الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قدمنا لشتم أحد ولا للعنه، قدمنا حجاجا؛ ثم قطع كلامه، وأقبل علىّ فسألنى عن الحج، فأخبرته بما كتبت له»، قال:«وشق على سعيد أنى سمعته تكلم بذلك، فكان منكسرا كلما رآنى» .
وكلم إبراهيم بن محمد بن طلحة هشاما وهو فى الحجر بمكة، فقال له:«أسألك بالله وبحرمة هذا البيت الذى خرجت معظما له إلا رددت علىّ ظلامتى؟ » ؛ قال: «أى ظلامة؟ » ، قال:«دارى» قال: «فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟ » ، قال:«ظلمنى» ، قال: فالوليد وسليمان؟ »، قال:«ظلمانى» ، قال:«فعمر؟ » ، قال:«يرحمه الله، ردها علىّ» ، قال:«فيزيد بن عبد الملك؟ » ، قال:«ظلمنى وقبضها منى بعد قبضى لها، وهى فى يدك» ، قال هشام:«لو كان فيك ضرب لضربتك» ، فقال:«فىّ والله ضرب بالسيف والسوط» ؛ فانصرف هشام، وقال لمن معه:«كيف سمعت هذا اللسان؟ » ، قال:«ما أجوده! » ، قال:«هى قريش وألسنتها، ولا يزال فى الناس بقايا، ما رأيت مثل هذا» .
ولم يحج بعد هشام أحد من بنى أمية وهو خليفة. والله المعين الهادى إلى طريق الرشاد.
* * *
ثم كانت دولة بنى العباس
وأول من حج منهم وهو خليفة:
أبو جعفر المنصور
(1)
واسمه: عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، أمير المؤمنين العباسى الهاشمى، بويع له بعد موت أخيه أبى العباس السفاح عبد الله ـ وهو بطريق مكة ـ سنة ست وثلاثين ومائة، فقدم الكوفة.
ثم حج فى سنة أربعين ومائة، فأحرم من الحيرة، ولما قضى حجه توجه إلى بيت المقدس، وسار منها إلى الرقة، ومضى إلى هاشمية الكوفة.
وحج ثانيا سنة أربع وأربعين ومائة؛ فلما حج بالناس ورجع لم يدخل المدينة، ومضى إلى الربذة، وأحضر بنى حسن بن على إليه فى القيود والأغلال، فسار بهم إلى الكوفة، وعتى عتوا كبيرا فى ظلمهم.
(1) انظر: (ابن الأثير 5، 172، 6/ 6، الطبرى 9/ 292 ـ 322، البدء والتاريخ 6/ 90، اليعقوبى 3/ 100، تاريخ الخميس 2/ 324، 329 المسعودى 2/ 180 ـ 164، تاريخ بغداد 10، 23، ابن الساعى 11 ـ 23، فوات الوفيات 1/ 232).
ثم حج بالناس فى سنة سبع وأربعين ومائة. وحج رابعا فى سنة ثمان وأربعين ومائة. وحج خامسا سنة اثنتين وخمسين. وسار فى سنة أربع وخمسين إلى الشام وبيت المقدس. ثم سار فى سنة ثمان وخمسين ومائة من بغداد إلى الكوفة؛ ليحج، واستخلف ابنه المهدى (1)، ووصاه وصية بليغة جّا، لولا طولها لذكرتها، وودعه وبكى، وأعلمه أنه ميت فى سفره هذا، ثم سار إلى الكوفة، وجمع بين الحج والعمرة، وساق الهدى وأشعره وقلده لأيام خلت من ذى القعدة، فعرض له ـ وهو سائر ـ وجع اشتد به حتى مات فى بئر ميمون خارج مكة لست خلون من ذى الحجة؛ فكتم الربيع الحاجب موته حتى بايع المهدى. فكانت خلافة أبى جعفر اثنتين وعشرين سنة تنقص أياما قد اختلف فى عدتها.
واتفق أنه لما نزل آخر منزل بطريق مكة نظر فى صدر البيت فإذا فيه بعد البسملة:
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت
…
سنوك وأمر الله لابد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم
…
لك اليوم من حر المنيّة مانع
فأحضر متولى المنازل، وقال له:«ألم آمرك الله أن لا يدخل المنازل أحد من الناس» ، وكانت الخلفاء يبنى لهم فى كل منزلة ينزلونها بطريق مكة دار، ويعد لهم فيها سائر ما بحتاج إليه من الستور والفرش والأوانى وغير ذلك فقال:«والله ما دخله أحد منذ فرغ» ، فقال:«اقرأ ما فى صدر البيت» ، فقال:«ما أرى شيئا» ؛ فأحضر غيره، فلم ير شيئا، فقال:«يا ربيع، قف بينى بين الحائط» ، فقام الربيع بينه وبين الجدار، فرأى البيتين كما كان يراهما قبل وقوف الربيع، فعلم أنه قد نعيت إليه نفسه؛ فقال:«يا ربيع، اقرأ آية من كتاب الله» ، فقرأ:«وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون» فأمر به فضرب ورحل من المنزل، وتطير، فسقط عن دابته فاندق ـ عنقه ـ وقيل: بل مات من مرضه، ودفن ببئر ميمون.
ومن بديع ما يحكى عنه: أنه لما حج وأشرف على المدينة النبوية ترجّل الناس له لما استقبلوه، إلا محمد بن عمران ـ قاضى المدينة ـ فقال المنصور:«يا ربيع، ما له لا يترجل لى؟ يتجالد علىّ ويمتنع مما فعله بنو عبد المطلب وبنو على، فلم ينزل إلى الأرض لما بصر بى؟ » ، فقال الربيع:«يا أمير المؤمنين، لو رأيته على الأرض لرحمته ورثيت له من ثقله وعظمه» ، فأمره بالدنو منه، فدنا منه راكبا عند تمهيد الربيع له العذر، فسأله عن حاله، ثم قال: «يا ابن عمران، أيما رجل أنت؟ لولا خصال فيك ثلاث كنت أنت الرجل،
(1) انظر: (تاريخ الخلفاء 313 وما بعدها).
فقال: «وما هن يا أمير المؤمنين؟ » قال: «قعودك عن الصلاة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جماعة، فتصلى وحدك، والثانية أنك لا تكلم أحدا فى الطريق تيها وعظمة، والثالثة أنك رجل بخيل فيك ضيق شديد» .
قال: «خرجت منهن يا بن عمران؟ ! يا ربيع: ادفع إليه ثلاثة آلاف درهم» .
قال: «يا أمير المؤمنين: بالباب مستعدون عليك يذكرون أن فى يدك حقا من دار كذا» ، قال:«فأنصفهم منى» ، قال:«وكّل وكيلا يقوم مقامك، أو أحضر معهم مجلس القضاء» ، قال:«قد وكّلت الربيع» ، قال: «أشهد على وكالتك إياه عيسى بن على، والعباس بن محمد (1) ففعل، ثم أخرج حدود الدار التى ينازعون فيها، ودعا بالربيع وخصمائه، وأحضر شهادته على الوكالة وأنفذها، ثم سأل القوم عن دعواهم وشهودهم، ثم قضى لهم عليه.
واستعدى أيضا الجمّالون على المنصور بالمدينة، فقال القاضى محمد بن عمران للشبلى:«اكتب إليه فى ذلك» ، فأبى عليه، وقال:«تعفينى» ، فقال:«لتكتبن» ، فكتب، فلما استتم الكتاب وختمه، قال له:«لا يمضى به سواك» ، فمضى، ووافى إلى باب المنصور، وسلم الكتاب إلى الربيع، فأوصله إلى المنصور، فقرأه.
وعاد الشبلى إلى محمد بن عمران، فعرّفه أنه سلّم ما كتب إلى الربيع، فأوصله، فقرأه المنصور وأجاب إلى الحضور.
ثم خرج المنصور مؤتزرا ببردة، مرنديا بأخرى، ومشى إلى أن قارب مجلس محمد بن عمران، ووقعت عينه عليه ـ والربيع بين يديه ـ فقال له:«يا ربيع، نفيت عن العباس، لئن تحرك محمد بن عمران عن مجلسه هيبة لى، ولا ولى ولاية أبدا» ، ثم صار إلى محمد ابن عمران، فلما رأى المنصور وكان أطلق ردائه على عاتقه، ثم احتبى، ودعى بالخصوم فحكم لهم عليه، وأمره بإنصافهم.
(1) انظر: (تاريخ بغداد 1/ 95، 12، 124، تهذيب ابن عساكر 7/ 203، النجوم الزاهرة 2/ 120، الأعلام 3/ 264، 265).