الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من حجّ من الخلفاء والملوك، وسميته:«الذهب المسبوك فى ذكر من حجّ من الخلفاء والملوك» ، تذكرة للخاطر الشريف بما هو منّى أدرى، وأحق بإفادته وأحرى، وأنى ـ فيما فعلت وصنعت ـ كمن أهدى القطر إلى البحر، أو بعث النور إلى القمر، والأرج إلى الزهر، بل كالذى أرسل الضياء إلى الشمس، وروح الحياة إلى النفس؛ غير أن فى كريم أخلاقه الزكية، وزاكى أعراقه المرضية، ما يقبل اليسير، ويتجاوز عن الخطأ والتقصير. رعى الله المخدوم من حيث لا يرتقب، وحرسه من حيث لا يحتسب، وكان له فى سفره خفيرا، وفى حضره عونا ونصيرا.
* * *
فصل
فى حجة الرسول صلى الله عليه وسلم
افتتحت بها هذا الجزء إذ كان صلى الله عليه وسلم هو الذى بيّن للناس معالم دينهم، وقال:«خذوا عنّى مناسككم» (1) وقد امتلأت كتب الحديث بذكر حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفرد فيها الفقيه الحافظ أبو محمد بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسى مصنفا جليلا، قد اعترض عليه فى مواضع منه، أجبت عنها فى كتاب «شارع النجاة» . وملخص حجة الوداع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل ذو القعدة تجهّز للحج، وأمر الناس بالجهاز له، وأذّن فيهم، فاجتمعوا (2) ثم صلى الظهر ـ يوم الخميس لست بقين من ذى القعدة سنة عشر من الهجرة بالمدينة ـ أربعا (3)، وخرج منها بمن معه من المسلمين من أهل المدينة ومن تجمّع من الأعراب، وهم عشرة آلاف، بعد ما استعمل على المدينة، أبا دجانة الساعدى، ويقال: سباع بن عرفطة الغفارى، فصلى العصر ـ بذى الحليفة ـ ركعتين (4)، وبات بها. وأتاه آت (5) من ربه تعالى فى ذلك الموضع ـ وهو وادى العقيق (6) ـ وأمره ـ عن
(1) أخرجه أحمد ومسلم والنسائى من حديث جابر. انظر: نيل الأوطار 5/ 65.
(2)
انظر: زاد المعاد 2/ 102.
(3)
روى عن أنس بن مالك قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذى الحليفة ركعتين. ورواه أحمد والبخارى ومسلم وأبو داود والنسائى. انظر: البداية 5/ 101، 102، زاد المعاد 2/ 106.
(4)
انظر: زاد المعاد 2/ 106.
(5)
هو جبريل كما فى الفتح. انظر: البداية والنهاية 5/ 106، نيل الأوطار 4/ 315
(6)
وادى العقيق: هو بقرب العقيق بينه وبين المدينة أربعة أميال، وروى الزبير بن بكار فى أخبار المدينة: أن تبعا لما انحدر فى مكان عند رجوعه من المدينة. قال: هذا عقيق الأرض فسمى العقيق.
ربه عزوجل ـ أن يقول فى حجته: «هذه حجّة فى عمرة» (1) ومعنى هذا أن الله ـ سبحانه ـ أمره أن يقرن (2) الحجّ مع العمرة فأصبح صلى الله عليه وسلم فأخبر الناس بذلك؛ وطاف على نسائه يومئذ (3) بغسل واحد ـ وهن تسع وقيل إحدى عشرة ـ ثم اغتسل وصلى عند المسجد ركعتين، وأهل بحجّة وعمرة معا.
هذا الذى رواه بلفظه ومعناه عنه صلى الله عليه وسلم ستة عشر صحابيا، منهم: خادمه أنس ابن مالك ـ رضى الله عنه ـ وقد رواه عنه صلى الله عليه وسلم ستة عشر تابعيا، وقد ذكرتهم فى كتاب «شارع النجاة» ، وهذا صريح لا يحتمل التأويل إلا أن يكون بعيدا، وما عدا ذلك مما جاء من الأحاديث الموهمة التمتّع (4)، أو ما يدل على الإفراد (5) فليس هذا محل ذكرها.
والقران فى الحج هو مذهب إمامنا أبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعى ـ رحمه الله تعالى ـ وقد نصره جماعة من محققى أصحابه، وهو الذى يحصل به الجمع بين الأحاديث كلها (6) ومن العلماء من أوجبه وممن قال بأفضليته الإمام أبو حنيفة النعمان
(1) عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادى العقيق يقول: «أتانى الليلة آت من ربى، فقال: صلى فى هذا الوادى المبارك، وقل عمرة فى حجة» . رواه أحمد والبخارى وابن ماجة وأبو داود، وفى رواية البخارى:«وقل عمرة وحجة» . انظر: زاد المعاد 2/ 116، 152.
(2)
القران: هو الإهلال بالحج والعمرة معا وهو متفق على جوازه، أو الإهلال بالعمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه وهذا مختلف فيه.
(3)
أخرجه البخارى 1/ 327، ومسلم (1192) (48) من حديث عائشة. انظر: زاد المعاد 2/ 106.
(4)
التمتع: هو الاعتمار فى أشهر الحج ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج فى تلك السنة ويطلق التمتع فى عرف السلف على القران. قال ابن عبد البر: ومن التمتع ـ أيضا ـ القران ومن التمتع ـ أيضا ـ فسخ الحج إلى العمرة. انتهى. وقد أجاب ابن القيم فى زاد المعاد عن أعذار الذين وهموا فى صفة حجته عن ذلك، فليراجع 2/ 131 وما بعدها.
(5)
الإفراد: هو الإهلال بالحج وحده والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء ولا خلاف فى جوازه. وقد أجاب ابن القيم عن ذلك أيضا فليراجع فى زاد المعاد 2/ 127 وما بعدها.
(6)
اختلفت الأنظار واضطربت الأقوال لاختلاف هذه الأحاديث فمن أهل العلم من جمع بين الروايات كالخطابى الذى رجح أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج. وكذا قال عياض، وزاد فقال: وأما إحرامه فقد تضافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفردا وأما روايات من روى التمتع فمعناه أنه أمر به؛ لأنه صرح بقوله: «ولولا أن معى الهدى لأحللت» فصح أنه لم يتحلل. وأما رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله؛ لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادى، وقيل: قل ـ
ابن ثابت ـ رحمه الله تعالى ـ وهو رواية عن الإمام أبى عبد الله أحمد بن حنبل الشيبانىرحمه الله تعالى.
وساق صلى الله عليه وسلم الهدى من ذى الحليفة (1) وأمر من كان معه أن يهلّ كما أهلّ صلى الله عليه وسلم وسار صلى الله عليه وسلم والناس بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله مما لا يحصون كثرة، كلهم قدم ليأتّم به صلى الله عليه وسلم. فلما قدم صلى الله عليه وسلم مكة لأربع ليال خلون من ذى الحجة (2) وطاف للقدوم (3) ثم سعى بين الصفا والمروة وأمر الذين لم يسوقوا هديا أن يفسخوا
ـ عمرة فى حجة، قال الحافظ: وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سبق إليه قديما ابن المنذر وبينه ابن حزم فى حجة الوداع بيانا شافيا ومهده المحب الطبرى تمهيدا بالغا يطول ذكره. ومحصله أن كل من روى عنه القران أراد ما استقر عليه الأمر وجمع شيخ الإسلام ابن تيمية جمعا حسنا فقال ما حاصله: إن التمتع عند الصحابة يتناول القران فتحمل عليه رواية من روى أنه حج تمتعا وكل من روى الإفراد قد روى أنه صلى الله عليه وسلم حج تمتعا وقرانا فيتعين الحمل على القران، وأنه أفرد أعمال الحج ثم فرغ منها وأتى بالعمرة، ومن أهل العلم من صار إلى التعارض فرجح نوعا وأجاب عن الأحاديث القاضية بما يخالفه وهى جوابات طويلة أكثرها متعسفة وأورد كل منهم لما اختاره مرجحات أقواها وأولاها مرجحات القران فإنه لا يقاومها شيء من مرجحات غيره. منها أن أحاديثه مشتملة على زيادة، على من روى الإفراد وغيره، والزيادة مقبولة إذا خرجت من مخرج صحيح، فكيف إذا ثبتت من طرق كثيرة عن جمع من الصحابة، ومنها أن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه فى ذلك، لأنهم جميعا روى عنهم أنهصلى الله عليه وسلم حج قرانا. ومنها أن روايات القران لا تحتمل التأويل بخلاف روايات الإفراد والتمتع فإنها تحتمله كما تقدم، ومنها أن رواة القران أكثر كما تقدم. ومنها أن فيهم من أخبر عن سماعه لفظا صريحا وفيهم من أخبر عن إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه فعل ذلك وفيهم من أخبر عن أمر ربه بذلك. ومنها أنه النسك الذى أمر به كل من ساق الهدى فلم يكن ليأمرهم به إذا ساقوا الهدى ثم يسوق هو الهدى ويخالفه. انظر: نيل الأوطار 4/ 310، 311، زاد المعاد 2/ 133 وما بعدها.
(1)
انظر: (زاد المعاد 2/ 153).
(2)
عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم لما جاء مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها. وفى رواية: دخل عام الفتح من كداء التى بأعلى مكة. متفق عليهما وروى الثانى أبو داود: ودخل فى العمرة من كدى. انظر: (نيل الأوطار 5/ 37، سبل السلام 2/ 736، زاد المعاد 2/ 223، 224).
(3)
انظر: (زاد المعاد 2/ 225).
روى ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا، ومشى أربعا، وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة، وفى رواية: رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا، ومشى أربعا. وفى رواية: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف فى الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت ويمشى أربعة. متفق عليهن. انظر: (نيل الأوطار 5/ 37).
حجهم إلى عمرة، ويتحللوا حلا تاما، ثم يهلّوا بالحج وقت خروجهم إلى منى؛ وقال:«ثم لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة» (1)؛ وهذا دليل ظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتعا ـ كما ذهب إليه بعض أصحاب الإمام أحمد وغيرهم.
وقدم على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ من اليمن، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم:«إنى سقت الهدى وقرنت» ؛ روى هذا اللفظ أبو داود وغيره من الأئمة بإسناد صحيح، وهو صريح فى القران.
وقدم مع على ـ رضى الله عنه ـ من اليمن هدايا، فأشركه صلى الله عليه وسلم فى هديه أيضا، فكان حاصلهما مائة بدنة (2) ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى (3)، فبات بها، وكانت ليلة الجمعة التاسع من ذى الحجة؛ ثم أصبح فسار إلى عرفة، وخطب بنمرة خطبة عظيمة، شهدها من أصحابه نحو من أربعين ألفا ـ رضى الله عنهم ـ وجمع بين الظهر والعصر؛ ثم وقف بعرفة فحج على رحل، وكانت زاملته، ثم بات بالمزدلفة، وجمع بين المغرب والعشاء ليلة إذ، ثم أصبح فصلى الفجر فى أول وقتها، ثم سار قبل طلوع الشمس إلى منى (4)، فرمى جمرة العقبة، ونحر (5) وحلق (6)، ثم أفاض فطاف بالبيت
(1) أخرجه البخارى 3/ 402، 403 من حديث جابر، وقد جاء عن أنس قال: خرجنا نصرخ بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلها عمرة وقال:«لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لجعلتها عمرة ولكن سقت الهدى، وقرنت بين الحج والعمرة» رواه أحمد. قال: الشوكانى: وهو متفق على مثل معناه من حديث جابر، وبه استدل من قال بأن التمتع أفضل أنواع الحج. انظر:(نيل الأوطار 4/ 314، 315، زاد المعاد 2/ 184، 232، 215).
(2)
البدنة: الناقة أو البقرة، تنحر بمكة قربانا وكانوا يسمنونها لذلك. جمع بدن وبدن. وفى التنزيل العزيز:(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).
(3)
فعن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة، وأخرجه أيضا الترمذى والحاكم، لأحمد فى رواية: قال: صلى النبى صلى الله عليه وسلم بمنى خمس صلوات. انظر: (نيل الأوطار 5/ 55). وفى حديث جابر قال: لما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول اللهصلى الله عليه وسلم بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. انظر: (نيل الأوطار 5/ 55، سبل السلام 2/ 728).
(4)
انظر: زاد المعاد 2/ 256.
(5)
قال ابن القيم: فنحر ثلاثا وستين بيده، وكان ينحرها قائمة، معقولة يدها اليسرى. أخرجه أبو داود (1767) من حديث جابر وكان عدد هذا الذى نحره عدد سنين عمره، ثم أمسك وأمر عليّا أن ينحر ما غبر من المائة. انظر:(زاد المعاد 2/ 259).
(6)
انظر: (زاد المعاد 2/ 268 وما بعدها).