المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تركه للجهات جملة: - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٤

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الثالث عشر: أنَّ جميع أئمة الفنون المُبرِّزين فيها قد شاركوا المحدثين في عدم ممارسة علم الكلام

- ‌الطائفة الأولى: من قال بأن المعارف ضرورية

- ‌الطائفة الثانية: من يقول: إنَّ المعارف ضروريةٌ مطلقاً

- ‌الوجه الثاني: أن اللطف المقرب مجرد دعوى

- ‌الوجه الثاني: من الأصل أن الآية في الظن المعارض للعلم

- ‌قلت: كلَاّ، فإنَّ الله تعالى قد سمَّى الظن علماً

- ‌الوجه الرابع: من الجواب وهو التحقيق

- ‌الجواب من وجوه

- ‌الوجه الثالث: إنا نعلمه ما نعرِفُه بِفِطَرِ العقول

- ‌الجواب الرابع: أن نقول: النظر في ذلك واجبٌ كالصلاة

- ‌فإن قيل: قد وَرَدَ في السمع وجوبُ البيان على العلماء

- ‌الجواب من وجوه:

- ‌الوجه الثاني: أنا نخصُّ هذا العام بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الجواب الخامس: أنها وردت نصوصٌ تقتضي العلم أو الظن

- ‌فإن قالوا: وفي ترك علم الكلام مضرة أيضاً

- ‌الجواب: أنَّ تسمية تجويز المضرة المرجوح خوفاً غيرُ مسلم

- ‌قلتُ: هي أمران:

- ‌الجواب من وجهين

- ‌الوجه الأول: معارضة

- ‌الوجه الأول: أن السائل جهل المقصود بالنبوة

- ‌قلنا: معاذ الله

- ‌الطائفة الثانية: أهل النظر في علم الكلام

- ‌القاعدة الأولى: إن الله سبحانه موصوفٌ بالإثبات والنفي

- ‌القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربِّه فإنَّه يجب الإيمان به

- ‌القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مرادٌ أو ليس بمراد

- ‌إن هذه الطريق لا يحصل بها المقصود لوجوهٍ:

- ‌الوجه الثاني: أن هؤلاء ينفُون صفات الكمال بمثل هذه الطريق

- ‌الوجه الثالث: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون

- ‌الفصل الثالث: في الإشارة إلى حُجة من كفَّر هؤلاء

- ‌ التنبيه على معرفتين:

- ‌المعرفة الأولى: أن شرط التكفير بمخالفة السمع أن يكون ذلك السمعُ المخالفُ معلوماً علماً ضرورياً من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى

- ‌أحدهما: ما عَلِمَهُ العامة مع الخاصة

- ‌ثانيهما: ما لا يعرف تواتره إلَاّ الخاصة

- ‌الشرط الثاني: أن يكون معنى المتواتر معلوماً بالضرورة

- ‌المعرفة الثانية: أن التكفير سمعي محضٌ لا مدخل للعقل فيه، وذلك من وجهين:

- ‌الوجه الأول: أنه لا يكفر بمخالفة الأدلة العقلية وإن كانت ضروريةٌ

- ‌الوجه الثاني: أنَّ الدليل على الكفر والفِسْقِ لا يكون إلَاّ سمعياً قطعياً

- ‌فصلٌ في شيوخه:

- ‌رحلته وحفظه:

- ‌حكاية موضوعة:

- ‌وصيتُه:

- ‌مرضه:

- ‌المنامات:

- ‌ فضلِهِ وتألُّهِهِ وشمائله:

- ‌ومن آدابه:

- ‌ومن كرمه:

- ‌تركه للجهات جُملةَ:

- ‌أيُّ فرقٍ بين الخلقِ والحدوث حتى يكفر القائل بأحدِهما دون الآخر

- ‌الجواب: من وجهينِ

- ‌ الوجه الثالث: وهو التكفير بمآل المذهب

- ‌الوجه الثاني: لو سلَّمنا أنه دلَّ على ذلك دليلٌ سمعي خَفِي لكان معارضاً بما هو أوضح منه

- ‌الوجه الثالث: إنا نعلم بالضرورة منهم ضِدَّ ما ألزموهم

- ‌الوجه الرابع: أنا لو كفرنا بذلك لأمكن المعتزلة، والشيعة، والظاهرية تكفير من لم يقُل بحدوث القرآن

- ‌الوجه الخامس: أن النصوص قد تواترت بمروق الخوارج

- ‌الوجه السابع: أنه قد ورد من الأدلة السمعية ما يُعارضُ ذلك الظن

- ‌وأما قول من يقولُ: ما الفرق بين الخلق، والجعل، والحُدُوث

- ‌قلت: الذي فهمته مِنْ تكرارِ النظر في عباراتهم ومقاصدهم أحد وجهين، أو كلاهما:

- ‌الوجه الأول: أنهم رأوا للحدوث معنيين: حدوثاً نسبيّاً، وحدوثاً مُطلقاً

- ‌الوجه الثاني: أنهم لما رأوا القول بخلقه شعار المعتزلة المنكرين لصحة الكلام من الله تعالى، رأوا لفظ الحدوث يقارب لفظ الخلق ويُوهِمُه

- ‌قلنا: يقولون: إن عمومها مخصوصٌ بإجماع الفريقين

- ‌أمَّا المعتزلة

الفصل: ‌تركه للجهات جملة:

‌تركه للجهات جُملةَ:

عن محمد بن يحيى خادم المُزني عنه، قال: قال الشافعي: لما دخلت على الرشيد، قال: اليمن يحتاج إلى حاكم، فانظُر رجلاً نُوليه، فلما رجع الشافعي إلى مجلسه، ورأي أحمد بن حنبل من أمثلهم، كلمه في ذلك، وقال: تهيَّأ حتى أُدخِلَك على أمير المؤمنين. فقال: إنما جئت لأقتبس منك العلم، وتأمُرني أن أدخل في القضاء، ووبخه. فاستحيا الشافعي.

قلت: إسنادها مظلمٌ.

قال ابن الجوزي: قيل: كان هذا في زمان الأمين.

وأخبرنا ابن ناصر، أخبرنا عبد القادر، أخبرنا البرمكي، أخبرنا أبو بكر عبد العزيز، أخبرنا الخلَاّل، أخبرني محمد بن أبي هارون، حدثنا الأثرم، قال: أخبرتُ أن الشافعي قال لأبي عبد الله: إن أمير المؤمنين، يعني، محمداً، سألني أن ألتمس له (1) قاضياً لليمن، وأنت تحب الخروج إلى عبد الرزاق، فقد نِلتَ حاجتك، وتقضي بالحق، فقال للشافعي: يا أبا عبد الله، إن سمعتُ هذا منك ثانية، لم تَرَني عندك.

فظننت أنه كان لأبي عبد الله ثلاثون (2) سنة، أو سبع وعشرون (3) سنة.

الصَّنْدلي: حدثنا أبو جعفر الترمذي، أخبرنا عبد الله بن محمد البلخي أن الشافعي كان كبيراً عند محمد بن زُبَيْدة، يعني: الأمين، فذكر

(1) ساقطة من (ب).

(2)

في " الأصول " و" السير ": " ثلاثين "، والجادة ما أثبت.

(3)

في غير (ج)" سبعاً وعشرين ".

ص: 315

له محمد يوماً اغتمامه برجلٍ يصلح للقضاءِ صاحب سنة. قال: قد وجدت. قال: ومن هو؟ فذكر أحمد بن حنبل. قال: فلقيه أحمد، فقال: أخْمِل هذا وأعفني، وإلَاّ خرجتُ من البلد.

قال صالح بن أحمد: كتب إليَّ إسحاق بن راهويه: إن الأمير عبد الله ابن طاهر وجَّه إليَّ، فدخلتُ عليه وفي يدي كتاب أبي عبد الله.

فقال: ما هذا؟ فقلت: كتاب أحمد بن حنبل، فأخذه وقرأه، وقال: إني أحبه، وأحب حمزة بن الهَيْصَم البُوشنجي، لأنهما لم يختلطا بأمر السلطان. قال: فأمسك أبي عن مكاتبة إسحاق.

قال إبراهيم بن أبي طالب: سمعت أحمد بن سعيد الرِّباطي، يقول: قدمت على أحمد بن حنبل، فجعل لا يرفع رأسه إليَّ، فقلت: يا أبا عبد الله، إنه يُكتب عني بخُراسان، وإن عاملتني بهذه المعاملة رَمَوا حديثي، قال: يا أحمد، هل بُدُّ يوم القيامة من أن يقال: أين عبد الله بن طاهر وأتباعه؟ فانظر أين تكون منه.

قال عبد الله بن (1) بشر الطالقاني: سمعت محمد بن طارق البغدادي، يقول: قلت لأحمد بن حنبل: أستمِدُّ من محبرتك، فقال: لم يبلُغْ ورعي وورعك هذا، وتبسَّم.

قال المروذي (2): قلتُ لأبي عبد الله: الرجل يقال في وجهه: أحييتَ السنة، قال: هذا فسادٌ لقلبه.

الخلال: أخبرني محمد بن موسى، قال: رأيت أبا عبد الله، وقد

(1) في (ب): عبد بن.

(2)

من قوله: " قلت لأحمد " إلى هنا ساقط من (ب).

ص: 316

قال له خُراساني: الحمد لله الذي رأيتُك، قال: أيُّ شيء ذا؟ من أنا؟

وعن رجل قال: رأيت أثر الغَمِّ في وجه أبي عبد الله، وقد أثنى عليه شخصٌ، وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيراً. قال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً. من أنا وما أنا؟!

الخلال: أخبرنا علي بن عبد الصمد الطيالسي، قال: مسحت يدي على أحمد، وهو ينظر، فغضب، وجعل ينفُضُ يدَه ويقولُ: عمَّن أخذتُم هذا.

وقال خطاب بن بشر: سألتُ أحمد عن شيء من الوَرَع، فتبيَّن الاغتمام عليه إزراءً على نفسه.

وقال المروذي: سمعتُ أبا عبد الله وذكر أخلاق الورعين، فقال: أسألُ الله أن لا يَمْقُتنا. أين نحنُ من هؤلاء؟!! ..

قال الأبَّار: سمعتُ رجلاً سأل أحمد، قال: حلفت بيمين (1) لا أدري أيش هي؟ فقال: ليتك إذا دَرَيْتَ دَريْتُ أنا.

قال إبراهيم الحَرْبي: كان أحمد يجيب في العرس والختان، ويأكل. وذكر غيره أن أحمد ربما استعفي من الإجابة. وكان إن رأي إناء فضة أو منكراً، خرج. وكان يحب الخمول والانزواء عن الناس، ويعودُ المريض، وكان يكرَهُ المشي في الأسواق، ويُؤثِرُ الوَحدة.

قال أبو العباس السراج: سمعت فتح بن نوح، سمعتُ أحمد، يقول: أشتهي ما لا يكون، أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحدٌ من الناس.

(1) في (ب): " يمين "، وفي (أ):" يمين ما ".

ص: 317

وقال الميموني: قال أحمد: رأيت الخلوة أروح لقلبي.

قال المروذي: قال لي أحمد: قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك، فإني أنا قد بُليتُ بالشهرة.

وقال محمد بن الحسن بن هارون: رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق، يكرَه أن يتبعه أحدٌ.

قلت: إيثارُ الخمول والتواضع، وكثرة الوَجَل من علامات التقوى والفلاح.

قال صالح بن أحمد: كان أبي إذا دعا له رجلٌ، يقول: الأعمال بخواتيمها.

وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: وددت أني نجوت من هذا الأمر كَفافاً لا عَلَيَّ ولا لي.

وعن المروذي قال: أدخلتُ إبراهيم الحُصري على أبي عبد الله -وكان رجلاً صالحاً- فقال: إن أمي رأت لك مناماً، هو كذا وكذا. وذكرت الجنة، فقال: يا أخي، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا. وخرج إلى سفك الدماء. وقال: الرُّؤيا تسُرُّ المؤمن ولا تغُرُّه.

قال المروذي: بال أبو عبد الله في مرض الموت دماً عبيطاً، فأريته الطبيب، فقال: هذا رجل قد فتَّت الغمُّ أو الخوف جوفه.

ورُوي عن المروذي، قال: قلت لأحمد: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربُّه؟ يُطالبُه بأداء الفرائض، ونبيُّه يطالبه بأداء السنة، والملَكَان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟!

ص: 318

الخلال: أخبرنا المروذي، قال: مررت وأبو عبد الله متوكىء على يدي، فاستقبلتنا امرأة بيدها طُنبور، فأخذته فكسرته، وجعلت أدوسه، وأبو عبد الله واقفٌ منكس الرأس. فلم يقُل شيئاً، وانتشر أمر الطُّنبور.

فقال أبو عبد الله: ما علمت أنك كسرت طُنبوراً إلى الساعة.

قال الميموني: قال لي القاضي محمد بن محمد بن إدريس الشافعي: قال لي أحمد: أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم (1) سَحَراً.

وعن إبراهيم بن هانىء النيسابوري، قال: كان أبو عبد الله حيث توارى من السلطان عندي. وذكر من اجتهاده في العبادة أمراً عجيباً. قال: وكنتُ لا أقوى معه على العبادة، وأفطَرَ يوماً واحداً، واحتَجَمَ.

قال الخلال: حدثنا محمد بن علي، حدثنا العباس بن أبي طالب: سمعت إبراهيم بن شماس، قال: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلامٌ وهو يُحيي الليل.

قال محمد بن رجاء: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يقول يوماً: ما صليت اليوم غير الفريضة. استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي.

وعن عبد الله بن أحمد، قال: كان في دهليزنا دكانٌ، إذا جاء من يُريد أبي أن يخلو معه، أجلَسه ثمَّ، وإذا لم يُرد، أخذ بعِضَادَتي الباب، وكلَّمه. فلما كان ذات يوم، جاءنا (2) إنسان، فقال لي (3): قل: أبو

(1) ساقطة من (ب).

(2)

في (د): " جاءه "، وفي " السير":" جاء ".

(3)

ساقطة من (أ).

ص: 319

إبراهيم السائح. قال: فقال أبي: سلَّم عليه، فإنه من خيار المسلمين. فسلمت عليه، فقال له أبي: حدثني (1) يا أبا إبراهيم. قال: خرجت إلى موضع، فأصابتني علة، فقلت: لو تقربت إلى الدير لعلَّ من فيه من الرهبان يُداويني. فإذا بِسَبُع عظيمٍ يقصدني، فاحتملني (2) على ظهره حتى ألقاني عند الدير. فشاهد الرُّهبان ذلك فأسلموا كلهم. وهم أربع مئة. ثم قال لأبي: حدثني يا أبا عبد الله. فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أحمد، حُجَّ، فانتبهت، وجعلت في المِزْوَدِ فتيتاً، وقصدت إلى الكوفة. فلمَّا تَقَضَّى بعضُ النهار، إذا أنا بالكوفة. فدخلت الجامع، فإذا أنا بشابٍّ حسن الوجه، طيب الريح. فسلمت وكبرت، فلما فرغت من صلاتي، قلت: هل بقي من يخرج إلى الحج؟ فقال: انتظر حتى يجيء أخٌ من إخواننا، فإذا أنا برجلٍ في مثل حالي. فلم نزل نسير (3)، فقال له (4) الذي معي: رحمك الله، ارفُق بنا. فقال الشاب: إن كان معنا أحمد بن حنبل، فسوف يرفق بنا. فوقع في نفسي أنه خَضِر (5)، فقلت للذي معي: هل لك في الطعام؟ فقال: كل مما تعرف، وآكل مما أعرف. فلما أكلنا، غاب الشاب. ثم كان يرجع بعد فراغنا. فلما كان بعد ثلاث، إذا نحن بمكة.

هذه حكاية منكرة.

قال أبو يعلى: نقلتُ من خط أبي إسحاق بن شاقْلا: أخبرني عمر

(1) في (د): حدثنا.

(2)

في (أ): " فحملني "، وفي (ج):" فأنزلني ".

(3)

في (ج) و (د): يزل يسير.

(4)

" له " ساقطة من (ج).

(5)

في " السير ": الخضر.

ص: 320

بن علي، حدثنا جعفر الرزاز جارنا، سمعت أبا جعفر محمد بن المدني (1)، سمعت عبد الله فذكرها. فلعلَّها من وضع الرزاز.

أنبؤونا عن ابن الجوزي، أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق، حدثنا عبد الله بن إسحاق البَغَوي، حدثنا أبو جعفر محمد بن يعقوب الصفار، قال: كنا عند أحمد، فقلت: ادع الله لنا.

فقال: اللهم إنك تعلم أنك لنا على (2) أكثر مما نحِبُّ، فاجعلنا لك على ما تحبُّ. اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسماوات والأرض:{ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين} [فصلت: 11]. اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلَاّ إليك، ومن الذل إلَاّ لك.

رواتها أئمةٌ إلى (3) الصفار، ولا أعرفه. وهي منكرة.

أخبرنا عمر بن القوَّاس، عن الكندي، أخبرنا الكرُوخيُّ، أخبرنا شيخ الإسلام الأنصاري، أخبرنا أبو يعقوب، أخبرنا زاهر بن أحمد، حدثنا علي بن عبد الله بن مُبَشِّر: سمعت الرمادي، سمعت عبد الرزاق، وذكر أحمد، فدمعت عينه. وقال: قدم وبلغني أن نفقته نَفِدَتْ، فأخذت عشرة دنانير، وعرضتُها عليه، فتبسم، وقال: يا أبا بكر، لو قبلت شيئاً من الناس، قبلت منك. ولم يقبل مني شيئاً.

الخلال: أخبرني أبو غالب علي بن أحمد، حدثني صالح بن أحمد، قال: جاءتني حُسْن، فقالت: قد جاء رجل بتلِّيسة (4) فيها فاكهة

(1) في السير: المولى.

(2)

ساقطة من (د).

(3)

في (أ): إلَاّ.

(4)

وعاء يسوى من الخوص.

ص: 321

يابسة، وبكتاب. فقمت فقرأت (1) الكتاب، فإذا فيه: يا أبا عبد الله، أبضعت لك بضاعة إلى سمرقند، فربحت، فبعثت بذلك إليك أربعة آلاف، وفاكهة أنا لقطُتها من بستاني ورِثته من أبي. قال: فجمعت الصبيان ودخلنا، فبكيتُ وقلتُ: يا أبة، ما ترِقُّ لي من أكل الزكاة؟ ثم كشف عن رأس الصبية، وبكيت. فقال: من أين علمت؟ دع حتى أستخير الله الليلة. قال: فلما كان من الغد. قال: استخرتُ الله، فعزم لي أن لا آخُذَها. وفتح التلِّيسة ففرَّقَها على الصبيان. وكان عنده ثوبٌ عُشاري، فَبَعَثَ به إلى الرجل، وردَّ المال.

عبد الله بن أحمد: سمعت فوران، يقول: مَرِضَ أبو عبد الله، فعاده الناس، يعني: قبل المئتين. وعاده عليُّ بن الجَعْد، فترك عند رأسه صُرَّة (2)، فقلت له عنها، فقال: ما رأيت. اذهب فردَّها إليه.

أبو بكر بن شاذان: حدثنا أبو عيسى أحمد بن يعقوب، حدثتني فاطمة بنت أحمد بن حنبل، فقالت: وقع الحريق في بيت أخي صالح، وكان قد تزوج بغنية، فحملوا إليه جهازاً شبيهاً بأربعة آلاف دينار، فأكلته النار فجعل صالح، يقول: ما غمَّني ما ذهب إلَاّ ثوبٌ لأبي. كان يصلي فيه أتبرَّك به وأُصلِّي فيه. قالت: فطُفِىء الحريق، ودخلوا فوجدُوا الثوب على سرير قد أكلت النار ما حولَه وسَلِم.

قال ابن الجوزي: وبلَغَني عن قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي أنه حكى أن الحريق وقع في دارهم، فأحرق ما فيها إلَاّ كتاباً كان

(1) في (د): وقرأت.

(2)

ساقطة من (د).

ص: 322

فيه شيء بخطِّ الإمام أحمد. قال: ولمَّا وقعَ الغرق ببغداد في سنة 554 (1)، وغرقت كتبي، سَلِمَ مجلدٌ فيه ورقتان بخط الإمام.

قلت: وكذا استفاض وثبت أن الغرق الكائن بعد العشرين وسبع مئة ببغداد عام على حفائر (2) مقبرة أحمد، وأن الماء دخل في الدِّهليز عُلُو ذِراعٍ، ووقف بقدرة الله، وبقيت الحصر حول قبر الإمام بغُبارها، وكان ذلك آيةً.

أبو طالب: حدثنا المروذي: سمعت مجاهد بن موسى، يقول: رأيت أحمد، وهو حدث، وما في وجهه طاقة، وهو يُذكَرُ.

وروى حَرَمِي بن يونس، عن أبيه: رأيت أحمد أيامَ هُشيمٍ وله قَدْر.

قال أحمد بن سعيد الرِّباطي سمعت أحمد بن حنبل، يقول: أخذنا هذا العلم بالذُّلِّ فلا ندفعه إلَاّ بالذل.

محمد بن صالح بن هانىء: حدثنا أحمدُ بن شهاب الإسفراييني: سمعتُ أحمد بن حنبل، وسُئِلَ عمَّن نكتب في طريقنا، فقال: عليكم بهَنَّاد، وبسفيان (3) بن وكيع، وبمكة ابن أبي عمر، وإيّاكم أن تكتُبوا، يعني: عن أحدٍ من أصحاب الأهواء، قليلاً ولا كثيراً. عليكم بأصحاب الآثار والسُّنن.

عبد الله بن أحمد: كتب إليَّ الفتحُ بن شَخْرَف (4) أنَّه سمع

(1) في الأصول: " أربع وخمس مئة "، والمثبت من " السير "، وهو الصواب.

(2)

في " السير ": مقابر.

(3)

في (ب): وسفيان.

(4)

في (أ) و (د): شحرب.

ص: 323

موسى بن حِزام الترمذي، يقول (1): كنت أختلفُ إلى أبي سليمان الجوزجاني في كتب محمد، فاستقبلني أحمد، فقال: إلى أين؟ قلت: إلى أبي سليمان. فقال: العجبُ منكم! تركتُم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يزيد عن حُميد، عن أنس، وأقبلتم على ثلاثة إلى أبي حنيفة، رحمه الله. أبو سليمان، عن محمد، عن أبي يوسف، عنه! قال: فانحدرت إلى يزيد بن هارون.

ابن عدي: أخبرنا عبد الملك بن محمد، حدثنا صالح بن أحمد: سمعت أبي، يقول: والله لقد أعطيت المجهود من نفسي، ولَوَدِدْتُ أني أنجو كفافاً.

الحاكم: حدثنا أبو علي الحافظ: سمعت محمد بن المسيب، سمعت زكريا بن يحيى الضرير، يقول: قلت لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يكون مُفتياً؟ يكفيه مئة ألف حديث؟ فقال: لا. إلى أن قال: فيكفيه خمس مئة ألف حديث؟ قال: أرجو.

تقدم قول الذهبي في قول أبي زرعة: إن محفوظ أحمد كان ألف ألف حديث، كانوا يعُدُّون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي وما فسر، ونحو ذلك، وإلَاّ فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عُشْرَ معشار ذلك انتهى.

ثم ذكر الذهبي سيرة أحمد في الفتنة، وما جَرَى معه مع (2) المأمون من الحبس قليلاً، ثم مات المأمون قبل امتحان أحمد، ثم وَلِيَ

(1) من قوله: " كتب الي " إلى هنا كتب مكانها في (ج): قال.

(2)

ساقطة من (ب).

ص: 324

المعتصم، وضَرَبَه الضرب الشديد، حتى ظنَّ أنه يموت، فأخرجه لكي لا يموت في حبسه، فتثُور عليه العامة، ثم وَلِيَ الواثق فَنَهَى أحمد أن يُساكِنَه بأرضٍ، فاختفي مُدَّة حياته، ثم وَلِيَ المتوكِّلُ، وقد اختصرت (1) ما ذكره الذهبي في المحنةِ لطوله، فإنَّه ساقه في ست عشرة (2) ورقة، وإن كان فيه أعظمُ دليل على شِدَّةِ وَرَعِ هذا الإمام وتقواه، وبذله للروح فما دونه في مرضاةِ الله.

وقال الذهبي بعد ذلك: العجب من أبي القاسم علي بن الحسن الحافظ، كيف ذكر ترجمة أحمد مطوَّلةً كعوائده، ولكن ما أورد من أمر المحنة كلمةً مع صحة أسانيدها، فإنَّ حنبلاً ألَّفها في جزأين، وكذلك صالح بن أحمد وجماعة.

فصلٌ في حال (3) أحمد في دولة المتوكل

قال حنبل: وَلِيَ المتوكل جعفرٌ، فأظهر الله السُّنَّة، وفرَّج عن الناس، وكان أبو عبد الله يحدثنا ويُحدِّث أصحابه في أيام المتوكل.

وسمعته يقول: ما كان الناس إلى الحديث والعلم أحوج منهم إليه في زماننا.

إلى أن قال:

فلما كان بعد أيام بينا نحن جلوسٌ بباب الدار، إذ بيعقوب أحد حجاب المتوكل قد جاء، فاستأذن على أبي عبد الله، فدخل، ودخل أبي

(1) في (ب): فاختصرت.

(2)

في (أ) و (ب) و (د): " ستة عشر "، والتصويب من (ج).

(3)

في (ج) و (د): حالة.

ص: 325

ومع بعضِ غلمانه بَدْرَةٌ (1)، ومعه كتابُ المتوكل. فقرأه على أبي عبد الله: فأبى أن يَقْبَل المال، وقال: ما لي إليه حاجة. فقال: اقبل من أمير المؤمنين، فإنه خيرٌ لك عنده، فإنَّه إن رددتَه (2)، خِفتُ أن يظن بك سُوءاً. فحينئذٍ قَبِلَها، فلما كان من الليل، إذا أُمُّ ولد أبي عبد الله تدُقُّ (3) علينا الحائط، فخرجنا، فدخلنا عليه، فقال: يا عم، ما أخذني النوم، لأجل هذا المال، وجعل يَتَوَجَّعُ لأخذِه، وأبي يُسكِّنُه (4) ويُسهِّلُ عليه.

وقال: حتى تُصبح، وترى فيه رأيك. فإن هذا ليل، والناس في المنازل، وخرجنا. فلما كان من السحر، وجَّه إلى عبدوس بن مالك، وإلى الحسن ابن البزار وحضر جماعةٌ، منهم: هارون الحمال، وأحمد بن منيع، وابنُ الدَّوْرَقي، وأبي، وأنا، وصالح، وعبد الله.

فجعلنا نكتب من يذكرونه من أهل السِّتْرِ والصلاح ببغداد والكوفة، فوجَّه منها إلى أبي كريب، وللأشج وإلى من يعلمون حاجته، ففرَّقها كلها ما بين الخمسين إلى المئة وإلى المئتين، فما بقي في الكيس درهم.

فلما كان بعد ذلك، مات الأمير إسحاق بن إبراهيم وابنه محمد. ثم ولي بغداد عبد الله بن إسحاق، فجاء رسوله إلى أبي عبد الله، فقرأ عليه كتاب المتوكل، وقال له: يأمرك بالخروج يعني: إلى سامَرَاء. فقال: أنا شيخٌ ضعيفٌ عليل. فكتب بما ردَّ عليه، فردَّ جواب الكتاب: أن أمير المؤمنين يأمره بالخروج. فوجَّه عبد الله أجناداً، فباتوا على بابنا أياماً،

(1) البَدْرة: كيس فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار.

(2)

في (ب): رددت.

(3)

في (أ): يدق.

(4)

في (ب): سكنه.

ص: 326

حتى تَهَيَّأ أبو عبد الله للخروج، فخرج ومعه صالح وعبد الله وأبي زُمَيْلَة (1).

قال صالح: كان حمل أبي إلى المتوكل سنة سبعٍ وثلاثين. ثمَّ [و](2) إلى أن مات أبي قلَّ يومٌ يمضي إلَاّ ورسول المتوكل يأتيه.

قال حنبل: فأخبرني أبي، قال: دخلنا إلى العسكر، فإذا نحن بموكبٍ عظيم مُقبل، فلما حاذى بنا، قالوا: هذا وصيفٌ، وإذا بفارس مقبل، فقال لأبي عبد الله: الأمير وصيفٌ يُقرئُك السلام، وقال: إن الله قد أمكنك من عدوِّك، يعني: ابن أبي دُوَاد، وأمير المؤمنين يقبل منك، فلا تَدَعْ شيئاً إلَاّ تكلمت به. فما رد عليه أبو عبد الله شيئاً. وجعلت أنا أدعو لأمير المؤمنين ولوصيف. ومضينا، فأُنزلنا في دار إيتاخ، قال: حوَّلوني، اكترُوا لي داراً. قالوا: هذه دارٌ أنزلَكَها أمير المؤمنين، قال: لا أبيتُ ها هنا. ولم يزل حتى اكترينا له داراً. وكانت تأتينا في كل يوم مائدة فيها ألوان يأمر بها المتوكل والثلج والفاكهة وغير ذلك، فما ذاق منها شيئاً، ولا نظر إليها. وكان نفقة المائدة في اليوم مئةً وعشرين درهماً.

وكان يحيى بن خاقان، وابنه عبيد الله، وعليُّ بن الجهم (3) يختلفون إليه برسالةِ المتوكل. ودامت العلة بأبي عبد الله، وضعف شديد. وكان يواصل، ومكث ثمانية أيام لا يأكل ولا يشرب، ففي الثامن دخلت عليه، وقد كاد أن يُطفَأ، فقلت: ابن الزبير كان يواصلُ سبعة أيام، وهذا لك ثمانية أيام. قال: إني مُطيقٌ. قلت: بحقي عليك.

(1) الزُّمْلَة -بضم الزاي وسكون الميم-: الرفقة، فالظاهر أن هذا تصغيرها.

(2)

من " السير ".

(3)

تحرفت في (ب) إلى: الجهضم.

ص: 327

قال: فإنِّي أفعل. فأتيته بسويق فشَرِبَ. ووجَّه إليه المتوكل بمال عظيم، فرده، فقال له عبيد الله بن يحيى: فإن أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك (1). قال: هم مستغنون، فردَّها عليه [فأخذها](2) عبيد الله، فقسمها على ولده، ثم أجرى المتوكل على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف. فبعث إليه أبو عبد الله: إنهم في كفاية، وليست بهم حاجة (3). فبعث إليه المتوكل: إنما هذا لولدك، فما لك ولهذا؟ فأمسك أبو عبد الله، فلم يزل يُجري علينا حتى مات المتوكل.

وجرى بين أبي عبد الله وبين أبي كلام كثير. وقال: يا عم، ما بقي من أعمارنا. كأنك بالأمر قد نزل. فالله الله، فإن أولادنا إنَّما يريدون أن يأكلوا بنا، وإنما هي أيامٌ قلائل، وإنما هذه فتنة. قال أبي: فقلت: أرجو أن يَؤمِّنك الله مما تحذر. فقال: كيف وأنتم لا تتركون طعامهم ولا جوائزهم؟ ولو تركتموها، لتركوكم. ما ننتظر إنما هو الموت. فإما إلى جنةٍ، وإمَّا إلى نار. فطُوبى لمن قَدِمَ على خير. قال: فقلت: أليس قد (4) أمرت ما جاءك من هذا المال من غير إشراف (5) نفس، ولا مسألةٍ إن تأخذه؟ قال: قد أخذت مرة بلا إشراف نفس، فالثانية (6) والثالثة؟ ألم تستشرف نفسُك؟ قلت: أفلم يأخذ ابن عمر وابن عباس؟ فقال: ما هذا وذاك! وقال: لو أعلمُ أن هذا المال يُؤخذُ من وجْهِه، ولا يكون فيه ظُلمٌ

(1) ساقطة من (د).

(2)

زيادة من " تاريخ الإسلام ".

(3)

ساقطة من (د).

(4)

ساقطة من (ب).

(5)

مكانها بياض في (ب).

(6)

ساقطة من (ب).

ص: 328

ولا حَيْف لم أُبالِ.

قال حنبل: ولمَّا طالت عِلَّةُ أبي عبد الله، كان المتوكلُ يبعث بابن ماسويه المتطبِّب، فيصفُ له الأدوية، فلا يتعالج. ويدخل ابن ماسويه، فقال: يا أمير المؤمنين ليست بأحمد عِلَّةٌ، إنما هو من قلة الطعام، والصيام والعبادة، فسكت المتوكل.

وبلغ أمَّ المتوكل خبر أبي عبد الله، فقالت لابنها: أشتهي أن (1) أرى هذا الرجل، فوجَّه المتوكل إلى أبي عبد الله، يسألُه أن يدخل على ابنه المعتز، ويدعو له ويسلم عليه، ويجعله في حجره. فامتنع، ثم أجاب رجاء أن يُطلَق، فوجه إليه المتوكل خِلْعَةً، وأَتَوه بدابةٍ يركبها فامتنع، وكانت عليه مِيثرَةَ نُمُورٍ. فقدم إليه بغلٌ لتاجر، فركبه (2)، وجلس المتوكل مع أمه في مجلسٍ من المكان، وعلى المجلس سِترٌ رقيق.

فدخل أبو عبد الله على المعتز (3)، ونظر إليه المتوكل وأمه. فلما رأته، قالت: يا بني، الله الله في هذا الرجل، فليس هذا ممن يريد ما عندكم، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله، فائذنْ له ليذهب، فدخل أبو عبد الله على المعتز، فقال: السلام عليكم، وجلس، ولم يسلم عليه بالإمْرَة ققال مؤدِّبه: أصلح الله الأمير، هذا هو الذي أمره (4) أمير المؤمنين يُؤدِّبُك ويعلِّمك؟ فقال الصبي: إن علمني شيئاً، تعلمتُه! قال أبو عبد الله: فعجبت من ذكائه وجوابه على صغره، وكان صغيراً.

(1) ساقطة من (ب).

(2)

من قوله: " خلعة " إلى هنا ساقط من (ب).

(3)

من قوله: " وعلى المجلس " إلى هنا ساقط من (ب).

(4)

ساقطة من (ب).

ص: 329

ودامت علة أبي عبد الله، وبلغ المتوكل ما هو فيه، وكلمه يحيى بن خاقان، وأخبره أنه رجلٌ لا يريد الدنيا، فأذن له في الانصراف، فانصرف.

وكان ربما استعار الشيء من منزلنا ومنزل ولده، فلما صار إلينا من مال السلطان ما صار، امتنع من ذلك حتى لقد وُصِفَ له في علته قرعة تُشوى، فشُويت في تنُّور صالح، فعلم، فلم يستعملها ومثل هذا كثير.

وقد ذكر صالح قصة خروج أبيه إلى العسكر، وتفتيش بيوتهم على العَلَوي، وورود يعقوب بالبَدْرَة، وأن بعضها كان مئتى دينار، وأنه بكى، وقال: سلِمْتُ منهم، حتى إذا كان في آخر عمري، بُليتُ بهم.

وذكر أنه فرق (1) الجميع، ونحن في حالةٍ، الله بها عليم. فجاءني ابنٌ لي فطلب درهماً، فأخرجت قطعة، فأعطيته، فكتب صاحب البريد: إنه تصدَّق بالكل ليومه حتى بالكيس.

قال عليُّ بن الجهم: فقلت: يا أمير المؤمنين، قد تصدَّق بها (2)، وعلم الناس أنه قَبِلَ منك، وما يصنع أحمد بالمال؟! وإنما قُوتُه رغيفٌ. قال: صدقت.

قال صالح: ثم أخرج أبي ليلاً ومعنا حراسٌ، فلمَّا أصبح، قال: أمعك دراهم؟ قلت: نعم. قال: أعطهم. وجعل يعقوب يسير معه، فقال له: يا أبا عبد الله، ابن الثلجي بلغني أنه كان يذكرك. قال: يا أبا يوسف، سَلِ الله العافية. قال: يا أبا عبد الله، تريدُ أن نؤدِّيَ عنك

(1) في " السير " فرق.

(2)

في (ب): بالكل.

ص: 330

رسالةً إلى أمير المؤمنين؟ فسكت، فقال: إن عبد الله بن إسحاق أخبرني أن الوابِصِيَّ (1)، قال له: إني أشهد عليه أنه قال: إن أحمد يعبُدُ ماني (2)! فقال: يا أبا يوسف يكفي الله، فغضب يعقوب، والتفت إلي فقال: ما رأيت أعجب مما نحن فيه. أساله أن يُطلَق لي كلمةً أُخبِرُ بها أميرَ المؤمنين، فلا يفعل!!

قال: ووجَّه يعقوب إلى المتوكل بما عمل، ودخلنا العسكر، وأبي منكسُ الرأس، ورأسهُ مُغطَّى. فقال له يعقوب: اكشف رأسك، فكشَفَه. ثم جاء وصيفٌ يريد الدار، ووجَّه إلى أبي بيحيى بن هَرْثَمَة (3)، فقال: يُقرِئُك أمير المؤمنين السلام، وقال: الحمد لله الذي لم (4) يُشمِّتْ بك أهل البِدَع، قد علمت حال ابن أبي دواد، فينبغي أن تتكلَّم (5) فيه بما يجبُ لله.

إلى قوله: وجعل يعقوب وغياث يصيران إليه، ويقولان له: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول في ابن أبي دُوَاد وفي ماله فلا يجيبُ بشيءٍ إلى قوله:

(1) هو عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر، من ولد وابصة بن معبد وكان يتولَّى قضاء بغداد. مات سنة 249 هـ. له ترجمة في تاريخ بغداد 14/ 52 - 53، و" التهذيب " 6/ 322 - 323.

(2)

ماني هو أحد نبهاء الفرس، وقد ظهر في القرن الثالث الميلادي في إيران، وانتقل إلى الهند للتبشير بمذهبه، إلَاّ أن ملك الهند سابور الثاني قام بإعدامه. ومذهبه مزيج من معتقدات الزرادشتية والنصرانية والبوذية، كالإيمان بالصراع بين إلهين اثنين: إله الخير والنور، وإله الظلمة والشر، وإباحة نكاح الأخوات والبنات

ولقد انتشرت المانوية في فارس، والهند، والتيبت، والصين، وتركستان، حيث بقيت حتى القرن الحادي عشر الميلادي.

(3)

في (أ) و (ج): أبي يحيى بن هزيمة، وهو تحريف.

(4)

" لم " ساقطة من (أ).

(5)

في (ب): تكلم.

ص: 331

ثم قال يعقوب: إن لي ابناً أنا به مُعجب، وإنَّ له في قلبي مَوْقِعاً، فأُحِبُّ أن تُحَدِّثَهُ بأحاديث، فسكت. فلما خرج، قال: أتراه لا (1) يرى ما أنا فيه؟!! ..

وكان يختم القرآن من جمعة إلى جمعة، فلمَّا كان غداة الجمعة، وجَّه إليَّ وإلى أخي. فلمَّا ختم، جعل يدعو ونحن نؤمِّن. فلما فرغ (2)، جعل يقول: أستخير الله مراتٍ. فجعلت أقول: ما تريدُ؟ ثم قال: إني (3) أُعطي الله عهداً، إن عهده كان مسؤولاً، وقال (4) تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] إني (5) لا أحدِّث بحديثٍ تمامٍ أبداً حتى ألقى الله، ولا أستثني منكم أحداً، فخرجنا، وجاء عليُّ بن الجهم فأخبرناه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال: إنما تريدون أحدِّث، ويكون هذا البلد حبسي، وإنما كان سبب الذين أقاموا بهذا البلد لما أُعطوا فقبلوا، وأُمروا فحدَّثوا، والله لقد تمنيتُ الموت في هذا وذاك.

إن هذا فتنة الدنيا، وذاك فتنة الدين، ثم جعل يضُمُّ أصابعه، ويقول: لو كانت تفسي في يدي لأرسلتها [ثم يفتح أصابعه](6).

وكان المتوكل يُكثرُ السؤال عنه، وفي خلال ذلك يأمر لنا بالمال، ويقول: لا يُعلَمُ شيخُهم فيَغْتَمَّ، ما يريد منهم؟ إن كان هو لا يريد الدنيا، فلِمَ يمنعهم؟!

(1) ساقطة من (ب).

(2)

قوله: " ونحن نؤمن، فلما فرغ " ساقط من (ب).

(3)

في (د): أبي.

(4)

في (أ): فقال.

(5)

في (ب): وإني.

(6)

ما بين حاصرتين من " تاريخ الإسلام ".

ص: 332

وقال للمتوكل: إنه لا يأكل طعامك، ولا يجلسُ على فِراشك، ويُحرِّم الذي تشرب. فقال: لو نُشر لي المعتصم، لقال فيه شيئاً، لم أقبل منه.

ثم ذكر الذهبي من شدة منعه لأولاده من قبول الأموال شيئاً عجباً (1) إلى قوله: أنبؤونا عمَّن سمع أبا علي المُقرىء، أخبرنا أبو نعيم (2)، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: كتب عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى أبي يخبره أن أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إليك أسألك عن القرآن، لا مسألة امتحان، لكن مسألة معرفة وتبصرة. فأملى عليَّ أبي: إلى عُبيد الله بن يحيى، بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك أبا الحسن في الأمور كلها، ودفع عنك المكاره برحمته، قد كتبتُ إليك، رضي الله عنك، بالذي سأل عنه أمير المؤمنين بأمر القرآن بما حضرني، وإني (3) أسال الله أن يُديمَ توفيق أمير المؤمنين، فقد كان الناس في خوضٍ من الباطل، واختلافٍ شديد ينغمسون فيه (4)، حتى أفضَتِ الخلافة إلى أمير المؤمنين، فنفي الله به كلَّ بدعة، وانجلى عن الناس ما كانوا فيه من الذل وضيق المحابس (5). ووقع ذلك من المسلمين موقعاً عظيماً، ودَعُوا الله لأمير المؤمنين [وأسأل الله أن يستجيب في أمير

(1) في (ب): عجيباً.

(2)

صاحب " حلية الأوياء "، والخبر فيه 9/ 216 - 219، ورواها ابن الجوزي في " المناقب " ص 377 - 379 بإسناده لأبي نعيم، ولكن اختصرها، ولم يسق نصها كاملاً.

(3)

في (د): وأنا.

(4)

قوله: " ينغمسون فيه " ساقطة من (ب).

(5)

في " الحلية ": " ضيق المجالس "، وما هنا موافق لابن الجوزي.

ص: 333

المؤمنين صالح الدعاء، وأن يُتمَّ ذلك لأمير المؤمنين] (1) وأن يزيد في نيته، وأن يُعْينَه على ما هو عليه. فقد ذكر عن ابن عباس أنه قال: لا تَضرِبُوا كتاب الله بعضه ببعضٍ، فإنه يُوقِعُ الشك في قلوبكم.

وذُكِرَ عن عبد الله بن عمرو، أن نفراً كانوا جلوساً عند باب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضُهم: ألم يقل [الله](2) كذا، وقال بعضهم، ألم يقل الله كذا (3)؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج كأنما فُقِىءَ في وجهه حَبُّ الرُّمان، فقال:" أبهذا أُمِرتُم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلَّت الأمم قبلكم في (4) مثل هذا، انظروا الذي أُمِرتُم به، فاعملوا به، والذي نُهِيتُم عنه، فانتهوا عنه "(5).

ورُوي عن أبي هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ["مراءٌ في القرآن كفرٌ"(6)

(1) ما بين حاصرتين من " تاريخ الإسلام "، و" الحلية ".

(2)

الزيادة من " تاريخ الإسلام ".

(3)

ساقطة من (د).

(4)

في (ب): من.

(5)

تقدم تخريجه 3/ 238.

(6)

أخرجه أحمد 2/ 286 و300 و424 و475 و503 و528، وأبو داود (4603) في السنة: باب النهي عن الجدال في القرآن، والآجري في " الشريعة " ص 67 وأبو نعيم في " الحلية " 6/ 215 وسنده حسن، وصححه ابن حبان (73)، والحاكم 2/ 223، ووافقه الذهبي.

واختلفوا في تأويل هذا الحديث، فقيل: معنى المراء: الشك، كقوله سبحانه وتعالى:{فلا تَكُ في مِرْيةٍ} ، أي: في شك. وقيل المراء: هو الجدال المشكك، وذلك أنه إذا جادل فيه، أداه إلى ما يرتاب في الآي المتشابهة منه، فيؤديه ذلك إلى الجحود فسماه كفراً باسم ما يُخشى من عاقبته، إلَاّ من عصمه الله. ومن حق الناظر في القرآن أن يجتهد في التوفيق بين الآيات برد المتشابهات إلى المحكمات، والجمع بين المختلفات ظاهراً ما أمكنه، فإنَّ القرآن يصدِّق بعضه بعضاً، فإن أشكل عليه شيء من ذلك، ولم يتيسَّر له التوفيق، فليعتقد =

ص: 334

وروي عن أبي جهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:] (1)" لا تَمَارَوْا في القرآن، فإنَّ مراءٌ فيه كفر "(2).

وقال ابن عباس: قدم رجلٌ على عمر، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا. فقال ابن عباس: فقلت: والله ما أُحِبُّ أن يسارعوا يومهم في القرآن هذه المسارعة. فزَبَرَني عُمر، وقال: مه. فانطلقت إلى منزلي كئيباً حزيناً، فبينا أنا كذلك، إذ أتاني رجلٌ، فقال: أجِبْ أميرَ المؤمنين. فخرجت، فإذا هو بالباب ينتظرني، فأخذَ بيدي، فخَلَا بي، وقال: ما الذي كرهتَ؟ قلت: يا أمير المؤمنين، متى يتسارعوا هذه المسارعة، يحتَقُّوا (3)، ومتى

= أنه من سوء فهمه، وليكله إلى عالمه، وهو الله ورسوله. وتأوله بعضهم على المراء في قراءته، وهو أن ينكر بعض القراءات المروية، وقد أنزل الله القرآن على سبعة أحرف، فتوعدهم بالكفر لينتهوا عن المراء فيها، والتكذيب بها، إذ كلها قرآن منزل يجب الإيمان به، ويشهد لهذا التفسير حديث أبي جهيم الآتي. وقيل: إنما جاء هذا في الجدال بالقرآن من الآي التي فيها ذكر القدَر والوعيد وما كان في معناهما على مذهب أهل الكلام والجدل، دون ما كان منها في الأحكام وأبواب الإباحة والتحريم، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد تنازعوها فيما بينهم، وتحاجُّوا بها عند اختلافهم، في الأحكام. ويشهد لهذا التفسير حديث عبد الله بن عمرو المتقدم، فقد وقع عند أحمد 2/ 296، وابن ماجة (85) أن تنازعهم كان في القدر.

(1)

ما بين حاصرتين ساقط من الأصول، وهو من " السير "، و" السنة " ص 22.

(2)

أخرجه أحمد 4/ 170 من طريق أبي سلمة الخزاعي، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني يزيد بن خُصَيْفَة، أخبرني بسر بن سعيد قال: حدثني أبو جهيم أن رجلان اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" القرآن يقرأ على سبعة أحرف، فلا تُماروا في القرآن، فإنَّ مراءً في القرآن كفر "، وإسناده صحيح.

وفي الباب عن عمرو بن العاص عند أحمد 4/ 204.

وعن زيد بن ثابت في الطبراني 5/ (4916). وقال الهيثمي في " المجمع " 1/ 157: ورجاله موثقون.

وعن عبد الله بن عمرو عند الآجُري في " الشريعة " ص 68.

(3)

أي: يقول كل منهم: الحق في يدي ومعي.

ص: 335

يحتَفُّوا (1) يختصموا، ومتى يختصِمُوا يختلفوا، ومتى ما اختلفُوا يقتتلوا.

قال: لله أبوك، والله إن كنتُ لأكتُمها الناس، حتى جئت بها (2).

ورُوي عن جابر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، يعرض نفسه على الناس (3) بالموقف، فيقول:" هل مِنْ رجُلٍ يحمِلُني إلى قومه، فإنَّ قريشاً قد منعُوني أن أُبَلِّغ كلام ربِّي "(4).

ورُوي عن جُبَير (5) بن نُفَير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنَّكُم لن ترجعوا إلى الله بشيءٍ أفضَلَ ممَّا خَرَجَ منه " يعني: القرآن (6).

(1) قوله: " يحتقوا ومتى " ساقطة من (ب).

(2)

أخرج الخطيب في " الجامع " 2/ 194 من طريق محمد بن الحسن القطان، أخبرنا دَعْلَج بن أحمد، أخبرنا محمد بن علي بن زيد الصائغ، أخبرنا سعيد بن منصور حدثهم قال: حدثنا هُشيم، أخبرنا العوَّام بن حوشب، حدثنا إبراهيم التميمي قال: خلا عمر بن الخطاب ذات يوم، فجعل يُحَدِّث نفسه، فأرسل إلى ابن عباس قال: كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد، ونبيها واحد، وقبلتها واحدة، قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنما أُنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيمَ نزل، وإنه يكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن، ولا يعرفون فيمَ نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قومٍ فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا، اقتتلوا، فزبَرَه عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس، ثم دعاه بعد، فعرف الذي قال، ثم قال: إيهِ، أعِدْ عليَّ.

وذكره صاحب " الكنز "(4167) وزاد نسبته إلى " سنن سعيد بن منصور "، و" شعب الإيمان " للبيهقي.

(3)

في (د): على الناس نفسه.

(4)

أخرجه أبو داود (4734)، والترمذي (2925)، وابن ماجة (201)، والحاكم 2/ 612 - 613 وأحمد 3/ 390 من طرق عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر. وإسناده صحيح. وقال الترمذي: هذا حديث غريب صحيح.

(5)

تحرف في (د) إلى جابر.

(6)

أخرجه الترمذي (2912)، وأحمد في " الزهد " ص 35 وفي " السنة " ص 26 من طريق عبد الرَّحمن بن مهدي، عن معاوية، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطاة، عن جبير بن نفير، ورجاله ثقات، وأعلَّه البخاري في " خلق أفعال العباد " ص 99 بالإرسال والانقطاع. =

ص: 336

ورُوي عن ابن مسعود، قال: جرِّدوا القرآن، لا تكتبوا فيه شيئاً إلَاّ كلام الله (1).

وروي عن عمر أنه قال: هذا القرآن كلام الله، فضَعوهُ مواضعه (2).

وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنِّي إذا قرأتُ كتاب الله، وتدبَّرته، كِدتُ أن أيأسَ، وينقطعَ رجائي، فقال: إن القرآن كلام الله، وأعمالُ ابن آدم إلى الضعف والتقصير، فاعمل وأبشر (3).

= قلت: ووصله الحاكم 1/ 555 من طريق أحمد في حنبل، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطاة، عن جبير عن أبي ذر الغفاري. و2/ 441 ومن طريق عبد الله بن صالح عن معاوية في صالح، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر الجهني. وقال: هما صحيحا الإسناد، ووافقه فيهما الذهبي.

وفي الباب عند الخطيب في " تاريخه " 7/ 88 و12/ 220 من طريق في ليث بن أبي سليم، عن زيد بن أرطاة، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أَذِنَ الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإنَّ البِرَّ ليُذَرُّ على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه " يعني: القرآن، وذكره صاحب " الكنز "(2366) ونسبه إلى ابن السني.

(1)

أخرجه ابن أبي داود في " المصاحف " ص 154 - 155 من طرق عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء قال: قال عبد الله: " جردوا القرآن، ولا تلبسوا به ما ليس منه "، ومنها بلفظ:" جردوا القرآن ولا تخلطوا به ما ليس فيه "، وآخر بلفظ:" جردوا القرآن ولا تلبسوا به شيئاً ".

(2)

أخرجه البيهقي في " الأسماء والصفات " ص 242 - 243 وأحمد في " السنة " ص 27، والشريعة ص 77 من طريق أبي الزعراء (وقد تحرف في البيهقى إلى: الزهراء) عبد الله بن هانىء، ومجاهد، والزهري قالوا: قال عمر: " القرآن كلام الله ". وزاد الآجري: " فلا تضربوه على آرائكم ".

(3)

أخرجه أحمد في " السنة " ص 29، من طريق هارون بن عبد الله أبي موسى عن عبد الأعلى بن سليمان الزراد، عن صالح المري قال: أتى رجلٌ الحسن فقال له: يا أبا سعيد

وأخرج البيهقي في " الأسماء والصفات " ص 244 - 245 من طريق أبي الحسن المقري عن أبي عمرو الصفار، عن أبي عوانة الإسفراييني عن عثمان بن خرزاد، عن معاوية الغلابي =

ص: 337

وقال فروة بن نوفل الأشجعي: كنتُ جاراً لخبَّاب، فخرجتُ يوماً معه إلى المسجد، وهو آخذٌ بيدي، فقال:" يا هَنَاه، تَقَرَّب إلى الله بما استطعتَ، فإنَّك لن تتقرَّب إليه بشيءٍ أحبَّ إليه من كلامه"(1).

وقال رجلٌ للحَكَمَ: ما حمل أهل الأهواء على هذا؟ قال: الخصومات.

وقال معاويةُ بن قُرَّة: إياكم وهذه الخصومات (2)، فإنها تحبط الأعمال.

وقال أبو قِلابة: لا تُجالسوا أهل الأهواء، أو قال: أصحاب الخصومات. فإنِّي لا آمَنُ أن يَغمِسوكم في ضلالتهم (3)، ويُلبِسوا عليكم بعض ما تعرفون.

ودخل رجلان من أصحاب (4) الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر، نحدثُك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية؟ قال: لا. لَتَقومانِّ عني، أو لأقومَنَّهْ، فقاما. [فقال بعض القوم: يا أبا بكر، وما عليك أن يقرأ عليك آية؟ قال

] (5). وقال (6):

= عن صالح المري قال: سمعت الحسن يقول: القرآن كلام الله تعالى إلى القوة والصفاء، وأعمال بني آدم إلى الضعف والتقصير.

(1)

تقدم تخريجه في هذا الجزء ص 273 ت 3.

(2)

من قوله: " وقال معاوية " إلى هنا ساقط من (ب).

(3)

في (ب): ضلالهم.

(4)

في (ب): أهل.

(5)

ما بين الحاصرتين من " تاريخ الإسلام ".

(6)

في (ب) و (د): فقال:

ص: 338

خَشِيتُ أن يقرأ آية فيحرفاها (1)، فَيَقَرَّ ذلك في قلبي.

وقال رجُلٌ من أهل البدع لأيوب: يا أبا بكر أسألُك عن كلمة؟ فولَّى، وهو يقول بيده: لا، ولا نصف كلمة.

وقال ابن طاووس لابنٍ له يكلمه رجلٌ من أهل البدع: يا بُني أَدْخِلْ

أصبعيْك في أُذُنيك حتى لا تسمع ما يقُول. ثم قال: اشْدُد اشدد (2).

وقال عمر بن عبد العزيز: مَن جعل دينه غرضاً (3) للخصومات، أكثر التنقل.

وقال إبراهيم النَّخَعي: إن القوم لم يُدَّخَرْ عنهم شيء خُبِّىء (4) لكم لفضلٍ (5) عندكم.

وكان الحسنُ يقول: شرُّ داءٍ خالط قلباً، يعني: الأهواء.

وقال حذيفةُ: اتَّقُوا الله، وخُذوا طريق مَنْ كان قبلكم، والله لئِنِ استَقَمْتُمْ، لقد سَبقتم سبقاً بعيداً، ولئن تركتُموه يميناً وشمالاً، لقد ضللتم ضلالاً بعيداً، أو قال: مبيناً.

قال أبي: وإنما تركت الأسانيد لما تقدم من اليمين التي حَلَفْتُ بها مما قد علمه أمير المؤمنين، ولولا ذاك، ذكرتها بأسانيدها. وقد قال الله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}

(1) في الأصول و" السير ": فيحرفانها، والتصويب من " السنة " ص 24.

(2)

في الأصول: " اسدُد اسدد " والمثبت من " السير " و" السنة ".

(3)

في الأصول: عرضاً، والمثبت من " السير " و" السنة ".

(4)

ساقطة من (ب)، وفي (ج) و (د):" حتى "، وهو تحريف.

(5)

في (ب): " الفضل "، وهو خطأ.

ص: 339

[التوبة: 6]. وقال: {أَلَا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54]. فأخبَرَ أن الأمر (1) غيرُ الخلق. وقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَان} [الرحمن: 1 - 4]. فأخبر أن القرآن من عِلْمه. وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]. وقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145]. إلى قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]. فالقرآن من علم الله.

وفي الآيات دليلٌ على أن الذي جاءه هو القرآن. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق (2)، وهو الذي أذهب إليه، لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلَاّ ما كان في كتاب الله، أو في حديثٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه، أو عن التابعين. فأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود (3).

فهذه الرسالة إسنادُها كالشمس، فانظر إلى هذا النَّفَس النوراني، لا " كرسالة الإصطخري "(4)، ولا " كالرد على الجهمية " الموضوع على

(1) في (ب): " الخلق " وهو خطأ.

(2)

انظر " الأسماء والصفات " للبيهقي ص 243 - 258، و" السنة " للإمام أحمد ص 21.

(3)

نص الرسالة كاملة في " السنة " للإمام أحمد ص 21 - 26.

(4)

هو أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله الفارسي الإصطخري. ورسالته هذه المتضمنة لمذاهب أهل العلم ومذاهب الأثر، رواها عن الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل.

وقد ذكرها بتمامها القاضي أبو الحسين في " طبقات الحنابلة " 1/ 24، 36، وفيها من العبارات ما يخالف ما عليه السلف، ممَّا يستبعد صدوره من مثل هذا الإمام الجليل، كقوله =

ص: 340

أبي عبد الله (1)، فإن الرجل كان تقياً ورعاً لا يَتَفَوَّه بمثل ذلك. وكذلك رسالة المُسيء (2) في الصلاة باطلةٌ، وما ثَبَتَ عنه أصلاً وفرعاً، ففيه كفاية.

ومما ثبت عنه مسألة الإيمان، وقد صَنَّفَ فيها.

قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: الإيمان قول

= فيها: " وكلم الله موسى تكليماً من فيه " و" ناوله التوراة من يده إلى يده ". وربما كان ذلك مدعاة للمؤلف أن يطعن في صحة نسبتها إلى الإمام أحمد. ونص كلام المؤلف في " تاريخ الإسلام ": "

قلت: رواة هذه الرسالة عن أحمد أئمة أثبات، أشهد بالله أنه أملاها على ولده، وأما غيرها من الرسائل المنسوبة إليه كرسالة الإصطخري، ففيها نظر. والله أعلم ".

(1)

يرى الذهبي المؤلف أن كتاب " الرد على الجهمية " موضوع على الإمام أحمد. وقد شكك أيضاً في نسبة هذا الكتاب إلى الإمام أحمد بعض المعاصرين في تعليقه على " الاختلاف في اللفظ، والرد على الجهمية " لابن قتيبة. ومستنده أن في السند إليه مجهولاً، فقد رواه أبو بكر غلام الخلال، عن الخلال، عن الخَضِر بن المثنى، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه

والخضر بن المثنى هذا مجهول، والرواية عن مجهول مقدوح فيها، مطعون في سندها. وفيه ما يخالف ما كان عليه السلف من معتقد، ولا يتسق مع ما جاء عن الإمام في غيره مما صح عنه وهذا هو الذي دعا الإمام الذهبي هنا إلى نفي نسبته إلى الإمام أحمد. ومع ذلك، فإن غير واحد من العلماء قد صححوا نسبة هذا الكتاب إليه، ونقلوا عنه، وأفادوا منه، منهم القاضي أبو يعلى، وأبو الوفاء بن عقيل، والإمام البيهقي، وابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وتوجد من الكتاب نسخة خطية في ظاهرية دمشق، ضمن مجموع رقم (116)، وهي تشتمل على نص " الرد على الجهمية " فقط، وهو نصف الكتاب، وعن هذا الأصل نشر الكتاب في الشام، بتحقيق الأستاذ محمد فهر الشقفة.

ومما يؤكد أن هذا الكتاب ليس للإمام أحمد أننا لا نجد له ذكراً لدى أقرب الناس إلى الإمام أحمد بن حنبل ممن عاصروه وجالسوه، أو أتوا بعده مباشرة وكتبوا في الموضوع ذاته كالإمام البخاري ت 256 هـ، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة ت 276 هـ، وأبي سعيد الدارمي ت 280. والإمام أبو الحسن الأشعري قد ذكر عقيدة الإمام أحمد في كتابه " مقالات الإسلاميين "، ولكنه لم يشر إلى هذا الكتاب مطلقاً، ولم يستفد منه شيئاً.

(2)

يغلب على الظن أنه يريد الرسالة الموسومة بـ " الصلاة "، وقد طبعت في مصر بتحقيق حامد الفقي. وكثير من الأئمة الذين ينتمون إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ينقلون عنها، ويحتجون بما فيها.

ص: 341

وعمل، ويزيد وينقص، البِرُّ كله من الإيمان، والمعاصي تنقص الإيمان.

أقول: هذا لفظُ الذهبي، ونصه بحروفه من خطه (1) المعروف، لكن فيه شيء مصلح بغير خطه، وأحسبُه لبعض المبتدعة، وقد حذفتُه، وهو ما لفظه:" ولعله قاله " صلَّحه عقيب قول الذهبي، فإن الرجل كان تقياً، ورعاً، لا يتفوَّهُ بذلك، وكان مكان هذا اللفظ المصلح لفظ غيره بخط الذهبي، وبدله بما يناقض كلام الذهبي، وما خَفِيَ ذلك ولله الحمد لوجوه:

أحدها: الكشط الواضح.

وثانيها: الخط المخالف.

وثالثها: المعنى المناقض لما قبله، ولما بعده، ولما تكرر من نحو ذلك في غير هذا الموضع.

من ذلك قول الذهبي بعد هذا بقليل.

أنبؤونا عن محمد بن إسماعيل، عن يحيى بن مندَة الحافظ أخبرنا أبو الوليد الدَّرْبَنْدي سنة (2) أربعين وأربع مئة، أخبرنا (3) أبو بكر محمد بن عبيد الله بن الأسود بدمشق، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر النَّهاوَنْدي، حدثنا (4) أبو بكر محمد بن إبراهيم بن زُوران لفظاً، حدثنا (4)

(1) في (ب): خط.

(2)

مكررة في (د).

(3)

من قوله " عن محمد بن إسماعيل " إلى هنا ساقط من (ب).

(4)

في (د): أخبرنا.

ص: 342

أحمدُ بن جعفر الإصطخري (1)، قال (2): قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: هذا مذهب أهل العلم والأثر، فمن خالف شيئاً من ذلك أو عاب قائلها، فهو مُبتدع. وكان قولهم: إن الإيمان قولٌ وعملٌ ونيَّةٌ، وتمسكٌ بالسنة، والإيمان يزيد وينقصُ، ومن زعم أن الإيمان قول، والأعمال شرائع، فهو جهميٌّ، ومن لم ير الاستثناء في الإيمان، فهو مُرجىء، والزنى والسرقة وقتل النفس، والشرك (3) كلها بقضاءٍ وقدرٍ من غير أن يكون لأحد على الله حجة. إلى أن قال: والجنة والنار خُلِقَتا، ثم خلق الخلقُ لهما، لا تفنيان، ولا يفنى ما فيهما أبداً. إلى أن قال: والله تعالى على العرش، والكرسيُّ موضعُ قدميه. إلى أن قال: وللعرش حَمَلَة. ومن (4) زعم أن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي. ومن لم يكفِّره، فهو مثله. وكلم الله موسى تكليماً من فيه. إلى أن ذكر أشياء من هذا الأنموذج المنكر، والأشياء التي -والله- ما قالها الإمام. فقاتل اللهُ واضعَها. ومن أسمجِ ما فيها قوله: ومن زعم أنه لا يرى التقليد، ولا يُقلِّد دينه أحداً، فهذا قول فاسقٍ عدو لله. فانظر إلى جهل المحدثين كيف يروون هذه (5) الخُرافة، ويسكتون عنها (6).

(1) هذه هي الرسالة التي أشار الذهبي إلى بطلانها كما في الصفحة السابقة، وهي مذكورة في " طبقات الحنابلة " 1/ 24 - 31.

(2)

ساقطة من (د).

(3)

في الأصول: " والترك "، والمثبت من " السير ".

(4)

في (د): إلى أن قال: ومن.

(5)

في (د): مثل هذه.

(6)

رحم الله الإمام الذهبي، وجزاه عن الإسلام خيراً، فهو كما وصفه تلميذه الصلاح الصفدي 2/ 163 بأنه لم يكن عنده جمود المحدثين، ولا كودنة النقلة، بل هو فقيه، له دِرْية بأقوال الناس، ومذاهب الأئمَّة من السلف، وأرباب المقالات فهو لا يكاد يمر على حديث أو خبر في سنده ضعف أو في متنه نكارة حتى يعلق عليه، ويبين ما فيه بأسلوب علمي متزن.

ص: 343

انتهى كلام الذهبي بنصِّه، وحروفِه، فقد بان لك تَصَلُّب هذا الحافظ المطَّلعِ على القطع بتنزيه هذا الإمام من هذه الحموقات، والمنكرات مع عدم مُداهنته، وسطعه بالحق حتى في مثالِبِ الأصدقاء، ومناقب الأعداء، فما رأيتُ له شبيهاً في ذلك، والله يُحِبُّ الإنصاف.

فإن قلت: ومن أين عَلِمَ صحة نفي ذلك عن أحمد حتى حَلَفَ عليه، والشهادة على النفي لا تَصِحُّ.

قلت: مثل ما يَعْلَمُ الزيديُّ كَذِبَ ذلك، لو وَجَدَهُ مسنداً إلى أئمته، وكذلك المعتزلي.

فإن قلت: إنَّ لأئمَّةِ الشيعة والمعتزلة من النصوص على ذلك ما يوجب القطع على براءتهم عن مثل هذا لو لُطِخُوا به.

قلت: هل تُريدُ أن كُلَّ أحدٍ من المكلفين يعلم براءتهم من ذلك وإن لم يشتغل بعلومِهم، ويُطَالِعْ كتبهم، ويَعْرِفْ نصوصَهم فهذا ممنوعٌ، أو تريد أن كل من اشتغل بمعرفة علومهم، ومطالعة كتبهم عرف ذلك، فهذا مسلمٌ، ولكن للذهبي في معرفة مذاهب الفقهاء، والمعلوم منها، والمظنون مثل ما لكم في معرفة مذاهب أئمتكم، ألا تراه حكى أن لأحمد بن حنبل كتاباً في نفي التشبيه في مجلدة، ثم ذكر سائر تواليفه، ومن رواها، وما يَصِحُّ منها عنه، وما لا يَصِحُّ إلى أمثال ذلك ممَّا يُفِيدُ شِدَّة العناية بمعرفة أحواله، فلا ينكر بمن بالغ في معرفة أمر أن يختصَّ فيه بما لا يعرفه سواه، لأن قرائن الأحوال إذا كثُرت، أفادت علوماً ضرورية لا يمكن التصريح بمستندها، كما تُميِّزُ حُمْرَةُ الخجل وصفرة الوَجَل (1) من غيرهما

(1) في (ب) و (د): المرض.

ص: 344

بالقرائن ونحو ذلك.

ولو لم يكن في ذلك من القرائن إلَاّ ما في قصة المِحنة لمن تأملها مما يدل على براءته من هذه العظائم، فإنهم حبسوا الإمام أحمد، وضربوه، وعذبوه على مسألة القرآن، وهي أسهل من مسائل التشبيه.

وكان ابن أبي داود عَدُوَّ أحمد يتمنى ما يُشَنِّعُ به عليه، فكيف يكون في عقل عاقل: قد تظاهر أحمد بالتشبيه الفظيع، ثم ما ضربوه عليه ولا عاقبوه من أجله مع تعرُّضِهم لذلك فيما هو أهونُ منه، ثم إنه عَرَضَ في مناظرتهم ذكر التشبيه، فألزموه ذلك، كما يُلزَمُ المنكرُ الممتنع، وذلك يفيدُ العلمَ بعدم ظهوره عنه، لا يُقالُ أنه ترك إظهار ذلك تَقِيَّةً، لأن من عرف أمرَ المحنة، عَلِمَ أنه لو كان مُتَاقياً لتاقى (1) في مسألة القرآن، فقد خاف القتل فيها، بل توعَّده المعتصم به غير مرة، وظن ذلك أحمد، بل كان أحبَّ إليه من التعذيب، فهذا مع ما تقدَّم من تأليفه في (2) نفي التشبيه، وروايات ثقات أهل مذهبه، وثناءِ من يُكفِّرُ المشبهة عليه من سائر أهل المذاهب أوضح دليل على براءته.

وأما الشهادة على النفي، فبابُ الشهادات غير ما نحن فيه، ولها أحكامٌ أُخَرُ.

وأما أحكامُ المسلمين فإنَّما يُرجَعُ فيها إلى الظواهر، ومتعلق القطع والظن فيها هو الظواهر غالباً، ويجوز القطعُ بالنفي في باب الحمل على السلامة، لقوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا

(1) في (د): " متأتياً لتأتى " وهو تحريف.

(2)

" تأليفه في " ساقطة من (ب).

ص: 345