الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (1)[النور: 16] وقوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13].
ويلحق بهذا (2) فائدةٌ تتعلق بيان مقاصدهم في القرآن، فإن المغرب عنها إذا وقف على ما ذكرنا عنهم، قال بلسان الحال، أو بلسان المقال (3): كيف يَصِحُّ إنكارُهم لخلق القرآن، وقِدَمِه؟ وكيف كَفَّرُوا من قال: بخلقه؟ ولم يُكَفِّرُوا مَنْ قال: بحدوثه!! وهل (4) هذا إلَاّ محض الجهل ونقصانُ العقل؟!
ومن بلغ به الجهل إلى هذا الحد لم يكن معدوداً من العلماء ولا مذكوراً في (5)" النبلاء "، وكيف يمكن سلبُ الخلق والقِدَم معاً وهو يستلزم سلب النفي والإثبات وارتفاعهما عن الشيء الواحد وذلك من المحالات الضرورية، و
أيُّ فرقٍ بين الخلقِ والحدوث حتى يكفر القائل بأحدِهما دون الآخر
.
و
الجواب: من وجهينِ
معارضةٌ وتحقيق:
أمَّا المعارضة، فللمعتزلة من المتكلمين مثل ذلك، فإن أبا (6) هاشم (7)، يقول: إن إرادة الله حادثةٌ غير مخلوقة، ولا قديمة، والبغدادية تقول مثل ذلك في جميع أفعال العباد، لأنَّ المخلوق عندهم ما فُعِلَ بغير
(1) كذا الأصول، والآية الي بعدها كان يجب أن تذكر قبل هذه.
(2)
من ص 213 إلى هنا ساقط من (ش).
(3)
في (ب): بلسان المقال أو بلسان الحال.
(4)
في (ش): فهل.
(5)
في (ش): من.
(6)
في (ش): أبو.
(7)
هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب. تقدمت ترجمته في 2/ 318.
آلة، وكذا أفعالُ الله عند أبي عبد الله، لأن الخلق عنده الفكر.
الوجه الثاني: أنهم ما جَهِلُوا هذه العلوم الضرورية، والمعارف الأولية، التي لا يخلو مُكلَّفٌ من معرفيها، وإن كانوا ما حفظوا (1) اصطلاح أهل العقول في مجرد أسمائها الاصطلاحية، ولو كانوا مِمَّن يجهل جليات العقليات، ما صحَّ منهم استنباطُ الخفيات في الفقهيات (2)، فإليهم (3) المنتهى في الذكاء، وصفاء الأذهان، ومعرفة البرهان، وحفظ السنة والقرآن، ولكن العبارات مختلفةٌ منها: لغوية، واصطلاحية، وفصيحة، وركيكةٌ، وبسيطة، ووجيزة، وحقيقةٌ، ومجاز، وعامة، وخاصة (4)، وعامة (5) يُرادُ بها الخصوص، وخاصةٌ يُراد بها العموم، وجميع ذلك عربي شهير مستعملٌ كثير، بل اللغات عربية وعجمية، ومعربة وملحونة، ولكل أهل فنٍّ عُرْفٌ واصطلاح كما ذلك لكلِّ أهل زمنٍ (6) وبلد.
وما أحسن قول العلَاّمة القرطبي في " شرح مسلم ": إن أكثر (7) المتكلمين أعرَضُوا عن الطرق (8) التي أرشد الله إليها إلى طرقٍ مبتَدَعةٍ (9)، ومناقشاتٍ لفظيةٍ يَرِدُ بسببها على الأخذِ فيها شُبَهٌ يُعجَزُ عنها، وأحسنهم انفصالَاّ عنها (10) أجدلُهم، لا أعلَمُهم، فكمْ من عالمٍ بفساد الشُّبهة لا
(1) في (ب): عرفوا.
(2)
في (ش): العقليات.
(3)
في (ش): فإنهم.
(4)
في (ب): وخاصة وعامة.
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
في (ش): زمان.
(7)
في (ش): جميع.
(8)
في (ب): الطريق.
(9)
تحرفت في (ش) إلى: مبينة.
(10)
" انفصالاً عنها " ساقطة من (ش).
يَقوَى على حلِّها، وكم مِن منفصلٍ عنها لا يُدرك حقيقة علمها.
ونحو هذا كلام الذهبي في " زغلِ العلم "(1) حين ذكر علم المنطق والجدل، وفي كلامه ما معناه: أنها علوم يتمكن الماهر فيها من نُصرة الباطل، وترجيجه على الحقِّ، وإن كان يعلمُ أنه مبطلٌ.
قلت: و (2) ذلك بالنسبة إلى بعض الناس ممَّن يُصغي إلى الوِسواس، فلا فرق بين وسواس الشيطان، وشُبَهِ اليونان، إلَاّ أن هؤلاء شياطين الإنس، وأولئك شياطين الجن يُوحي بعضهم إلى بعضٍ زُخرفَ القول غُروراً.
وَرَوَى الذهبي في " الميزان "(3) في ترجمة أبي اليمان الحكم بن نافعٍ الحمصي، عن النواس بن سمعان مرفوعاً:" لا تُجادلوا بالقرآن، [ولا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض] (4) فوالله إن المؤمن ليُجَادل بالقرآن فيُغلَبُ، وإن المنافق ليُجَادِلُ بالقرآن فيَغْلِبُ "(5). ثم قال: غريبٌ جداً مع قُوةِ إسناده.
قلت: وهذا بغير شكٍّ في بعض المؤمنين، لقوله:{وجَادِلْهُمْ بِالتي هي أحْسَنُ} [النحل: 125] وغير ذلك.
وإذا كان هذا في الجدال بالقرآن، فكيف بعلوم اليونان، فيجب
(1) زغل العلم ص 43 (طبعة مكتبة الصحوة الإسلامية) في الكويت.
(2)
"الواو" ساقطة من (ب).
(3)
1/ 581.
(4)
ما بين حاصرتين من " الميزان ".
(5)
أخرجه الديلمي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن جده، كما ذكر في " الكنز "(2859).
على من لا يُحْسِنُ الجدالَ عن الحق تركُه.
فإذا تقرَّر هذا، فاعلم أنَّ أصل الخلاف في مسألة القرآن في زمن التابعين، وذلك أن المسلمين ما زالوا على أنَّ الله تعالى متكلمٌ (1)، وأن له كلاماً (2) على ظاهر ذلك (3) من غير تأويلٍ ولا تشبيهٍ (4)، تصديقاً للنُّصوص القرآنية، مثل قوله تعالى:{وكلَّمَ اللهُ موسى تكليماً} [النساء: 164]، وقوله سبحانه:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بعضٍ منهُم مَنْ كَلَّمَ اللهُ} [البقرة: 253] برفع الله، أي: من كلَّمه الله (5)، وهي من أبين الآيات في الفرق بين الوحي والكلام، لأن الله أوحى إلى كُلِّ نبيٍّ، وخصَّ بعضهم بالتكليم (6)، وفضَّله بذلك.
وقوله تعالى: {وإنْ أحدٌ من المشركين استجارَكَ فأجِرْهُ حتى يسمَعَ كلامَ اللهِ} [التوبة: 6].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51].
(1) في (ب): تكلم.
(2)
في (ش): كلام.
(3)
في (ب): ظاهره.
(4)
في (ش): شبه.
(5)
" أي من كلمه الله " ساقطة من (ش).
(6)
في (ش): بالمتكلم وفضله بالتكليم.
وقال في الذين يشترون بعهد الله ثمناً قليلاً نحو ذلك.
وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143].
وذكر في غير آيةٍ من كتاب الله ما كلَّم به موسى مثل قوله: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] وقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 13 - 14].
وقال تعالى: {يسمعون كلام الله (1) ثم يحرِّفونه} [البقرة: 75].
وقال: {يُريدُونَ أن يبدِّلوا كلامَ الله} [الفتح: 15].
وقال: {اتلُ ما أُوحِيَ إليكَ مِنْ كِتابِ ربِّكَ لا مُبدِّل لكلماتِه} [الكهف: 27]، وقال:{لا تبديلَ لكلمات الله} [يونس: 64].
وقال: {ويُريدُ الله أن يُحِقَّ الحقَّ بكلماتِه ويقطعَ دابرَ الكافرين} [الأنفال: 7]، وقال: (ويُحِق الله الحقَّ بكلماته ولو كَرِهَ المُجرمُون} [يونس: 82].
وقال: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربيِّ لَنَفِدَ البحرُ قبل أن تنفَدَ كلماتُ ربِّي} [الكهف: 109]، وقال: {ولو أنَّ ما في الأرضِ
(1) هنا زيادة في (ش): لا يشك عاقل أن المراد بنحو (حتى يسمع كلام الله) هو المسموع من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم المتلو الذي أجمع الصحابة على تدوينه وكتابته في المصاحف.
من شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ يمُدُّهُ مِنْ بعدِه سبعةُ أبحُرٍ ما نَفِدَتْ كلماتُ الله} [لقمان: 27].
وقال: {ولكن حقَّت كلمةُ العذابِ على الكافرين} [الزمر: 71]، وقال:{إنَّ الذين حقَّت عليهم كلمةُ ربِّك لا يُؤمنون ولو جاءتهُم كُلُّ آية حتى يَرَوُا العذابَ الأليم} [يونس: 96 - 97]، وقال:{وتمَّت كلمةُ ربِّك لأملأنَّ جهنَّم} [هود: 119]، وقال:{وتمَّت كلمةُ ربِّك الحُسنَى على بني إسرائيلَ بما صَبَرُوا} [الأعراف: 137].
وجاء في الأخبار النبوية، والآثار الصحابية من هذا ما لا يُحصى، وتكرَّر وشاع بين الخاصة والعامة، فاقتضى العلم الضروري بأنه على ظاهرِهِ بهذه القرينة، كما ثَبَتَ في نظائره، وكذلك نسبة القول إلى الله، وهو والكلامُ عبارتان عن معنىً واحدٍ، فمنه قوله سبحانه:{قال اللهُ يا عيسى} [آل عمران: 55]، وقال:{فالحَقُّ والحقَّ أقُولُ} (1)[ص: 84]، وقال:{ولكن حَقَّ القولُ مني} [السجدة: 13]، وقال:{لقد حَقَّ القولُ على أكثرِهم} [يس: 7].
وقال: {ومَن أصدقُ مِنَ اللهِ قيلا} [النساء: 122]، وقال:{ومَن أصدَقُ مِنَ اللهِ حديثاً} [النساء: 87]، وقال:{سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيمٍ} [يس: 58]، وقال:{قولُهُ الحقُّ} [الأنعام: 73]، وقال:{وإذْ قالَ ربُّك للملائكةِ} [البقرة 30]، {وقُلنا يا آدمُ اسكُنْ أنت وزوجُك الجنةَ} [البقرة: 35].
(1) في (ب): {فالحقُّ والحق أقول لأملأنَّ جهنم} .
وذُكِرَ في غير موضعٍ ما كلَّم الله به ملائكته (1) ورسله وعباده، وقال الله تعالى حاكياً عن الملائكة:{قالوا ماذا قال ربُّكُم قالوا الحقَّ وهو العلي الكبير} [سبأ: 23].
وقال: {يومَ يجمَعُ الله الرُّسُل فيقولُ ماذا أُجِبْتُم} [المائدة: 109]، وقال:{ويومَ يُناديهم فيقولُ ماذا أجبتُمُ المُرسَلينَ} [القصص: 65] وفي هذه الآية لفظ المناداة (2).
وكذلك لفظ السؤال قد ورد في قوله تعالى: {فلنسألنَّ الذين أُرسِلَ إليهم ولنسألنَّ المُرسَلِينَ} [الأعراف: 6].
وكذا ما ورد في القرآن على صيغة {يا عبادِ لا خوفٌ عليكم اليوم} (3)[الزخرف: 68]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (4) [الأنفال: 64]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21].
بل قال تعالى في الاحتجاج على بطلان ربوبية عِجْلِ السامري: {أفلا يَرَوْنَ أن لا يَرْجِعَ إليهِمْ قولاً ولا يملِكُ لهُم ضَرّاً ولا نَفْعَاً} [طه: 89]، فدلَّ ذلك على أن من صفات الله الواجبة أن يكون متكلماً كلاماً حقيقياً، فكيف يَجِبُ عكس ذلك، ويُكَفَّرُ مَنْ قاله.
وقال: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا
(1) في (ش): الملائكة.
(2)
في (ش): المباداة.
(3)
في (ش): {
…
اليوم ولا أنتم تحزنون}.
(4)
" يا أيُّها النبي " ساقطة من (ب).
هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 63 - 67].
وفيها أن من لا ينطق كمن لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع، وأنه لما نبَّهَهُم (1) على ذلك عرفوا أنه حقٌّ {فقالوا إنَّكُم أنتُم الظالمون ثم نُكِسُوا} فجحدوا الحُجَجَ الواضحة، أشار إليه الزمخشريُّ (2).
إلى سائر ما وَرَدَ في الأخبار والآثار من ذلك مما (3) قد أشار (4) أحمد بن حنبل إلى بعضه في كتابه المُقدَّم إلى المتوكل، وذكر البيهقي منه طَرَفاً صالحاً في كتاب " الأسماء والصفات "(5)، فآمن المسلمون (6) ولم يعتقدوا فيه المجاز، ولا التشبيه، كلما آمَنوا بكلام الجمادات من غير تَجَوُّزٍ ولا تشبيهٍ، فإنه ليس للجمادات من أدوات الكلام ما للإنسان.
فإذا صحَّ الكلام في الجماد (7) بالنصِّ والإجماع من الصدر الأول، والمحققين من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم مع عدم شبهه (8) للإنسان في أدوات الكلام، وكان ذلك حقيقةً غير مجاز، لم يمتنِعُ مثلُه في حقِّ الله تعالى، ويكون كلامه سبحانُه مُخالِفاً لكلام جميع المخلوقات، كما أنَّ إرادته عند كثيرٍ من المعتزلة فعلٌ له تعالى لا تُوصَفُ بأنها قديمةٌ، ولا
(1) في (ب): " ينههم ".
(2)
انظر " الكشاف " 2/ 577.
(3)
في (ش): ما.
(4)
في (ش): أشار إليه.
(5)
انظر " الأسماء والصفات " ص 181 - 208 و216 - 222.
(6)
تحرف في (ش) إلى: من المسلمين.
(7)
في (ب): الجمادات.
(8)
في (ش): الشبهة.
مخلوقة، وتُوجِبُ له صفة، ويختصُّ به، ولا توجد في غيره، ولا تُوصَفُ بالحلول فيه، وهي حقيقةٌ غير مجاز، ممن قال بذلك أبو هاشم.
فما المانع من مثل ذلك في كلامه؟ وما الفرق الضروري من الدين بين كلامه في الإرادة، وكلام الظاهرية في القرآن حتى يكفروا به؟
قال الله تعالى في كلام الجمادات: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
وقال تعالى: {وسخَّرنَا مع داودَ الجبالَ يُسَبِّحنَ والطيرَ} [الأنبياء: 79].
وقال تعالى: {ولقد آتينا دَاوُدَ مِنَّا فضلاً يا جبالُ أوبي معه والطير} (1)[سبأ: 10].
وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 4 - 5].
ومثل كلام الجمادات كلام الأعضاء التي ليست لها أدواتٌ، قال الله تعالى:{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 20 - 21].
والحجة في قوله تعالى: {الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} عامةٌ في الجماد وغيره.
(1) من قوله: " وقال تعالى ولقد " إلى هنا ساقط من (ب).
وقال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65].
فكان المسلمون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وصدراً من زمن التابعين يُؤمنون بجميع هذه الأشياء على حقائقها مع علمهم باختلاف الكلام والمتكلمين (1)، فليس كلام الإنسان الناطق باللسان مثل كلام الجمادات، والأعضاء، ولا كلام ربِّ العالمين مثل كلام (2) شيء من خلقه أجمعين.
فلمَّا حدثت بدعة الكلام والنظر على أساليب الفلاسفة والمشي وراء الخيالات العقلية، قالت المعتزلة وكثيرٌ من المتكلمين: إنَّ جميع ما تلوناه من كتاب الله تعالى من إضافة الكلام إليها، وكذلك القول وما في معناهما من المناداة، والسؤال، كله تشبيه لله تعالى بخلقه، وذمٌّ له عز وجل، وقدحٌ في ربوبيته، وكفرٌ به، وإلحادٌ في أسمائه إلَاّ أن يُتَأوَّل على ما لا تُساعِدُ عليه قواعدُ التأويل، ولا تبقى معه جلالة صوادع التنزيل، وسبحان الله أيكون أحدٌ أعرف بالله وأكره لما لا يليق به من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله وأصحابه وتابعيهم. فكيف يسمعون ما ظاهره الكفر والإلحاد في أسماء الله والتشبيه له بخلقه، ولا يُنَبِّهُون (3) على تأويله أحداً من المتعلمين، ولا من المسلمين أجمعين. والعلمُ الضروريُّ يقتضي في كل ما شاع مثل هذا في أعصارهم، ولم يذكُرْ أحدٌ منهم (4) له تأويلاً البتة أنه على ظاهره على (5)
(1) في (ش): والمتكلم.
(2)
ساقطة من (ب).
(3)
في (ب): ينهون.
(4)
ساقطة من (ب).
(5)
في (ب): في.
حسبِ ما يليقُ بجلال الله من غير تشبيهٍ كعلم الله وقدرته، فإنهما صفتا كمالٍ بالإجماع.
ولو قلنا: إنهما كعلم الخلق وقُدرتهم كان تشبيهاً قبيحاً، وكفراً صريحاً (1)، ومع ذلك فلا يَجِبُ تأويلُ ما ورد في الشرع من وَصْفِ الله تعالى بأنه عالمٌ قادر، ونحو ذلك من الحي السميع البصير.
فتأمَّل هذه القاعدة التي ذكرتها لك فيما استفاضَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم استفاضةً متواترةً شائعةً (2)، ولم يُذكر له تأويل البتة، فإنها تميز لك الصحيح من العقائد من المُبتدَعِ الفاسد.
وقال: من اعتقد استحالة الكلام من الله تعالى، أنه سبحانه لا يوصف بالقدرة على صدوره من ذاته، ولا تُضافُ إليه إلَاّ إضافة تشريفٍ كبيتِ (3) الله، وناقةِ الله، فاعتقد المجاز (4) في قوله تعالى:{وكلَّم اللهُ موسى تَكلِيماً} [النساء: 164]، واعتقدَ أن الحقيقة أن الله تعالى خَلَقَ الكلام في الشجرة المباركة التي ذكرها الله في كتابه، وأن الكلام صَدَرَ منها لا يصح غيرُ ذلك، وكانت النصوص القرآنية على عصر (5) التابعين على جلالتها لم تتبدَّل بكثرة التأويل، فعظُمَ على التابعين أن يكون ظاهرُ قول الله:{وكلَّمَ اللهُ موسى تكليماً} قبيحاً وضلالاً مع أن الله سبحانه نسبه إلى ذاته المقدسة، واحتج على بطلان ربوبية العجل
(1)" وكفراً صريحاً " ساقطة من (ب).
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
في (ش): للتشريف ككتب.
(4)
في (ش): الكلام المجاز.
(5)
في (ش): عهد.
والأصنام بعدمه، لا بعدم القدرة على خلقه في غيرها.
وكذلك بقوله: {تكليماً} مع ما شَهِدَ (1) لصحته من سائر الآيات والآثار وإجماع الصحابة على وصف الله تعالى بأنه متكلمٌ، وله كلامٌ من غير إشعارٍ بتأويل، فجَهَرُوا بتكفير من قال ذلك، إما لاعتقادهم أنه مُكَذِّبٌ (2) لهذه الآيات، أو أن كلامه يؤولُ إلى التكذيب، ولم يكُن قد عَرَضَ في زمن الصحابة و (3) التابعين ذكر الكلام النفسي وقدمه، فلم يذكر أحدٌ منهم هذه المسألة، وإنما كان كلامهم في اللفظيِّ الذي لم يقُل بقِدَمِه طائفةٌ من طوائِفِ المسلمين البتة، وإن شذَّ بذلك بعض المحدثين كما شذَّ أبو علي الجُبَّائي شيخ الاعتزال، فإنه قد شارك هذه الطائفة المخالفة للضرورة في شُبَهِهِم، ووقع من الرِّكَّة في مثلِ ركتِهم حيث قال: إن حكايته لكلام الله تعالى هي كلامه المبتدأ المعجِزُ، ثم انتهى به التدقيق إلى أن المسموع من القارىء شيئان.
أحدهما: كلامه.
والثاني: كلام الله تعالى، فأثبت حرفين مسموعين غير الصوت، حكاه عنه ابنُ متويه في " تذكرته "(4).
فإذا كان هذا ضلال إمام النظارين، فأيُّ ملامةٍ على شواذِّ (5)
(1) في (ب): يشهد.
(2)
في (ش): مكذوب.
(3)
في (ش): أو.
(4)
هو أبو محمد الحسن بن أحمد بن متويه، له كتب مشهورة " كالمحيط في أصول الدين "، و" التذكرة في لطيف الكلام ". انظر " باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح الملل والنحل " لأحمد بن يحيى بن المرتضى ص 71.
(5)
في (ش): سواد.
المحدثين مع أنَّ كلام المنصور بالله يقتضي اختيار قوله في أن التلاوة هي المتلوُّ.
وكذا ذَهَبَ أبو عليٍّ إلى بقاء الكلام في الكتابة، وكمونه (1) فيها، وأنه غيرُ الصوت، فإذا قارَنَه الصوتُ سُمِعَ، وإلَاّ كَمَنَ وبَقِيَ غيرَ مسموع.
فقد بان لك الآن أن من أنكرَ قِدَمَ القرآن وخلقه، فلم يَقْصِدْ رفع النفي والإثبات، ولا جهلَ الضرورات، وإنما قَصَدَ أن الكلام الذي سَمِعَه موسى هو كلام الله على الحقيقة لا كلام الشجرة، فإنه لو كان مخلوقاً في الشجرة، كان كلام الشجرة على الحقيقة، وإنْ كان خلقاً لله، كما أنَّ الأعضاء لمَّا أنطقها الله يوم القيامة بدليلِ قولها:{أنطَقَنَا اللهُ الذي أنْطَقَ كُلَّ شيءٍ} [فصلت: 21] كان ذلك كلامَها لا كلام الله، فلذلك استشهدَها الله، ونسبَ (2) الشهادة إليها، وقال:{شَهِدَ عَلَيْهِم سمعُهُم وأبصَارُهُم} [فصلت: 20].
ومن قال بقِدَم القرآن فلم يقصِد قِدَمَ الأصوات والحروف المتعاقبة، وإنما قَصَدَ قدم الكلام النفسي الذي المرجعُ به عند المعتزلة إلى الإرادة أو العلم، كما ذلك مقررٌ في كُتُبِ الكلام.
وقد روى الذهبي عن اللالكائي في " السنة "(3): حدثنا المخلصُ، حدثنا أبو الفضل شعيبُ بن محمد، حدثنا علي بن حرب بسام، سمعتُ شُعيبَ بن حرب، يقول: قلت لسفيان الثوري: حدِّث بحديثٍ في السنة
(1) في (ش): وبكونه.
(2)
في (ش): فنسب.
(3)
2/ 151.
ينفعني الله به، فإذا وقفتُ بين يديه، وسألني (1) عنه، قلت: يا رب، حدثني بهذا سفيان، فأنجو أنا، وتُؤخذ (2). قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غيرُ مخلوق، منه بدأ وإليه يعودُ، مَن قال غير ذلك فهو كافرٌ.
وقال الذهبي: هذا ثابتٌ عن سفيان، وشيخ المخلص ثقة، ذكره في ترجمة الثوري من " التذكرة "(3).
وفي " الجامع الكافي " نحو هذا عن الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليه السلام إمام الزيدية في الكوفة فإنه قال: قال و (4) الله {يا موسى إنَّني أنا اللهُ لا إله إلَاّ أنا فاعبُدني} [طه: 14] فمن زعم أن الداعي إلى عبادته غير الله فقد ضل .. انتهى. وسيأتي مع أقوال سائر أهل البيت عليهم السلام.
وهذا الجنس هو المعروف عن التابعين، وأئمة السنة من دون اعتقادٍ للقِدَمِ، كما ذكر الذهبي في ترجمة أحمد بن حنبل من " النبلاء "(5)، وابن تيمية في " منهاج السنة النبوية ".
ولا شَكَّ أن القول بخلق القرآن بدعةٌ، وأمَّا (6) أنه كفرٌ فقد أطلقه جماهيرُ أئمة السنة وجِلَّتهم، وبعضُ أئمةِ أهل البيت كما سيأتي. ثم
(1) في (ب): وسئلت.
(2)
في (ش): " وتؤخر "، وفي " السنة " للالكلائي:" وتؤاخذ ".
(3)
" تذكرة الحفاظ " 1/ 206 - 207.
(4)
"الواو" ساقطة من (ش).
(5)
كما تقدم في محنته.
(6)
" أما " ساقطة من (ش).
اختلفوا: هل هو كفرٌ على الحقيقة أم لا؟
قال البيهقي في " الأسماء والصفات "(1) بعد حكاية أقوال السلف في تكفير من قال بخلق القرآن: ورُوِّيناه في كتاب القَدَر عن جماعةٍ منهم أنهم كانوا لا يَرَوْنَ الصلاة خلف القَدَري ولا يُجيزون شهادته، وحكينا عن الشافعي رحمه الله في كتاب " الشهادات " ما دلَّ على قبول شهادة أهل الأهواء، ما لم تبلُغُ بهم المعصيةُ مبلغَ العداوة، فحينئذٍ تُرَدُّ بالعداوة.
وحكينا عنه في كتاب " الصلاة " أنه قال: وأكرَهُ إمامة الفاسق والمُظْهِرِ البدع، ومن صلَّى خلف واحدٍ منهم أجزأتْهُ صلاته، ولم يكن عليه إعادةٌ إذا أقام (2) الصلاة.
وقد اختلف علماؤُنا في تكفيرِ أهل الأهواء، منهم من كفَّرهم على تفصيلٍ ذكرَهُ في أهوائهم، ومنهم من لم يُكفرْهم، وزَعَمَ أن قول الشافعي في تكفيرِ مَنْ قال بخلق القرآن أراد به كُفراً دون كفر، كقول (3) الله عز وجل:{ومَنْ لَمْ يحكُم بما أنزَلَ اللهُ فأولئِكَ هُمُ الكافرون} [المائدة: 44]، ومن قال بهذا جرى (4) في قبول شهادتهم، وجواز الصلاة خلفهم مع الكراهية، على ما قال الشافعي رحمه الله في أهل الأهواء، والمُظهِرِ البِدَع.
ثمَّ حكى (5) عن الخطابي أنهُ لا يكفِّرُ من الخوارج والروافض (6) إلا
(1) ص 257.
(2)
في (ش): إذا قام.
(3)
في (ب): لقول.
(4)
" بهذا جرى " ساقط من (ش).
(5)
أي: البيهقي في " الأسماء والصفات ".
(6)
في (ش): النواصب.
من كفَّر الصحابة. ولا من القدرية إلَاّ من كفَّرَهُ.
قال: وكانت المعتزلة في الزمان الأول على خلاف هذه الأهواء، وإنما أحدثها بعضهم في الزمان المتأخر. انتهى كلام البيهقي.
وفي " المعالم " للخطابي: الميل إلى ترك (1) التكفير مُطلقاً، فإنه مال إلى عدم تكفير الخوارج، بل ادَّعى الإجماع عليه، مع تصريحهم بتكفير خلق كثير من الصحابة، بل تكفير خيرهم في عصره بالإجماع.
وأقول: إن المختار ما أشار إليه الشافعي رحمه الله، لأنه لا بد من دليل على الكفر، ولا دليل هنا، لأن أدلة الكفر منحصرةٌ في ثلاثة أشياء، وهي: النصُّ، أو (2) التكذيب، أو ما يؤول إلى التكذيب على اختلافٍ فيما يؤول إلى التكذيب.
أمَّا النصُّ فغير موجودٍ وفاقاً، أنا في القرآن فواضحٌ، وأما السنة فقد رُوِيَ في ذلك حديثٌ، اتَّفق أهل الحديث على أنه موضوعٌ، لا أصل له، ومتنه: من زعم أن القرآن مخلوقٌ فقد كفر (3).
(1) في (ش): تركه.
(2)
في (ب) و (د) و (ش): و.
(3)
رواه الخطيب في " تاريخه " 2/ 389 من حديث جابر، وفي سنده محمد بن عبد بن عامر، قال الذهبي في " الميزان " 3/ 633: معروف بوضع الحديث، وقال الدارقطني: كان يكذب ويضع الحديث.
ورواه أيضاً 13/ 142 من حديث أنس بن مالك، وفي سنده محمد بن يحيى بن رزين قال ابن حبان في " المجروحين " 2/ 312: دجَّال يضع الحديث لا يحل ذكره في الكتب إلَاّ على سبيل القدح فيه.
ورواه ابن عدي 1/ 203 من حديث أبي هريرة، وفي سنده أحمد بن محمد بن حرب، وهو ممَّن يتعمد الكذب، وشيخه فيه محمد بن حميد بن حبان الرازي قال البخاري: فيه نظر، وكذبه أبو زرعة. =
قال البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات "(1): ونُقل إلينا عن أبي الدرداء مرفوعاً: القرآن كلام الله غير مخلوقٍ. ورُوِيَ أيضاً ذلك (2) عن معاذ بني جبل، وعبدِ الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله مرفوعاً. ولا يصح شيء من ذلك، أسانيدُه (3) مظلمةٌ لا ينبغي أن يحتجَّ بشيء منها، ولا يُستشهد بشيءٍ منها (4). انتهى بلفظه.
وذكر الحافط زين الدين أبو حفص عمر بن بدر الموصِلِّيُّ (5) في كتابه " المغني عن الحفظ من الكتاب " بقولهم: لم يصح شيءٌ في هذا الباب ما لفظه: كلام الله قديمٌ غير مخلوق، وَرَدَ فيه أحاديث ليس فيها شيءٌ
= ورواه الخطيب 1/ 360 من طريق أبي القاسم طلحة بن علي بن الصقر الكتاني، عن محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، عن محمد بن أحمد بن المهدي أبي عمارة، عن أبي نافع أحمد بن كثير، عن جعفر بن محمد العابد، عن أبي يعقوب الأعمى، عن إسماعيل بن معمر، عن محمد بن عبد الله الدغشي عن مجالد بن سعيد، عن مسروق، عن ابن مسعود.
وقال: هذا الحديث منكر جداً، وفيه مجاهيل. وقال الذهبي في " الميزان " 3/ 456: محمد بن أحمد بن مهدي أبو عمارة قال الدارقطني: ضعيف جداً، وقال أيضاً: متروك، ونقل عن الخطيب قوله: في حديثه مناكير وغرائب، ثم أورد هذا الخبر من طريقه، وقال: هو موضوع على مجالد.
وقال السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 304: الحديث باطل من جميع طرقه.
وقال الشوكاني في " الفوائد المجموعة " ص 313 - 314: وقد أورده صاحب اللآلىء في أول كتابه، وذكر له شواهد، وأطال في غير طائل، فالحديث موضوع، تجاراً على وضعه من لا يستحي من الله تعالى عند حدوث القول في هذه المسألة في أيام المأمون، وصار بذلك على الناس محنة كبيرة، وفتنة عمياء صمَّاء، والكلام في مثل هذا بدعة ومنكرة، لم يرد به في الكتاب ولا في السنة حرف واحد، ولا صحَّ عن السلف في ذلك شيء.
(1)
ص 239.
(2)
في (ب): ذلك أيضاً.
(3)
في (ش): أسانيد.
(4)
قوله: " ولا يستشهد بشيء منها " ساقطة من (ب).
(5)
تقدمت ترجمته 1/ 187.
ثابت. وقال: قاله ابن الجوزي، نقل ذلك ابن النحوي في تلخيصه (1) لكتاب زين الدين المذكور.
فهذه كلمة إجماعٍ بين حفاظ الحديث الأُمناء عليه، ومن العجب أن المعتزلة ترويه، وتؤوله بالمكذوب، وأئمة الحديث يُزَيِّفُونَه كما هو عادتُهم فيما كُذِبَ لهم، وذلك أعظم شاهدٍ لهم على أنهم أمناءُ الله على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَنْفُون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما ورد ذلك مرفوعاً في صفة حملة العلم (2).
وأما الإجماع فهو أيضاً منتفٍ لما تقدَّم من تعذُّر العلم بالإجماع القاطع، ولأن الاختلاف في ذلك منقولٌ عن أئمة أهل السنة، كما ذكر البيهقيُّ.
ولقد نقل الذهبي في " النبلاء "، و" الميزان "، و" الكاشف " (3) عن الحافظ علي بن الجعد أنه قال: من قال القرآن مخلوقٌ لَمْ أُعَنِّفْهُ.
فهذا عليُّ بن الجعد يقول: إنَّ القرآن غير مخلوق، كقول أهل الحديث، ومع ذلك خالف في تعنيف من قال: إنه مخلوقٌ.
وقد حكى الذهبي الوقف عن جماعةٍ وافدة، فالمتوقف غيرُ مكفِّرٍ للمخالف، فمنهم من وقف وقف حيرةٍ وشَكٍّ، ومنهم من وَقَفَ وقف حَيْطَةٍ وَوَرَعٍ.
(1) تقدم التعريف به 1/ 187.
(2)
تقدم تخريجه في 1/ 308 - 313.
(3)
" النبلاء " 10/ 465، و" الميزان " 3/ 116، و" الكاشف " 2/ 280، و" تذكرة الحفاظ " 1/ 400.
قال الذهبي في " النبلاء "(1) في ترجمة إسحاق بن أبي إسرائيل، أحدِ الواقفة: هو الإمام الحافظ الثقة.
قال شاهين بن السَّمَيْدَع: سمعت أحمد بن حنبل، يقول فيه (2): واقفيٌّ مشؤومٌ إلَاّ أنه كَيِّسٌ صاحبُ حديث.
وقال السَّاجي: صدوقٌ، تركوه لموضع الوقف.
قال (3): معنى قوله تركوه: أعرضُوا عن الأخذ عنه، لا أن حديثه في حيِّز المتروك المطَّرَح، قلت: أدَّاهُ وَرَعُه وجموده إلى الوقف، وقد ناظره (4) مصعب الزبيري، فقال: لم أقُل على الشكِّ، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي.
قال الذهبي: والإنصاف فيمن هذا حاله أن يكون باقياً على عدالته.
وحكى ابن عبد ربه في " العقد "(5) في المجلد الرابع منه في كتاب الجوهرة في الأمثال في بيان قولهم في القرآن ما لفظه: كتب المريسي إلى أبي السري (6) منصور بن محمد: أكتب إلي: القرآن خالقٌ أو (7) مخلوقٌ؟ فكتب إليه: عافانا الله وإياك من كل فتنة وجعلنا وإياك من (8) أهل السنة (9)، ومن لا يرغب بنفسه عن الجماعة، فإنه إن يفعل فأعْطِمْ بها
(1) 11/ 476.
(2)
ساقطة من (ب).
(3)
في الأصول زيادة " الذهبي "، وليست في " السير ".
(4)
في الأصول: ناظر.
(5)
2/ 335، وهو في كتاب الياقوتة في العلم والأدب، لا كما ذكر في الجوهرة.
(6)
في " العقد ": إلى أبي يحيى.
(7)
في (ش): أم.
(8)
ما بين حاصرتين ليس في الأصول، وهو من " العقد ".
(9)
في الأصول: الشبه.
مِنَّةً، وإن لا يفعل فهي الهلكةُ، وليس لأحدٍ بعد المرسلين (1) على الله حجةٌ، ونحن نقول: إن الكلام في القرآن بدعةٌ، يتكلَّفُ المجيبُ المحسن ما ليس عليه، ويتعاطى السائل ما ليس له، وما نعلم خالقاً إلَاّ الله، وما سوى الله تعالى مخلوقٌ، والقرآن كلام الله، فانته بنفسك إلى أسمائه التي سمَّاه الله بها فتكون من المهتدين، وذر الذين يُلحِدُون في أسمائه سيُجزون ما كانوا يعملون، ولا تُسَمِّ القرآن باسمٍ من عندك، فتكون من الظالمين، جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مُشفقون.
فهذا فيه إشارةٌ بينةٌ إلى شبهتهم (2)، وتقدم جوابُها حيث أجبنا على المعتزلة إحالتهم تجرُّد القرآن عن الخلق والقِدَمِ معاً، ومراد الواقفية نحو هذا، وهو أنهم لا يسمونه إلَاّ بما سماه الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يوصف بأنه غير مخلوق، كما لم يكُن يوصف بأنه مخلوق (3) فسكَتُوا عن ذلك، وعن الطائفتين.
فبان بهذا أنه لا يصح التمسك بالنص في تكفيرهم، لا نصِّ الكتاب ولا السنة، ولا الإجماع.
وأمَّا التمسك بأنهم مكذبون لقوله تعالى: {وكلَّم اللهُ موسى تكليماً} [النساء: 164]، فيُعارِضُه أنهم يُقِرُّون (4) بكلام الله وتكليمه، ولكنهم يجعلونه مجازاً. وربما قال منهم قائلٌ بصحته على معنى
(1) في (ب): الرسل.
(2)
في (ش): شبههم.
(3)
من قوله: " كما لم " إلى هنا مكرر في (ش)، وفيه:" بأنه غير مخلوق ".
(4)
في (ش): يقولون.
الخلق حقيقة، وقد تكلَّم الأصوليون من أجل هذا في مسألة في اشتقاق اسم الفاعل، وهل مِن شرطه أن يكون المعنى المشتق منه قائماً (1) بالفاعل أم لا؟
وأجازت المعتزلة أن لا يكون قائماً بالفاعل ليصحَّ لهم تسميته (2) تعالى مُتكلماً بكلامٍ غير قائم بذاته، ولا صادرٍ منها، واحتجُّوا بتسميته (3) خالقاً، ومنعت ذلك جماعةٌ (4) من الأشعرية، وطوَّلها ابن الحاجب في " مختصر المنتهى "(5)، وأدقها، وهي لغويةٌ لا تحتملُ تلك الدِّقَّة التي تعلق (6) بها.
وقد مال الرازي إلى تصحيح كلام المعتزلة، واحتج بصحة النسب، فإن قولنا في الرجل: مكي ومدني مشتقٌّ من مكة والمدينة (7).
والحق أن هذه المسألة لغوية ليس فيها نظرٌ، ولا قياسٌ، وقد يشتقُّون مما ليس بقائمٍ بالفاعل مثلما ذكر الرازيُّ، ومثل: لابن، وتامر ولكن ما هذا مطرداً ولا قياساً بإجماع اللغويين، ولذلك لا يُسمَّى الله لابِناً وتامِراً مع ورود اللغة بكذلك في من يَملِك اللبن، والتَّمر، ولذلك لا يُسمَّى حجَّاراً ومُترباً لكونه خلق الحجار والتراب، ولا متحركاً ولا ساكناً لمثل
(1) في (أ): " قائم "، وهو خطأ.
(2)
في (ب): تسمية الله.
(3)
في (ب): بتسمية.
(4)
في (ش): جملة.
(5)
انظر " المختصر " بشرح العضد 1/ 181 - 182.
(6)
في (ش): تعلو.
(7)
" المحصول " 1/ 344.