الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقرير هذا في بيان (1) الحكم في تقدير الشرور، وهو من أنفع ما تُكسر به سورة النفس عند نُبُوِّها عما لا تألفه ولا تعرِفُه ممَّا جاءت به النبوات، وهو داخلٌ فيما أمر بأنه (2) من النظر في ملكوت الأرضين والسماوات.
الطائفة الثانية: من يقول: إنَّ المعارف ضروريةٌ مطلقاً
، وذلك بعد تمام العقل وخطورها في الخاطر، وزوال السهو عن تصورها، وهؤلاء لا (3) يحمِلُون الأمر بالنظر والفكر على مُجرَّد ترك السهو والغفلة، فإنَّ الساهي عن العلم الضروري غير عالم به في حال سهوه عنه، ولذلك شبَّه الله الغافلين بالأنعام، فقال تعالى:{إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ} [الفرقان: 44]، قالوا: وليس الأمرُ بالنظر يُناقِضُ كونَ المنظور فيه معلوماً بالضرورة، ولذلك شرع الله للمكلفين الفكر في الموت والمرض ونحوه مع أنه معلومٌ بالضرورة، وأجمعت الأمة على استحباب التفكر فيه، وأخبرنا الله تعالى به، بل أدخل المؤكِّدات على الجبرية، فقال سبحانه:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُون} [المؤمنون: 15]، وفيه بحث لطيف، وهو أن المؤكِّدات لا تدخُل على المعلومات (4)، فلا يحسُنُ أن نقول: والله إن السماء لمرتفعة فوق الأرض، وإنما حَسُنَ ذلك في الآية (5) لتنزيل المخاطبين لشدة غفلتهم منزلة الجاحدين المنكرين له، كما ذكره علماء المعاني والبيان في قول الشاعر:
(1) في (ش): شأن.
(2)
في (ش): به.
(3)
ساقطة من (ش).
(4)
من قوله: " فقال سبحانه " إلى هنا ساقط من (ش).
(5)
" في الآية " ساقط.
جاء شقيقٌ عارضَاً رُمحَه
…
إنَّ بني عمِّك فيهم رِمَاحٌ (1)
وقال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْن} [التوبة: 126].
وقال سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين} [الأنعام: 11].
وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الأنعام: 40].
وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46].
وقال: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِه} [الأنعام: 99]، وكثيرٌ ما يَرِدُ في كتاب الله تعالى، وقد يعظُمُ الانتفاع بالنظر في الضروريات حتَّى قال المؤيد بالله عليه السلام في كتابه " سياسة المرتدين ": إنَّ الفكر في الموت والقبر والبلى أنفع (2) من الفكر في عذاب النار وأمثاله (3)، وعلَّل ذلك بكون الموت وأحواله ضرورية.
وعلى الجملة، فإن الانتفاع باستحضار تصور العلوم الضرورية النافعة، ودوام تصورها معلومٌ بالضرورة، والتضررُ بدوام الغفلة عنها معلومٌ بالضرورة، ولما يفترِقِ الحال بين أهل الصلاح وغيرهم، وتفاوت المراتب إلَاّ بذلك، وعامة ما اشتملت عليه كتبُ الرقائق المُبكية،
(1) في (ش): جراح. والبيت لحجل بن نضلة، وهو في " البيان والتبيين " 3/ 340 (طبعة عبد السلام هارون)، و" مؤتلف " الآمدي ص 112، و" معاهد التنصيص " 1/ 72 (طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد)، و" دلائل الإعجاز " ص 362 (طبعة الخانجي بالقاهرة بتحقيق الأستاذ محمود شاكر).
(2)
في (ب): من أنفع .. وهو خطأ.
(3)
" وأمثاله " ساقطة من (ش).
والمواعظ المُشجية هو التذكير بالضروريات، بل جاء ذلك في أشعار العرب وعقله من لم يعرف النظر قال مُتمِّمٌ (1):
وقالوا أتبكي كُلَّ قبرٍ رأيتَهُ
…
لِقَبْرٍ (2) ثَوَى بين اللِّوَى فالدَّكَادِكِ (3)
فقُلتُ لهم إنَّ الأسى يبعَثُ الأسى
…
دعُونِي فهذا كُلُّهُ قبرُ مالِكِ
ولو بسطتُ هذا المعنى، لجاء في مجلداتٍ، وقد أشار الله تعالى
(1) هو متمم بن نويرة بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن يربوع التميمي اليربوعي أخو مالك بن نويرة، شاعر، فحل، صحابي، من أشراف قومه، عده ابن سلام في " الطبقات " ص 203 في الطبقة الأولى من أصحاب المراثي. وله في أخيه مالك مراثٍ من غُرر الشعر، لم يقل أحدٌ مثلها، والمقدمة منهنَّ عينيته:
لعمري وما دهري بتأبينِ هالكٍ
…
ولا جَزَعٍ ممَّا أصَابَ فأوْجَعا
أنشدها صاحب " المفضليات "(67) يقول فيها:
وكُنَّا كَنَدْمانَيْ جذيمة حِقْبةً
…
مِنْ الدهرِ حتى قيل لن يَتَصَدَّعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً
…
لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا
وقد سكن متمم المدينة في أيام عمر، وتزوج بها امرأة لم ترض أخلاقه لشدة حزنه على أخيه. انظر " شرح المفضليات " لابن الأنباري ص 63 و526، و" أسد الغابة " 5/ 58 - 59، و" الإصابة " 3/ 340.
(2)
في (ش): لثاوٍ.
(3)
البيتان في " ديوانه " من قصيدة (91)، وهما في " حماسة أبي تمام " ص 390، و" حماسة البحتري " ص 258، و" الحماسة البصرية " 1/ 210، و" الزهرة " للأصبهاني 2/ 539، و" العقد الفريد " 3/ 193، و" أمالي أبي على " 2/ 1، و" وفيات الأعيان " 6/ 17، و" فوات الوفيات " 2/ 298، و" معجم البلدان " 2/ 479.
وجاء في " معجم ما استعجم " للبكرى ص 554 - 555: الدكادك -بفتح أوله، على لفظ جمع دَكْداك-: موضع في بلاد بني أسد، قال مُتمم بن نُويرة:
فقال أتبكي كُلَّ قبرٍ رأيتَهُ
…
لِقَبْرٍ ثَوَى بين اللِّوَى فالدَّكَادِكِ
ويُروى: فالدَّوانِكِ، وهو أيضاً هناك، مجاور الدَّكادك، وكان مالك بن نويرة أخو مُتمم المرثي بهذا الشعر، قتل بالملا وقبره هناك، والملا: في بلاد بنى أسد.
قال الأصمعي: قَدِمَ مُتمم العراق، فجعل لا يمُرُّ بقبرٍ إلَاّ بكى عليه، فقيل له: يموت أخوك بالمَلَا، وتبكي أنت على قبرٍ بالعراق؟ فقال هذه الأبيات. وبعد البيت:
فقُلتُ له إنَّ الأسى يبعَثُ الأسى
…
فَدَعني فهذا كُلُّهُ قبرُ مالِكِ
إلى فضيلة أهل الرِّقَّة والخشوع التي هي من آثار استحضار تصوُّر الضروريات فقال سبحانه: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُون} [المائدة: 82]. ثم وصفهم بالمعرفة، ووصف معرفتهم بما يوجب ملازمة (1) الخشوع العظيم، فقال سبحانه:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ} [المائدة: 83]، وهذه صفة معرفة الصالحين لا صفة معرفة الجدليين والمنطقيين وهذا مثل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]، فكيف يقال: إن من اعتقد أن المعارف ضروريةٌ يلزمه إهمال الفكر (2) والنظير وردُّ القرآن والخبر والأثر.
ولقد صنَّف الجاحظ -وهو من أهل هذه المقالة- كتات " العبر والاعتبار "(3)، فأتى فيه بما يقضي له بعُلُوِّ القدر في علم النظر من التفكر في عجائب المخلوقات الضروريات.
وكذلك النظر في علم التشريح، وعجيب خِلقة الإنسان والتأمل لما يُدْرَكُ من (4) ذلك بالتواتر والعيان.
وقد حثَّ الله تعالى على النظير في المشاهدات وهي من
(1)" معرفتهم " ساقطة من (ب).
(2)
في (ش): الذكر.
(3)
ذكره ابن النديم في " الفهرست " ص 211، وياقوت في " معجم الأدباء " 16/ 108 باسم " التفكر والاعتبار ".
(4)
ساقطة من (ش).
الضروريات، فقال:{فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50].
وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين} [يس: 77].
فالحث على النظر في المعلومات معلومٌ، لكن المخالف يقول: إنَّ المراد بالنظر فيها استنباطُ علومٍ غيرها بطريق استدلالية تنبني على مقدماتٍ متركبةٍ تركيباً مخصوصاً على وجهٍ يُنتج العلم على سبيل الاختيار، وأهل المعارف يقولون: إنَّ المراد بالنظر فيها؛
إمَّا ما يحصُلُ عنده من تعظيم المعبود، والخشوع له، والرِّقة، والإجلال، والخوف والرجاء كما يحصُلُ بذكر الموت ونحوه.
وإمَّا ما يهجُمُ على القلوب بعد ذلك من صرف اليقين ورسوخ
الإيمان من غير اختيار.
وإما مجموعُهُما (1)، ويتفاوت الحاصل من (2) ذلك تفاوتاً عظيماً لا يقف على حدٍّ، ولا يجري على قياسٍ على حسب حكمة الله واستحقاق العبد، وربما أبكى، وربَّما أقلق، وربَّما لم (3) تحتمله القوى البشرية، فيُصعَقُ العبد كما صعق موسى عليه السلام، وربما زاد على ذلك فقتل، فسبحان من هو على كل شيءٍ قدير، وبكل شيء بصير.
الطائفة الثالثة: من المعتزلة والشيعة من يجيز تقليد أهل الحق، وهو قول شيخ البغدادية أبي (4) القاسم البلخي الكعبي حكاه عنه السيد الإمام المؤيد بالله عليه السلام في " الزيادات "، وذكر أبو القاسم ما يدل عليه في " المقالات " وهو قوله فيها عند ذكر العامة، وقد عدَّهم فرقة مستقلة، وذكر ما يجتمعون عليه من إضافة صفات الكمال إلى الله، وتنزيهه عن صفات النقص أو كما قال، ثم قال بعد ذلك. فهنيئاً لهم السلامة. وهذا القول مرويٌّ عن الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وصرح به السيد المؤيد بالله عليه السلام في آخر كتاب " الزيادات " تصريحاً لا يحتمل التأويل البتة؛ لأنه احتج عليه، فطوَّل (5) الكلام فيه، بما لا يمكن معه خفاءُ مقصوده، وقد حاول المعترض إنكار ذلك عن المؤيد بالله، وعارضه بقوله في الإفادة بوجوب المعرفة، فأمَّا المعارضة، فجهل، إذ ليس يمتنع أن يكون للعالم قولان صحيحان عنه، وأما إنكار
(1) في (ش): مجموعها.
(2)
في (ش): في.
(3)
" لم " ساقطة من (ب).
(4)
في (ش): أبا.
(5)
في (ش): وطوَّل.
ذلك، وتأويله، فعنادٌ لا يساوي شيئاً، ولا يستفيد مُنكرُه إلَاّ أذى نفسه.
وقد اعتمد المؤيد (1) بالله في " الزيادات " على الدليل المعلوم من فِطَرِ العقول، وهو حُسْنُ العمل بالظن كما ذكره في خبر الواحد كثير من المحققين، منهم أخوه السيد أبو طالب في " المجزي "، والإمام المنصور بالله في " الصفوة "، والشيخ أبو الحسين في " المعتمد "(2)، وهو دليل قوي، والعلم به فطري أوَّلي كما تقدم في آخر الوظائف.
وقد تمسك من أوجب العلم بوجوه عقلية وسمعية أشفُّها كون العلم بالله تعالى لُطفاً مقرباً إلى طاعته تعالى، ومعنى المقرِّب: ما يكون المكلَّف (3) معه أقرب إلى أداء ما يجب عليه وترك ما يحرُمُ عليه. وقد ذكر المؤيد بالله في " الزيادات " أنه يحصُلُ بالظن مثل ذلك (4)، ومن السمع قوله تعالى:{فاعلم أنَّهُ لا إلهَ إلَاّ اللهُ} [محمد: 19]، وما جاء من ذم الظن والإجماع على تحريم الجهل بالله، بل (5) على أنه كفر، وللمخالفين فيها أنظار ومعارضات، أمَّا اللطف المقرب فمن وجوه:
الوجه الأول: وجوبه إمَّا ضروريٌّ عند المعتزلة، كوجوب قضاء الدَّين، وردِّ الوديعة، وهذا ممنوع لوجدان التفرقة الضرورية، وعدم منازعة الخصم.
وإمَّا استدلالي، ولا دليل يتصور على ذلك متركب من مقدمتين
(1) ساقطة من (ش).
(2)
انظر 2/ 106 - 110.
(3)
في (ش): العبد المكلف.
(4)
من قوله: " وقد ذكر " ساقطة من (ب).
(5)
ساقطة من (ش).