الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطائفة الثانية: أهل النظر في علم الكلام
، والمنطق، والمعقولات وهم فرقتان: أحدهما الأشعرية، وكُتُبُهُم مشهورةٌ في ديار الشيعة، وقد نقلتُ جُلَّ كلامهم في مسألة أفعال العباد، والأطفال، وتكليف ما لا يُطاق، والإرادة، ونفي الداعي (1) عن أفعال الله تعالى، وفي التحسين (2) والتقبيح، وهذا جُلُّ ما يُخالفون فيه.
الفرقة الثانية من المتكلمين منهم الأثرية كابن تيمية (3) وأصحابه، فهؤلاء من أهل الحديث لا يُخالفونهم إلَاّ في استحسان الخوض في الكلام، وفي التجاسُر على بعض العبارات (4)، وفيما تفرَّدُوا به من الخوض في الدقائق (5) الخفيات، والمحدِّثون ينكرون ذلك عليهم؛ لأنه ربما أدى ذلك (6) إلى بدعةٍ، أو قدحٍ في سُنَّةٍ.
وأنا أُوردُ شيئاً يسيراً من كلامهم يشير (7) إلى طريقتهم في النظر، فمن أخصر ما يليقُ بهذا الموضع ألفاظٌ مُختصرةٌ من جواب مسألةٍ لشيخ الحنابلة العلَاّمة المتكلم أحمد بن تيمية الحراني، رحمه الله، وقد يعرض فيها من الألفاظ الشنيعة ما تعافه نفوسُ المؤمنين، ولكنه لا بأس بذكرها عند أهل الجدل للحاجة مع حُسن القصد كما قال تعالى:{فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]، وكما حكى الله تعالى عن اليهود من نسبة
(1) في (ش) و (ج): الدواعي.
(2)
في (ج): ونفي التحسين.
(3)
في (ش): منهم ابن تيمية.
(4)
في (ش): الكلام.
(5)
في (ش): دقائق.
(6)
ساقطة من (ش).
(7)
" من كلامهم يشير " ساقط من (ش).
الولد، ونسبة الفقر إليه، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وكما حكى (1) عن (2) النصارى من التثليث، وعن سائر طوائف الكفر حتى قال تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، ثُمَّ عاملهم يوم القيامة بالعدل في إحضار الشهود والكتب والميزان.
قال الشيخ العلامة الحافظ شيخ الحديث والكلام (3) أحمد بن تيمية الحرَّاني الحنبلي في أثناء جواب المسألة المعروفة بالتدمرية (4) لورودها من تدمر ما لفظه -بعد حذف قطعة من أول كلامه للاختصار-:
ويتبيَّنُ هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين (5) -ولله المثل الأعلى (6) - وخاتمة.
أمَّا الأصلان:
فأحدهما: أن يُقال (7): القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإن كان المخاطبُ ممَّن (8) يُقِرُّ بأنَّ الله حيٌّ بحياةٍ، عليمٌ بعلم، قديرٌ بقُدرة، سميعٌ بسمعٍ، بصيرٌ ببصر، متكلمٌ بكلام، مريدٌ بإرادة، ويجعل ذلك كلَّه حقيقةً، وينازع في محبته، ورضاه، وغضبه، وكراهته، فيجعل ذلك مجازاً، ويُفسِّرُه إمَّا بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات.
(1) ساقطة من (ب).
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
ساقطة من (د).
(4)
يبدأ النقل فيها من ص 20 إلى ص 92.
(5)
" الواو" ساقطة من (ش).
(6)
" ولله المثل الأعلى " ليست في " التدمرية ".
(7)
في (ش): تقول.
(8)
ساقطة من (ش).
قيل له: لا فرق بين ما نفيتَه وبين ما أثبتَّه.
فإن قلت (1): إنَّ إرادته مثلُ إرادة المخلوقين، فكذلك (2) محبتُه ورضاه وغضبُه، وهذا هو التمثيل.
وإن قلت: إرادةٌ تليقُ به.
قيل له: وكذلك له محبةٌ، ورضاً، وغضبٌ يليق به.
فإن قال: الغضب غليانُ دم القلب لطلب الانتقام.
قيل له: والإرادة ميل (3) النفس إلى جلب منفعة، أو دفع مضرَّةٍ.
فإن قلت: هذه إرادةُ المخلوق.
قيل لك: وهذا غضب المخلوق، وكذلك يلزم بالقول (4) في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقُدرته.
فإن قال: إنه لا حقيقة لهذا إلَاّ ما يختصُّ بالمخلوقين، فيجب نفيُه عنه.
قيل له: وهكذا السمع، والبصر، والكلام، والعلم، والقدرة.
فإن قال (5): تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل، [الحادث] دلَّ على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دلَّ على العلم، وهذه الصفات مُستلزمة للحياة، والحيُّ لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضدِّ ذلك.
(1) في (ش): قيل.
(2)
في (ب): وكذلك.
(3)
في (د): ميلان.
(4)
في المطبوع من " التدمرية ": القول.
(5)
في (ش): قيل.
قال له سائر أهل (1) الإثبات لك جوابان:
أحدهما: أن يُقال: عدم الدليل [المعين] لا يستلزِمُ عدم المدلول المعين، فهب (2) أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يُثبته، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليلُ كالمثبت، والسمع قد دلَّ عليه، ولم يعارض ذلك معارِضٌ عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض.
الثاني: أن يُقال: يُمكنُ إثبات هذه الصفات: بنظير ما أثبت به (3) تلك من العقليات -إلى قوله-: وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات (4)، ويُقِرُّ بالأسماء كالمعتزلي الذي يقولُ: إنه حيٌّ عليمٌ قديرٌ، وينكر أن يتَّصف بالحياة والعلم والقدرة (5)
قيل له: لا فرق بين إثبات الأسماء، وإثبات الصفات، فإنَّك إن قلت: إثبات الحياة، والعلم، والقدرة (6) يقتضي تشبيهاً أو تجسيماً لأنَّا لا نجدُ في الشاهد مُتَّصفاً بالصفات إلَاّ ما هو جسمٌ.
قيل لك: ولا نجد في الشاهد ما هو مسمى: حيٌّ عليم قديرٌ إلَاّ ما هو جسمٌ، فإن نفيت ما نفيت لكونك (7) لم تجده في الشاهد إلَاّ لجسمٍ فانفِ الأسماء، بل وكُلَّ شيءٍ، لأنك لا تجدُه في الشاهد إلَاّ لجسمٍ (8)،
(1) ساقطة من (ب).
(2)
في المطبوع من " التدمرية ": فثبت.
(3)
ساقطة من (د).
(4)
من قوله: " بنظير " إلى هنا ساقط من (ب).
(5)
في (ش): والقدرة والعلم.
(6)
من قوله: " قيل له " إلى هنا ساقط من (ب).
(7)
تحرفت في (ب) إلى: " لك وبك "، وفي (د): إلَاّ لكونك.
(8)
في (ش): " الجسم "، وفي المطبوع من التدمرية:" للجسم ".
فكل ما يحتج به من نفي الصفات، يحتجُّ به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جواباً (1) لذلك، كان جواباً لهذا.
أقول: للمعتزلة كلام في الفرق بين المعاني التي تحتاج إلى محل كالقدرة والعلم، وبين الصفات كالعالم والقادر، وقد نازعهم الرازي في صحة التفرقة بكلامٍ طويلٍ ليس هذا موضع ذكره، وذكر جوابه وتنقيح القوي، وأمَّا ابنُ تيمية فإنما أراد أن يردَّ على من ألزمه التشبيه بإثبات الصفات بالنظر إلى هذا الإلزام من هذا الوجه فقط، ولم يتعرض لسائر أدلة المعتزلة، والله أعلم.
قال ابن تيمية: وإن كان المخاطب من الغُلاة نفاة الأسماء والصفات، وقال: لا أقول: هو موجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي (2) مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم.
قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير كان ذلك تشبيهاً بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات.
فإن قال: أنا (3) أنفي النفيَ والإثبات.
قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنَّه يمتنع أن يكون الشيءُ موجوداً معدوماً (4)، أو لا موجوداً، و (5) لا معدوماً.
(1) في (ش): جوابنا.
(2)
في " التدمرية ": إذ هي.
(3)
في (ش): إنِّي.
(4)
في (ش): ومعدوماً.
(5)
في (أ) و (ب): أو.
فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والمَلَكَةِ لا تقابُلَ السلب والإيجاب، فإنَّ الجدار لا يُقال له: أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذْ ليس بقابلٍ لهما.
قيل لك: أولاً: هذا لا يصح في العدم والوجود، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء فيلزم (1) من رفع أحدهما ثبوت الآخر، وأمَّا ما ذكرته من الحياة، والموت، والعلم، والجهل، فهذا اصطلاحٌ اصطلحت عليه المتفلسفة المشاؤون، والاصطلاحاتُ اللفظية ليست دليلاً على الحقائق العقلية، وقد قال الله (2) تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21]، فسمى الجماد ميتاً، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم.
وقيل لك ثانياً: فما لا يقبل الاتصاف (3) بالحياة والموت، والعمى والبصر ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبلُ الاتصاف (4) بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما، فأنت فررت (5) من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات (6) التي لا تقبل ذلك.
وأيضاً فما لا يقبَلُ الوجود والعدمَ أعظمُ امتناعاً من القابل لهما، ومن
(1) في (ش): فلزم.
(2)
ساقطة من (د).
(3)
تصحفت في (ب) إلى: الإنصاف.
(4)
تصحفت في (ب) إلى: الإنصاف.
(5)
تحرفت في (ب) إلى: قدرت.
(6)
في (أ): الجامدات.
اجتماعهما ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبولهما، كان أعظم امتناعاً مما نفيتهما، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول، كان هذا أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل (1) العدم، هو أعظم الممتنعات (2) وهذا غاية التناقض والفساد.
وقيل له أيضاً: اتفاق المسمّين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات (3)، وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق فما (4) يختصُّ بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق، ولا يجوز أن يَشْرَكَهُ (5) مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
وأما ما نفيته، فهو ثابتٌ بالعقل والشرع، وتسميتك ذلك تشبيهاً وتجسيماً تمويه على الجهَّال الذين يظنون أن كل معنى سماه مُسمٍّ بهذا الاسم يجب نفيه، ولو شاع هذا لكان كل مُبطلٍ يسمي (6) الحق بأسماءٍ ينفر عنها بعض الناس ليكذب الناسُ بالحق المعلوم بالسمع والعقل، وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقلهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة، وأبلغ الغيِّ والضلالة.
وإن قال نُفاةُ الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيبٌ ممتنعٌ.
(1) من قوله: " ذلك وأيضاً " إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
في (ش): من الممتنعات.
(3)
في (ش): السمعية والعقلية.
(4)
في "التدمرية": فيما.
(5)
" فيه مخلوق ولا يجوز أن يشركه " ساقطة من (ب).
(6)
في (ش): سمى.
قيل: وإذا قلتم: هو موجودٌ واجب، وعقل وعاقل ومعقول، فليس (1) المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا.
فهذه معانٍ متعددة متغايرة في العقل، وهذا تركيب عندكم، وأنتم تُثبتونه وتسمونه توحيداً.
فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة، وليس هذا تركيباً ممتنعاً.
قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيدٌ في الحقيقة، وليس هذا (2) تركيباً ممتنعاً، وهذا باب مطرد، فإن كل واحد من النفاة لِما أخبر به الرسول من الصفات لا ينفي شيئاً فراراً (3) مما هو محذورٌ، إلَاّ وقد أثبت ما يلزمه فيه نظيرُ ما فرَّ منه، فلا بد في آخر الأمر من (4) أن يثبت موجوداً واجباً قديماً (5) مُتَّصفاً بصفاتٍ تُميِّزُهُ عن غيره، ولا يكون فيها (6) مماثلاً لخلقه.
فيقال له: هكذا القول في جميع الصفات، وكل ما تثبته من الأسماء والصفات فلا بد أن يدل على قدرٍ تتواطأُ فيه المسميات، ولولا ذلك لما فُهِمَ الخطاب، ولكن يُعلم أن ما اختص الله به، وامتاز به عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال، ويدور في الخيال. وهذا يتبين (7).
الأصل الثاني: وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في
(1) في " التدمرية ": أفليس.
(2)
في " التدمرية ": هو.
(3)
ساقطة من (ب).
(4)
ساقطة من (ش).
(5)
في (ش): وقديماً.
(6)
تحرفت في (ش) إلى: فيهما.
(7)
تصحفت في (ب) إلى: تبيين.
الذات، فإنَّ الله ليس كمثله شيءٌ، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذاتٌ حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات (1) متصفة بصفاتٍ حقيقةً لا تُماثِلُ صفات سائر الذوات.
فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟
قيل له: كما قال ربيعةُ ومالك وغيرهما (2): الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجبٌ، والسؤال عن الكيفية بدعة (3)، لأنه سؤالٌ عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟
قيل له: كيف هو؟
فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته.
قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابعٌ له، فكيف تُطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته، وإذا كنت تُقِرُّ بأن له ذاتاً (4) حقيقة ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات
(1) ساقطة من (ش).
(2)
ساقطة من (ب).
(3)
ذكره من قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن -أستاذ مالك بن أنس- البيهقيُّ في " الأسماء والصفات " ص 408.
وأورده من قول الإمام مالك: اللالكائي 3/ 398، وأبو نعيم في " الحلية " 6/ 325، والدارمي في " الرد على الجهمية " ص 33 والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 408، وابن حجر في " الفتح " 13/ 406، وجوَّد ابن حجر أحدَ أسانيده.
وأورده من قول أم سلمة. اللالكائي 3/ 397، وفي سنده محمد بن أشرس السلمي وهو متهم في الحديث، تركه غير واحد.
(4)
ساقطة من المطبوع من " التدمرية ".
الكمال لا يُماثِلُها شيءٌ، فسمعُه وبصرُه وكلامُه ونزوله واستواؤه هو ثابت في نفس الأمر، وهو مُتصف بصفات الكمال التي لا يُشابهُهُ فيها سمع المخلوقين، وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم، وهذا الكلام لازم لهم في العقليات، وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئاً، ونفى شيئاً بالعقل، إذاً أُلزم (1)، فيما نفاه من الصفات (2) التي جاء بها الكتابُ والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته ولو (3) طُولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا، لم يجد بينهما فرقاً، ولهذا لا يوجد (4) لنُفاة بعض الصفات دون بعض الذين يُوجبون فيما نَفَوه إمَّا التفويض وإمَّا التأويل المخالف لمقتضى اللفظ قانونٌ مستقيم.
فإذا قيل لهم: لم تأوَّلتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جوابٌ صحيح، فهذا تناقضُهم في النفي، وكذلك تناقضُهم في الإثبات، فإن (5) من تأوَّل النصوص على معنىً من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص من المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر لزمهم في المعنى المصروفِ إليه ما كان يلزَمُهم في المعنى المصروف عنه.
فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه، وغضبه وسخطه هو إرادتُه للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظيرُ ما يلزَمُه في الحُبِّ والمَقْتِ، والرِّضا والسخط.
(1) في (ب): " لزم " وهو خطأ.
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
" لو" ساقطة من الأصول، واستدركت من المطبوع من " الرسالة التدمرية " ص 30.
(4)
" لا يوجد " ساقطة من (ش).
(5)
ساقطة من (ش).
ولو فسر ذلك بمفعولاته، وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب، فإنه يلزَمُه في ذلك نظيرُ ما فَرَّ منه. فإنَّ الفعل المعقول (1) لا بُدَّ أن تقوم أولاً بالفاعل، والثوابُ والعقاب المعقول (2) إنما يكون على فعل ما يُحبُّه ويرضاه، ويَسْخَطُه ويَبْغَضُه المثيب المعاقِبُ فهُم إن أثبتوا الفعل (3) على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد، مثَّلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك فكذلك الصفات.
وأمَّا المثلان المضروبان -إلى قوله في المثل الأول-: وهو دارُ الآخرة، وما اشتملت عليه مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر (4)، والله سبحانه لا تُضربُ له الأمثال التي فيها مُماثلةٌ لخلقه، فإن الله لا مِثْلَ (5) له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك (6) هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في (7) قياس شمولٍ يستوي أفراده، ولكن يُستعملُ في حقِّه المثل الأعلى وهو أن كل ما اتصف
(1) في (ش): المفعول، وسقطت من المطبوع من التدمرية.
(2)
في المطبوع من " التدمرية ": المفعول.
(3)
ساقطة من الأصول، وأثبتت من " الرسالة التدمرية " ص 31.
(4)
أخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري (3244) و (4779) و (4780) و (8498)، ومسلم (2824)، وأحمد 2/ 312 - 313 و369 - 370 و407 و416 و438 و462 و466 و495 و506، والترمذي (3197) و (3292)، وابن ماجة (4328)، والدارمي 2/ 728 و731. ولفظ البخاري:" قال الله: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، فاقرؤوا إن شئتم {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ".
وأخرجه من حديث المغيرة بن شعبة: مسلم (189).
وأخرجه من حديث سهل بن سعد الساعدي: مسلم (2825)، وأحمد 5/ 334.
(5)
في المطبوع من " التدمرية ": مثيل.
(6)
في المطبوع: يشرك.
(7)
" في " ساقطة من (ش).
به المخلوق (1) من كمالٍ فالخالق أولى به، وكل ما يُنَزَّهُ عنه المخلوق فالخالق أولى بالتنزيه (2) عنه.
فإذا كان المخلوق (3) مُنَزَّهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن يُنَزَّه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقةٌ في الاسم، وهكذا نقول في المثل الثاني، وهو الروحُ التي فينا، فإنها قد وُصِفَتْ بصفاتٍ ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوصُ أنها تعرُجُ من سماءٍ إلى سماءٍ، وأنها تُقْبَضُ من البدن، وتُسَلُّ منه (4) كما تُسَلُّ الشعرة من العجين، والناس مضطربون فيها:
فمنهم طوائف من أهل الكلام (5) يجعلونها جُزءاً من البدن، أو (6) صفةً من صفاته كقول بعضهم: إنَّها النفس أو الريح الذي يتردَّدُ (7) في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة، أو المِزَاجُ، أو نفس البدن (8).
وفيهم (9) طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، فيقولون: لا هي داخل (10) البدن، ولا مباينةٌ له، ولا
(1) تحرفت في (د) إلى: المخلوقين.
(2)
في (ش): بالتنزه.
(3)
من قوله: " من كمال " إلى هنا ساقط من (ب).
(4)
ساقطة من (ش).
(5)
تحرفت في (ب) إلى: الكتاب.
(6)
في (ش): و.
(7)
في " المطبوع ": " التي تردد "، والريح مؤنثة على الأكثر، وقد تذكر على معنى الهواء، فيُقال: هو الريح، وهبَّ الريحُ، نقله أبو زيد، كما في " المصباح المنير ".
(8)
ساقطة من (ش).
(9)
في المطبوع: ومنهم.
(10)
في المطبوع: داخلة في البدن ولا خارجة.
مداخلةٌ، ولا متحركة، ولا ساكنة، ولا تصعد، ولا تهبِطُ، ولا هي جِسمٌ ولا عَرَضٌ.
وقد يقولون: إنَّها لا تُدرِكُ الأمور المعينة، والحقائق الموجودة في الخارج، وإنَّما تدرك الأمور الكلية المطلقة.
وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له (1)، ولا مداخلة له (2)، وربما قالوا: ليست داخلةً في أجسام العالم ولا خارجةً عنها مع تفسيرهم للجسم بما يقبلُ الإشارة الحسِّيَّة، فيصفونها بأنه (3) لا يمكنُ الإشارة إليها ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع.
وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنعٌ في ضرورة العقل.
قالوا: بل هذا ممكنٌ بدليل أن الكليات موجودة، وهي غير مشار إليها، وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلَاّ في الأذهان لا في الأعيان فيعتمدون في ما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال (4) الذي لا يخفى فسادُه على غالب الجهال (5).
واضطرابُ النفاة والمثبتة في الروح كثيرٌ، وسببُ ذلك أن الروح التي تُسمَّى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة ليست هي من جنس هذا البدن، ولا
(1) ساقطة من (ش).
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
في المطبوع: بأنها.
(4)
في الأصول: " الحال "، والمثبت من المطبوع.
(5)
في (ش): " الجُهُّل ". قلت: وفي " القاموس ": جُهْل، وجُهُل، وجُهَّل، جمع جاهل.
من جنس العناصر والمُوَلَّدات (1) منها (2)، بل هي (3) من جنسٍ آخر مخالفٍ لهذه الأجناس (4)، فصار هؤلاء لا يُعرِّفونها إلَاّ بالسَّلُوب التي (5) لا يوجبُ مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة وكلا القولين خطأ، وإطلاق القول عليها بأنها جِسْمٌ أو ليست بجسم يحتاجُ إلى تفصيلٍ، فإنَّ لفظ الجسم للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غيرُ معناه اللغوي، فأهل اللغة يقولون: الجسمُ: هو الجسدُ والبَدَنُ (6)، وبهذا الاعتبار فالرُوح ليس جسماً، ولهذا يقُولون: الروح والجسم، كما قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4]، وقال تعالى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ و َالْجِسْمِ} [البقرة: 247].
وأما أهلُ الكلام فمنهم من يقولُ: الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المُرَكَّبُ من المادة والصورة، وكل (7) هؤلاء يقولون: إنَّه مشارٌ إليه إشارةً حسيةً.
ومنهم من يقول: ليس بمركبٍ لا من هذا ولا من هذا، بل هو ما يشار إليه، ويقال: إنه هنا أو هناك، فعلى هذا إذا كانت الروح مما يشار إليه (8) ويتبعُهُ بصرُ الميت، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الروح إذا خَرَجَ تَبِعَه
(1) في (ش): المولودات.
(2)
ساقطة من (د).
(3)
ساقطة من (ش).
(4)
ساقطة من (ش).
(5)
في الأصول: " الذي "، والمثبت من المطبوع.
(6)
من قوله: " يحتاج إلى تفصيل " إلى هنا ساقط من (ش).
(7)
" الواو" ساقطة من (ش).
(8)
من قوله: " ويقال إنه " إلى هنا ساقط من (ب).
البَصَرُ" (1) وأنها تُقْبَضُ ويُعرَجُ بها إلى السماء (2)، كانت الروحُ جسما بهذا الاصطلاح.
والمقصود أنَّ الروح إذا (3) كانت موجودة (4) حية عالمة قادرة سميعة بصيرة تصعد وتنزِلُ، وتذهب وتجيءُ ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً، والشيء إنما تُدْرَكُ حقيقتُه إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح مُتَّصفةً بهذه الصفات مع مُماثلتها لما يُشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقُّه من أسمائه وصفاته، وأهلُ العقول أعجزُ عن أن يحدوه أو يُكيفوه منهم عن أن يحُدُّوا الروح أو يكيفوه (5)، فإذا كان من نفي صفات الروح جاحداً مُعَطِّلاً لها، ومن مثَّلها بما يُشاهدُهُ من المخلوقات جاحداً لها، ممثلاً لها بغير شكلها وهي مع ذلك ثابتةٌ بحقيقة الإثبات (6) مستحقةٌ لما لها من الصفات، فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفي صفاته جاحداً معطلاً، ومن قاسه بخلقه جاهلاً به (7) ممثلاً، وهو سبحانه ثابتٌ بحقيقة الإثبات مستحقٌّ لما له من الأسماء والصفات.
(1) أخرجه مسلم (920)، وابن ماجة (1454)، والبغوي (1468) من حديث أم سلمة، بلفظ:" إن الروح إذا قُبِضَ تَبِعَه البَصَرُ ".
(2)
قطعة من حديث مُطوَّل صحيح عند أبي داود (4753)، وأحمد 4/ 287 - 288 و295 - 296 من حديث البراء بن عازب، وصححه الحاكم 1/ 37 - 40، وأقرَّه الذهبي.
(3)
في (ش): إن.
(4)
ساقطة من (د).
(5)
من قوله: " منهم " إلى هنا ساقط من (ج).
(6)
من قوله: " فإذا كانت الروح " إلى هنا ساقط من (ب) و (ش) و (د).
(7)
" به " ساقطة من (د).