المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قلت: كلا، فإن الله تعالى قد سمى الظن علما - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٤

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الثالث عشر: أنَّ جميع أئمة الفنون المُبرِّزين فيها قد شاركوا المحدثين في عدم ممارسة علم الكلام

- ‌الطائفة الأولى: من قال بأن المعارف ضرورية

- ‌الطائفة الثانية: من يقول: إنَّ المعارف ضروريةٌ مطلقاً

- ‌الوجه الثاني: أن اللطف المقرب مجرد دعوى

- ‌الوجه الثاني: من الأصل أن الآية في الظن المعارض للعلم

- ‌قلت: كلَاّ، فإنَّ الله تعالى قد سمَّى الظن علماً

- ‌الوجه الرابع: من الجواب وهو التحقيق

- ‌الجواب من وجوه

- ‌الوجه الثالث: إنا نعلمه ما نعرِفُه بِفِطَرِ العقول

- ‌الجواب الرابع: أن نقول: النظر في ذلك واجبٌ كالصلاة

- ‌فإن قيل: قد وَرَدَ في السمع وجوبُ البيان على العلماء

- ‌الجواب من وجوه:

- ‌الوجه الثاني: أنا نخصُّ هذا العام بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الجواب الخامس: أنها وردت نصوصٌ تقتضي العلم أو الظن

- ‌فإن قالوا: وفي ترك علم الكلام مضرة أيضاً

- ‌الجواب: أنَّ تسمية تجويز المضرة المرجوح خوفاً غيرُ مسلم

- ‌قلتُ: هي أمران:

- ‌الجواب من وجهين

- ‌الوجه الأول: معارضة

- ‌الوجه الأول: أن السائل جهل المقصود بالنبوة

- ‌قلنا: معاذ الله

- ‌الطائفة الثانية: أهل النظر في علم الكلام

- ‌القاعدة الأولى: إن الله سبحانه موصوفٌ بالإثبات والنفي

- ‌القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربِّه فإنَّه يجب الإيمان به

- ‌القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مرادٌ أو ليس بمراد

- ‌إن هذه الطريق لا يحصل بها المقصود لوجوهٍ:

- ‌الوجه الثاني: أن هؤلاء ينفُون صفات الكمال بمثل هذه الطريق

- ‌الوجه الثالث: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون

- ‌الفصل الثالث: في الإشارة إلى حُجة من كفَّر هؤلاء

- ‌ التنبيه على معرفتين:

- ‌المعرفة الأولى: أن شرط التكفير بمخالفة السمع أن يكون ذلك السمعُ المخالفُ معلوماً علماً ضرورياً من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى

- ‌أحدهما: ما عَلِمَهُ العامة مع الخاصة

- ‌ثانيهما: ما لا يعرف تواتره إلَاّ الخاصة

- ‌الشرط الثاني: أن يكون معنى المتواتر معلوماً بالضرورة

- ‌المعرفة الثانية: أن التكفير سمعي محضٌ لا مدخل للعقل فيه، وذلك من وجهين:

- ‌الوجه الأول: أنه لا يكفر بمخالفة الأدلة العقلية وإن كانت ضروريةٌ

- ‌الوجه الثاني: أنَّ الدليل على الكفر والفِسْقِ لا يكون إلَاّ سمعياً قطعياً

- ‌فصلٌ في شيوخه:

- ‌رحلته وحفظه:

- ‌حكاية موضوعة:

- ‌وصيتُه:

- ‌مرضه:

- ‌المنامات:

- ‌ فضلِهِ وتألُّهِهِ وشمائله:

- ‌ومن آدابه:

- ‌ومن كرمه:

- ‌تركه للجهات جُملةَ:

- ‌أيُّ فرقٍ بين الخلقِ والحدوث حتى يكفر القائل بأحدِهما دون الآخر

- ‌الجواب: من وجهينِ

- ‌ الوجه الثالث: وهو التكفير بمآل المذهب

- ‌الوجه الثاني: لو سلَّمنا أنه دلَّ على ذلك دليلٌ سمعي خَفِي لكان معارضاً بما هو أوضح منه

- ‌الوجه الثالث: إنا نعلم بالضرورة منهم ضِدَّ ما ألزموهم

- ‌الوجه الرابع: أنا لو كفرنا بذلك لأمكن المعتزلة، والشيعة، والظاهرية تكفير من لم يقُل بحدوث القرآن

- ‌الوجه الخامس: أن النصوص قد تواترت بمروق الخوارج

- ‌الوجه السابع: أنه قد ورد من الأدلة السمعية ما يُعارضُ ذلك الظن

- ‌وأما قول من يقولُ: ما الفرق بين الخلق، والجعل، والحُدُوث

- ‌قلت: الذي فهمته مِنْ تكرارِ النظر في عباراتهم ومقاصدهم أحد وجهين، أو كلاهما:

- ‌الوجه الأول: أنهم رأوا للحدوث معنيين: حدوثاً نسبيّاً، وحدوثاً مُطلقاً

- ‌الوجه الثاني: أنهم لما رأوا القول بخلقه شعار المعتزلة المنكرين لصحة الكلام من الله تعالى، رأوا لفظ الحدوث يقارب لفظ الخلق ويُوهِمُه

- ‌قلنا: يقولون: إن عمومها مخصوصٌ بإجماع الفريقين

- ‌أمَّا المعتزلة

الفصل: ‌قلت: كلا، فإن الله تعالى قد سمى الظن علما

والسُّنَّة والعُرْفِ واللُّغة تسميتُه علماً ومعرفة، ولذلك قال الله في سورة الأنعام بعد أن حكى كثيراً من ذلك:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144]، ويُوضِّحُهُ أن الله تعالى قَصَرَهُم على اتباع الظن، ثم قصرهم على الخرص (1)، فلو أراد الظن الراجح، لتناقض، لأن المقصور على الخرص، وهو محضُ الكَذِبِ لا يكونُ مقصورا على العمل بالراجح بالضرورة.

‌الوجه الثاني: من الأصل أن الآية في الظن المعارض للعلم

، وهو ظن المشركين لصحة شركهم بدليل قوله:{لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وهذا (2) يدلُّ على أنه ظنُّ غير الحق، فكيف يُحتج بذلك على قبحِ العمل بظنِّ الحقِّ الصادر عن الأمارة الصحيحة الموجبة للرُّجحان المقبول في فِطَرِ العُقول الخالي عن المعارضة!.

الوجه الثالث: أنها من العموم المخصوص بمن ورد فيه بدليل قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُون} [يس: 21] وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيّ} [الأعراف: 157]، وقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام: 90].

فإن قلت: هذا تجويزٌ للجهل بالله تعالى.

‌قلت: كلَاّ، فإنَّ الله تعالى قد سمَّى الظن علماً

، وذلك صحيحٌ

وقد أقرَّ به الزمخشريُّ في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ

(1) في (ش): الخوض، وهو تحريف.

(2)

في (ش): وهو.

ص: 56

مُؤْمِنَات} (1)[الممتحنة: 10]، وكذلك في قوله:{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} (2)[يوسف: 81]، وأجمع المسلمون على تسمية فقهاء الفروع علماء، وإن كانت ظنية.

وقال المؤيد بالله في " الزيادات " عن أبي القاسم البلخي: إنَّه يُجيزُ العمل بالظنِّ في معرفة الله، ولكنَّه يُسميه علماً.

وكذلك ذهب جماعةٌ من الجِلَّة إلى تسمية حديث الثقة الحافظ المتقن معلوماً، وكذلك يقول أهل الفطر العقلية السالمة من الشوائب: علمنا بكذا، إذا جاءهم به خبرٌ مظنونٌ، ويقولُ أحدُهم لصاحبه: أعلمني بما في نفسك، وقد أعلمتُك بما في نفسي، فكيف يُتركُ الكتاب، والفِطَرُ، واللغة لِعُرف بعض المتكلمين؟! فإذا تقرَّر أن هذه الطوائف الثلاث من جِلَّة علماء الكلام، بل من أهل الاعتزال والتشيع خاصةً مع إطباق المخالفين من المعتزلة لهذه الطوائف على (3) إجلالهم وتوقيرهم، وأنهم من علماء الإسلام، فما بالُهم يعترِضُون على المحدثين، ويُشنِّعُون عليهم في القول بعَدَمَ وجوب النظر في الكلام؟!

فيُقال لصاحب السؤال: ما كان جوابُ مشايخكم هؤلاء المسقطين (4) للنظر في الكلام على الفلاسفة والمُجبرة والمشبِّهة، فهو بعينه جوابُ المحدثين، فلا تُسرف في التشنيع على أهل الأثَرِ، فقد شاركهم فيما

(1) في " الكشاف " 4/ 92: فإن علمتموهنَّ مؤمنات العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظنُّ الغالب بالحلف وظهور الأمارات.

(2)

انظر " الكشاف " 2/ 337.

(3)

في (ش): من، وهو خطأ.

(4)

في (ب): " المقسطين "، وأثبت فوقها: ط المسقطين.

ص: 57

شنعتُم به عليهم جماعةٌ من أئمة علم النظر، وهذه كُلُّها معارضات، ويُؤيِّدُ ذلك ما ظَهَرَ من كثير من أئمَّة المعقول، وأعيان المتكلمين، وحُذَّاق الفلاسفة مما يدلُّ على أنَّ العلوم الإلهيات لا تُدرَكُ بالمسالكِ النظريات، وإنما تكون مواهب ربانيات داخلةً في حيِّز الضروريات، أو معارِف ظنيات غير بالغة إلى مراتب الضروريات، ولا مرتبة عندهم بين الظنيات والضروريات، وقد نقل هذا الرازي في " المحصول "(1) عن كثيرٍ من الفلاسفة، فقال في آخر الفصل الثامن: فإن قلت: بل أعرِفُ بضرورة عقلي وجوب النظر عليَّ.

قلت: هذا (2) مكابرة، لأنَّ وجوب النظر يتوقَّفُ على العلم بأن النظر في هذه الأمور الإلهيَّة يُفيدُ العلم، وذلك ليس بضروري بل نظريٌّ خفيٌّ، فإنَّ كثيراً من الفلاسفة قالوا: فِكرَةُ العقل تُفيدُ اليقين في الهندسيات والحسابيات، فأمَّا في الأمور الإلهية، فلا تفيد إلَاّ الظن، ثم بتقدير أن يثبُت كونُه مفيداً للعلم، فلا يجبُ الإتيانُ به إلَاّ لو عَرَف (3) أن غيره لا يقومُ مقامه في إفادة العلم، وذلك ممَّا لا سبيل إليه إلَاّ بالنظر الدَّقيق، فإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفاً على ذَيْنِكَ المقامين النظريين، فالموقوف على النظري أولى أن يكون نظرياً.

قلتُ: وهذا (4) مما (5) يدلُّ على أن الرازي يرُدُّ على من يوجب البلوغ إلى العلم في الإلهيات على العامة دون أن (6) يُجيز لهم العمل في

(1) في (ش): " محصوله " وانظر 1/ 207 - 208.

(2)

في (ش): هذه.

(3)

في " المحصول ": فإنَّما يجب الإتيان به لو عرف.

(4)

ساقطة من (ب).

(5)

ساقطة من (ب) و (ش).

(6)

في (ش): من.

ص: 58

ذلك على الظن، كالمؤيد بالله، وأبي القاسم، وأشار إليه الرازيُّ في وصيته (1)،

(1) ذكر هذه الوصية ابن أبي أصيبعة في " عيون الأنباء " 2/ 27 - 28، والذهبي في " تاريخ الإسلام " الطبقة (61) وفيات (606) هـ، والسبكي في " طبقاته " 8/ 90 - 92.

ونص الوصية: يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وهو أول عهده بالآخرة، وآخر عهده بالدنيا، وهو الوقتُ الذي يلين فيه كلُّ قاسٍ، ويتوجَّه إلى مولاه كلُّ آبق: أحمدُ الله تعالى بالمحامدِ التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات شهاداتهم، وأحمده بالمحامد التي يستحقها، عَرَفتُها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب مع ربِّ الأرباب، وصلاته على الملائكة المقربين؛ والأنبياء، والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين.

ثم اعلموا إخواني في الدين، وأخلائي في طلب اليقين أن الناس يقولون: إن الإنسان إذا مات، انقطع عملُه، وتعلُّقُه عن الخلق، وهذا مخصص من وجهين: الأول: إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سبباً للدعاء، والدعاء له عند الله أثر، الثاني: ما يتعلق بالأولاد وأداء المظالم والجنايات.

أما الأول: فاعلموا أنني كنتُ رجلاً مُحباً للعلم، فكنتُ أكتب في كل شيء شيئاً، لأقف على كميته وكيفيته، سواء كان حقاً أو باطلاً، إلَاّ أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة أن العالم المخصوص تحت تدبير مدبِّرٍ مُنَزَّهٍ عن مماثلة المتحيِّزات موصوفٍ بكمال القدرة والعلم والرحمة، ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدةً تُساوي الفائدة التي وجدتُها في القرآن، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلالة لله، ويمنع عن التعمُّق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلَاّ للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية، فلهذا اقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم، والأزلية، والتدبير، والفعالية، فذلك هو الذي أقولُ به، وألقى الله به.

وأما ما انتهى الأمرُ فيه إلى الدقة والغموض، وكلُّ ما ورد في القرآن والصحاح المتعين للمعنى الواحد، فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول:

يا إله العالمين، إني أرى الخَلق مطبقين على أنك أكرمُ الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلك ما مدَّ به قلمي، أو خطر ببالي، فأستشهد وأقول: إن علمت مني أني أردتُ به تحقيق باطل، أو إبطال حقٍّ، فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت مني أني ما سعيتُ إلَاّ في تقرير اعتقدتُ أنه الحق، وتصورت أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك جُهدُ المُقِلِّ، وأنت أكرم مِن أن تضايق الضعيف الواقع في زَلة، فأغثني، وارحمني، واستر زلتي، وامحُ حوبتي، يا من لا يزيدُ ملكَهُ عِرفانُ العارفين ولا ينقص ملكُه بخطأ المجرمين، وأقول: ديني متابعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما، اللهم يا سامع الأصوات، ويا مُجيبَ الدعوات، ويا مُقيلَ العَثَرات، أنا كنتُ حسنَ =

ص: 59

ويأتي (1) في مسألة الأفعال شيء منها، ومما يدل على أنه مذهبه قوله:

العلمُ للرحمن جل جلاله

وسواه في جَهَلاتِه يَتَغَمْغَمُ

ما للتُّراب وللعلوم وإنَّما

يسعى ليعلم أنَّه لا يعلمُ

وقد أشار إلى توقُّفه في مسألة الأفعال، وتردُّده في " مفاتح الغيب " وتأتي حكاية لفظه في ذلك، ومن ذلك قول ابن أبي الحديد المعتزلي:

طلبتُك جاهداً خمسين عاماً

فلم أحصُل على برد اليقين

فهل بعد الممات يكُ اتصالٌ

فأعلَمَ غامِضِ (2) السرِّ المَصُون

نوى قذفٌ وكم قد مات قبلي

بحسرته عليك من القرون (3)

= الظن بك، عظيم الرجاء في رحمتك، وأنت قلت:" أنا عند ظن عبدي بي "، وأنت قلت:{أمَّن يجيبُ المضطر إذا دعاه} فهَبْ أني ما جئتُ بشيء، فأنت الغني الكريم، وأنا المحتاج اللئيم، فلا تخيب رجائي، ولا ترُدِّ دعائي، واجعلني آمناً من عذابك قبل الموت، وبعد الموت، وعند الموت، وسهِّل علي سكرات الموت، فإنك أرحم الراحمين.

وأمِّا الكتب التي صنفتها، واستكثرتُ فيها من إيراد السؤالات، فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السييء، فإني ما أردتُ إلَاّ تكثير البحث، وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله.

الثاني: وهو إصلاح أمر الأطفال، والاعتماد فيه على الله.

ثم إنه سرد وصيته في ذلك، إلى أن قال: وأمرتُ تلامذتي، ومن لي عليه حق إذا أنا مِتُّ، يبالغون في إخفاء موتي، ويدفنوني على شرط الشرع، فإذا دفنوني قرؤوا عليِّ ما قدروا عليه من القرآن، ثم يقولون: يا كريم، جاءك الفقير المحتاج، فأحسن إليه.

قال الذهبي: سمعت وصيته كلها من الكمال عمر بن إلياس بن يونس المراغي، أخبرنا التقي يوسف بن أبي بكر النسائي بمصر، أخبرنا الكمال محمود بن عمر الرازي قال: سمعت الإمام فخر الدين يوصي تلميذه إبراهيم بن أبي بكر، فذكرها.

(1)

في (ش): وسيأتي.

(2)

في (ش): عالم.

(3)

جاء في هامش (ش) ما نصه:

وقلت أنا عند الاشتغال بهذا العلم: =

ص: 60

ومن ذلك قول الشهرستاني في أول " نهايته "(1) يصف المتكلمين:

وقد طُفتُ في تلك المعاهد (2) كلها

وسيَّرتُ طرفِي بين تلك المعالم

فلم أر إلَاّ واضعاً كفَّ حائرٍ

على ذَقَنٍ أو قارعِاً سِنَّ نادِمِ (3)

ومنه قول الشيخ تقي الدين:

تجاوزتُ حدَّ الأكثرين إلى العُلى

وسافرت واستبقيتهم في المفاوز

وخُضتُ بحاراً ليس يُدركُ قعرُها

وسيَّرت نفسي في قسيم المفاوز

ولجَّجت في الأفكار ثُمَّ تراجَعَ اخـ

ـتياري إلى استحسان دين العجائز

رواه الذهبي في ترجمته من " النبلاء " فقال: انشدني الفضل (4) بن قنديل الغابر من سنوات، قال: أنشدنا إسماعيل بن ركاب، أنشدنا (5) علم الدين سليمان بن يوسف الواعظ، أنشدني الإمام أبو الفتح ابنُ دقيق

= وغاية ما حصلته من مباحثي

ومن نظري من بعد طول التدبر

هو الوقفُ ما بين الطريقين حيرةً

فما علمُ من لم يلق غير التحيُّر

على أنني قد خضتُ منه غماره

وما قنِعت نفسي بغير التبحر

كتبه محمد الشوكاني غفر اللهُ له.

(1)

ص 3، والشهرستاني: هو محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني شيخ أهل الكلام والحكمة، وصاحب كتاب " الملل والنحل " المتوفى سنة 548 قال ابن أرسلان في " تاريخ خوارزم " عالم كيس متفنن، ولولا ميله إلى أهل الإلحاد وتخبطه في الاعتقاد لكان هو الإمام. مترجم في " السير " 20/ 286 - 289.

(2)

في (ش): المعالم.

(3)

وقد رد على هذين البيتين العلامة محمد بن إسماعيل الأمير صاحب " سبل السلام " فقال:

لعلك أهملت الطواف بمعهد الـ

ـرسول ومن لاقاه من كُلِّ عالم

فما حارَ من يُهدَى بهدي محمَّدٍ

ولستَ تراه قارعاً سِن نادم

(4)

في (ش): الفاضل.

(5)

في (ش): قال أنشدنا.

ص: 61

العيد لنفسه الأبيات.

وقال الرازي أيضاً:

نهايات إقدام العقول عِقَالُ

وأكثر سعي العالمين ضلالُ (1)

وقال غيره:

وكم في البرية من عالمٍ

قويِّ الجدال سديد (2) الكَلِم

سعى في العلوم فلمَّا يُفِدْ

سوى علمه أنه ما علم

وقال ابن الجوزي في كتاب " تلبيس إبليس "(3) بعد المبالغة في ذم الكلام، ونقل كلام السلف في ذلك: وقد نُقل إلينا إقلاع متقدمي المتكلمين (4) عما كانوا عليه منه لما رأوا من قُبْح غوائله، ونقل عن الوليد بن أبان الكرابيسي أنه لما حضرته الوفاة، قال لبنيه: تعلمون أحداً أعلم بالكلام منِّي؟ قالوا: لا، قال: فتتَّهموني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم، أتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحابُ الحديث، فإني رأيتُ الحق معهم.

قال: وكان أبو المعالي الجُويني يقول: لقد جرَّبت (5) أهل الإسلام

(1) وبعده:

وأرواحُنا في وحشةٍ من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبالُ

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

انظر " عيون الأنباء " 2/ 28، و" وفيات الأعيان " 4/ 250، و" طبقات السبكي " 8/ 96، و" طبقات ابن شهبة " 2/ 82، و" شذرات الذهب " 5/ 22.

(2)

في (ب) و (ش) شديد.

(3)

ص 84 - 85.

(4)

في (ش): المتقدمين.

(5)

في (ش): خبرت.

ص: 62

وعلومهم، وركبتُ البحر الأعظم، وغُصتُ في الذي نهوا عنه، كل ذلك في طلب الحق، والهَرَبِ من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكُلِّ إلى كلمة الحق:" عليكم بدين العجائز "(1)، فإن لم يدركني الحقُّ بلُطف برِّه، فالويل لابن الجويني.

وكان يقول لأصحابه: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام (2) يبلغ بي (3) ما بلغتُ، ما تشاغلتُ به.

وقال أبو (4) الوفاء بن عقيل (5) لأصحابه: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا، وما عرفوا الجوهر ولا العَرضَ، فإن (6) رضيت أن تكون مثلهم فكُن، وإن (7) رأيت طريق المتكلمين أولى [من طريقة أبي بكر وعمر]،

(1) يتوهم بعضهم أنه حديث، وليس له أصل بهذا اللفظ، كما قال غير واحد من الحفاظ، وللديلمي من طريق محمد بن عبد الرحمن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر رفعه:" إذا كان آخر الزمان واختلفت الأهواء، فعليكم بدين أهل البادية والنساء ". ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني: قال ابن حبان في " المجروحين " 2/ 264: حدَّث عن أبيه بنسخة شبيهاً بمئتي حديث، كلها موضوعة، لا يجوز الاحتجاج به، ولا ذكره في الكتب إلَاّ على جهة التعجب.

وفي " جامع الأصول " برقم (82) عن عمر بن عبد العزيز ينميه إلى عمر بن الخطاب أنه قال: " تُركتم على الواضحة، ليلها كنهارها، وكونوا على دين الأعراب وغلمان الكُتَّاب ".

قال ابن الأثير: أراد بقوله: " دين الأعراب والغلمان والصبيان " الوقوف عند قبول ظاهر الشريعة، واتباعها من غير تفتيش عن الشبه، وتنقير عن أقوال أهل الزيغ والأهواء. ومثله:" عليكم بدين العجائز ".

(2)

" فلو عرفتُ أن الكلام " ساقط من (ب).

(3)

" بي " ساقطة من (أ).

(4)

تحرفت في (ب) إلى: " ابن ".

(5)

هو العالم العلامة شيخ الحنابلة أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري المتوفى سنة 513 هـ. مترجم في " السير " 19/ 443 - 451.

(6)

في (أ): " فإني "، وهو خطأ.

(7)

في (أ): " وإني " وهو خطأ أيضاً.

ص: 63

فبئس ما رأيت، وقد أفضى الكلام ببعض أهله (1) إلى الشكوك، وببعضهم إلى الإلحاد تُشمُّ روائحه من فلتات (2) كلامهم، و (3)[أصل] ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع، وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقول إدراك ما عند الله من الحكم التي (4) انفرد بها، ولا أخرج الباري (5) لخلقه جميع ما علمه من حقائق الأمور.

قال: ولقد بالغتُ في الأصول عمري، ثم رجعت القهقرى إلى مذهب المكتب إلى آخر كلام ابن الجوزي في ذلك.

وكان ابن عقيل من أذكياء العالم، وكبار علماء المعقول والمنقول، جمع بين الإمامة في مذهب الحنابلة والمعتزلة (6)، وله كتاب " الفنون "(7) ثلاث مئة مجلد (8) وغير ذلك.

(1) ساقطة من (ش).

(2)

" فلتات " ساقطة من (أ).

(3)

في (ب): وإن.

(4)

في (ش): " الذي "، وهو خطأ.

(5)

في (ب): سبحانه من علمه.

(6)

قال الذهبي في " الميزان " 3/ 146: هو أحد الأعلام، وفرد زمانه علماً ونقلاً وذكاء وتفنناً .. إلَاّ أنه خالف السلف، ووافق المعتزلة في عدة بدع، نسأل الله السلامة، فإن كثرة التبحّر في علم الكلام ربما أضرَّ بصاحبه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

وقال الحافظ في " اللسان " 4/ 243: وهذا الرجل من كبار الأئمة، نعم كان معتزلياً، ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك، وصحت توبته، ثم صنّف في الرد عليهم، وقد أثنى عليه أهل عصره، ومن بعدهم، وأطراه ابن الجوزي، وعوَّل على كلامه في أكثر تصانيفه.

قلت: وقد أورد ابن رجب في " ذيل الطبقات " 1/ 144 نصَّ براءته من الاعتزال الذي كتبه بخطه سنة 465 بحضور جماعة كثيرة من الشهود والعلماء، يقول فيه: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحّم على أسلافهم، والتكثّر بأخلاقهم، وما كنت علقته، ووُجِدَ بخطي من مذاهبهم وضلالاتهم، فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته، ولا تحلَّ كتابتُه، ولا قراءتُه، ولا اعتقادُه.

(7)

تحرف في (أ) إلى " العيون ".

(8)

قال الحافظ ابن رجب في " ذيل الطبقات " 1/ 155: وأكبر تصانيفه كتاب =

ص: 64

وأشار إلى ذلك الغزالي حيث قال في " التهافت "(1) أو في " المنقذ مِن الضلال " ما معناه: إنَّ مَنْ وقف على كلام الفلاسفة في علم المنطق، وشرائط إنتاج المقدِّمات، والانتهاء إلى الضرورة فيها، اغترَّ بهم، وظنَّ أن أدلتهم في الإلهيات ونحوها مبنيةٌ على مثل ذلك التحقيق، وليس كذلك. وهذا (2) عندي من أنفس الكلام لمن كان من العارفين قد غلط في ظن تحقيقهم، فتأمله.

وبالغ الغزالي في كتبه في أن الطريق إلى اليقين من كتب الكلام مُسدَّد (3)، وأشار إلى أنه حصل له اليقين بعد طلبه من الله تعالى بطريق الموهبة بعد الخلوة والتخلي من الدنيا وشواغلها، والإقبال بالكلية على الله تعالى (4) وإنما قل (5) ذكر مثل ذلك في كلام المعتزلة لقنوعهم بالاستدلال الذي يصحبه تجويز ورود الشكِّ والشبهة، واعتقادهم أنه

= " الفنون " وهو كتاب كبير جداً، فيه فوائد كثيرة جليلة في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات، وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قيدها فيه.

وقال ابن الجوزي: وهذا الكتاب مئتا مجلد، وقع لي منه نحو من مئة وخمسين مجلدة.

وقال عبد الرزاق الرسعني في " تفسيره ": قال لي أبو البقاء اللغوي سمعت الشيخ أبا حكيم النهرواني يقول: وقفت على السفر الرابع بعد الثلاث مئة من كتاب " الفنون ".

وقال الحافظ الذهبي في " تاريخه ": لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب، حدثني من رأي منه المجلد الفلاني بعد الأربع مئة.

قلت: وقد طبع منه جزء في دار المشرق بلبنان سنة 1969، وهي طبعة رديئة يفشو فيها التصحيف والتحريف.

(1)

انظر ص 2 - 6، وانظر " المنقذ من الضلال " ص 106.

(2)

في (ش): وهو.

(3)

في (ب): سدد.

(4)

انظر " المنقذ من الضلال " ص 138 - 143.

(5)

في (ش): قل من.

ص: 65

علم، وذلك مردودٌ عليهم كما مرَّ تقريره، فكأنهم في الحقيقة قَنِعُوا بالظن، وحسبوه علماً، وقطعُوا باستحالة حصول أكثر منه بخلاف من طلب العلم المستند إلى المقدمات الضرورية، فإنه يحسنُ تفقدُ مطلوبه عند الوسوسة.

وقد تقدَّم قول شيخ الاعتزال أبي القاسم البلخي في العامة: هنيئاً لهم السلامة، وهو من هذا القبيل، بل فيه إشارة إلى وصف أهل النظر بالخطر، وهو كقولهم: إن طريقة (1) السلف أسلم وطريقة (2) الخلف أعلم، ولا يعدِلُ السلامة شيء، نسأل الله السلامة.

وقال إمام المعقول والمنقول عز الدين عبد العزيز (3) بن (4) عبد السلام في أوائل " قواعده "(5) ما لفظُهُ: وما أشدَّ طمع الناس في معرفة ما لم يضع الله على معرفته سبيلاً كلما (6) نظروا فيه، وحرصوا عليه، ازدادوا حيرةً وغفلةً، فالحزم (7) الإضراب عنه، كما فعل السلف الصالح، والبصائر كالأبصار، فمن حرصَ أن يرى ببصره ما وارته (8) الجبال، لم ينفعه إطالة تحديقه إلى ذلك مع قيام الساتر (9)، فكذلك تحديق البصائر إلى ما غيَّبه الله تعالى عنها، وستره بالأوهام، والظنون، والاعتقادات

(1) في (ش): طائفة.

(2)

في (ش): وطائفة.

(3)

" عبد العزيز " ساقطة من (ش).

(4)

ساقطة من (ب).

(5)

ص 16.

(6)

ساقطة من (ش).

(7)

في (ش): والحزم.

(8)

تحرفت في (ب): وراته.

(9)

في (ش): " السائر "، وهو تصحيف.

ص: 66

الفاسدة، وكم من (1) اعتقادٍ جزم المرء به، بالغ في الإنكار على مُخالفه، ثم تبين له خطؤه وقبحه بعد الجزم بصوابه وحسنه. انتهى بحروفه.

وفيه بيانُ العلة في ترك السلف، ومن اقتدى بهم من الخلف لعلم الكلام، وأنها قلة جدواه، لا قصور أفهامهم عن أفهام أهل البدع والغُلاة.

وقد أشار علي عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام إلى طلب ذلك من الله تعالى بالدعاء والخضوع، وقد مرَّ طرفٌ منها.

ومنها (2) قوله: واعلم يا بني أن أحبَّ ما أنت آخذ به (3) من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك (4) والصَّالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدَّعوا أنهم نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكَّروا كما أنت مفكِّر، ثم ردَّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عمَّا لم يكلَّفُوا، وإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبُك ذلك بتفهُّم وتعلُّم، لا بتوسُّط الشبهات وعُلوِّ الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبةٍ أولجتك في شبهة أو (5) أسلمتك إلى ضلالةٍ (6).

فإذا كان هذا المنقول عن أمير المؤمنين الذي أسند (7) إليه جماعة

(1) غير موجودة في (ب).

(2)

" ومنها " ساقطة من (ش).

(3)

في (ش): أخذته.

(4)

الواو ساقطة من (ب).

(5)

"أو" سقطت من (ب).

(6)

انظر " شرح نهج البلاغة " 16/ 70.

(7)

في (ش): استند.

ص: 67