الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الهجوم على الجزم باعتقاد أحد الأقوال في مسائل الخلاف النَّظريَّة من غير نصٍّ من كتاب الله تعالى، ولا سنَّةٍ (1) صحيحةٍ من مُحَدِّثٍ جامد، فيُعَرَّض للخزي في الدنيا والآخرة. نسأل الله السلامة.
فإيَّاك أيُّها السُّنِّيُّ، وطول اللجاج، وشِدَّة الشَّكيمة في مسألة اللفظ (2)، وفي مسألة الحدوث، وفي مسألة القِدَمِ، واقتصر على أن القرآن كلامُ الله حقيقةً، وأنه كلَّم موسى عليه السلام، وكلَّم من شاء من أنبيائه، كما قال: منهم من كلم الله [البقرة: 253] مع الجزم بأن الله ليس كمثله شيءٌ، وسمِّ القرآن بما سمَّاه الله تعالى من الأسماء الشريفة، وكِلْ حُكْمَ من تعدِّى ذلك من المختلفين إلى الله تعالى.
فإن قلت: ما الذي مَنَعَ أحمد بن حنبل وغيره من أهلِ الحديث من مُوافقةِ الظاهريَّة على حدوث القرآن مع أنه ظاهر الآيات، ومع أنه (3) لا يقتضي ردَّ قوله تعالى:{وكلَّمَ اللهُ مُوسى تكليماً} وأمثالها، ومع كونهم لا يرون (4) تأويل الظواهر بالرأي، والتمحُّل (5) البعيد بغير موجبٍ؟
قلت: الذي فهمته مِنْ تكرارِ النظر في عباراتهم ومقاصدهم أحد وجهين، أو كلاهما:
الوجه الأول: أنهم رأوا للحدوث معنيين: حدوثاً نسبيّاً، وحدوثاً مُطلقاً
، فالحدوث النسبي (6) بالنظر إلى نزوله، ومجيء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجبريل عليه السلام، كقوله تعالى: {إنَّه لَقَوْلُ
(1) في (ش): سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
في (ب): كونه.
(4)
في (أ) و (ج) و (د) و (ش): " يروون "، والمثبت من (ب).
(5)
في (ب): " التحمل "، وهو تحريف.
(6)
في (ب): فالنسبي هو حدوثه.
رسولٍ كريمٍ} [التكوير: 19] أي حكايته، والمَحكِيُّ كلام الله لقوله:{حتَّى يسمَعَ كلَامَ اللهِ} [التوبة: 6].
والحدوث المطلق حدوثُ ذاته، فتركوا الخوض في حدوث الذات لما اختلف أهل الكلام في حقيقة ذات الكلام، هل هي (1) الصوت المقطع حروفاً مفهومةً؟ أو هي المعنى الذي في النفس الذي جعل اللفظ عبارةً عنه؟ فلمَّا شوَّش أهل الكلام عليهم معرفة الذات، ورأوا الحدوث النِّسبي صحيحاً بالإجماع والنص، اقتصروا على موضع الإجماع مع لطيفة نظرية (2)، وهي أن البلاغة تقتضي أن لا يَرِدَ اللفظ البليغ إلَاّ لإفادة معنى مُهِمٍّ أو خفيٍّ، أو ردٍّ على خصمٍ، ولا يَرِدُ بتعريف المعرَّفات، وكان حدوث الأصوات معلوماً في عهد (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يومئذٍ من يعتقِدُ قِدَمَ الأصوات فيعرف حدوثها، أعني القدم الاصطلاحيَّ الذي معناه نفيُ الأوَّليَّة، ولا مجرَّدُ الحدوث صفة مدحٍ، فيُمدحُ به القرآن، كما مُدِحَ بكونه ضياءً وشفاءً، وهدىً، ونُوراً، فلا بُدَّ من وجه لذكره، وأقربُ ما يكون أن (4) ذكر حُدوثه ردّاً لقول المشركين: إنَّه إفكٌ قديمٌ، وإنه أساطير الأولين، فقُوبل الإفك بالذكر، والقديمُ بالمحدث.
فكان المراد بهذا الحدوث نقيضَ القِدَم (5) الذي أراده المشركون، ولا شكَّ أنهم أرادوا أنه أساطير الأولين اكتتبها (6) كما صرح به القرآن (7) لا القِدم الاصطلاحي، فكان المراد بهذا الحدوث هو حدوث نزوله ومجيئه مِنْ
(1) في (ب): هي في.
(2)
في (أ) و (ش) و (د): النظرية.
(3)
في (ب): وقت.
(4)
ساقطة من (ب).
(5)
في (ش): " العدم "، وهو خطأ.
(6)
في (ب): التي اكتتبها.
(7)
كما في الآية (5) من سورة الفرقان.
عند الله تعالى في زمن (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم دون من تقدمه من الرسل. وحدوثه بهذا المعنى هو الحدوثُ النسبي المُجمَعُ على صحته، وفيه مع ذلك تشريفٌ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حين (2) كان هو المختصَّ بالمجيء به، وتبرئةٌ (3) له مما رَمَوْهُ به من اكتتاب أساطير الأوَّلين، واستراق محاسن المتقدِّمين، وهذا بيِّنٌ في سورةٍ الأحقاف في قوله تعالى:{وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} [الأحقاف: 11 - 12]، فقابل (4) وصفهم له بالقِدَم بتقديم (5) كتاب موسى عليه، وبالإفك بتصديقه كتاب موسى الذي استقرَّ أنه إمامٌ ورحمةٌ، فرأوا الاقتصار على تفسيره بهذا أسلم، وإن كان غيره أعلم، لكنه (6) على تسليم هذا وصحَّته لا يمنع (7) من وصفه بالحدوث المطلق، أقصى ما فيه، أن يكون حدوث نزوله (8)، ومجيئه هو مدلول المطابقة، وهو اللُّغويُّ الوضعي، وحدوث ذاته هو مدلول الالتزام، وهو الذهني العقلي كما هو مذكور في علم المعاني والبيان، وعلم أصول الفقه، لكنه شوَّش هذا عليهم سماعهم شدَّة اختلاف المتكلمين في حقيقة ذات الكلام، كما قدمته، حتى قال شيخ الاعتزال أبو علي الجُبَّائي: إن كلام الله تعالى باقٍ (9) لا يجوز أن
(1) في (ش): زمان.
(2)
في (ب): حيث.
(3)
في (ش): وتنزيه.
(4)
في (ش): وقابل.
(5)
في (ب) و (ش): بتقديم.
(6)
في (ش): لكن
(7)
ساقطة من (ب).
(8)
في (أ): فردٍ له.
(9)
في الأصول غير (ج): باقي.
يَفنى، وأنه يحُلُّ في الخطِّ المكتوب، ويظهر مع الصَّوت، وهو غير الصوت. حكى هذا (1) عنه الشيخ ابن مثَّوَيه في كتابه " التَّذكرة ".
فقد وافق أبو عليٍّ الأشعرية على تفسير كلام الله تعالى بأنه غير الصوت المسموع، فلما دق النظر في باب (2) الكلام تركه المحدثون على عادتهم في ترك أمثاله، وتركوا ما يترتَّب عليه، وإن كان الأمر في هذا قريباً (3)، ورأوا الحزم البُعد من مواضع التَّكفير، وإن نُسِبُوا في ذلك إلى الجهل فقد قيل: إن طريقة السلف، أسلَمُ، وطريقة الخلف أعلم، فالسعي في السلامة أولى من دعوى العلم، ومسألة الكلام (4) سهلة، ولكن هوَّلها المتكلِّمون بتجاسُرهم على تكفير المخالف فيها. فالله المستعان.
وقد عوَّل البيهقي في " الأسماء والصفات " على هذا المعنى، وحام عليه ولم يقع، ولم تخلُص (5) له تلك النُّكتة اللَّطيفة في وجه ذِكْرِ حدوث القرآن، وسبب وروده فقال البيهقي (6): المراد بالذِّكر المُحْدَثِ ذكر القرآن لهم، وتلاوته عليهم، وعلمهم به، كل ذلك مُحْدَثٌ، والمذكور المتلوُّ المعلوم غير مُحْدَثٍ، كما أن ذِكْرَ العبد لله تعالى مُحْدَثٌ، والمذكور -سبحانه- غير مُحْدَثٍ.
(1) في (ب): ذكر ذلك.
(2)
في (ب) و (ش): ذات.
(3)
في (أ): " قريباً من "، وفي (ش):" قريباً وسهله "، وكتب فوقها: كذا في الأم، وفي (ب):" قريباً سهله ".
(4)
من قوله: " فرأوا الحزم " إلى هنا أتى في نسخة (ب) بعد قوله الآتي: " فالله المستعان ".
(5)
في (أ) و (ج) و (د): يلخص.
(6)
ص 229.
وقال أيضاً: وقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1]، يريد (1) والله أعلم: أنا أسمعناه (2) المَلَكَ، وأنزلنا الملك بما سمع. وقوله:{إنا نحنُ نزَّلنا الذكرَ وإنا لهُ لَحَافظون} [الحجر: 9] يريد حفظ رسومه وتلاوته.
قلت: تأويل النزول لازمٌ على مذهب المعتزلة، لأن العَرَضَ عندهم لا يُوصف بالنزول وحده، ولا بُدَّ أن يحُلَّ في جسم، وهو (3) فيه، هذا في الأعراض الباقية، كالألوان، وأما الكلام عندهم (4)، فإنه يزول في الوقت الثاني إلَاّ أبا عليٍّ الجُبَّائي، فإنه يقول ببقائه كما تقدم.
ويأتي في كلام الإمام الحسن بن يحيى بن الحسن (5) بن زيد بن عليٍّ عليهم السلام نحو كلام البيهقيِّ هذا (6)، فإنه ذكر أن القرآن مُحدَثٌ، ثم قال: قال الله تعالى: {ما يأتِيهِمْ مِنْ ذِكرٍ من ربِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، فأحدث في قلوب العباد بالرُّسل من تنزيل الكتاب ما لم يكونوا يعلمون. انتهى بحروفه، والله أعلم بمراده.
قال البيهقيُّ: وأما الإنزال بمعنى الخلق، فغيرُ معقولٍ (7).
قلت: صحيحٌ، ولكن تحقيقه ما ذكرته في مسألة الأفعال من أن الخلق لا يُطلق على كل فعلٍ، وهو قول البغدادية. وقد أوضحتُ الدليل
(1) في " الأسماء والصفات ": يريد به.
(2)
في (ش): سمعناه.
(3)
في (ب) و (ش): ينزل الجسم وهو.
(4)
في (ب): فإنه عندهم.
(5)
في (ب): الحسين.
(6)
ساقطة من (ش).
(7)
" الأسماء والصفات " ص 230.
عليه في موضعه مِنْ مسألة أفعال العباد في هذا الكتاب، وهذا يدل على موافقة البيهقي لما اخترتُه هنالك؛ لأن الإنزال فعل الله بغير شك، ومع هذا اعترف (1) البيهقي أنه لا يُسمى خلقاً في اللغة.
وقال البيهقي (2) في قوله تعالى: {إنَّا جعلناهُ قُرآناً عربياً} [الزخرف: 3]: أي (3): سميناه، كقوله:{وجَعَلُوا الملائكة الذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحمن إناثاً} [الزخرف: 19]، أي: سموهم، وقوله:{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} [الرعد: 16] إلى قول البيهقي: وأما النسخ، والإنساء والنسيان، والإذهاب، والترك، والتبعيض، فكلُّ ذلك راجعٌ إلى التلاوة والحُكم المأمور به (4).
واحتجَّ البيهقيُّ على القِدَمِ، بقوله تعالى:{لله الأمرُ مِنْ قَبْلُ} [الروم: 4] قال: وظاهره (5) يدل على أن أمره قبل كلِّ شيءٍ، وهو معنى القديم، وبقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وبقوله:{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]، قال: فأخبر أنه كان موجوداً مكتوباً قبل الحاجة إليه (6) في أمِّ الكتاب، وبقوله:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22]، فأخبر أنه كان في اللوح المحفوظ، يريد مكتوباً فيه، وذلك قبل الحاجة إليه، وإذا ثبت أنه كان موجوداً قبل الحاجة إليه،
(1) في (ب): اعتراف.
(2)
ص 229 - 230.
(3)
في (ب): إنا.
(4)
" المأمور به " ساقطة من (ش).
(5)
في " الأسماء والصفات ": فظاهره.
(6)
ساقطة من (ش).
ثبت أنه لم يزلْ (1).
قلت: هذا يصلحُ حُجَّةً على المعتزلة الذين يمنعون ثُبوته قبل الحاجة إليه (2)، أما من مَنَعَ القِدَمَ، كقدماء أهل السنة، والظاهرية والواقفية - لم يصلح هذا حجة عليه، وكلامه يُشعِرَ بتفسير الأمر في قوله {لله الأمرُ} بقول الله:{أقيموا الصَّلاة} ونحوه، وليس كذلك، وإنما الأمر هنا مثله في قول القائل: إن صاحب الأمر فلانٌ، أي صاحب الحلِّ والعقد، وهو قريبٌ من معنى الملك.
واحتج البيهقي بقوله تعالى: {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54] فجعل الخلق مسخراً بالأمر، وبقوله:{أَلَا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54] فإن أراد البيهقي الاحتجاج على قدم اللفظ، وعلى من لا يقول به من المعتزلة، وأهل السنة - كالبخاري ومسلمٍ، فضعيفٌ، خصوصاً مع مراعاة القطع بذلك، ولا سيّما متى عُورِضَ بأدلة الحدوث العقلية والسمعية، وقد ذكر الغزاليُّ أنه ضروري -أعني: حدوث اللَّفظ كما تقدم- وعبَّر عن ذلك بأحسن عبارةٍ وأجلاها.
وإن أراد البيهقي قِدَمَ الكلام النفسي، فالخوض فيه من بدَع عِلمِ الكلام، ولا يليق بالسُّنِّيِّ الخوض فيما لا يعرفه كما سيأتي، وكما مضى، مع أن الخلاف فيه يرجِعُ إلى العبارة، فإن المعتزلة لم تنكره، وإنما قالوا (3): المرجع به إلى العلم، أو إلى الإراده، والله سبحانه عالم في القِدَمِ بالاتفاق، وهو مريدٌ عند الجمهور من المعتزلة، وعند
(1)" الأسماء والصفات " ص 228 - 229.
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
ساقطة من (ش).