الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقراءة الكتب السلطانية، فبينما هم فى القراءة إذ قيل لهم «قد نزل السلطان بالميدان» ، فبادروا إلى لقائه، فإذا به وحده وقد أعطى لبعض دلالى سوق الخيل لينادى عليه وهو لا يعرف أنه السلطان، فعند ما شاهدوه قبّل النائب الأرض، وتلاه الأمراء.
وحضر الأمير آق سنقر الفارقانى ومن معه من عسكر مصر، فأكل السلطان شيئا، وقام ليستريح، وانصرف الناس.
فركب فى نفر يسير، وتوجه خفية يريد حلب، فلما حضر الأمراء خدمة العصر لم يجد السلطان ولا عرف له خبر، فبينما نائب حلب والأمراء فى الموكب تحت قلعة حلب وإذا بالسلطان قد ساق ووقف ساعة فلم يعرفه أحد، حتى فطن به بعضهم، فنزل عن فرسه وقبّل له الأرض، فبادر الجميع ونزلوا وقبّلوا الأرض، وساروا فى ركابه حتى دخل دار نائب حلب، ثم كشف القلعة، وخرج من حلب ولم يعرف أحد به، فدخل دمشق فى ثالث عشره على حين غفلة، ولعب بالكرة، وسار ليلا إلى القدس، وسار إلى الخليل، وتصدّق بعدة صدقات.
وكان الأمير آق سنقر قد سار بمن معه من عساكر مصر ونزل تل العجول، فوافاه السلطان هناك ـ وعليه عباءته التى حجّ بها لم يغيرها وسار من تل العجول بالعسكر فى حادى عشرينه.
وقدم القاهرة أول صفر، وعليه عباءته التى حجّ بها لم يغيرها نحو خمسة وسبعين يوما، فخرج الملك السعيد إلى لقائه، وصعد قلعة الجبل.
* * *
السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبو المعالى محمد بن الملك المنصور
سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النجمى
(1)
ولد يوم السبت نصف المحرم سنة أربع وثمانين وستمائة، وأقيم فى السلطنة بعد قتل أخيه الأشرف صلاح الدين بن قلاوون (2) فى رابع عشر المحرم سنة ثلاث وتسعين، وعمره تسع سنين تنقص يوما واحدا، وأقام سنة إلا ثلاثة أيام، خلع بمملوك أبيه
(1) انظر: (مورد اللطافة 44، ابن الوردى 2/ 330، فوات الوفيات 2/ 263، ابن إياس 1/ 129، الدرر الكامنة 4/ 144، النجوم الزاهرة 8/ 41، 115، 9/ 3، الأعلام 7/ 11).
(2)
انظر: (فوات الوفيات 1/ 151، ابن الوردى 2/ 238، النجوم الزاهرة 8/ 3، السلوك 1/ 756 ـ 793، ابن إياس 1/ 121، وليم موير 62، الإعلام 2/ 321).
زين الدين كتبغا ـ الملك العادل (1) ـ فى حادى عشر المحرم سنة أربع وتسعين.
وأخرج مع أمه أشلون بنت سكناى إلى الكرك، فثار الأمير حسام الدين لاجين المنصورى نائب السلطنة على العادل كتبغا، وتسلطن عوضه، فثار عليه طغى وكرجى، فقتلاه وقتلا أيضا.
واستدعى الناصر من الكرك فتقدم إلى الجبل، وأعيد إلى السلطنة مرة ثانية فى سادس جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين، فأقام عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوما، محجورا عليه لا يملك التصرف فى أكلة طعام يشتهيه، والقائم بتدبير الدولة الأميران: بيبرس الجاشنكير أستادار السلطان (2)، وسلار نائب السلطنة، فدبر لنفسه فى سنة ثمان وسبعمائة، وأظهر أنه يريد الحج بعياله، فوافقه الأميران على ذلك وشرعوا فى تجهيزه، وكتب إلى دمشق والكرك برمى الإقامات، وألزم عرب الشرقية بحمل الشعير.
فلما تهيأ ذلك أحضر الأمراء تقادمهم من الخيل والجمال فى العشرين من شهر رمضان فقبلها، وركب فى خامس عشر منه من القلعة ومعه الأمراء إلى بركة الحج.
وتعيّن معه للسفر أيدمر الخطيرى، والحاج آل ملك الجو كندار، وقرا لاجين أمير مجلس، وبلبان أمير جاندار، وأيبك الرومى أمير سلاح وبيبرس الأحمدى، وسنجر الجمقدار، ويقطاى الساقى، وسنقر السعدى النقيب، وخمسة وسبعون مملوكا، وعاد بيبرس وسلار من غير أن يترجلا له عند نزوله بالبركة، فرحل من ليلته، وعرّج على الصالحية وعيّد بها.
وتوجه إلى الكرك فقدمها فى عاشر شوال، وبها الأمير جمال الدين أقوش الأشرفى نائبا، فنزل بقلعتها، وصرح بأنه قد انثنى عزمه عن الحج واختار الإقامة بالكرك، وترك السلطنة ليستريح، وكتب إلى الأمراء بذلك، وسأل أن ينعم عليه بالكرك والشوبك. وأعاد من كان معه من الأمراء، وأسلمهم الهجن ـ وعدتهم خمسمائة هجين ـ والمال والجمال وجميع ما قدمه له الأمراء، وأخذ ما كان من المال بالكرك ـ وهو ستمائة ألف درهم فضة وعشرون ألف دينار ـ وأمر نائب الكرك أيضا بالمسير عنه فسار إلى مصر. وتسلطن بيبرس الجاشنكير، وتلقب بالملك المظفر، وكتب للناصر تقليدا بنيابة الكرك،
(1) انظر: (ابن إياس 1/ 133، السلوك 1/ 806، 820، 826، النجوم الزاهرة 8/ 55، فوات الوفيات 2/ 138، الأعلام 5/ 219).
(2)
انظر: (النجوم الزاهرة 8/ 232 ـ 276، السلوك 2/ 47 ـ 71، 80، الأعلام 2/ 79، 80).
وجهزه مع الحاج آل ملك، فأظهر الملك الناصر البشر، وخطب باسم المظفر على منبر الكرك، وأنعم على الحاج آل ملك وأعاده، فلم يتركه المظفر، وأخذ يناكده، ويطلب منه من معه من المماليك الذين اختارهم للإقامة عنده، والخيول التى أخذها من قلعة الجبل، والمال الذى أخذه من الكرك، وهدده بتجهيز العساكر إليه وأخذه، فحنق لذلك، وكتب لنواب الشام يشكو ما هو فيه، فحثوه على القيام لأخذ ملكه، ووعدوه بالنصر، فتحرك لذلك، وصار إلى دمشق، وأتته النواب.
وقدم إلى مصر، ففر بيبرس، وطلع الناصر القلعة يوم عيد الفطر سنة تسع وسبعمائة، فأقام فى الملك اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وعشرين يوما. ومات فى ليلة الخميس حادى عشرين ذى الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وعمره سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيام.
ومدة سلطنته فى المدد الثلاث ثلاث وأربعون سنة وثمانمائة أشهر وتسعة أيام، وحجّ فيها ثلاث مرات.
الأولى فى سنة ثنتى عشرة وسبعمائة، وسببها أن خربندا تحرك لأخذ الشام، ونزل على الفرات، فخرج السلطان بعساكر مصر فى ثالث شوال، وسار إلى الصالحية، فقدم البريد من حلب ودمشق برحيل خربندا عن الرحبة يوم عيد الفطر يريد بلاده، فسرّ السلطان بذلك وعزم على الحج، ودخل دمشق فى ثالث عشرينه، وفرّق العساكر فى الجهات، وركب فى أربعين أميرا وستة آلاف مملوك على الهجن فى أول ذى القعدة وأخذ معه مائة فرس، فقضى نسكه، وعاد إلى الشام بعد مروره بالمدينة النبوية ودخوله الكرك، فدخل فى حادى عشر المحرم سنة ثلاث عشرة وهو راكب ناقة لطيفة القد بعمامة مدّورة ولثام، وعليه بشت من أبشات العرب، وفى يده حربة.
وتلقاه شيخ الإسلام تقى الدين أحمد بن تيمية وسائر الفقهاء وجميع الناس، فكان يوما مشهودا، وبلغ كرادار التفرج على السلطان ستمائة درهم فضة، ثم سار إلى مصر، وصعد قلعة الجبل فى ثانى عشر صفر.
ثم حجّ فى سنة تسع وعشرة وسبعمائة، فلما تحرك لذلك أتته تقادم الأمراء وسائر نواب الشام وأمراء دمشق وحلب، وأول من بعث تقدمته الأمير تنكز ـ نائب الشام ـ وفيها الخيل والهجن بأكوار الذهب، والسلاسل من الذهب والفضة، وجميع المقاود والمخاطم والآلات من الحرير الملون المحكم الصنعة، ثم تقادم الملك المؤيد عماد الدين ـ صاحب حماة ـ ثم تلاه الأمراء.
وشرع القاضى كريم الدين عبد الكريم ـ ناظر الخاص ـ فى تجهيز ما يحتاج إليه، وخرج إلى ناحية سرياقوس وصار يقف وهو مشدود الوسط أو يجلس على كرسى، وسائر أرباب الوظائف فى خدمته وهو يرقب الأمور، فعمل عدة قدور من فضة ونحاس تحمل على البخاتى ليطبخ فيها، وأحضر الخولة لعمل مباقل وخضروات ورياحين ومشمومات فى أحواض خشب لتحمل على الجمال وتسقى طول الطريق، ويؤخذ منها كل يوم ما يحتاج إليه، ورتب الأفران وقلائى الجبن وصنّاع الكماج (1) والسميذ وغير ذلك مما يحتاج إليه، وأعطى العربان أجر الجمال التى تحمل الشعير والبشماط والدقيق، وجهز مركبين فى البحر إلى الينبع ومركبين إلى جدة، بعد ما اعتبر كلفة العليق بأوراق كتب فيها أسماء اثنين وخمسين أميرا، منهم من له فى اليوم مائة عليقة، ومنهم من له خمسون، وأقلّهم من له عشرون عليقة، فكانت جملة الشعير المحمول مائة ألف أردب وثلاثين ألف أردب.
وجهز من الشام خمسمائة جمل تحمل الحلوى والسكردانات (2) والفواكه وحضرت أيضا حوائج خاناه على مائة وثمانين جملا تحمل الحب رمّان واللوز وما يحتاج إليه فى الطبخ، سوى ما حمل من الحوائج خاناه من القاهرة، وجهز ألف طائر أوز وثلاثة آلاف طائر دجاج.
فلما تهيأ ذلك ركب السلطان مستهل ذى القعدة، ومعه المؤيد ـ صاحب حماة ـ وقاضى القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعى بعد ما مهدت عقبة أيلة من الصخور، ووسع مضيقها بعد ما كان سلوكه صعبا، وفتح مغارة شعيب.
فلما قدم مكة أظهر من التواضع والذلة والمسكنة أمرا زائدا، وسجد عند معاينته البيت سجود عبد ذليل، ثم التفت إلى الأمير بدر الدين جنكلى بن البابا، وقال:«لا زلت أعظّم نفسى حتى رأيت البيت فذكرت تقبيل الناس الأرض لى، فدخل قلبى مهابة عظيمة لم تزل حتى سجدت لله تعالى شكرا» .
وتقدم إليه ابن جماعة وحسّن له أن يطوف راكبا فإن النبى صلى الله عليه وسلم طاف راكبا، فقال:«يا قاضى، ومن أنا حتى أتشبه بالنبى صلى الله عليه وسلم؟ والله لا طفت إلا كما يطوف الناس» ، فطاف من غير أن يكون معه أحد من الحجاب، فصار الناس يزحموانه ويزاحمهم كواحد منهم حتى قضى طوافه وسعيه.
(1) مفرده كماجة، وهى لفظ فارسى، يعنى الخبز الشديد البياض يعجن بغير خميرة ويخبز على الرماد.
(2)
لفظ فارسى مركب، يعنى الوعاء المستعمل لحفظ الحلوى.
وكان قد حجّ جماعة من المغل فأحضرهم وأنعم عليهم إنعاما زائدا وأمر أن تكسى الكعبة بالحرير الأطلس، وأخرج الثياب للصناع فعملوها.
وفرّق فى أهل مكة مالا عظيما، وأفاض التشاريف على أمراء مكة وأرباب وظائفها وأمير ينبع وأمير خليص، وأنعم عليه بخمسة آلاف درهم برسم عمارة خليص، وكان لها عدة سنين قد انقطعت وجعل ذلك مقررا فى كل سنة برسم عمارتها.
واجتمع عند السلطان من العربان ما لم يجتمع لملك قبله، وهم: سائر بنى مهدى وأمرائها، وشطا، وأخوه عساف، وأولاده، وأمراء مكة وأشرافها، وأمراء المدينة، وصاحبا ينبع وخليص، وبنى لام وعرب حوارن وكبارها، وأولاد مهنا، وصاروا يعملون عليه إدلالا زائدا بحيث قام ابن لموسى بن مهنا (1). وقال للسلطان:«يابا على بحياة هذه ـ ومدّ يده إلى لحية السلطان ومسكها ـ إلا أعطيتنى الضعية الفلانية؟ » .
فصرخ فيه الفخر ناظر الجيش وقال: «ارفع يدك، قطع الله يدك والك يا ولد الزنا، تمد يدك إلى السلطان! » .
فتبسم السلطان وقال: «يا قاضى، هذه عادة العرب إذا قصدوا كبيرا فى شيء يكون عظمته عندهم مسك ذقنه ـ يعنى أنه قد استجار به ـ فهو عندهم سنّة» فقام الفخر مغضبا وهو يقول: «والله إن هؤلاء مناحيس، وسنّتهم أنحس منهم، لا بارك الله فيهم» .
وصلى السلطان الجمعة بمكة، فدعى له وللشريف فقط، ولم يدع لصاحب اليمن تأدبا مع السلطان.
وقضى نسكه، وسار إلى المدينة النبوية، وصلى بها الجمعة أيضا، وأقام يومين حتى قدم الركب، وبعث المبشرين إلى مصر والشام، وسار إلى ينبع فلم يجد المراكب وصلت، فحصلت مشقة زائدة من قلة العليق، ومشى أكثر المماليك لوقوف الجمال حتى أتت الإقامات من مصر والشام ونزل السلطان بركة الحاج فى ثانى عشر المحرم سنة عشرين وسبعمائة، فعمل له سماط عظيم جدّا، وركب فى موكب جليل إلى القلعة فكان يوما مشهودا.
وجلس يوم الخميس نصف المحرم بدار العدل، فخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف وأمراء العربان.
(1) انظر: (ابن خلدون 5/ 439، البداية والنهاية 14/ 193، النجوم الزاهرة 10/ 76، الأعلام 7/ 329).
وحجّ ثالثا فى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، ورسم بسفر الخواتين وبعض السرارى، وكتب لنائب الشام بتجهيز ما يحتاج إليه فوصلت التقادم على العادة من النواب وأمراء الشام وأمراء العربان، وطلب سائر صناع مصر لعمل الاحتياجات.
وخرج المحمل على العادة، وأمير الركب الأمير عز الدين أيدمر الخطيرى، فرحل فى عشرين شوال.
وركب السلطان فى سبعين أميرا من قلعة الجبل يوم الخامس والعشرين منه، وسفّر الحريم مع الأمير سيف الدين طقزتمر، فلما قارب عقبة أيلة بلغه أن الأمير بكتمر الساقى على نية المخامرة فهم بالرجوع وبعث ابنه أنوك وأمه إلى الكرك. ثم قوى عزمه على المسير، فسار وهو محترز، ورسم أن كلا من الأمراء يحضر باب الدهليز بثلاثين مملوكا، فصار الجميع ينامون وعددهم تحت رءوسهم، وكل أحد مشتمل عليه زردية، وسيفه متقلد به وترسه على كتفه، وترك السلطان النوم فى مبيته.
فلما وصل إلى ينبع تلقاه الشريف أسد الدين رميثة (1) ـ أمير مكة ـ بينبع ومعه القواد والأشرف، فأكرمه ورحّب به، وتوجّه حتى نزل خليص، ففر عند الرحيل ثلاثون مملوك، فاهتم السلطان لذلك وصار حتى قدم مكة، وجرى على عادته فى التواضع لله تعالى وكثرت الصدقات على أهل مكة والإنعام على الأمراء والأجناد، وقضى نسكه، وبعث الأمير أيتمش المحمدى ومعه مائة حجار إلى العقبة. فوسّعها ونظّمها.
ودخل السلطان المدينة النبوية، فهبت بها رياح عاصفة قلعت الخيم، وأظلم الجو، وصار كل أحد يهجم على غير خيمته ولا يعرف موضعه، فانزعج السلطان انزعاجا زائدا، وخاف من أن يفتك به أحد ويغتاله ووقع الصياح فى الوطاقات (2)، وكان أمرا مهولا طول الليل حتى طلع الفجر فانجلى ذلك.
وحضر أمراء العربان بالمماليك الهاربين عن آخرهم، ورحل عن المدينة، فتوعك أحمد بن الأمير بكتمر الساقى، ومات بعد أيام، ولم يقم بعده بكتمر إلا ثلاثة أيام، ومات أيضا بالقرب من عيون القصب، فتحدث الناس أن السلطان سقاهما، فدفنا بعيون القصب، ثم نقلا إلى تربة بكتمر بالقرافة.
(1) انظر: (شذرات الذهب 6/ 149، الدرر الكامنة 2/ 111، خلاصة الكلام 28 ـ 30، النجوم الزاهرة 10/ 141، الأعلام 3/ 33).
(2)
جمع الوطاق، وهو لفظ تركى، يعنى: الخيمة أو مجموعة الخيام أو المعسكر أو الغرفة.