الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع عشر
(تخريج النصوص
وإخراج المخطوط)
تخريج النصوص
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فلعله قد اتضح ما ينبغي أن يقوم به المحقق تجاه النص من تحقيق، وتوثيق، وضبط، وتصحيح، وترميم؛ حتى يخرج النص كما أراده صاحبه، ولا شك في أن هذا عمل شاق، ومن أجل ذلك أردت أن أعرض عليك أيها الباحث المحقق مجموعة من المراجع العلمية التي تخدم عملية التحقيق، يمكنك الاستعانة بها، وأنت تمضي في تحقيق المتن، وسوف تساعدك في الوصول بالمخطوط إلى أفضل صورة، لا أعرض عليك هذه المراجع بأسمائها فذلك يحتاج إلى وقت طويل، ولكن عرضها مصنفة في صورة مجموعات على النحو التالي:
أولًا: كتب المؤلف نفسه صاحب المخطوط المطبوع منها والمخطوط، لا ينبغي لمن يحقق أو يقدم على تحقيق مخطوط ما أن يهمل بعض المخطوطات أو الكتب المطبوعة التي ألفها صاحب المخطوط بنفسه، فإنها ستفيده إفادة لا شك فيها. ثانيًا: الكتب التي لها علاقة مباشرة بالمخطوط كالشروح مثلًا، والمختصرات، والتهذيبات، وهذه الكتب تفيد الباحث في ضبط النصوص وبيان غوامضها، وهذا أمر له أهميته في مجال التحقيق. ثالثًا: الكتب التي اعتمدت اعتمادًا ملحوظًا على المخطوط، فغالبًا ما تحتفظ هذه الكتب بالنص الأصلي أو ببعض النصوص، فإذا أراد محقق تحقيق كتاب (البيان والتبيين) مثلًا، أو كتاب (الحيوان) للجاحظ لا بد له من الرجوع إلى كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة، لماذا؟ ابن قتيبة اعتمد على الجاحظ في تأليف كتابه (عيون الأخبار).
رابعًا: الكتب التي استقى منها المؤلف مادته العلمية، فإذا اهتدى المحقق إلى المنابع التي استمد منها المؤلف مادته العلمية كان ذلك عونًا له على إقامة النص، وبعض المؤلفين لا ينص على تلك الكتب مباشرة، وعلى الباحث حينئذٍ أن يسعى للكشف عن منابع المادة العلمية في المخطوط المراد تحقيقه. خامسًا: هناك كتب ألفت في زمن المؤلف، وتعالج نفس الموضوع الذي كتب فيه المؤلف مخطوطه، أو تعالج موضوعًا قريبًا منه، وحينئذٍ لا بد من الرجوع إلى مثل هذه الكتب؛ فهي قد تخدم التحقيق من جهة ما لا يهملها المحقق بأي حال من الأحوال.
سادسًا: كتب اللغة، ومثل هذه الكتب تفيد الباحث في إقامة أسلوبه الذي يصدر عنه، وفي اكتشاف التحريف الذي يقع في المتن، وكتب اللغة تشمل المعاجم اللغوية بأنواعها كمعاجم الألفاظ، ومعاجم الأساليب، ومعاجم المعاني إلى آخر هذه المصنفات الكثيرة، كما تشمل أيضًا المراجع النحوية والصرفية، والمراجع العلمية الخاصة التي يراها الباحث مهمة في مجال تحقيقه وتتصل باللغة لا بد من الرجوع إليها، ولا ينخدع المحقق بمكانة المؤلف، أو توثيقه من قبل العلماء، أو سعة علمه، لا ينخدع بذلك على الإطلاق؛ فيمنعه ذلك من تقويم النص، وملاحظة ما قد يطرأ عليه أو يقع فيه من تحريف أو تصحيف، إلا إذا أثبت المؤلف على هوامش المخطوط ما يدل على أنه راجعه وصححه وقوم ما به من عوج واضطراب، وكان المؤلف مع ذلك ثقة مشهودًا له بالدقة والعلم، فكثيرًا ما يسهو المؤلف أثناء كتابته، وخاصة إذا كان عاجلًا، فيترك النقط مثلًا، أو يزيد فيه، أو يترك الشكل، أو يخطئ فيه، أو تسقط منه كلمة، أو أكثر من كلمة، وقد يخطئ في بعض أسماء المصادر، أو الأعلام أو الأماكن
…
إلى غير ذلك مما هو مظنة الخطأ والسهو.
من أجل ذلك وجبت مراجعة النسخة التي كتبها المؤلف مهما كان ثقة؛ لأن سهوه وارد، ونضرب مثلًا لهذا بكتاب (المُغرب) لابن سعيد، فإنه نقل في ترجمة أبي حفص عمر بن الشهيد نصًّا، وقال: إنه اقتبسه من (الذخيرة) سهوًا، والصحيح أنه اقتبسه عن (جذوة المقتبس) للحميدي، وعلى المحقق الوقوف طويلًا أمام أسماء المؤلفين؛ حيث إن القدماء كانوا يخطئون أحيانًا فيها بسبب الاشتباه عليهم، ومن ثم يجب مراجعة الأسماء التي توضع على المخطوط بدقة. ومن صور الخطأ الوارد في الاسم أن الشهرستاني ذكر في أوائل كتابه (الملل والنحل) فلاسفة الإسلام الذين فسروا كتب الحكمة من اليونانية إلى العربية، وذكر من بينهم أبا حامد أحمد بن محمد الإسفزاري، وهو من إسفزار، بلدة بين هراة وسجستان، واشتبه الأمر على بعض العلماء، فجزم بأن الإسفزاري المذكور هو الإسفراييني، لاشتراكهما في الاسم، والكنية، واسم الأب، واقتراب الإسفزاري في الصورة الخطية من الإسفراييني، فلينتبه المحقق إلى مثل هذا التشابه.
من الأمور التي تتصل بتحقيق المتن أيضًا: تخريج النصوص، أي ردها إلى مصادرها التي تشهد بصحتها وتؤيدها، وهذا أمر مهم في مجال التحقيق، ولا ينبغي للباحث أن يهمله أو يغفل عنه بأي حال من الأحوال، والنصوص التي ينبغي تخريجها في المخطوط المراد تحقيقه كثيرة ومتنوعة، وفي مقدمتها القرآن الكريم، ولا يصح أن يثق المحقق بحفظه لكتاب الله عز وجل عند تخريجه لآيات كتاب الله الحكيم؛ فإن آياته تتشابه، وكثيرًا ما يحدث فيها السهو والخلط لدى بعض المؤلفين أو النساخ، يستعين الباحث في تخريج النصوص القرآنية بالمصحف، أو ببعض المعاجم الخاصة بألفاظ القرآن الكريم، وهذه
المعاجم تعين الباحث على استخراج النص من المصحف في سهولة وسرعة، لا يُوَثِّق من هذه المعاجم، ولكن وظيفة المعجم هي سرعة الاستدلال من خلالها على مكان الآية في كتاب الله سبحانه وتعالى، ولا يتعجل الباحث في تخطئة النص قبل الرجوع إلى كتب القراءات، فربما أراد المؤلف قراءة من القراءات، فعليه أن يستوثق من ذلك قبل أن يخطِّئ هذه القراءة.
وفي تخريج النص القرآني يشير الباحث إلى اسم السورة ورقمها ورقم الآية على النحو التالي يقول: سورة البقرة 2 مائة خمس وعشرون، سورة البقرة، رقمها، الآية رقم 125، وبعض الباحثين يهمل رقم السورة، ولكن ذلك ييسر الرجوع إلى السورة خاصة في العصر الحديث؛ فقد رقمت فيه السور. وتخريج الأحاديث النبوية الشريفة من الأمور المهمة أيضًا التي ينبغي للباحث أن يهتم بها، حتى يطمئن إلى سلامتها من التصحيف والتحريف، ومما يعين الباحث على ذلك (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف في كتب السنة) وكتبه المستشرق "فننسنك"، وكذا كتاب (مفتاح كنوز السنة) لمحمد فؤاد عبد الباقي، وكذا كتاب (الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير) للسيوطي، وغير ذلك من كتب تهتم بالحديث النبوي الشريف شرحًا، وتصنيفًا، وتخريجًا، وللأحاديث التي يستشهد بها في اللغة مراجع خاصة مثل (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلام، و (غريب الحديث) لابن قتيبة، و (الفائق في غريب الحديث) للزمخشري، و (النهاية في غريب الحديث والأثر) لابن الأثير، وغير ذلك من كتب تخصصت في هذا المجال.
أما بالنسبة للأمثال العربية فعلى المحقق أن يلجأ إلى كتب الأمثال المختلفة لتحقيقها، حتى يطمئن إلى سلامتها، وصدق روايتها، وضبط كلماتها، ومعرفة
مواردها ومضاربها، وهناك كتب كثيرة، ومن أهم هذه الكتب (مجمع الأمثال) للميداني، و (المستقصى) للزمخشري، و (جمهرة الأمثال) لأبي هلال العسكري، و (فصل المقال) لأبي عبيد البكري، و (أمثال العرب) للمفضل الضبي، و (الأمثال) للسدوسي، و (الأمثال) لأبي عكرمة الضبي، وغير ذلك من كتب تخصصت في مجال الأمثال، وشرحها، وبيان مواردها، ومضاربها.
أما تخريج الأشعار ومراجعة المصادر الأصلية المختلفة في تحقيق الأبيات الشعرية فشيء لا يغني عنه مهارة الباحث المحقق، وحذقه بالأسلوب العربي، وأنظمة قرض الشعر، ولا بد من الرجوع إلى ديوان الشاعر إن كان له ديوان؛ فإن لم يكن له ديوان رجع المحقق إلى ما روي من شعره في المجاميع الشعرية المختلفة، وعندنا من المجاميع الكثير كـ (الأصمعيات)، و (المفضليات)، و (جمهرة أشعار العرب) للقرشي، وحماسة أبي تمام، وحماسة البحتري، و (الحماسة البصرية)، و (الأشباه والنظائر) للخالديَّيْن، وغير ذلك من مجاميع شعرية، وتضم المصادر العربية بين دفتيها كثيرًا من المقطوعات الشعرية والأبيات المفردة، ولا بد للمحقق أن يرجع إليها ليقف على الروايات المختلفة والشروح المتنوعة، ويمكنه من خلال ذلك تقويم ما اعوج من نص المخطوط، يتتبع المحقق الأبيات الشعرية المتنوعة حتى وإن تعددت تلك المصادر ليتم له استقصاؤها، وهذا يبعد الأبيات عن مظنة الخطأ أو التحريف.
أيضًا من النصوص التي ينبغي أن تخرج بدقة: الأعلام التي ترد في متن المخطوط كأسماء الأشخاص، أو الأماكن، أو البلدان، للتأكد من صحتها، وخلوها من التصحيف والتحريف، لا بد للمحقق أن يخرجها، وتوجد مجموعة من المصادر الصحيحة يمكن للمحقق أن يخرج الأعلام من خلالها، وتعرف هذه المصادر
بكتب التراجم والطبقات، عندنا كتب للتراجم والطبقات للنحاة، وللغويين، والفقهاء، والمحدِّثين، والمفسرين، والقراء، والشعراء، والأطباء، وغيرهم، ومن هذه المصادر أيضا (معجم الأدباء) لياقوت الحموي، (وفيات الأعيان) لابن خلكان، و (بغية الوعاة) للسيوطي، و (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الجمحي.
أيضًا ألف العلماء في الأنساب بعض الكتب، وعلى الباحث المحقق أن يرجع إلى مثل هذه الكتب للتأكد من أسماء الأعلام الواردة في متن المخطوط، ومن هذه المؤلفات (جمهرة أنساب العرب) لابن حزم، وبعضهم خصص بعض مؤلفاته لتراجم علماء بلد من البلدان كـ (تاريخ بغداد) مثلًا للبغدادي، كما ألفوا في تراجم علماء عصر من العصور كـ (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) لابن حجر، ومثل (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع) للسخاوي. أما أسماء الأماكن والبلدان فهناك مجموعة من المصادر التي تخرج منها، أهم هذه المصادر (معجم ما استعجم) لأبي عبيد البكري، و (معجم البلدان) لياقوت.
من هذا العرض السريع لكيفية تخريج النصوص نفهم أن الباحث يرد كل نص يريد تخريجه إلى مصدره الأصلي، الأدب من كتب الأدب، الحديث من كتب الصحاح، التاريخ من مصادر التاريخ، وعلى المحقق أن يلتزم بذلك، فلا يصح أن يُخَرِّج الباحث بيتًا من الشعر من كتاب للسيرة النبوية مثلًا، أو يخرج حديثًا شريفًا من كتاب في تاريخ الأدب، وإنما ترد كل معلومة إلى مصدرها الأصلي، وهكذا نرى أن تحقيق النص ليس بالأمر الهين، بل لا بد فيه من معرفة واسعة بالمصادر العربية، وطريقة استخدامها، والإفادة منها في تحقيق النص، حتى يخرج النص قريبًا من أصله الذي كتبه المؤلف.