المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه الثاني: أن اللطف المقرب مجرد دعوى - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٤

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الثالث عشر: أنَّ جميع أئمة الفنون المُبرِّزين فيها قد شاركوا المحدثين في عدم ممارسة علم الكلام

- ‌الطائفة الأولى: من قال بأن المعارف ضرورية

- ‌الطائفة الثانية: من يقول: إنَّ المعارف ضروريةٌ مطلقاً

- ‌الوجه الثاني: أن اللطف المقرب مجرد دعوى

- ‌الوجه الثاني: من الأصل أن الآية في الظن المعارض للعلم

- ‌قلت: كلَاّ، فإنَّ الله تعالى قد سمَّى الظن علماً

- ‌الوجه الرابع: من الجواب وهو التحقيق

- ‌الجواب من وجوه

- ‌الوجه الثالث: إنا نعلمه ما نعرِفُه بِفِطَرِ العقول

- ‌الجواب الرابع: أن نقول: النظر في ذلك واجبٌ كالصلاة

- ‌فإن قيل: قد وَرَدَ في السمع وجوبُ البيان على العلماء

- ‌الجواب من وجوه:

- ‌الوجه الثاني: أنا نخصُّ هذا العام بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الجواب الخامس: أنها وردت نصوصٌ تقتضي العلم أو الظن

- ‌فإن قالوا: وفي ترك علم الكلام مضرة أيضاً

- ‌الجواب: أنَّ تسمية تجويز المضرة المرجوح خوفاً غيرُ مسلم

- ‌قلتُ: هي أمران:

- ‌الجواب من وجهين

- ‌الوجه الأول: معارضة

- ‌الوجه الأول: أن السائل جهل المقصود بالنبوة

- ‌قلنا: معاذ الله

- ‌الطائفة الثانية: أهل النظر في علم الكلام

- ‌القاعدة الأولى: إن الله سبحانه موصوفٌ بالإثبات والنفي

- ‌القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربِّه فإنَّه يجب الإيمان به

- ‌القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مرادٌ أو ليس بمراد

- ‌إن هذه الطريق لا يحصل بها المقصود لوجوهٍ:

- ‌الوجه الثاني: أن هؤلاء ينفُون صفات الكمال بمثل هذه الطريق

- ‌الوجه الثالث: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون

- ‌الفصل الثالث: في الإشارة إلى حُجة من كفَّر هؤلاء

- ‌ التنبيه على معرفتين:

- ‌المعرفة الأولى: أن شرط التكفير بمخالفة السمع أن يكون ذلك السمعُ المخالفُ معلوماً علماً ضرورياً من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى

- ‌أحدهما: ما عَلِمَهُ العامة مع الخاصة

- ‌ثانيهما: ما لا يعرف تواتره إلَاّ الخاصة

- ‌الشرط الثاني: أن يكون معنى المتواتر معلوماً بالضرورة

- ‌المعرفة الثانية: أن التكفير سمعي محضٌ لا مدخل للعقل فيه، وذلك من وجهين:

- ‌الوجه الأول: أنه لا يكفر بمخالفة الأدلة العقلية وإن كانت ضروريةٌ

- ‌الوجه الثاني: أنَّ الدليل على الكفر والفِسْقِ لا يكون إلَاّ سمعياً قطعياً

- ‌فصلٌ في شيوخه:

- ‌رحلته وحفظه:

- ‌حكاية موضوعة:

- ‌وصيتُه:

- ‌مرضه:

- ‌المنامات:

- ‌ فضلِهِ وتألُّهِهِ وشمائله:

- ‌ومن آدابه:

- ‌ومن كرمه:

- ‌تركه للجهات جُملةَ:

- ‌أيُّ فرقٍ بين الخلقِ والحدوث حتى يكفر القائل بأحدِهما دون الآخر

- ‌الجواب: من وجهينِ

- ‌ الوجه الثالث: وهو التكفير بمآل المذهب

- ‌الوجه الثاني: لو سلَّمنا أنه دلَّ على ذلك دليلٌ سمعي خَفِي لكان معارضاً بما هو أوضح منه

- ‌الوجه الثالث: إنا نعلم بالضرورة منهم ضِدَّ ما ألزموهم

- ‌الوجه الرابع: أنا لو كفرنا بذلك لأمكن المعتزلة، والشيعة، والظاهرية تكفير من لم يقُل بحدوث القرآن

- ‌الوجه الخامس: أن النصوص قد تواترت بمروق الخوارج

- ‌الوجه السابع: أنه قد ورد من الأدلة السمعية ما يُعارضُ ذلك الظن

- ‌وأما قول من يقولُ: ما الفرق بين الخلق، والجعل، والحُدُوث

- ‌قلت: الذي فهمته مِنْ تكرارِ النظر في عباراتهم ومقاصدهم أحد وجهين، أو كلاهما:

- ‌الوجه الأول: أنهم رأوا للحدوث معنيين: حدوثاً نسبيّاً، وحدوثاً مُطلقاً

- ‌الوجه الثاني: أنهم لما رأوا القول بخلقه شعار المعتزلة المنكرين لصحة الكلام من الله تعالى، رأوا لفظ الحدوث يقارب لفظ الخلق ويُوهِمُه

- ‌قلنا: يقولون: إن عمومها مخصوصٌ بإجماع الفريقين

- ‌أمَّا المعتزلة

الفصل: ‌الوجه الثاني: أن اللطف المقرب مجرد دعوى

ضروريتين أو منتهيتين إلى ضروريتين، فلم يبق إلَاّ أنه مجرد دعوى أو ظن، فإن كان مجرد دعوى لم تُسمع، وإن كان ظناً، لم يكن مانعاً من ظنٍّ آخر هو أرجح منه بالنسبة إلى من لم يُسلم رجحانه، وكثيرٌ من أدلة الكلام ودعاوي أهله تنهار إذا اعتبرتها بهذا الاعتبار، وإنما هي (1) أقيسةٌ مبنية على اعتقاد صحة الحصر والسَّبْرِ (2) والتلازم في الثبوت، والانتفاء، لا على القسمة الدائرة بين النفي والإثبات، وأمثالِها من الضروريات بل قد يعللُ بعضُ المعتزلة بمجرد إمكان التعليل، ويقولون: ما أمكن تعليله بأمرٍ، وجب، وهذا في غاية السقوط.

وقد ذكر الإمام (3) المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام هذه الأشياء أو أكثرها وزَيفَها، وأوضح بطلانها في مقدمة كتابه " التمهيد "(4)، وهي مردودة عند جميع المنطقيين وأهل التحقيق.

وقد تعرَّض الفقيه يحيى بن حسن القرشي لتصحيحها في أول مصنفه في الكلام، فما أنصف، وهذا عارضٌ، ومن أحبَّ التحقيق فيه، نظر كلام الفريقين في كتبهم الحافلة.

‌الوجه الثاني: أن اللطف المقرب مجرد دعوى

، فلا يخلو إما أن يكون الملطوفُ فيه واقعاً عنده قطعاً (5) كالداعي الرَّاجح على معارِضِه أو لا.

(1)" هي " ساقطة من (ش).

(2)

تصحف في (ش) إلى: السير.

(3)

" الإمام " ساقطة من (ش).

(4)

ذكره الشوكاني في " البدر الطالع " 2/ 331 في مؤلفاته، وسماه " التمهيد لعلوم العدل والتوحيد " وقال: هو في مجلدين.

(5)

في (ش): واقعاً قطعياً.

ص: 41

الأول: مسلَّم وجوب تحصيله متى كان مقدوراً، ولكنَّ العلم بالله تعالى ليس كذلك إجماعاً وضرورة، لأنَّ كثيراً ممَّن يعرِفُ الله تعالى يعصيه.

والثاني: ممنوعٌ وجوبه، لأنه غيرُ مؤثِّر في وجود الفعل كالقدرة ولا شرط في تأثيرها، والفعل يقع مع حصوله تارةً، ولا يقع مع حصوله أخرى، وهو حين وَقَعَ الفعلُ غير مؤثِّر فيه، وحين لم يقع غيرُ مانع منه، فوجودُه وعدمُه على سواءٍ بالنسبة إلى وجود الفعل وعدمه، ولا فائدة بعد تحقق (1) ذلك، لاعتقادنا أنَّ المكلَّف معه أقربُ، فإنَّ مجرد القرب وصفٌ مُلغى مطَّرح ولا فرق (2) بين وجوده وعدمه مهما لم ينته إلى الرُّجحان المستمر وقوع الفعل عنده.

فإن قلت: يجب تحصيله، لأنه يجوز أن ينضمَّ إليه غيره، فيكون الفعل مع المجموع راجحاً واقعاً مستمراً.

قلتُ: التجويز لا ينتهضُ (3) دليلاً على الوجوب.

فإن قلت: يجب، لأنه يُلازمُ الطاعة غالباً، أو في الأكثر، وعدمه يُلازِمُ الجُرأة كذلك، والظن يتبع الغالب، والأكثر في جلب (4) المصالح ودفع المضار، ولا يلتفت العقلاء إلى النادر، وإنكار نفع العلم في الغالب، والأكثر خلاف المعلوم عقلاً وسمعاً.

قلت: هذا صحيح، ولكن فيه مباحث، منها ما (5) يأتي قريباً في

(1) في (ش): تحقيق.

(2)

في (ش): مطروح لا فرق.

(3)

في (ش): ينهض.

(4)

في (ش): طلب.

(5)

ساقطة من (ش).

ص: 42

مسألة المشيئة في كلام الرازي من عدم ظنِّ القُدرة عليه والتحصيل له.

ومنها أن نظائره لا تجب إجماعاً من ملازمة الزهد، والخلوة، وقوانين علم الرياضة التي عُلِمَ بالتجربة الضرورية أن المكلف معها أقرب إلى الخير غالباً، وأن نظره معها (1) في العلوم أكثر صواباً.

ومنها ما يأتي الآن في الوجه الثالث من قيام الظن مقامه في العمل لا سيَّما الظنُّ المقارب للعلم المُسمَّى علماً في اللغة.

الوجه الثالث: سلَّمنا كون المقرب واجباً، لكنَّ مثل هذا اللطف يمكن حصوله بالظن، فيقوم مقام العلم، فإنا نعلم بالضرورة أن المكلف مع الظن لثبوت الرَّبِّ (2) سبحانه وثوابه وعقابه أقرب إلى الطاعة، ولا يجبُ العلم، لكونه معه أشدَّ قرباً، كما لا يجبُ العلم بالأدلة الكثيرة، لأنه معها أشدُّ قرباً من العالم بدليلٍ واحدٍ ونحو ذلك.

وقد ذكر المؤيد بالله عليه السلام هذا المعنى في " الزيادات " وذهب إليه، وقد ذكر الفقيه قاسمٌ في تعليق شرح الأصول إشكالاً غيره، وهو: أنه يَلزَمُ أن لا تَجِبَ المعرفةُ في حق من علم الله تعالى أنه لا يعصيه، وإن لم يعرفها بالدليل، وفيه مباحث أكثر من هذا، وقد نبهتُك على أصولها، وإذا كان هذا هو أساسَ علم الكلام، وأصل وجوب الخوض فيه، فما ظنُّك بفروعه!!

وأما قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وسائر الأدلة السمعية فلا يصحُّ عند (3) المعتزلة الاستدلالُ بها قبل إثبات

(1) ساقطة من (ش).

(2)

كتب فوقها في (أ): الله.

(3)

من قوله: " ظنك " إلى هنا سقط من (ب).

ص: 43

الصانع وعلمه وحكمته.

والجواب على من استدل بهذه الآية من وجوه:

الأول: أن كون الأمر يُفيدُ الوجوب ظنِّيُّ.

الثاني: أن الظن يُسمى علماً، وإن مَنَعَ من ذلك مانعٌ (1) فهو ظنّي.

الثالث: أنّ نفي الثاني ممَّا يَصِحُّ الاستدلالُ عليه بالسمع عند المعتزلة، والأشعرية، فيجوز أن يكون العلم المأمور به فيه مستنداً في الدلالة إلى هذا (2) السمع المنصوص فيه التوحيد كما لو أمره بالعِلم (3)، بشيءٍ من السَّمعياتِ المحضةِ التي لا تُدركُ بالعقل كعددِ الركعات، حُمِلَ على ذلك.

فإنُ قيل: الآيةُ تدلُّ على أنه لا يحصُلُ العلم بالاحتجاج بالسمع حتى يكون السمع معلوماً.

قلنا: إن أردتُم دلالة المطابقة، فممنوعٌ قطعاً، إذ لم يقُل: اعلم عقلاً، وإن أردتُم دلالة الالتزام، فممنوعٌ احتمالاً، إذ هو مَحَلُّ النزاع، إذ لا مانع من كون الشيء معلوماً ضرورةً من الدين عند العامي مع كون أصل الدين مظنوناً معه، ولا شكَّ أنَّ العلم في موضعٍ مع الظن في غيره، أو في أصله خيرٌ من الظنِّ فيهما معاً.

الرابع: أن الخطاب خاصٌّ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتعديه إلى غيره بطريق ظني، فأمَّا قولُه تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه

(1) في (ش): مانع من ذلك.

(2)

في (أ): التي هي.

(3)

ساقطة من (ش).

ص: 44

مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14]، فإنها في معنى التأكيد للخبر بكون عجزهم عن المعارضة دليلاً مُفيداً للعلم بأن القرآن أُنزل بعلم الله، وبصحة ما فيه من توحيد الله، ونفي كل آلهةٍ سواه، وقرينة ذلك وقفه للأمر بالعلم على شرط أن لا يستجيبوا، وذلك كقولك لمن يُناظرك: ائت بمثل كلام الله، فإن عجزت، فاعلم أنَّه حقٌّ، وإن لم تقطع بهذا المعنى يكون محتملاً، وبيان ذلك أن العجز عن المعارضة للقرآن دليلُ إعجازه، فمتى حَصَلَ العجز بعد التحدي، وتحقَّق، حصل العلم، فيكون الأمر حينئذ بتحصيل العلم مجازاً، لأنه لا يصح الأمر (1) بتحصيل الحاصل، وهذا على المختار أن حصول العلم بعد النظر في الدليل على الوجه الصحيح ضروري غير اختياري، ونظير ذلك قوله تعالى:{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 49 - 50]، والله سبحانه أعلم.

الخامس: أنه معارض بأدلة المخالفين المتقدمة (2) فكيف يُستنتج العلم مما ترتَّب على هذه الظُّنون، وحَصَلَت فيه مع ذلك المعارضة؟ وكفي في معارضته بقوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [الحجرات: 14]،

فقد وعدهم بقبول أعمالهم في الإسلام مع عدم الإيمان الصادق الذي

(1) من قوله: " حينئذٍ " إلى هنا ساقط من (ش).

(2)

في (ش): المقدمة.

ص: 45

يُنافي الشكَّ، وإن لم يكن عن أدلة تفصيلية كإيمان كثير من الصالحين والعامة، فكيف مع حصوله من غير خوضٍ في الكلام؟ وهذا إذا لم يُضمِرُوا (1) نقيض الإيمان، فإنَّ ذلك هو النفاق الذي هو شرُّ من الشرك. نعوذ بالله منه.

وإمَّا قولُه في آخر الآيات: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، فإنه لم يُطلق ذلك، بل شرطه (2) بقوله:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الحجرات: 17]، وهذا الشرط لم نعلم نحن حصوله، بل أول الآية نص على عدمه، فكأنه لما نفى ما ادَّعوا من الإيمان: قال وعلى تقدير صدقكم في دعواكم، فالمنَّة لله تعالى في ذلك، فيكون في المعنى كقوله تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [البقرة: 93]، فلم يلزم أن لهم إيماناً مع قوله:{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} (3)، كذلك لا يلزم أن لأولئك الأعراب إيماناً مع قوله:{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} .

وعلى تسليم أنه إيمانٌ، فيحتمل أن يكون في غيرهم، وأن يكون فيهم، والمنفيُّ عنهم الإيمان الكامل، والمثبت لهم القليل منه، فقد صح اختلافه، وتقدير أقلِّه بمثقال حبةٍ من خردل من إيمان، يوضحه أن القليل منه لو انتفى، لكانوا في حكم المنافقين، وهو أحد القولين، والأول قول الجمهور ذكره ابن تيمية، ويوضِّحه قوله تعالى بعد ذكرهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا -إلى قوله- أُولَئِكَ هُمُ

(1) تحرف في (ب) إلى: لم يضموا.

(2)

في (ب): شرط.

(3)

من قوله: " فلم يلزم " إلى هنا ساقط من (ب).

ص: 46

الصَّادِقُون} [الحجرات: 15]، فدلَّ على أن هذا الإيمان الصادق هو (1) المنفي عن أولئك لا أقل ما يُسمى إيماناً مما ورد في أحاديث الشفاعة الصحاح أنَّ أهله يخرجون من النار بعد دخولها (2) والله سبحانه أعلم.

وقد ورد في كتاب الله تعالى ما يدلُّ على زيادة الإيمان ونقصانِه كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، وكذلك الإسلام يزيد وينقص، وبذلك جمع العلماء بين الآيات المختلفة والأحاديث المتعارضة في تفسير الإيمان والإسلام.

وأما ذمُّ اتباع الظن، فسيأتي الجواب عنه، ويدخُلُ في ضمنه الدليل على أن التمسك بالظن الراجح تقليداً أو (3) استدلالاً، ليس يُسمى في اللغة جاهلاً بالله كما لا يُسمى الفقهاء المجتهدون جهالاً بالأحكام الظنية، ولعلَّ المخالفين (4) أسعد بدعوى إجماع الصحابة والسلف على عدم وجوب الخوض في علوم النظر، ولعلَّ هذا يتكرَّر، وقد مرَّ منه شيء أو سيأتي.

فإن قيل: هذا حسنٌ ولكنه يؤدي إلى حُسن تقليد الكفار لأسلافهم متى ظنوا صحة ما هم عليه، فسيأتي الجواب عن هذا في آخر هذا

(1) في (ش): وهو.

(2)

ورد ذلك في حديث أنس، وقد تقدم تخريجه 1/ 211.

(3)

في (ش): و.

(4)

في (ش): المخالف.

ص: 47

الكلام (1)، ونكتَتُه على سبيل الإجمال: أن الله يمنعُ الظن الراجح بذلك في ابتداء التكليف، بما نَصَبَ من القرائن القاضية بنقيضه، وبما بعث من الرُّسل، وأظهر عليهم من المعجزات، بل أوجبت المعتزلة الخاطر الداعي على (2) الله تعالى، فمتى عاندوا، ورجَّحُوا (3) المرجوح في الابتداء، جاز أن يُعاقبهم الله تعالى كما لم يُؤمنوا به أوَّل مرة، وهو سبحانه عدلٌ حكيم، وبعباده خبيرٌ بصير، قال تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109 - 110]، فيخلي سبحانه بينهم وبين الشياطين تؤُزُّهُم أزّاً، كما قال الله تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وقد أشار سبحانه إلى ذلك في قوله تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، ونبَّه على ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال:" كل مولودٍ يولد علن الفطرة وإنَّما أبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه "(4) وفي هذا أحاديث كثيرة، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات} [فاطر: 8]، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون} [الأنفال: 23]، وقد مضى في آخر الوظائف تحقيق الكلام في هذا مبسوطاً، فخُذهُ من هنالك.

(1) في (ش): المقام.

(2)

في (ش): " إلى "، وهو خطأ،

(3)

في (ش): وأرجحوا.

(4)

تقدم تخريجه في 3/ 261.

ص: 48

وممَّا يُحتج به لأهل هذا القول ما أجمع عليه المسلمون من جواز وقوع الوسوسة في أمر العقائد الدينية، وورد (1) القرآن بذلك في قوله تعالى لخليله عليه السلام:{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقال علماء الاعتزال: إن العلم الاستدلالي لا يرفع الوسوسة.

وقال إمام العلوم العقلية والسمعية الشيخ تقي الدين في " شرح العمدة "(2): وفي الفرق بين ما يقع من ذلك (3)، وما لا يقع إشكالٌ. انتهى.

وقيل في جواب ذلك: إنَّ الوسوسة إن كانت في أركان الدليل، كانت شكّاً يُزيلُ العلم، ووجب تجديد النظر، وهو قول أبي هاشم وأصحابه الذين لا يوجبون الانتهاء في النظر إلى المقدمات الضرورية بل يُجيزون (4) الاقتصار عند سكون النفس بأركان الدليل، ولا يُبالون بالوسوسة إلَاّ فيها. وهذا إن صح عندهم (5) نازلٌ جداً، فإنه يستحيل أن تكون أركانٌ الدليل التي هي عبارة عن المقدمات يقينية معلومة لا شكَّ

(1) في (ش): " وورود "، وفي (ب):" ورد ".

(2)

ذكر ذلك في نهاية شرح حديث صفية بنت حيي رضي الله عنها 2/ 261، ونص كلامه: وفي الحديث دليل على هجوم خواطر الشيطان على النفس، وما كان من ذلك غير مقدور على دفعه لا يؤاخذ به لقوله تعالى:{لا يكلِّف الله نفساً إلَاّ وسعها} ، ولقوله عليه السلام في الوسوسة التي يتعاظم الإنسان أن يتكلم بها " ذلك محض الإيمان "، وقد فسّروه بأن التعاظم لذلك محض الإيمان، لا الوسوسة، فكيفما كان ففيه دليل على أن تلك الوسوسة لا يؤاخذ بها، نعم في الفرق بين الوسوسة التي لا يؤاخذ بها وبين ما يقع شكّاً إشكال، والله أعلم.

(3)

في (ج): " ذلك شكّ "، وفي (ش): ذلك شكّاً.

(4)

في (ش): يجوزون.

(5)

سقطت من (ب)، وفي (ش): عنهم.

ص: 49

فيها، ثم يعرِضُ الشكُّ في النتيجة.

وقد أجمع أهلُ التحقيق من المتكلمين والمنطقيين على بطلان هذا، يوضحه أن البهاشمة (1) يفرقون بين الضروري والاستدلالي بتجوبز ورود الشك والشبهة (2) على الاستدلالي، وهذا التجويز لا يصحبُ العلم البتة، فإنَّ التجويز في هذا الوقت على المعلوم استدلالاً فيه أنه ينكشِفُ بطلانُه فيما بعد (3)، شكٌّ تأخَّر في هذا الوقت، وكونُه شكاً ضروري، فكيف خَفِيَ مثل هذا على أئمة علم الكلام من البهاشمة (4) وجلة المعتزلة؟! وقد زدتُ هذا البحث وضوحاً في " ترجيح أساليب القرآن "(5).

وإذا كان هذا ميزان معارف (6) جِلَّة المتكلمين، فما ظنُّك بالموزون به؟ فلو نظرت بعين الإنصاف والوَرَع في كثير من دعاويهم، لانكشف لك العجبُ، ولكنَّك حسنُ الظنِّ بالقوم، ومتى (7) قطع بصحة أمر لم ينظر فيه، وهذا عارض، فإذا تقرَّر إجماع المسلمين على أنه لا يكفر من عرضت له الوسوسة مع بذله لجهده في النظر، دلَّ على أن الوصول إلى اليقين الموجب لسكون النفس بالأدلَّة القاطعة (8) ليس بمفروضٍ، أو ليس بمقدورٍ لتخلفه كثيراً مع توفّر الدواعي إليه، وإنَّما المقدور النظر، والمتولَّد عنه مختلِفٌ.

(1) في (ش): البهاشمية.

(2)

في (ش): والشبه.

(3)

في (ش): بعده.

(4)

في (ش): البهاشمية.

(5)

ص 84 - 87.

(6)

سقطت من (ب).

(7)

في (ش) و (ب): ومن.

(8)

في (ش): القطعية.

ص: 50

وأمَّا وقوع النظر على الوجه الصحيح دون غيره، ففي كونه مقدوراً مطلقاً نظرٌ، وإنَّما يقطعُ بذلك حيث يقطع بوجوب معرفة الصواب، واستحقاق المتأوّل للعقوبة قطعاً.

والصحيح أن ذلك لا يقطع به إلَاّ في مخالفة الضروريات من الدين لاسيما العامة، والبُلَدَاء على جميع قواعد أهل النظر المقدمة، وإنَّما العلم من الفضائل والمراتب الرفيعة يؤيِّدُهُ أن العلم من الأعراض التي تزُولُ بالنوم والسهو، ولا يجب تحديدُ النظر في الأدلة عقيب كُلِّ غَفوَةٍ، وكُلِّ غفلة، ومن ادَّعى ذلك، فقد خالف الضرورة الدينية، ويؤيد ذلك ما عُلِمَ بالضرورة من تقرير الأنبياء عليهم السلام لطَغَامِّ العوام والعبيد والنسوان والجُفاة والبُلداء على قبول الإسلام من غير بحث عن الاستدلال والاختبار لهم ولا بيِّنة.

فإن قيل: هلَاّ جوزتُم في العامة أنهم يعرفون الأدلّة الجُملية وأنَّ الأنبياء علموا ذلك منهم، أو حملوهم عليه، فقرروهم على العلم، لا على الظن، ولا على الجهل؟

فالجواب: أن هذا (1) لا يصحُّ إلَاّ عند من يقولُ: إن المعارف ضرورية أو ظنية.

وأما من يقول: إنها نظرية قطعية، فالجواب عليه ما ذكره الرازي في " المحصول " من أن الدليل إذا تركب من عشر مُقدِّماتٍ استحال من العالم الزيادة فيها، ولم يحصل للجاهل العلم متى قلد في واحدة منها، وهذا ضروري، فدلَّ

(1) في (ش): ذلك.

ص: 51

على أن العلم الاستدلالي لا يتبغَّضُ وينقسم وكذلك سائر العلوم، بل سائر المعاني البسيطة، وهي التي لا تركيب فيها، وإنَّما الممكن أن يَهَبَ الله تعالى لهم علماً ضرورياً ابتداءً أو عقيب النظر، أو ظناً قوياً لا يكاد يتميَّزُ من العلم إلَاّ للخاصة، يحصُلُ لهم معه من الطمأنينعة ما لا يحصُلُ للمتكلم بالاستدلال الذي يجوز معه ورودُ الشكِّ والشبهة، بل العاميُّ والمُحدِّث وأمثالهم من أهل الطمأنينة أسعدُ حالاً من المتكلم، لسلامتهم من تكفيرِ عامَّة المسلمين ومِن التكبّر على عموم المؤمنين، وممَّا يلحقُهُ من العار في وقوعه في الوسوسة مع دعواه لأرفع مراتب المعرفة، وفي عَدَمِ تمييزه بين الظُّنُون الغالبة حتى حَسِبَها علوماً، وبين العلوم اليقينية المنتهية إلى المقدمات الضرورية حتى رفع إلى مرتبتها الظُّنون الغالبة (1)، والتخيلات الكاذبة، ودليل صحة ذلك أنهم من أشدِّ الناس وسوسةً، بل ما عُلِمَ (2) أنه ارتدَّ عن الإسلام أحدٌ من أئمَّة القرآن والحديث، وقد ارتدَّ من أئمة الكلام غيرُ واحد.

وممَّا يُقوي هذا المذهب ظواهِرُ السمع، كقوله صلى الله عليه وسلم في غير حديث:(من كان في قلبه مثقالُ حبةٍ من خردل من إيمان)(3)، وقوله تعالى في وصف المؤمنين:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون} [البقرة: 46]، ونحو ذلك.

وأمَّا حملُ العامة على أنهم يَعرِفُونَ الأدلة المَعْرِفَة (4) التفصيلية فلا

(1) ساقطة من (ش).

(2)

في (ش): أعلم.

(3)

" خردل من " سقطت من (أ) و (ب). وقد تقدَّم تخريج هذا الحديث في 1/ 211.

(4)

في (ب): " المعروفة "، وهو خطأ.

ص: 52

يصحُّ، لأنه عنادٌ لما يعلم عادةً من امتناع ذلك من غير تعلُّم، كما يُعلم امتناعُ معرفة سائر الصناعات الدقيقة، وإتقانُها من غير تعلُّمٍ (1)، بل يُعلمُ امتناعُ معرفة أسهل من ذلك مثل صنعة الطعام المتقنة من غير تَعَلُّمٍ، مع أن الأنبياء عليهم السلام أنصح الخلق (2) لخلقه، فكما أنَّ العالم في الكلام المتدين الشفيق على ولده لا يُمكِّنُه على (3) غِرته وجهله، وهو يرى قرائن أحواله تدُلُّ على الغباوة حتى يمحَضَهُ النُّصح في ذلك، فالرسل عليهم السلام أولى وأحقُّ بذلك، وكذلك أصحابهم وتابعوهم، ولا يمكن أن تمضي الأعوام، وهم مضربون عن هذا المُهِم الأعظم لو كان مُهماً حقاً، وهذا يُفيد العلم الضروريَّ العادي (4) مع التأملِ والإنصاف، والله أعلم.

وأما قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. فالجواب (5) عند هؤلاء عن ذلك (6) من وجوه:

الأول: وهو المُعوَّلُ عليه أن اللغويين نقلوا أنَّ الظن في اللغة هو الشكُّ، فثبت (7) بذلك أنه لفظة مشتركة، فحيث يُذمُّ، يرادُ به الشكُّ المعلوم في فِطَرِ العقول ذمُّ التعويل عليه، وحيث يُمدَحُ يُراد به الراجح المعلوم في فِطَرِ العقول حُسنُ العمل به، وقد أوضح الله تعالى انقسامَهُ،

(1) من قوله: " كما يُعلم " إلى هنا ساقط من (ب).

(2)

في (ب) و (ش): خلق الله.

(3)

في (ش): لا يمكنه تركه على.

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

في (ش): فالجواب عنه.

(6)

" عن ذلك " ساقطة من (ش).

(7)

في (ش): فيثبت.

ص: 53

وعدم تعميم الحكم فيه بقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم} [الحجرات: 12]، والقرآن العظيم (1) يُفسِّرُ بعضه بعضاً، ويُردُّ متشابهه إلى مُحكمِه مع الإمكان، ويوضِّح أنه حيث يُذمُّ يراد به الشَّكُّ المساوي دون الغالب الراجح، قوله تعالى في ذم المشركين:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون} [الأنعام: 116]، وفي آية أخرى:{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} [الأنعام: 148 - 149].

ودلالتُها من وجوه:

أحدها: أن عبادة الحجارة ليست راجحةً في العقل، فتكون مظنونة.

وثانيها: أنه حَصَرَ اتِّباعهُم في الظن، فلو أراد الراجح، لكان فيه تنزيهُهُم من اتِّباع الشكِّ المساوي، وهم إليه أقربُ.

وثالثها: قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون} ، فإنه من صفات من يتجرأ على محض المباهتة دون من لا يعمل إلَاّ بالظن الراجح، فإنه من صفات أهل الحق لا سيما (2) وقد قصرهم عليه مبالغةً.

ورابعها: قوله في أول الآية: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، فإنَّ أكثر من في الأرض لا يعملون بالظن الراجح، بل الذي يعمل به من العلماء هم أهلُ الورع والتحرّي، ألا ترى أنَّ من (3) مذاهب العُلماء في مواضِعَ كثيرةٍ التمسك بالأصل، كالطهارة

(1) في (ش): الكريم.

(2)

في غير (ش): سيما.

(3)

" من " ساقطة من (ش).

ص: 54

وعدم العمل بظن النجاسة، وهم يستحبون (1) العمل هنا بالظن.

وخامسها: أن الله تعالى قد وصف الأكثرين بما يدُلُّ (2) على هذا، فقال:{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]، فكأنَّه عبَّر عن أهوائهم بالظن تارة، وعبر عن الظن بأهوائهم أخرى، وكذا وصفهم بالسَّفَه والافتراء في قوله:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 140].

وسادسُها: أن أفعالهم تدلُّ على ذلك، فإنهم لو توقَّفُوا على الظن الراجح لما قالوا أشياء لا يهتدي إليها العقلُ، ولا وَرَدَ بها شرعٌ، كقولهم: إنَّ الملائكة بنات الله، ومثل إفكِهِم في التحليل والتحريم على ما حكى الله في (3) البحيرة والسائبة والحام (4) فهذه الوجوه مع نقل اللغويين لذلك تُوجب ترجيح حمل الآيات على الظن المساوي والمرجوح دون الاصطلاحي الذي يختصُّ بالراجح القوي الذي ثبت (5) في الكتاب

(1) في (ش): يستحسنون.

(2)

في (ش): دل.

(3)

في (ش): حكاه في.

(4)

البحيرة: هي الناقة إذا نُتجت خمسة أبطن، والخامس ذكر، نحروه، فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى شقوا أذنها، وكانت حراماً على النساء لا ينتفعن بها، ولا يذقن من لبنها، ومنافعها للرجال خاصة، فإذا ماتت، اشترك فيها الرجال والنساء، قاله ابن عباس، واختار ابن قتيبة.

والسائبة: هي التي تُسيب من الأنعام للآلهة، لا يركبون لها ظهراً، ولا يحلبون لها لبناً، ولا يجزون منها وبراً، ولا يحملون عليها شيئاً.

والحامي: هو الفحل من النعم إذا نُتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهنَّ ذكر، حمي ظهره ولم يُركب، ولم يجزوه، ويُخلى في إبله يضربُ فيها لا ينتفع به بغير ذلك. انظر " زاد المسير " 2/ 436 - 440.

(5)

في (ش): يثبت.

ص: 55