المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جمع النسخ، وترتيبها - أصول البحث الأدبي ومصادره - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مقدمة في أصول البحث الأدبي ومصادره

- ‌كلمة "بحث": معناها، ودلالتها

- ‌العرب والثروة الأدبية

- ‌الطرق التي ساعدت العرب على حفظ تراثهم

- ‌الدرس: 2 العرب والبحث العلمي - مناهج التأليف عند العرب (1)

- ‌هل كان العرب مجرد مبدعين أم أنهم عرفوا طريق البحث العلمي

- ‌أدوات البحث العلمي عند العرب

- ‌اتجاهات التأليف عند العرب "اتجاه الاختيارات الأدبية المجرد

- ‌الدرس: 3 مناهج التأليف عند العرب (2)

- ‌بعض المصادر التي تمثل اتجاه الاختيارات المجردة

- ‌الاتجاه الثاني "اتجاه أصحاب الطبقات والتراجم

- ‌الدرس: 4 مناهج التأليف عند العرب (3)

- ‌كتاب (الشعر والشعراء) كنموذج على اتجاه الطبقات والتراجم

- ‌الاتجاه الثالث: "اتجاه الدراسة الأدبية والنقدية

- ‌الدرس: 5 مناهج التأليف عند العرب (4)

- ‌الاتجاه الرابع "الموسوعات العلمية

- ‌الصور التي جاءت عليها الموسوعات، ونماذج لها

- ‌الدرس: 6 مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث

- ‌حقيقة المنهج وأهميته في مجال البحث العلمي

- ‌نشأة المناهج العلمية وتطورها

- ‌الدرس: 7 المنهج التاريخي

- ‌المنهج التاريخي: مفهومه، ونشأته، ومقياس الجودة عند أصحابه

- ‌قيمة المنهج التاريخي في مجال البحث الأدبي

- ‌الدرس: 8 المنهج النفسي

- ‌صلة الأدب بالنفس

- ‌حقيقة المنهج النفسي، وعلاقة النفس بالأدب

- ‌نشأة المنهج النفسي، وتطوره في العصر الحديث

- ‌مقياس الجودة الفنية عند أصحاب المنهج النفسي، وقيمته

- ‌المآخذ على المنهج النفسي

- ‌الدرس: 9 نظرية الفلسفة الجمالية وعلاقتها بالدراسات الأدبية

- ‌نظرية الفلسفة الجمالية وقيمتها في مجال البحث الأدبي

- ‌رؤية العربي لفكرة الجمال الأدبي

- ‌الدرس: 10 المنهج المتكامل وقيمته في مجال البحث الأدبي الحديث

- ‌أهم المناهج البحثية: المنهج المتكامل

- ‌ملاحظات لمن يريد استخدام المنهج المتكامل، وبيان قيمته

- ‌الدرس: 11 خطوات البحث الأدبي (1)

- ‌مادة البحث الأدبي

- ‌خطوات البحث العلمي: اختيار موضوع البحث

- ‌الدرس: 12 خطوات البحث الأدبي (2)

- ‌رسم الخطة

- ‌تحديد المصادر والمراجع

- ‌الدرس: 13 خطوات البحث الأدبي (3)

- ‌استقراء المصادر والمراجع

- ‌كيفية استخدام القدماء والمحدثين للمصادر

- ‌الدرس: 14 خطوات البحث الأدبي (4)

- ‌صياغة البحث

- ‌مراعاة قواعد الكتابة العربية في صياغة البحث

- ‌الدرس: 15 مفهوم التحقيق والتوثيق وشروط المحقق

- ‌(مفهوم التحقيق والتوثيق

- ‌شروط المحقق

- ‌الدرس: 16 كيف نحقق نصا أو مخطوطا

- ‌جمع النُسخ، وترتيبها

- ‌تحقيق العنوان، واسم المؤلف، ونسبة الكتاب

- ‌الدرس: 17 تحقيق متن المخطوط

- ‌مقدمات الدخول إلى النص

- ‌الخطأ وكيفية علاجه

- ‌الدرس: 18 الخروم والسقط، والتصحيف والتحريف

- ‌(الخروم والسقط

- ‌التصحيف والتحريف

- ‌أسباب انتشار ظاهرة التصحيف والتحريف

- ‌الدرس: 19 تخريج النصوص وإخراج المخطوط

- ‌(تخريج النصوص

- ‌عملية إخراج المخطوط

- ‌الدرس: 20 صنع الفهارس

- ‌التعريف بالفهارس وأنواعها

- ‌كيفية صناعة الفهارس

- ‌فهرسة المخطوطات

الفصل: ‌جمع النسخ، وترتيبها

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السادس عشر

(كيف نحقق نصا أو مخطوطا؟)

‌جمع النُسخ، وترتيبها

الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد:

فتحقيق النص أو المخطوط يعني إخراجه في الصورة التي كان عليها عندما كتبه صاحبه، من خلال معالجة ما في المخطوط من أشياء تتطلب المعالجة؛ للوصول به إلى صورته الحقيقية، وهذا ما أقره علماء التحقيق. للوصول إلى هذه الصورة الحقيقية لهذا المخطوط هناك خطوات تتبع؛ أولى هذا الخطوات: جمع النسخ المخطوطة للنص، هب أنك تريد أن تحقق نصا ما، الخطوة الأولى التي ينبغي أن تتبعها لتحقيق ذلك النص لابد من جمع جميع النسخ المخطوطة لهذا النص، هذا أمر من الصعوبة بمكان، ولكن لابد للمحقق أن يبذل كل ما لديه من جهد في البحث عن مخطوطات النص في مظانها في العالم كله، وذلك من خلال عدة طرق:

أولا: بإمكانك من خلال فهارس المكتبات العامة على مستوى العالم كله مثل الفهارس القديمة في دور الكتب في أوربا مثل الفهرست الكبير للكتب العربية المحفوظة في دار الكتب البروسية بـ "برلين" الذي ألفه "أهلورت"، المكتبة الأهلية بباريس، و"ليدن" في هولندا، و"الإسكوريال" بإسبانيا.

وهناك فهارس مصنوعة لهذه المخطوطات خصيصا، فلو أن الباحث اطلع على مثل هذه الفهارس لابد أن يقع على معلومات عن النص أو عن المخطوط الذي سيحاول تحقيقه، وهكذا اطلاعه على فهارس المكتبات في المشرق، وهي كثيرة جدا مثلا مكتبة بيت الحكمة في بغداد، معهد المخطوطات العربية في القاهرة ويقوم بجهد مشكور في هذا المجال، ومنها خزائن كتب النجف الأشرف، خزائن

ص: 297

سيف الدولة بحلب، ومثل مكتبة أبي الفداء بحماة، مثل الجامع الأعظم في القيراون، جامع الزيتونة بتونس، جامع القرويين بفاس، مكتبة الزهراء بقرطبة، وغير ذلك كثير. هذا بالإضافة إلى المكتبات الخاصة التي يملكها أفراد معروفون، ولهم خبرة بالمخطوطات ويعرفون قيمتها، وهؤلاء منتشرون في شتى بقاع العالم العربي، ويعرفهم الباحثون معرفة تامة.

هناك طريق ثان يمكن للمحقق التعرف على المخطوطات من خلاله وهي الكتب التي اهتم أصحابها بالإشارة إلى المخطوطات وأماكنها.

من هذه الكتب: كتاب (تاريخ الأدب العربي) لـ "كارل بروكلمان"، وهو مستشرق ألماني وألف كثيرا من الكتب القيمة في اللغة العربية واللغات السامية جميعا، كتابه عنوانه يوحي بأنه أرخ للأدب العربي بالمعنى الشائع المعروف لدى الكتاب العرب عندما يؤرخون للأدب في عصر من العصور، وإنما هو سجل لكل ما وصل إليه علم مما ألف في اللغة العربية بجميع فروعها، فقد أفرغ المؤلف جميع فهارس المكتبات التي عرفها في بطاقات يكتب فيها: اسم الكتاب، مؤلف الكتاب، رقم الكتاب، المكتبة التي يوجد بها إن كان مخطوطا، تاريخ طبعه إن كان مطبوعا، المكان الذي طبع فيه، ثم صنف الرجل هذه البطاقات في كل عصر حسب الموضوعات المختلفة، قسم كتابه إلى أربعة أقسام:

الكتاب الأول: الأدب العربي حتى أواخر العصر الأموي سنة اثنتين وثلاثين ومائة للهجرة. الكتاب الثاني: لبداية العصر العباسي إلى سقوط بغداد. الكتاب الثالث: يبدأ من حكم المغول حتى سنة تسع وأربعين وتسعمائة وألف.

ص: 298

الكتاب الرابع: خاص بالأدب العربي الحديث في مصر منذ الاحتلال الإنجليزي، وكذا في سوريا والمهجر والعراق والجزيرة العربية والمغرب، فهو كتاب قيم بحق يستطيع الباحث المحقق من خلاله أن يتعرف على مخطوطه، والمعلومات التي تتصل به والتي تشير إلى النسخ الموجودة وأماكنها. من هذه الكتب أيضا التي لا يفوت باحث أن يطلع عليها لمعرفة النسخ كتاب (تاريخ آداب اللغة العربية) لجورجي زيدان، وكتاب (تاريخ التراث العربي) لفؤاد ساركين، وهو أحد الأتراك الذين يشتغلون بالدراسات العربية، وسيجد المحقق في هذه الكتب وأمثالها معلومات غزيرة عن المخطوطات ومؤلفيها وأماكنها.

هناك طريق ثالث يمكن للباحث من خلاله معرفة نسخ المخطوط، وهو أن يسأل أهل العلم المتخصصين في هذا المجال، لدينا علماء أجلاء أوقفوا حياتهم على تحقيق التراث وإخراجه من الظلمات إلى النور، أفنوا عمرهم في هذا العمل القيم الذي سيكون ذخرا لهم عند الله سبحانه وتعالى، فإنهم أدرى الناس بهذه المخطوطات وبخاصة التي لم تدرج ضمن الفهارس، توجد مخطوطات لم يشر إليها زيدان ولا "كارل بروكلمان" ولا "ساركيس"، ولا توجد في فهارس المكتبات التي أشرت إليها لكن يعرفها أهل العلم، وقعوا عليها بطريق أو بآخر، فإنهم يبذلون كل غال لديهم للحصول على مثل هذه النسخ، فلابد للباحث أن يرجع إلى هؤلاء، وأن يسألهم، وأن يفيد من توجيهاتهم ومن آرائهم ومن تحديداتهم ومن أوصافهم لمثل هذه المخطوطات.

هذه هي أهم الطرق، لكن الباحث لو رأى أن هناك طريقا آخر غير هذه فليسلكه. ويفضل أن يدرس المحقق النسخ المخطوطة للكتاب قبل جمعها أولا، يتعرف على النسخ من خلال البيانات المدونة في بطاقة كل مخطوطة، فقد تكون

ص: 299

بعض المخطوطات منقولة عن الأخرى، وجد مثلا نسخة في معهد المخطوطات العربية، ثم وجد نسخة في "برلين"، لا يُقبل على النسخة ويجمعها على أساس أن هذه النسخة غير هذه النسخة إلا إذا تأكد من خلال البيانات، فربما تكون النسخة التي وجدت في معهد المخطوطات العربية مصورة عن نسخة "برلين" أو العكس.

فإذا كانت البيانات المدونة في البطاقة تؤكد أن هذه النسخة هي تلك فلا داعي لإحضار نسختين، عليه أن يتصفحها سريعا بالطريقة الميسرة له في المكتبة الموجودة بها، ويثبت هذا ويقول: وجدت نسخة مصورة في مكتبة كذا، وهي منقولة من النسخة الموجودة في مكتبة كذا، اللهم إلا إذا كان بعض النسخ الحديثة قد كتبها علماء معروفون في مجال التحقيق أو في مجال العلم، ففي هذه الحالة لابد من الحصول على هذه النسخ كذلك؛ لأنه سيجد فيها تعليقا، وإذا ثبت أن الكتاب المخطوط نسخة واحدة فلا حرج من تحقيقه، ربما بعض الباحثين يحجم عن تحقيق مخطوط لا توجد له إلا نسخة واحدة ويقول: سوف يرهقني، وسوف أقابل صعوبات.

هذا حق الصعوبات موجودة حتى لو تعددت النسخ، فلنفرض أنك وقعت على مخطوط فيه علم قيم، وينبغي أن يظهر وينكشف للعلماء ليستفيدوا منه، أما إذا تعددت نسخ المخطوط، فمن الخطورة أن يعتمد المحقق على نسخة واحدة؛ لأننا لا نضمن إن كانت هذه النسخة مستوفية لكل النص أم لا.

كما لابد أن يتأكد المحقق أيضا قبل إقدامه على تحقيق كتاب مخطوط من أن الكتاب قد نشر من قبل أم لا؟ ربما يكون باحث آخر قد وقع على ذلك المخطوط، وقام بتحقيقه تحقيقا علميا جيدا، تعرف كيف أن هذا المخطوط حقق

ص: 300

أم لا؟ هذه مسألة في غاية السهولة واليسر، اطلع على الفهارس والمعاجم المصنفة للكتب المطبوعة، عندنا في كل عام تصدر نشرة، اطلع على (معجم المطبوعات العربية والمعربة) ليوسف ليان ساركيس، شامل لأسماء الكتب المطبوعة في الأقطار العربية الشرقية والغربية، ومقرونة بأسماء مؤلفيها إلى سنة 1919.

ومثل النشرة المصرية للمطبوعات، وهذه يصدرها قسم الإيداع القانوني بدار الكتب المصرية، كل عام يصدر نشرة فيها كل الكتب المصرية التي طبعت عام 1956 ولا زالت إلى اليوم، فإن وجد المحقق أن الكتاب الذي وقع على مخطوطته قد سبق نشره ماذا يفعل؟ يقرأ الكتاب، ينظر فيه نظرة نقد وتمحيص، فإن ثبت لديه أن الناشر قد استخدم الطرق العلمية في تحقيقه ونشره، واطلع على جميع النسخ المخطوطة اكتفى بهذا النشر، أما إذا اتضح له أن الكتاب لم ينشر من قبل أو نشر، وكانت نشرته فاسدة لسبب أو لآخر، أقبل على تحقيقه ونشره بنفس راضية وثقة عالية.

ترتيب النسخ: إذا كان للكتاب أو النص الذي يريد الباحث تحقيقه أكثر من نسخة مخطوطة تجمعت لديه، فكيف يرتبها؟ وما هي أعلى النسخ منزلة عنده؟ إذا حدث هذا يكون الفيصل في ترتيب النسخ من حيث الأهمية واختيار الأمهات ثلاثة أمور؛ أولا: قِدَم النسخة، ويعرف ذلك من التاريخ المدون على آخرها، أو من شكل الورق أو فحصه فحصا جيدا، إذ من خلال ذلك يمكن تحديد عمر النسخة، ولا ينخدع المحقق بما يراه من فعل الأرضة بالورق وغير ذلك من مظاهر القدم، فيحكم على النسخة بأنها قديمة لا، فإن ذلك كله قد يكون طارئا، ولا

ص: 301

يدل دلالة قاطعة على طول الزمن أو قصره. كما يمكن للباحث أن يتعرف على زمن النسخة أيضا من خلال فحص المداد -الحبر- الذي كتبت به النسخة، فإنه يكشف عن الزمن وعن البيئة.

وكذا يفحص الخط؛ فإن لكل عصر نهجا معينا في الخطوط ونظام الكتابة، والحكم في هذه الأمور التي لن يعتمد فيها على تاريخ ثابت حكم تقريبي، فإنه لا توجد عندنا دلائل قاطعة بانتماء مخطوطة ما إلى عصر معين على وجه التحديد، اعتمادا على شكل الورق أو نوع الخط والمداد، لا على الرغم من كثرة الدراسات التي تمت في هذا الميدان، فإنها غير كافية في إثبات زمن المخطوطة، لكن نلجأ إليها عندما لا نجد إلا هذه الطرق، فهي احتمالية أو ظنية تقريبية.

ويمكن التعرف على زمن النسخة أيضًا من خلال ما يذكر في المقدمة، أو في تضاعيف المخطوطة، ربما أشار المؤلف إلى علم من الأعلام من عاصره، كأن يشير في المقدمة إلى من أهدى إليه النسخة يقول: أهديت هذه النسخة إلى فلان الفلاني، فتبحث عن تاريخ هذا العلم فتجده في سنة كذا، بناء على ذلك تحدد، وتجد مثل هذا في صلب المخطوطة مثلا يقول لك: سمعت من فلان أو جلست مع فلان وأنا أكتب فقال لي رأيا في كذا، وأنت تعرف تاريخ هذا الذي أشار إليه المؤلف، كل هذه دلالات يستطيع المحقق من خلالها أن يحدد الزمن الذي كتبت فيه.

وقد ذهب بعض العلماء المحققين إلى أن قدم النسخة لا يشكل بالضرورة مبررا لاتخاذها أما أو أصلا، ما لم يكن هناك من الدواعي ما يجعلها قادرة على قيامها مقام نسخة الأم، لابد أن يكون عنده دليل فقد تكون النسخة حديثة ودقيقة، لكنها أنفع من الاعتماد على نسخة قديمة مشحونة بالأخطاء مملوءة بالتصحيف

ص: 302

والتحريف، ومن الجائز أن تكون النسخة الحديثة منقولة عن أصل قديم، وهذا الأصل القديم ضبطت روايته وصححت قراءته بطريق السماع أو الرواية، في هذه الحالة تصبح النسخة الحديثة أصلا، وتعتمد النسخ الأخريات للمقابلة والتصويب والتصحيح، والحقيقة أن هذا رأي لا بأس به في حالة غياب النسخة الأم الصحيحة من كل الجوانب: خط جيد، ما فيها خرم، ما فيها تصحيف، ما فيها تحريف، نعتمد النسخة الأم بأي حال من الأحوال.

الأمر الثاني الذي يرتب على أساسه الباحث المحقق النسخ من حيث الأهمية: علم الناسخ، فقد تكون هناك نسخة قديمة غير أن ناسخها جاهل، يكثر الخطأ والتصحيف والتحريف في نسخه، بجوار نسخة أخرى حديثة غير أن ناسخها عالم جليل مشهود له بالدقة وتحري الصواب، لو وضعنا هذه بجوار تلك، وعندئذٍ لابد للمحقق أن يعد هذه النسخة الحديثة أمًّا يعتمد عليها في نشر المخطوط؛ لأنها أصح، وفي تراثنا أمثلة لهؤلاء العلماء الأجلاء، والذين كتبوا بخط أيديهم مجموعا من المخطوطات، وهي صحيحة وتعد أصولا يعتمد عليها، منهم على سبيل المثال لا الحصر أبو منصور الجواليقي توفي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة للهجرة، فقد كتب مجموعة تحتوي على ثمانية كتب:(أسماء خيل العرب وفرسانها) لابن الأعرابي، (نسب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها) لابن الكلبي، (الإبل والشاء) للأصمعي، (الأمثال) لأبي عكرمة الضبي، (نسب عدنان وقحطان) للمبرد، و (ما يذكر ويؤنث من الإنسان واللباس) لأبي موسى الحامض، و (الأمثال) للسدوسي، هذه أمثلة نسخها نسخا، وهو عالم جليل علمه وفكره اتضح فيها، فا لاعتماد على مثل هذه النسخ اعتماد أكيد، ومقدم على الاعتماد على أية نسخة أخرى لهذه المخطوطات الثمانية التي أشرت إليها.

ص: 303

الأمر الثالث الذي يمكن أن ترتب عليه النسخ من حيث الأهمية: كمال النسخة، فقد تكون هناك نسخة قديمة، وبخط عالم من العلماء، يعني كتبها عالم جليل مشهود بعلمه وفضله غير أن بها خرما، أو تنقص عدة أوراق من أولها أو من وسطها أو من آخرها، لكن عندي نسخة كاملة من المخطوط تحتفظ بالنص كاملا بلا نقصان؛ لكنها متأخرة أو لكاتب أقل درجة علمية من هذا العالم الذي كتبها، أو متأخرة في الزمن من حيث مقارنتها بالنسخة القديمة، نفضل النسخة التي كانت كاملة لا نقص بها، لا خرم بها، لا تصحيف بها، كاملة من جميع الجوانب.

وليحذر المحقق من الخروم الوهمية التي تأتي نتيجة لاضطراب ترتيب أوراق المخطوطة، وليعلم أن اختلاف النسخ من حيث الزيادة والنقصان لا يعني دائما أن بالنسخة الناقصة خرما فربما يكون المؤلف ألف كتابه عدة مرات، ربما يكون المؤلف كتب الكتاب في سنة، ثم راجعه، وأعاد كتابته في سنة تالية، فكان يزيد وينقص فيها أو كان يمليه أكثر من مرة، وكان في كل مرة يملي فيها كانت تحدث زيادة أو نقصان عن المرة السابقة، تسمى هذه الإملاءات المختلفة للكتاب الواحد: إبرازات، في زماننا هذا الإبرازة الأولى يعني الطبعة الأولى، الإبرازة الثانية يعني الطبعة الثانية، وكثير من الكتب العربية أبرز أكثر من مرة، وبينها فروق بالزيادة أو النقصان، والمحققون يعرفون ذلك جيدا، وفي كل مرة يرى من الزيادة والنقصان ما يلفت نظره؛ لأن المؤلف يطلع على الكتاب بعد إبرازه، فيقوم بتصحيحه أو توسيع مضمونه أو إضافة ما يراه صالحا أو حذف ما يراه غير صالح.

أما إذا تجمعت عدة نسخ للمخطوط وأراد المحقق أن يرتب هذه النسخ من حيث علو الدرجة؛ فيكون ترتيبها على النحو التالي؛

ص: 304

أولا: النسخة التي كتبت بخط المؤلف أو أشار بكتابتها أو أملاها أو أجازها، ووصلت إلينا كاملة، ونرى عليها اسم المؤلف، عنوان المخطوط، هذه النسخة هي أعلى النسخ منزلة، وهي التي تسمى النسخة الأم أو الأصل، وإذا استطاع المحقق أن يحصل على نسخة للمخطوطة لكتاب ما كتبت بخط المؤلف فإنها تكون من النفاسة بمكان عظيم، وهي حينئذ تحمل شهادة توثيقها وصحتها، أنها فعلا كتبت بخط المؤلف فإن هذه تعد شهادة لا يرقى إليها شك.

وكذلك الشأن في النسخ المعارضة على الأصول، وخاصة إذا كان الذي عارضها لا يقل عن مؤلفها علما وفضلا، فإنها تلحق النسخة الأم في الثقة بها، وقد أدرك العلماء الأجلاء قيمة مثل هذه النسخة، ويؤكد ذلك ما يروى عن الجاحظ من أنه لما قدم من البصرة إلى بغداد أهدى إلى محمد بن عبد الملك الزيات في وزارته للمعتصم نسخة من كتاب سيبويه، وقبل أن يحملها إلى مجلسه أُعْلِم بها محمد بن عبد الملك الزيات، يعني أخبره بعض الموظفين أن الجاحظ أهداك نسخة من كتاب كذا، فقال له محمد:"أو ظننت أن خزائننا خالية من هذا الكتاب؟!، قال الجاحظ: ما ظننت ذلك، ولكنها بخط الفراء، ومقابلة الكسائي، وتهذيب عمر بن البحر الجاحظ، فقال له ابن الزيات شاكرا: هذه أجَلُّ نسخة توجد للكتاب"، فأحضرها الجاحظ إليه، وسر بها ابن الزيات، ووقعت منه أجمل موقع.

في هذا السياق لابد أن يتأكد المحقق أن النسخة الأم هذه هي التي اعتمدها المؤلف، فقد يكون المؤلف ألف الكتاب مرتين أو أكثر من مرة، كما حدث مثلا في (البيان والتبيين)، وفي جمهرة ابن دريد وغيرهما؛ إذ لابد أن ينص المؤلف على ذلك. كما ينبغي للمحقق أيضا أن يتيقن من أن النسخة الموجودة ليست هي

ص: 305

مسودة المؤلف، المقصود بالمسودة النسخة الأولى للمؤلف قبل أن يهذبها ويخرجها سوية، ومن الوسائل التي يستطيع المحقق من خلالها أن يكشف عن المسودة: ملاحظة ما يشيع فيها من اضطراب في الكتابة، هناك محو أو تغيير، ترك بياض، عدم تنسيق، مثل هذه الأشياء تكشف عن أن هذه هي المسودة، وليست هي النسخة الأخيرة التي قام بتهذيبها واعتمادها.

فإن ورد نص تاريخي يفيد أن المؤلف لم يخرج غير هذه المسودة، فتعد هذه المسودة أصلا أولا، وإن وجدت مبيضة المؤلف ومسودته عددنا المبيضة أصلا أولا، والمسودة أصلا ثانيا، وهذا شيء قيم يفيد الباحث المحقق إفادة عظيمة، وتوجد بعض المخطوطات قام بعض الأفراد بطبعها دون تحقيق، ثم فقد الأصل، أو تعذر الوصول إليه بحيث أصبح في حكم المفقود، فإذا تحقق المحقق من أمانة الناشر ودقته عُدت هذه النسخة المطبوعة أصلا ثانويا، أما إذا كان الناشر غير أمين، فهذه نسخة لا قيمة لها ولا يعتمد عليها في التحقيق. أما في عصرنا هذا الذي نعيشه فإن المصورات تعد بمنزلة الأصل الذي صورت عنه؛ لأن التصوير لا يحرف ولا يبدل طالما أنه تصوير جيد، فإن صورت عن نسخة أم فهي أم، وإن صورت عن نسخة ثانوية فهي نسخة ثانوية وهكذا.

ثانيا: النسخة المقروءة على المؤلف، وتأتي في المنزلة الثانية بعد النسخة التي كتبها المؤلف بنفسه، وقد تكون أمليت من قبل المؤلف، ثم قرئت عليه بعد ذلك وأقرها.

النسخة التي تأتي في المرتبة الثالثة هي: النسخة المنقولة عن نسخة المؤلف أو قوبلت بنسخته، فمن الممكن أن تنسخ النسخة الأم أكثر من مرة، وكل نسخة نقلت عن النسخة الأم تسمى أصلا ثانويا إن وجد معها الأصل الأول.

ص: 306

المرتبة الرابعة: النسخة التي كتبت في حياة المؤلف، وهذه يمكن أن نعرفها من خلال تاريخ النسخ، ناسخها قال: كتبت هذه النسخة في حياة الجاحظ أو في كذا، وكانت نسخة مثلا لكتاب (الحيوان) أو لكتاب (البيان والتبيين) واعترف المؤلف في بدايتها أو في آخرها بتاريخ النسخ، وردت عبارة من الناسخ كأن يقول بعد ذكره: أطال الله عمره، أو أدام الله توفيقه، أو مثل هذا، وذلك على العكس من قوله مثلا عن المؤلف: رحمه الله تعالى، أو غفر له أو ما أشبه ذلك، فإنه يدل على أن المؤلف كان حين نسخ الناسخ الكتاب قد توفي إلى رحمة الله تعالى.

لابد أن يتنبه الباحث أن هناك نسخًا نقلت عن النسخة الأم أثناء كتابة صاحبها لها مثلما نجد في كتاب (خزانة الأدب) للبغدادي، و (المغازي) للواقدي، وغيرهما وهذا النوع من الأصول لا يخرج كتابا محققا، وإنما يستعان به في تحقيق النص؛ لأن الناقلين حينئذ تكون لهم حرية التصرف بالنص، إلا إذا نصوا في نسخهم على أن هذا هو لفظ المؤلف، وأنهم لم يتدخلوا بالتغيير أو التعديل، في هذه الحالة من الممكن أن نعتمد عليها في التحقيق كأصل ثانوي.

ومن الأمور أيضا التي يجب التنبيه عليها: في بعض الأحيان يعمد الناسخ إلى نسخة أصلية وينسخها، وينسخ معها عبارة المؤلف التي يذيل بها المخطوط، يعني يقول المؤلف: انتهيت من كتابة هذه النسخة في رجب سنة مثلا عشرين أو سنة ثلاثين بعد المائة من الهجرة، المؤلف نفسه يكتب هذا فيأتي ناسخ وينسخ هذه المخطوطة بدقة وأمانة لا نشك في هذا، ثم ينسخ -ضمن الكلمات التي نسخها- التذييل الذي ذيل به هذه المخطوطة، ثم لا يعقب ويقول: أنا نقلت، أو لا يشير إلى أنه نسخها من النسخة الأم، فيظن المحقق أن هذه هي النسخة الأم

ص: 307

التي كتبها المؤلف، وهذا خطأ، وخاصة إذا كان الناسخ قريب عهد بالمؤلف، لابد أن يحذر المحقق هذا، وبإمكانه التحقق من ذلك من خلال: الخط، التاريخ، نوع الورق، ولابد أن يبذل جهدا مضنيا في التفريق بين هذه النسخة وتلك.

ويمكن للمحقق بعد أن يحصل على نسخ المخطوطة ويفحصها فحصا جيدا، أن يصنفها في مجموعات تبين علاقة إحداهما بالأخرى، من حيث الابتعاد والقرب وعندئذ يمكنه تحديد النسخ الأصول والفروع. نضرب مثلا: لو عندنا مخطوط نسخ من الأصل ثلاث نسخ ألف باء جيم، ثم نسخ من هذه النسخ الثلاث مجموعة من النسخ، ثم ضاع الأصل أو فقد، فإن النسخ ألف وباء وجيم تعد أصولًا أو أمهات، وما عدا هذه الأصول، فهي نسخ ثانوية منقولة عن هذه الأمهات، ويعد من النسخ الثانوية كذلك الشروح المتضمنة للمتون، وكذلك الا قتباسات.

ولا يظن المحقق أنه ينبغي إهمال النسخ غير الموثقة أو النسخ الثانوية، فقد لا توجد سوى نسخة واحدة متأخرة ثانوية مليئة بالأخطاء، وفقد الأصل فلو أهملناها لضاع الكتاب كله، لابد من نشرها، ولابد من الاجتهاد في تصحيحها ما أمكن، وإن ظهرت نسخ أخرى بعد نشرها يعيد المحقق تحقيقها مرة ثانية، وقد حدث هذا بالفعل عندما قام المستشرق "جاير" بنشر ديوان الأعشى، واعتمد على نسخة مخطوطة منسوبة إلى ثعلب تحمل سبعا وسبعين قصيدة ومقطوعة، ثم أضاف إليها خمس قصائد وجدها في مخطوطات أخرى مجهولة النسب وخرج الديوان، وبين سطوره بياض وفي أبياته تحريفات وتصحيفات مختلفة، ثم نشر الديوان في القاهرة بعد ذلك، واعتمد ناشره على نسخة "جاير" دون الرجوع إلى نسخة مخطوطة جديدة، وطبعا وقع في نفس الأخطاء التي وقع فيها "جاير"، ثم

ص: 308

تصادف بعد ذلك أن صورت دار الكتب المصرية مخطوطة من المكتبة المتوكلية اليمنية، بها ست وأربعون قصيدة ومقطوعة من شعر الأعشى زائدة رغم أنها غير موثقة؛ لكنها يمكن أن تملأ البياض الذي تركه "جاير" وتصلح الخطأ الذي ظهر بين السطور.

وقد أدرك علماؤنا القدامى أهمية النسخ الأصول الصحيحة، عرفوا قيمتها وميزوا بدقة بين خطوط المؤلفين والعلماء المصنفين، ويؤكد ذلك قول أبي حيان وقد نقل عن الجاحظ بعض النصوص:"ومن خطه الذي لا أرتاب فيه نقلت"، كأن العالم كان يحرص على أن يكون اطلاعه على النسخة الأم، أما في حالة عدم كتابتها بخط المؤلف، فقد شددوا كثيرا على أن تكون المخطوطة مقابلة أو معارضة على النسخة الأصلية.

وإذا اجتمع لدى الباحث مجموعة من النسخ المخطوطة لكتاب ما، لكنها مجهولة النسب ماذا يفعل؟ لابد من ترتيب هذه النسخ، ترتيبها يحتاج إلى حذق ومهارة، ولابد أن يراعي في الترتيب النسخة ذات التاريخ الأقدم إلا إذا كان ناسخا مغمورا أو ضعيفا، فلا ريب حينئذ من تقديم النسخة الأحدث تاريخا لعلم كاتبها ودقته، أو لكونها مشفوعة بإجازة من شيوخ موثقين، مشهود لهم بالثقة ومشهود لهم بالأمانة والدقة والصدق، في هذه الحالة يقدم هذه النسخة الأحدث ويعتمد عليها.

أيضا إذا جمع الباحث المحقق النسخ، وفحصها ورتبها وأنزل كلا منها منزلتها عليه أن يلاحظ عدة أمور مهمة؛ أولا: في حالة تعدد نسخ المخطوط يقوم بوضع رمز لكل نسخة، ويعتمد في وضع هذا الرمز على اسم المكتبة مثلا، أو راوي المخطوط أو اسم البلد الذي وجد فيه المخطوط، أو أي شيء آخر يكون معلوما لديه، المهم أن يضع رمزا

ص: 309

ويشير إلى ذلك حتى يعرف القارئ هذا الرمز، ويكون على دراية به، فإذا وجد نسخة في القاهرة مثلا ونسخة في لندن فيرمز لنسخة القاهرة مثلا بحرف قاف، ولنسخة لندن بحرف نون، وإذا تعددت النسخ في بلد واحد، وكان قد اتبع الرمز بالنظر إلى اسم البلد، فليزد أو يضف بعد كل رمز حرفًا من حروف الهجاء، فليكن مثلا: ق1 أو ق أ، وتصبح "قا" رمزا للنسخة الأولى من القاهرة، ويقول: ق ب يعني: قب، والثالثة: ق ج، يعني: قج.

وقد تنبه أسلافنا إلى فكرة الرمز هذه في أسماء العلماء، نجدها شائعة بينهم ففي (خزانة الأدب) مثلا يرمز صاحبها إلى سيبويه بالحرف س، كما وضعوا رموزا ويختصرون بها بعض الألفاظ مثل: ثنا أي: حدثنا، وأنبا أي: أنبأنا، وأنا أي: أخبرنا، ورح أي: رحمه الله، وتع أي: تعالى، غير ذلك كثير، وكانوا يكرهون الرمز فيما يتصل بلفظ الجلالة والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: لابد أن يذكرونه بلفظه ويذكرون العبارة بجملتها: صلى الله عليه وسلم، بتمامها، فلينتبه الباحث المحقق إلى ذلك جيدا.

الأمر الثاني من الأمور التي أحببت التنبيه عليها: إذا تعددت نسخ المخطوطة الواحدة تحت يد المحقق فلا يعتمدها جميعا دفعة واحدة، يعتمد نسخة واحدة بعينها ويتخذها أصلا أو أمًّا، ثم بعد ذلك يذكر ما بين النسخ من خلافات أو فروق في الحواشي والهوامش.

الأمر الثالث الذي أحببت الإشارة إليه: إذا أشار مؤلف المخطوط إلى المصادر التي نقل منها، فلابد أن يرجع المحقق إلى الأصل الذي نقل منه المؤلف، ويعارض الأصل الذي بيده على مصادره، ويثبت ما بينه وبين تلك المصادر من اختلافات، فمن خلال هذه المعارضة ربما وجد أن المؤلف قد نسب كلاما إلى مصدر، وهو من مصدر آخر عن طريق السهو، أو ربما غفل عن اسم المصدر عفوا.

ص: 310