهذا؛ هم يفرقون بين المضمون والموضوع، فالمضمون عندهم غير الموضوع؛ مضمون القصيدة: هي القصيدة ذاتها، وقيل: المضمون هو موقف الفنان من الموضوع، ورؤيته البصيرة فيه للحياة والوجود بكل ما يؤدي من أفكار ومشاعر.
والصورة أو الشكل -تقابله عندهم بهذا الفهم- تقابله الصورة أو الشكل والقالب الذي يصاغ فيه المضمون. ومنذ القرن التاسع عشر وفلاسفة الجمال يثيرون مباحث كثيرة، تدور حول منبع الإحساس الجمال وحقيقته، وحقيقة الإحساس المقترن به. ويذهب كثيرون من هؤلاء الفلاسفة إلى أن التأثير الجمالي في الفنون يرجع إلى استغراق الإنسان في الآثار الفنية استغراقًا يفقد في تضاعيفه شعوره بفرديته؛ فينسى نفسه، وتذوب شخصيته فيما ينثره من لوحة، أو يقرأه من شعر، أو يسمعه من موسيقا، وذلك مصدر لذته ونشوته إزاء الجمال في الفنون.
ويقول آخرون: إن مصدر اللذة عبارة عن إشباع الجمال الفني لعواطفنا، وإدراكنا العقلي، ومخيلاتنا. ندرك قيمة الجمال ونتلمسه ونحسه؛ فهي لا تستمد من العواطف وحدها، وإنما تستمد من الخيال والعقل أيضا. وقد رد "نيتشه" الفيلسوف الألماني الإحساس بالجمال إلى نشوة حسية ترتبط بالغريزة الجنسية، وكأنه كان إرهاصا لفرويد، ونظريته التي أشرنا إليها، وغيره من أصحاب التحليل النفسي للاشعور، ومكبوتاته الجنسية المستكنة في دخائل الفنانين.
ويدلل بعض فلاسفة الجمال على هذا الربط بين غريزة الجنس والإحساس بالجما ل بما يت ر اء ى لنا في الطيور، وما يختص به قرين الطائرة من الريش الجميل حتى يستهويها بجمال منظره، وبالمثل أيضا: جمال الصوت عن البلابل، إنما هو لغرض الاستهواء والإغراء بين الجنسين. هذه وجهة نظر هذا الفريق، كما تحدث فلاسفة الجمال أيضا عن مصدر القيم الجمالية، وهل هي خارجة عن الفنون أم كامنة فيها؟ أم هي موجودة في ذهن المتلقي، أم هي شيء مشترك بين الأثر الفني والمتلقي؟ والأولى من كل ذلك أن نرد الإحساس بالجمال إلى المبدع، وأثره الفني، أو إلى الإبداع نفسه، ومدى تحقق معايير الجمال فيه.
فيلسوف آخر "ريتشاردز": وذهب "ريتشارد" إلى أن الجمال يكون في الفن وآثاره، حيث يجعل مصدر المتعة اللذة الناشئة من تنسيق الأعمال الفنية لدوافعنا الداخلية المتصارعة والمتناقضة. كما تحدث هذا الفيلسوف عن صلة الجمال الفني بالمجتمع والواقع، فبعضهم ذهب إلى أن الجمال الفني مستمد من البيئة والمجتمع، فلا يوجد عمل فني دون بيئة ينشأ فيها، ومجتمع يتنفس فيه، فالفن يصدر عن البيئة والمجتمع صدور الضوء عن الشمس، أو صدور الزهرة عن الشجرة في بيئة معينة.
وهم بذلك يعترفون أن الأصل في نشأة الفنون نفع الجماعة، وسيطرتها على الطبيعة من خلال بث القيم الجمالية والاجتماعية في السلوك، بحيث لا يمكن التفريق بينهما. وعارض فريق من فلاسفة الجمال هذا الرأي، ورأى أن الفن لا يقصد به سوى الإحساس بالجمال، وأن كل ما عدا ذلك يعد قيما طارئة عليه. ويرى أصحاب هذا الرأي أن الناس يطلبون الفن؛ ليبعدهم عن واقعهم وعالمهم اليومي الذي يعيشون فيها. ويرون أيضًا أن الفن يعمل على إبراز شخصيات أصحابه إزاء الجماعة التي يعايشونها رغم كيانهم الفردي الذاتي.
والحقيقة، أنه مع التسليم لبعض ما يقوله أصحاب هذا الرأي، فإنه لا يمكن فصل الفن عن المجتمع بحال من الأحوال؛ فإن ذلك لا يتعارض مع اتصاله بالمجتمع، وسيظل الفن يحمل من القيم الجمالية ما يسعد به الناس، ويؤدي رسالة اجتماعية قيمة مع ذلك.
وقد أثيرت قضية مهمة لها علاقة بنظرية الفلسفة الجمالية، وهي قضية الشعر والأخلاق، أو نظرية الفن للفن بمسماها الحديث، وأثيرت عدة أسئلة حول هذه القضية: هل يطلب المتلقي القيم الخليقة والاجتماعية عند تلقيه للشعر مثلًا كفن
من الفنون؟ وهل يضع الفنان أو الشاعر ذلك في اعتباره حين إبداعه؟ أو هل للشعر أو الفن عموما رسالة اجتماعية، أم أن الغاية منه مجرد المتعة فحسب؟ أسئلة كثيرة نشأت إثر ظهور هذه القضية، هذه في الحقيقة قضية قديمة اتضحت منذ طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته لأخلاقهم المذرية المنحرفة، ورد عليه أرسطو بأن الشعراء يطهرون المجتمع، ويخلصونه من أدران هذه الأخلاق السيئة، وكما كان لهذه القضية أيضا حضور قوي في فكر نقادنا العرب القدامى، وهم يعالجون شتى القضايا في كتبهم.
وظلت القضية قائمة حتى القرن التاسع عشر، حيث ظهرت نظرية الفلسفة الجمالية، وشاع بين فلاسفة الجمال: أن الفن لا غاية من ورائه إلا الإحساس بالمتعة والجمال. واحتدم الصراع بين هؤلاء وخصومهم، واتخذ شكل معارك عنيفة خاصة بعد ظهور ديوان "أزهار الشر" لـ"بوتير"، ورأى هؤلاء أنه لا ينبغي أن نحكم على الفن بمقاييس أجنبية عنه أخلاقية كانت أو غير أخلاقية، وإنما نحكم عليه بمقاييس الجمال الفني، وهذه المقاييس في رأيهم تنفصل عن قيم الأخلاق انفصالًا تامًّا. أما خصوم هؤلاء: فرأوا أن الفن لا ينبغي أن يكون أداة لنشر الرذائل في المجتمع، وإنما ينبغي أن تكون له رسالة اجتماعية يؤديها، ويؤثر بها في الحياة.
والحقيقة، أنه لا ينبغي أن نجرد الفن من رسالته الاجتماعية، وهذا -كما أشرت- لا يتناقض أو يتنافى مع ما فيه من قيم جمالية، بل العكس هو الصحيح، فإن من يرسي قيمة خلقية لفن من الفنون في قالب بلغ الغاية من الجمال، يكون كمن يقدم هدية في طبق من ذهب، ولا مانع من الجمع بينهما، ولكن إذا انهارت الأخلاق في مجتمع من المجتمعات انعدم إحساس ذلك المجتمع بالجمال أيًّا كان.
ومن فلاسفة الجمال الذين ظهروا في أواخر القرن التاسع عشر "كروتشيه" وهو فيلسوف إيطالي امتاز هذا الرجل بالتعمق في مباحثه، والطرافة في التفكير. يرى "كروتشيه" أن الجمال في الفن يعود أو يمكن في تعبيره، والتعبير عنده ذو مدلول واسع إذ يجعله مرادفا للصورة، ولا يقصد به الألفاظ المفردة فحسب، ويرى أن تبديل أو تغيير في العبارة يجعلها جديدة في بنائها، فهو مصدر الجمال وينبوعه لا المضمون ولا المحتوى، ولذلك فإن كل موضوع صالح لأن يكون مادة للفن، وليس هناك موضوع لفن الشعر، وليس هناك موضوع فني يصلح للشعر، وموضوع آخر لا يصلح للشعر.
ويستدل على ذلك: بأن الشاعر قد يتخذ من الشيء غير الحسن في الظاهر موضوعًا له، كالبائس التعس الممزق الثياب تزور منه العيون، يأخذه الشاعر ويحوله إلى لوحة فنية مؤثرة، تجذب الأبصار، وتستهوي القلوب. ويرى "كروتشيه" أن الجمال والقبح ليسا ذاتيين في الطبيعة والإنسان، وإنما هما مقيدان باللحظات النفسية للناس والفنانين من حولهم، وهو يرى أن غاية الفن الجمال، وهو بهذا يجسد الجمال الفني في التعبير، والأداء الكلي للصياغة، ويعزله عزلًا تاما عن المجتمع، وكل ما يتصل به، وكأن الفن شيء والمجتمع شيء آخر، ولا صلة بينهما. أو بعبارة أدق: ينبغي ألا تبحث هذه الصلة، وألا تدخل بأي حال من الأحوال في حساب أصحاب الفلسفة الجمالية.
ومن فلاسفة القرن التاسع عشر أيضا: الفيلسوف الفرنسي "شارل لالو" الذي ذهب إلى أن الفلسفة الجمالية ينبغي ألا تظل في الإطار المعياري الذاتي الذي ساغه لها "كانت"، ويرى أنه لابد أن تدخل في هذا الإطار نسب موضوعية في الأشياء الجميلة، تجذب قلوبنا، وهي نسب من شأنها أن تتسع لمجال البحث في
الفلسفة الجمالية، فلا تجعلها فلسفة ذاتية تقوم على القيم وحدها، وإنما تخوض بها في مباحث وقواعد موضوعية تتصل بالحياة بشتى أشكالها.
ويرى هذا الفيلسوف أن الطبيعة في حد ذاتها ليست لها قيمة جمالية إلا حين ينشئ فنان بينه وبينها صلة، فتتراءى جميلة من خلال أعماله. وهو بذلك يفصل بين الفن والطبيعة، بحيث لا يصح أن نحكم عليه من خلالها، ومع كل هذا الاستقلال الذي فرضه "لالو" على الفن نجده يصله وصلا وثيقًا بالحياة.
فإذا تأملنا كلام فيلسوف آخر مثل: "سريو" الفيلسوف الفرنسي نجد أنه يصل وصلا وثيقا بين الفن والصناعة، أو بعبارة أكثر دقة: بين الإنتاج الفني والإنتاج الصناعي، ملاحظا دائما الوظيفة الاجتماعية للفنون، وأنها تلبية لحاجات المجتمع، مثلها في ذلك مثل الصناعات، بل هي صناعة بالمعنى الدقيق لكلمة صناعة. وليس بصحيح مطلقًا أنها درب من اللهو أو التسلية، أو أنها تعبير عن نشاط فائض عن حاجة المجتمع، وإنما هي تعبير عن حاجة ملحة في المجتمع، كالحاجة الملحة إلى الحرف والصناعات.
ويستبعد "سريو" فكرة الجمال من تعريف الفنون الرفيعة، ويضع مكانا فكرة النفع حتى يستبين دور الفن في الحياة الاجتماعية، ويقوم هؤلاء الغربيون بتنظيم جمعيات للدراسات الجمالية، ويهتمون بإصدار مجلات تبحث مباحث قيمة في الفلسفة الجمالية، وتقيم من حين إلى آخر مؤتمرات لعرض دراسات جمالية مختلفة.
وقد انتقلت هذه النظرية الجمالية إلى البيئة العربية كغيرها من النظريات، وأصبحت تمثل منهج ضمن مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث، وقد اتجه هذا المنهج في دراسة الأدب العربي اتجاهين أساسيين:
الاتجاه الأول: يتمثل في دراسة الشخصيات الأدبية.
والاتجاه الثاني: يتمثل في دراسة الظواهر الأدبية.
ومن واقع الدراسات الكثيرة التي قامت على أساس هذا المنهج، أثبت أنه صالح لكلا الاتجاهين. ومن ثم، حقق ذيوعًا وانتشارًا واسعًا بين الباحثين في مجال الأدب، فبالنسبة للاتجاه الأول: وهو دراسة الشخصيات الأدبية، يتم فيه اختيار شخصية أدبية، واتخاذها موضوعًا لدراسة مستقلة مفصلة؛ بقصد بيان الدور الأدبي الذي قامت به، وقياس مستواها الفني. ومحور الدراسة في هذا الاتجاه: هو نتاج هذه الشخصية، أي: الإبداع والفن الذي أنتجته.
ومن خلال تسليط الضوء على هذا الإبداع تتكشف ملامحه، وتتضح أسراره الفنية، وهذا النتاج في الحقيقة هو نتاج شخصية أدبية هي التي أبدعته، وهي التي أعطته طاقاته الفنية، والعقلية، والجمالية حتى استوى على هذه الصورة. ولذا؛ كانت الشخصية الأدبية هي المحور الأول للدراسة في هذا الاتجاه؛ بقصد الكشف عن مقوماتها الخلقية، والاجتماعية، والعقلية، وتبين ملامحها وسماتها المميزة لها، والمؤثرة فيها إلى آخر ما يتصل بهذه الشخصية.
هذه الشخصية ذاتها نتاج بيئة عاشت فيها، وعصر تأثرت به، وتفاعلت معه، واستجابت لمؤثرات البيئة والعصر، ولا يمكن أن نفهم هذه الشخصية فهمًا صحيحًا دون دراسة البيئة التي عاشت فيها، وتفاعلت معها. ولذلك؛ كان من اللازم الوقوف على البيئة والعصر قبل الإقدام على دراسة الشخصية ونتاجها، ومعنى ذلك: أن هناك محاور ثلاثة يدور حولها هذا الاتجاه -اتجاه دراسة الشخصيات الأدبية يدور حول محاور ثلاثة-:
المحور الأول: البيئة والعصر.
المحور الثاني: الحياة: حياة الشخصية الأدبية ذاتها.
المحور الثالث: العمل الفني نفسه.
وفي حالة البحث من خلال هذا المنهج، يمكن الاستغناء عن المحور الأول وعرضه في صورة تمهيد، لو أردنا ذلك يجوز هذا.
وأما الاتجاه الثاني: وهو دراسة الظواهر الأدبية، فإنه يتحرك في إطارين:
الإطار الأول: يقف عن الأعمال الأدبية التي تشكل الظاهرة موضوع الدراسة، من أجل معرفة القيم الجمالية التي تشترك فيها، هذا هو الإطار الأول.
الإطار الثاني: يقوم بتصنيف هذه الأعمال الأدبية في شكل مجموعات، بحيث تمثل كل مجموعة منها مذهبًا فنيًّا متميزًا، أو مدرسة فنية مستقلة. وهذا يشبه منهج "سانت بيف" الذي سبق أن أشرنا إليه. ويعد هذا الإطار تمهيدا لدراسة تكشف ما تتميز به كل مجموعة أو مدرسة، وما تشترك فيه من صفات.
ويمثل الاتجاه الأول -وهو دراسة الشخصيات- دراسات قام بها الدكتور طه حسين، وهي دراسات كثيرة، منها: كتابه (حديث الأربعاء)، وكتابه (من حديث الشعر والنثر)، وكتابه (مع أبي العلاء في سجنه) و (تجديد ذكرى أبي العلاء)، وغير ذلك من دراسات تعد رائدة ورائعة أدارها الدكتور طه حسين حول عدد كثير من الشخصيات الأدبية. كما يتضح هذا الاتجاه أيضا في دراسات الدكتور شوقي ضيف، مثل:(شوقي شاعر العصر الحديث)، وكتابه الآخر (البارودي رائد الشعر الحديث)، وكذلك (دراسات في الشعر الحديث).
ويتمثل هذا الاتجاه أيضا في كتاب (ذو الرمة شاعر الحب والصحراء) للدكتور يوسف خليف، وغير ذلك من دراسات قدمها كثير من الأدباء وكان هدفها: