الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي عشر
(خطوات البحث الأدبي (1))
مادة البحث الأدبي
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه؛ وبعد:
فإن أي بحث علمي لا يحقق النتائج المرجوة منه إلا إذا قام على مجموعة من الأسس اصطلح عليها العلماء، والتزم بها الباحث أثناء بحثه.
وقبل الحديث عن هذه الخطوات، أو تلك الأسس ينبغي أن نعرف أول ً ابمادة البحث الأدبي، ونكشف عن طبيعته؛ حتى يكون الباحث على دراية تامة بها قبل الانطلاق في بحثه، يعرف حدوده من أي ن يبدأ، وإلى متى سينتهي.
مادة البحث الأدبي: هو الأدب بفرعيه: الشعر والنثر. والأدباء أيضًا على اختلاف اتجاهاتهم الفنية، وما يتفرع عن ذلك من قضايا مختلفة.
الأدب كظاهرة فنية يختلف عن بقية الظواهر الطبيعية الموجودة في الحياة، فالظواهر الطبيعية يحللها العلم فيذهب ما فيها من خفاء، يتوصل العلم فيها إلى نتائج ثابتة، وتصبح بعد ذلك تلك الظواهر واضحة جلية، أما الأدب فتحوطه هالة من الغموض؛ لأنه يخاطب العواطف، ويصدر عنها. والعواطف بطبيعتها غامضة، لم يستطيع أن يسبر أغوارها محلل أو باحث، وما توصل إليه العلماء في هذا الشأن إنما هو ظواهر مادية للعواطف كالضحك مثلًا، والبكاء، واصفرار الوجه، إلى آخر هذه الظواهر.
أما العواطف نفسها فلم يستطع أحد من العلماء أن يتوصل إلى نتائج ثابتة فيها، والأديب حين يتحدث لا يتحدث حديث الشخص العادي، وإنما يتحدث بالصورة واللفظة الموحية، وهو حديث يختلف باختلاف معانيه، والمواقف الداعية له، وطبيعة الأحاسيس لدى المبدع، والتي تنعكس على صفحة الطبيعية
فيراها في صورة غير التي نراها عليها، والأديب ينقل إلينا مشاعر وأفكارًا؛ فيؤثر فينا، ويجعلنا نشعر بالمتعة، ولا يطلب منه أن يؤدي حقائق عقلية أو ذهنية، وإنما يؤدي حالات ومواقف وجدانية. ومن ثم، نجد أن الحقائق تتبدل عنده بتبدل أحواله -أي أحواله الشعورية-، فإذا كان فرحًا هش للطبيعة، وتراءى له كل شيء فيها كأنه يداعبه ويضاحكه، وكل شيء حوله ضاحك، أما إذا كان حزينًا مهمومًا فيبدو كل شيء في الطبيعة من حوله كأنه يغاضبه، وكل عنصر من عناصر الطبيعية حوله عابث متجهم. الحقيقة أن الطبيعة لم تتبدل، وإنما تبدلت مشاعر الشاعر فتبدلت الحقائق في خياله وتصوره، وخرجت ألفاظه وصوره تحمل ذلك التبدل، وتعكس تلك المشاعر.
ومن ثم لم يرتبط الأدب بحقيقة ما، ولا بصدق أو كذب، وليس معنى هذا أن الأدب لا يؤدي حقيقة البتة، فقد يؤدي بعض الحقائق، ولكن ليست هذه غايته، وإنما غايته إثارة المشاعر والأحاسيس، وفي ذات الوقت لا ينفصل عن حاجات مجتمعه، وإنما يمتزج به، ويكون جزءا مهمًا منه.
والأديب عندما يصنع الأدب لا يصنعه لنفسه، وإنما يصنعه للجماعة التي يعايشها، لو كان الأديب يصنع الأدب لنفسه لاكتفى به، ولم يخرجه للناس؛ لأنه يشعر بما يقول؛ تعبير عن حسه وشعوره، فكان يكفيه أن يعبر عما في نفسه لنفسه، لكنه يخرجه للناس. ومن ثم، كان الأدب ذاتيًّا غيريًّا في نفس الوقت، ذاتي في صدوره عن صاحبه، وتعبيره عن أحاسيسه ومشاعره؛ فهو يعبر عن ذات تحمل كمًّا من المشاعر والأحاسيس، وغيري في تصويره لمشاعر الناس وأحاسيسهم، وكل ما يموج به مجتمعهم من قيم مختلفة. فالمتلقي حين يقرأ العمل
الأدبي إنما يقرأ نفسه وأنفس من حوله، فالقصيدة الواحدة عن الشاعر مثلًا تصبح أكثر من قصيدة عند المتلقين؛ فكل واحد منهم يراها بصورة غير التي يراها عليها غيره من المتلقين. ولذلك؛ يسري بعض الغموض في المعاني الأدبية؛ لأنها تصور المعاني العاطفية، والمعاني العاطفية يلفها الغموض بطبيعتها. ويتأكد لنا ذلك، مما يؤكد أن المعاني العاطفية يلفها الغموض، لا يمكن أن تنكشف لأحد إلا لصاحبها إن استطاع ذلك، يتأكد ذلك عند ترجمة الأعمال الأدبية، ونقلها إلى لغة غير لغتها. فإن المترجم لا يستطيع مهما كان بليغًا في لغته أن يؤدي بلغته ما تؤديه الألفاظ الأصلية للأديب وعباراته؛ لأنها تعبر عن معاني عاطفية غير محصورة، وما لا ينحصر لا يمكن تحديده.
ولا تتوقف دلالة الألفاظ والتراكيب في الأعمال الأدبية عند دلالاتها اللغوية فحسب، ولكنها تحمل معانٍ عدة، بيانية، ومجازية، وإيحائية، وغيرها. فقد يضطر الأديب أثناء بحثه عن الأداء الدقيق لمعانيه الشعورية وغيرها -أقصد: المبدع- الفكرة تكون مختمرة في ذهنه، فيبحث لها عن اللفظ الذي يحملها، ويستطيع من خلاله أن ينقل هذا الفكر وذلك الشعور إلى المتلقي. أثناء بحثه عن الأداء الدقيق لمعانيه الشعورية وغيرها يضطر أن يسمي الأسماء بغير أسمائها، ويضع مدلولات جديدة لألفاظه من خلال التأكيد أحيانًا، أو الإيقاع الصوتي أحيانًا أخرى، هذه حقيقة نلحظها عند المبدعين.
مهمة الباحث الأدبي: الكشف عن كل ذلك خلال بحثه، وبمقدار ما في العمل الأدبي من غموض يحيط به تكون صعوبة البحث، والسير فيه حتى النهاية. وهذه عملية ليست من السهولة بمكان، وإنما هو بناء متكامل، لا بد له من أسس. ولذلك؛ اصطلح العلماء على مجموعة من الأسس ينبغي للباحث أن يلتزمها