المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المنهج التاريخي: مفهومه، ونشأته، ومقياس الجودة عند أصحابه - أصول البحث الأدبي ومصادره - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مقدمة في أصول البحث الأدبي ومصادره

- ‌كلمة "بحث": معناها، ودلالتها

- ‌العرب والثروة الأدبية

- ‌الطرق التي ساعدت العرب على حفظ تراثهم

- ‌الدرس: 2 العرب والبحث العلمي - مناهج التأليف عند العرب (1)

- ‌هل كان العرب مجرد مبدعين أم أنهم عرفوا طريق البحث العلمي

- ‌أدوات البحث العلمي عند العرب

- ‌اتجاهات التأليف عند العرب "اتجاه الاختيارات الأدبية المجرد

- ‌الدرس: 3 مناهج التأليف عند العرب (2)

- ‌بعض المصادر التي تمثل اتجاه الاختيارات المجردة

- ‌الاتجاه الثاني "اتجاه أصحاب الطبقات والتراجم

- ‌الدرس: 4 مناهج التأليف عند العرب (3)

- ‌كتاب (الشعر والشعراء) كنموذج على اتجاه الطبقات والتراجم

- ‌الاتجاه الثالث: "اتجاه الدراسة الأدبية والنقدية

- ‌الدرس: 5 مناهج التأليف عند العرب (4)

- ‌الاتجاه الرابع "الموسوعات العلمية

- ‌الصور التي جاءت عليها الموسوعات، ونماذج لها

- ‌الدرس: 6 مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث

- ‌حقيقة المنهج وأهميته في مجال البحث العلمي

- ‌نشأة المناهج العلمية وتطورها

- ‌الدرس: 7 المنهج التاريخي

- ‌المنهج التاريخي: مفهومه، ونشأته، ومقياس الجودة عند أصحابه

- ‌قيمة المنهج التاريخي في مجال البحث الأدبي

- ‌الدرس: 8 المنهج النفسي

- ‌صلة الأدب بالنفس

- ‌حقيقة المنهج النفسي، وعلاقة النفس بالأدب

- ‌نشأة المنهج النفسي، وتطوره في العصر الحديث

- ‌مقياس الجودة الفنية عند أصحاب المنهج النفسي، وقيمته

- ‌المآخذ على المنهج النفسي

- ‌الدرس: 9 نظرية الفلسفة الجمالية وعلاقتها بالدراسات الأدبية

- ‌نظرية الفلسفة الجمالية وقيمتها في مجال البحث الأدبي

- ‌رؤية العربي لفكرة الجمال الأدبي

- ‌الدرس: 10 المنهج المتكامل وقيمته في مجال البحث الأدبي الحديث

- ‌أهم المناهج البحثية: المنهج المتكامل

- ‌ملاحظات لمن يريد استخدام المنهج المتكامل، وبيان قيمته

- ‌الدرس: 11 خطوات البحث الأدبي (1)

- ‌مادة البحث الأدبي

- ‌خطوات البحث العلمي: اختيار موضوع البحث

- ‌الدرس: 12 خطوات البحث الأدبي (2)

- ‌رسم الخطة

- ‌تحديد المصادر والمراجع

- ‌الدرس: 13 خطوات البحث الأدبي (3)

- ‌استقراء المصادر والمراجع

- ‌كيفية استخدام القدماء والمحدثين للمصادر

- ‌الدرس: 14 خطوات البحث الأدبي (4)

- ‌صياغة البحث

- ‌مراعاة قواعد الكتابة العربية في صياغة البحث

- ‌الدرس: 15 مفهوم التحقيق والتوثيق وشروط المحقق

- ‌(مفهوم التحقيق والتوثيق

- ‌شروط المحقق

- ‌الدرس: 16 كيف نحقق نصا أو مخطوطا

- ‌جمع النُسخ، وترتيبها

- ‌تحقيق العنوان، واسم المؤلف، ونسبة الكتاب

- ‌الدرس: 17 تحقيق متن المخطوط

- ‌مقدمات الدخول إلى النص

- ‌الخطأ وكيفية علاجه

- ‌الدرس: 18 الخروم والسقط، والتصحيف والتحريف

- ‌(الخروم والسقط

- ‌التصحيف والتحريف

- ‌أسباب انتشار ظاهرة التصحيف والتحريف

- ‌الدرس: 19 تخريج النصوص وإخراج المخطوط

- ‌(تخريج النصوص

- ‌عملية إخراج المخطوط

- ‌الدرس: 20 صنع الفهارس

- ‌التعريف بالفهارس وأنواعها

- ‌كيفية صناعة الفهارس

- ‌فهرسة المخطوطات

الفصل: ‌المنهج التاريخي: مفهومه، ونشأته، ومقياس الجودة عند أصحابه

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السابع

(المنهج التاريخي)

‌المنهج التاريخي: مفهومه، ونشأته، ومقياس الجودة عند أصحابه

الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه؛ وبعد:

فنبدأ بعون الله سبحانه وتعالى:

المنهج التاريخي: هو الذي ينهج بتقويم العمل الأدبي، أو الأدباء أنفسهم، والكشف عن جوانبهما المختلفة، على أساس ما بينهما من علائق وثيقة، تربطهما بالبيئة والعصر، والمجتمع، فالأدب في رأي أصحاب هذا المنهج وليد البيئة، وصدًى لأحداث المجتمع، وتلك الأحداث هي الملهمة الأولى للأدباء، والمثير الأقوى لإشعال عواطفهم، وتحريك وجدانهم، وتفجير كوامن الشاعرية داخلهم.

تلك الأحداث هي النبع الذي يستمد منه المؤرخون للأدب، والمنظرون له والمبدعون أيضًا، فهي المصدر الذي يستمد منه كل طالب أي جانب من جوانب الأدب، ويعد التاريخ العام مصدرًا مهمًّا من مصادر الأدب، كما يعد تاريخ الأدب جزءًا من تاريخ الحضارة، والعلاقة بين التاريخ العام، وتاريخ الأدب علاقة وطيدة وثيقة، لا يمكن بحال من الأحوال أن نفصل بينهما، بل نعبر عن هذه العلاقة بقولنا: إنهما وجهان لعملة واحدة.

فالمؤرخ يركز على الحدث في إطاره الزماني والمكاني، أما الأديب فإنه يخرج بهذا الحدث من إطاره الخاص إلى إطار عام، متخطيًا حدود الزمان والمكان، ومن المعلوم أن كل حدث تاريخي له جانبان: جانب مقيد بالإطار الزماني والمكاني والظروف، التي أدت لوقوعه، وجانب مطلق، هذا الجانب المطلق، يتمثل في القيم الفكرية

ص: 115

والأخلاقية، والإنسانية، التي يمكن أن يشكلها ذلك الحدث في جميع الأزمنة، والأمكنة.

مهمة المؤرخ تتمركز في الجانب الأول، أما الجانب الثاني، فيمثل المادة الخام للأديب، يستقي منها مضامينه الفكرية، وأشكاله الفنية، وكل ما يريد أن يبدع فيه، ولو تأملنا النماذج الأدبية الخالدة لوجدنها تستمد أصولها من قضايا تاريخية، أو سياسية، أو إنسانية بارزة، هذه حقيقة جميع النماذج الأدبية، التي التفت إليها النقاد، وأعجبوا بها، ولا تزال تتردد إلى الآن على ألسنة الباحثين، والدارسين وغيرهم ممن يتذوقون الأدب، هذه النماذج لو تأملنا فيها جيدًا، لوجدناها تستمد أصولها من قضايا تاريخية بارزة، أو سياسية خطرة، أو إنسانية، فالتاريخ والأدب وسيلتان لغاية واحدة.

هذه الغاية هي استيعاب الأحداث بأبعادها المختلفة، وتصويرها بطريقة ما، مع اختلاف أدوات كل من المؤرخ والأديب في هذا، فالمؤرخ وسيلته تحليلية، أما الأديب فوسيلته فنية بحتة، كما أنه لا يمكن إنكار أو تجاهل ما بينهما من تأثير وتأثر، لا يمكن بحال من الأحوال إنكار أن الأدب يؤثر في التاريخ، وأن التاريخ يؤثر في الأدب تأثيرًا بارزًا وواضحًا، ومن ثم فليس من السهل دراسة الأدب، أو الكشف عن طبائع الأدباء، واتجاهاتهم الفنية وغيرها، إلا بعد دراسة عصورهم، التي نشأوا فيها، وبيان أحوال مجتمعهم، وأثر البيئة في حياتهم.

كل هذه الأشياء تكشف لنا عن جوانب كثيرة من الأدب، والإبداع الفني والخصائص، التي يتميز بها ذلك الفن، وهذا المبدع، وينبغي لمن ينشد الحقيقة من باحثي الأدب ودارسيه، ألا ينظر في الأدب أو الأدباء نظرة استقلالية، ويجعلهما في معزل عن تيارات عصرهما، والأحداث الكبرى التي تصنعهما، بل لا بد أن يدرس الأدب في إطار تلك الأحداث في إطار ذلك التاريخ؛ لأنهم لا ينفصلان كما ذكرنا.

ص: 116

ومجالات المنهج التاريخي في البحث الأدبي متعددة كثيرة، إذ لا بد من اللجوء إليه عند دراسة تأثر العمل الأدبي، أو الأديب ذاته بالبيئة، التي عاشها، لو أردنا أن نكشف عن بيئة من البيئات، أو أديب من الأدباء، ونبحث عن تأثره بهذه البيئة، هل استطاع أن يتفاعل معها أو يعيشها؟ هل انعكست أحداث هذه البيئة على فنه الأدبي؟ لا يمكن أن نصل إلى نتيجة في هذا المجال، إلا إذا لجأنا إلى المنهج التاريخي.

وكذلك لو أردنا أن نتعرف على أثر البيئة في أي أديب من الأدباء يعيش فيها، لا بد من اللجوء إلى المنهج التاريخي، هو وحده الذي يستطيع أن يكشف لنا عن هذا التأثر، وكذلك عند دراسة الأطوار المختلفة للفنون الأدبية، والوقوف على آراء النقاد والعلماء في الأعمال الأدبية، والموازنة بينها، ومعرفة السابق، واللاحق منها، لو أننا وقفنا أمام قضية مثلًا من القضايا، أو أمام فن من الفنون الأدبية الكثيرة، وأردنا أن نتتبعه، ونعرف نشأته، نعرف من الذي ابتكر هذا؟ وما أول رأي قيل في تلك القضية.

كل هذا لا ييجبنا أو لا يفيدنا أو لا يسعفنا، للوصول إلى نتائج مثمرة، إلا للوصول إلى نتائج مثمرة، إلا إذا لجأنا إلى منهج تاريخي، وكذلك الموازنة لو أردنا أن نوازن بين شاعرين، أو بين ناقدين حول قضية من القضايا، لا بد من اللجوء إلى المنهج التاريخي، وكذلك نلجأ إلى المنهج التاريخي أيضًا عند إرادة التأكد من نسبة النصوص لأصحابها، لو أردنا أن ننسب نصًّا اختلف فيه النقاد، فبعضهم ينسبه إلى قائل، وبعضهم ينسبه إلى قائل آخر، من الذي يفصل في هذه القضية؟ هو المنهج التاريخي.

وغير ذلك من مجالات لا حصر لها، نحتاج إلى المنهج التاريخي في بحثها، والوصول إلى نتائج دقيقة من خلال ذلك البحث.

ص: 117

أما عن نشأة هذا المنهج: ففي القرن التاسع عشر، نلاحظ أن الحياة العقلية في أوربا، سجلت نهضة رائعة في مجال العلوم الطبيعية والتجريبية، نهضة لا ينكرها منكر، وأخذت مناهج هذه العلوم تفرض سلطانها على عقول الناس، وتسيطر على تفكيرهم، وراحت تجتذب إليها طائفة من مؤرخي الأدب، أخذوا ينادون بمحاولة تطبيق هذه المناهج، على الدراسات الأدبية، وإخضاعها لأساليبها، وقواعدها، وقوانينها العلمية.

يعني: حاول جماعة من النقاد، أو الدارسين للأدب أن يأخذوا هذه القواعد، التي توصل إليها علماء البحث في العلوم الطبيعية والتجريبية، حاولوا أن يستفيدوا، أو يوظفوا هذه القواعد، التي توصل إليها هؤلاء العلماء في تلك العلوم، حاولوا أن يوظفوها في دراسة الأدب، وارتفعت ثلاث صيحات تدعو إلى هذه المحاولة، أو التجربة الجديدة، يمثل هذه الصيحات الثلاثة من النقاد الغربيين: ناقد يسمى "سانت بيف"، الذي عاش في القرن التاسع عشر، وناقد آخر يسمى "تين" هيبلاي تين"، وناقد ثالث يسمى "برنتير".

وقد مضى هؤلاء الثلاثة ينكرون التذوق الشخصي، وكل ما يتصل بالذوق وأحكامه، وبدأوا يحاولون وضع قوانين ثابتة للأدب، ثبات قوانين العلوم الطبيعية، قوانين تطبق على كل الأدباء، كما تطبق قوانين الطبيعية على كل العناصر والجزئيات، وكل الكائنات، وهم في الحقيقة بهذا يلغون ذاتية الأديب، ويسوون بين الأعمال الإبداعية.

ظهرت أولى تلك المحاولات على يد "سانت بيف"، الذي دعى إلى العناية بالشخصية الأدبية، ودراستها دراسة عضوية، ونفسية واجتماعية، ومعرفة مدى

ص: 118

تأثرها بالأحداث السياسية، والاجتماعية وغيرها من مؤثرات البيئة، ولم يهتم على الإطلاق بعواطف الأديب، لم ينظر إليها، ولا بحقيقة انفعاله بتلك البيئة التي عاش فيها، وعايشها، وبث سانت بيف أفكاره تلك في أحاديثه المعروفة، باسم أحاديث الاثنين، وأحاديث الاثنين الجديدة.

طرح أفكاره في هذين العنوانين، التي دعى فيها إلى دراسة الأدباء دراسة علمية، على أساس علاقاتهم بالجنس، والبيئة، والعصر، والأدباء في رأي سانت بيف فصائل، كفصائل النبات والحيوان، تتشكل هذه الفصائل حسب ما يقع عليها من مؤثرات خارجية، والكشف عن هذه الخصائص عنده، يحتاج إلى بحث عميق في كل فصيلة من حيث علاقاتها، التي لا تنحصر بما يحيط بها من أشياء.

هذه الرؤيا رؤية بيف، تعني أن الباحث الذي يسلك هذا المنهج، سيتحول إلى مؤرخ للأدب ليس إلا، هذه حقيقة ومن خلال تأريخه ذاك، يمكنه تصنيف الأدباء، وبيان ما ينفرد به كل منهم، وما يشتركون فيه، هذا المنهج أو هذه الرؤيا تفرض على الباحث في الأدب أن يسلك هذا التاريخ، طريق التأريخ للأدب، وتصنيف الأدباء، وبيان ما ينفرد به كل واحد من هؤلاء، وما يشترك فيه مع غيره، وسانت بيف نفسه يدرك هذا جيدًا، كما يدرك أن لكل شخصية أدبية من الخصائص ما يميزها عن غيرها، نعم لا ينكر هذا لا ينكر أن كل شخصية من الشخصيات الأدبية لها خصائص، تميزها عن غيرها من الشخصيات الأخرى.

لكنه لم يشغل نفسه بالكشف عن تلك الخصائص، لماذا؟ لماذا لم يشغل نفسه ببيان تلك الخصائص، التي تميز كل شخصية أدبية عن غيرها من الشخصيات؟ لأن هذه الخصائص من وجهة نظره، لا تحقق الأهداف التي يسعى إليها، وما الأهداف التي يسعى إليها؟ سانت بيف كان يسعى إلى إخضاع الأدباء إلى قوانين ثابتة، كقوانين الطبيعة، قوانين ثابتة كقوانين الطبيعة، ومن ثم فإن معرفة الخصائص، التي تميز كل شخصية أدبية عن غيرها لا تحقق له هدفه.

ص: 119

ومن ثم لم يلتفت إليها وإن صح أن نقول: إن بعض الناس يتشابهون في الشكل، أو في الطباع مثلًا، أو في نمط سلوكي معين، فمن الصعب أن نقول ذلك في مجال العواطف، والأحاسيس، والاستعداد الفطري الذي يشكل الأديب، يعني: إذا تأملنا قول سانت بيف أو رؤيته جيدًا يعني: من المستحيل أن نطبق بعض الجوانب التي نادى بها، فإذا تشابه الأدباء في أي شيء، فإنهم لا يتشابهون في العواطف، والأحاسيس، والاستعداد الفطري الذي يشكل كل واحد منهم.

فالأديب الواحد لا يخضع لقانون ثابت في هذا الجانب، الأديب الواحد عواطفه تتفاوت أحاسيسه ومشاعره، تعلو أحيانًا، وتهبط أحيانًا أخرى، فلا يمكن أن تكون ثابتة كثبات القوانين الطبيعية، إذا كان هذا يحدث للأديب الواحد، فما بالنا بطائفة من الأدباء مختلفي الحس والشعور، والتوجه الفني؟ بتلك الرؤية، وهذه الآراء التي طرحها سانت بيف، استطاع أن يضع جذور المنهج التاريخي.

ثم جاء من بعده هيبوليت تين، فأسقط الخصائص الفردية التي يتميز بها الأديب، أسقطها إسقاطًا تامًّا، وحولها إلى خصائص جماعية، وقوانين حتمية، تشبه قوانين الطبيعة، وظهر صدى ذلك في كتابه (تاريخ الأدب الإنجليزي)، أصل لهذه الرؤية في هذا الكتاب، وأخضع تين الأدب والأديب معًا خضوعًا تامًّا جبريًّا؛ لعدة معايير نتأملها جيدًا، هذه المعايير هي: الجنس والبيئة والعصر.

فيقول: أعثر على حالات البلد والإقليم والجنس والبيئة والتربية، والعادات التي عاش فيها إنسان ما، واسنتتج منها موقفًا طبيعيًّا، يكشف عن موهبة الأديب، وأعماله، هذا كلامه الذي يؤكد به تلك الرؤية، ويقصد بالجنس هنا: مجموعة من الصفات والخصائص الموروثة لدى أمة من الأمم، انحدرت من أصل واحد، ويعني بالبيئة المكان أو الوسط الجغرافي، الذي نشأ فيه الأديب أو جنس بشري ما، وما يشكله من عوامل طبيعية واجتماعية مختلفة، تؤثر في فكره.

ص: 120

ويقصد تين بالعصر: الزمان الذي تعيش فيه أمة ما، وما يسود فيه من سياسة ودين وعادات وتقاليد وغير ذلك، أو الحركة المكتسبة من ثقافة الشعب وتاريخه، أو بمعنى آخر، يقصد بها تأثير الماضي في الحاضر، ومناصرته له، والحقيقة أننا لا ننكر أثر الخصائص الجنسية في الإبداع الأدبي، لا ننكرها على الإطلاق، ونشهد بالتقدم العلمي الهائل في العصر الحديث، والتسابق الواضح بين الدول؛ لمعرفة خصائص الجنس البشري في كل إقليم، هذا شيء جيد لا ننكره، وهو ما يعرف بعلم الجينات، لا ننكره ولا ينكره أحد.

ولكن لا بد أن نعترف: أنه إذا كان بالإمكان تطبيق ما نادى به تين في إقليم من الأقاليم، أو عصر من العصور الماضية، فمن الصعب تطبيقه الآن؛ بسبب الامتزاج الشديد بين الشعوب، واختلاط الأجناس إلى حد بعيد، فمن السهل فعلًا أن نطبق هذا القانون في الأزمنة، التي كان مثلًا يعيشها فيها الجاهليون؛ لأنهم كانوا أمة واحدة جنسًا واحدًا عرب، لكن في العصور التالية بعد ذلك، بداية بالعصر العباسي، وانتهاءًا بالعصر الحديث الذي نعيشه الآن.

من الصعب في الحقيقة تطبيق هذا القانون؛ بسبب الاختلاط الشديد بين الأجناس، والامتزاج القوي بين الأمم، وتجدر الإشارة إلى أنه مع إيماننا الشديد بوحدة الأدب العربي، واتفاقه في كثير من الخصائص الفنية؛ رغم اختلاف البيئات وتباينها، إلا أننا لا ننكر أثر البيئة في تشكيل الإبداع الأدبي، كل بيئة ينعكس أثرها على الأدب الذي يقال فيها، ومع ذلك هناك خصائص عامة، مشتركة بين الآداب جميعها على اختلاف البيئات والأزمنة أيضًا، خاصة في العصر الحديث.

ولدينا في الحقيقة طائفة من النماذج الأدبية، التي تختلف خصائصها تبعًا لاختلاف البيئات، التي قيلت فيها، كالأدب المهجري مثلًا، حيث إن له من

ص: 121

الخصائص ما يميزه عن غيره من الآداب، ولو فتشنا في النماذج، التي يحاكي فيها الأدباء الأدب القديم، كالمعارضة، والتقليد، ويتفقون معه في كثير من الخصائص، لرأينا أثر البيئة التي يعشونها واضحًا جليًّا، وأن محاكاتهم للأدب القديم، لا تلغي تأثرهم بتلك البيئة.

يعني: لو أن شاعرًا من العصر الحديث، عارض شاعرًا من العصر العباسي، كالمتنبي أو البحتري مثلًا، وبرع في المعارضة من الناحية الفنية، هل نعدم أثر البيئة، التي عاش الشاعر فيها البيئة الحديثة، هل نعدم أثرها في هذا الفن الأدبي لا، لو تأملنا ودققنا وحللنا تحليلًا فنيًّا جيدًا، لتكشفت لنا ملامح البيئة التي يعيشها ذلك الشاعر في هذه النماذج، التي يحاكي أو يعارض، أو يقلد بها ذلك الشاعر العباسي.

ورغم ذلك كله، فإننا ينبغي أن نطبق قانون البيئة في بحوثنا الأدبية، بحذر شديد عند الاحتياج إليه، هذا بالنسبة للرائد الثاني من رواد المنهج التاريخي، وهو هيبولاي تين، وتلك رؤيته التي كشف عنها، أما ثالث رواد هذا المنهج وهو برونت يير، صاحب نظرية تطور الأنواع الأدبية في الأدب والنقد، إذ حاول في كتابه (أصل الأنواع)، ألف كتابًا بعنوان (أصل الأنواع)، حاول في هذا الكتاب أن يمهد لتطبيق نظرية دارون، عن علم الأحياء المسماة بنظرية النشوء والارتقاء، وهي نظرية مشهورة ومعروفة.

واقتفى برونت يير أثر سبنسر، الذي طبقها على علم الأخلاق والاجتماع يعني: قلد سبنسر الذي طبق هذه النظرية -نظرية النشوء والارتقاء-، قلد برنت يير سبنسر في تطبيقها على الأخلاق والاجتماع، وطبقها هو أيضًا على الأدب.

وفي سبيل هذا -في سبيل تحقيق ذلك- كتب برونت يير كتابًا سماه (تطور الأنواع الأدبية)، وقسم فيه الأدب إلى فصائل، كفصائل الكائنات الحية الخاضعة للتطور

ص: 122

والنمو والتكاثر والكمال، ثم التلاشي وفي النهاية العدم، مؤكدًا خضوع الأدب في ذلك كله لعوامل بيئية واجتماعية مختلفة، فكل جنس أدبي له زمان خاص به، يولد فيه وينمو فيه، ويموت فيه، فله حياة خاصة به، في امتداد زمني معين، مثل الأجناس الحيوانية تمامًا.

وفي سبيل تأكيد ذلك اختار برونت يير ثلاثة أنواع أدبية، هي المسرح والنقد الأدبي، والشعر الغنائي، وراح يطبق عليها نظريته السالفة الذكر، والحقيقة أن نظرية تطور الأنواع الأدبية، التي نادى بها برونت يير في حد ذاتها صحيحة، هي صحيحة في حد ذاتها؛ لأن الأدب ينمو، ويصيبه شيء من التطور، مثلما يصيب الكائنات الحية، ولكن الفرق شاسع بين تطور الكائنات، وتطور الآداب، فالكائنات الحية تتلاشى، وينفي بعضها بعضًا بخلاف الأدب، فإنه لا يصيبه شيء من ذلك على الإطلاق، ولا زلانا نستمع إلى الآن بالدرر الخالدة من أدبنا العربي في العصر الجاهلي والإسلامي، والأندلسي وغيرها من عصور، رغم ما طرأ على الأدب من تطور في هذه العصور، وعبر الأزمان المتلاحقة من بعدها، هذه أو هذا موجز عن نشأة هذا المنهج، وهم علماء ثلاثة، أبدى كل واحد منهم رؤيته، وأصلوا لهذا المنهج في الآداب الغربية.

والحقيقة أن العرب عرفوا هذا المنهج قبل الأوربيين بأزمنة طويلة، وإن غاب عنهم المصطلح، فالفكرة لم تغب عن خاطرهم، ومؤلفاتهم التي بين أيدينا تشهد بذلك، وسبق أن أشرنا إلى بعضها، هم عرفوا المنهج التاريخي، عرفوا الفكرة عرفوا المفهوم، ولكن المصطلح والقوانين الحديثة، هذه هي التي لم يعرفها العرب.

وهذا المنهج بمفهومه وأصوله الحديثة، التي انتشرت في البيئة الغربية، انتقل إلى البيئة العربية من خلال عدة طرق،

ص: 123