الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحطام الفاني، وتحقق أن الفراق من الدنيا داني، ثم إنه جاور بمسجد الكهف الذي هو أسفل جبل قاسيون، إلى أن أنفق جمامُه، وانمحق تمامهُ.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة خمس عشرة وسبع مائة في تاسع جمادى الآخرة.
ومولده سنة إحدى وثلاثين وست مائة.
أحمد بن عبد الله بن عبد الله بن مهاجر
شهاب الدين الأندلسي الوادي آشي الحنفي.
هو فاضل مشهور، وعدل مذكور، يعرف مع الفقه النحو والعروض، وجوادهُ في النظم الفائق مروض.
سكن طرابلس الشام مدة، واجتمع فيها مع الأكابر بعدّه، ثم إنه انتقل إلى حلب، وبها نفق من البضائع ما جلب، وكان ابن العديم قاضيها يواليه، ويطرب لأماليه، ويحثه على معاليه.
رأيته بحلب سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة، وكتب إليّ نظماً يبل كبد من يظما، وأحببته عن ذلك، وذهبا مني في ليل الضياع الحالك، ثم إنه بعد ذلك ساد وثنى الوساد.
ولم يزل إلى أن وصل ابن مهاجر حينُه، وأغمضت بالممات عينُه وتوفي رحمه الله تعالى.
أنشدني من لفظه لنفسه بحلب في التاريخ:
ما لاح في دِرُعٍ يصولُ بسيفه
…
والوجُه منه يُضيءُ تحت المغفرِ
إلا حسبتُ البحرَ بجدولٍ
…
والشَّمس تحت سحائب من عنبرِ
قلت: جمع في هذا بين مقطوعين، أحدهما قول أبي بكر الرصافي:
لو كنت شاهده وقد حمي الوغى
…
يختالُ في دَرْعِ الحديد المُسبلِ
والثاني قول المعتمد:
ولما اقتحمت الوغى ذارِعاً
…
وقنعتَ وجهكَ بالمغفرِ
حَسبنا مُحيَّاك شِمس الضُّحى
…
عليها سحائبٌ من العنبر
ومن شعره:
تُسعِّرُ في الوغى نيرانَ حربٍ
…
بأيديهم مُهنَّدةٌ ذُكورُ
ومن عجبِ لظىً قد سهّرتها
…
جداولُ قد أقلَّتها بُدورُ
ومنه لغز في قالب اللَّبن:
ما آكلّ في فمين
…
يغُوط من مخرجين
مُغرى بقبضٍ وبسطٍ
…
ومالهُ من يَدين
ويقطع الأرض سهياً
…
من غير ما قدمين
قلت: نظم رائق، ولفظ يُخجلُ الحدائق، ولكن ليست مقاصده في هذا اللغز مليحة، ولا معانيه صحيحة. وأحسن منه قول محمَّد بن شرف القيرواني
وما بالغٌ في يومه ألفَ لُقمةٍ
…
ولُقمتُه أضعافُ أضعافِ وزنه
إذا ملأ المأكول جنبيه لم يُقم
…
سوى لحظةٍ أو لحظتين ببطنه
أحمد بن عبد الحليم
ابن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم.
الشيخ الأمام العلامة المفسر المحدّث المجتهد الحافظ شيخ الإسلام، نادرة العصر، فريد الدهر، تقي الدين أبو العباس بن الشيخ شهاب الدين بن الأمام مجد الدين أبي البركات بن تيمية.
سمع من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، والكمال بن عبد، وابن أبي الخبر
وابن الصيرفي، والشيخ شمس الدين والقاسم الإربلي، وابن علاّن، وخلقٍ كثير.
وبالغ وأكثر، وقرأ بنفسه على جماعة، وانتخب ونسخ عدة أجزاء، وسنن أبي داود، ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين والتأله، ثم أقبل على الفقه ودقائقه، وغاص على مباحثه.
تحول به أبوه من حران إلى دمشق سنة سبع وستين وست مائة. و" تيمية " لقبٌ لجده الأعلى.
تمذهب للإمام أحمد بن حنبل، فلم يكن أحد في مذهبه أنبه ولا أنبل. وجادل وجالد شجعان أقرانه، وجدّل خصومهُ في وسط ميانه، وفرّج مضائق البحث بأداةٍ قاطعة، ونصر أقوالهُ في ظلمات الشكوك بالبراهين الساطعة، كأن السُّنة على رأس لسانه، وعلوم الأثر مساقة في حواصل جنابه، وأقوال العلماء مجلوةٌ نُصب عيانه. لم أر أنا ولا غيري مثل استحضاره، ولا مثل سبقه إلى الشواهد وسرعة إحضاره، ولا مثل عزوه الحديث إلى أصله الذي فيه نقطةُ مداره.
وأما علم الأصلين فقهاً وكلاماً، وفهماً فكان عجباً لمن يسمعه، ومُعجزاً لمن يُعد ما يأتي به أو يجمعه. يُنزل الفروع منازِلها من أصولها، ويرد القياسات إلى مآخذها من محصولها.
وأما الملل والنحل، ومقالات أرباب البدع الأُول، ومعرفةُ أرباب المذاهب، وما خصوا به من الفتوحات والمواهب، فكان بحراً يتموج، وسهماً ينفذ على السواء لا يتعوج.
وأما المذاهب الأربعة فإليه في ذاك الإشارة، وعلى ما ينقله الإحاطة والإدارة. وأما نقل مذاهب السَّلف، وما حدث بعدهم من الخلف، فذاك فنُّه، وهو في وقت الحرب مجنُّه، قل أن قطعة خصُمه الذي تصدى له وانتصب، أو خلص منه مناظرهُ إلا وهو يشكو من الأين والنَّصب.
وأما التفسير فيدُه فيه طولى، وسردُه فيه يجعل العيون إليه حُولاً. إلا أنه انفرد بمسائل غريبة، ورجَّح فيها أقوالاً ضعيفة عند الجمهورُ معيبة. كاد منها يقع في هُوَّة، ويسلم منها لما عنده من النيّة المرجوة، والله يعلم قصده، وما يترجّح من الأدلة عند وما دمر عليه شيء كمسألة الزيارة، ولا شنّ عليه مثلها إغارة، دخل منها إلى القلعة مُعتقلا، وجفاه صاحبه وقلا، وما خرج منها إلا على الآلة الحدبا، ولا درج منها إلا إلى البقعة الحدبا، والتحق باللطيف الخبير، وولّى والثناء عليه كنشر العبير.
وكان ذا قلم يسابقُ البرق إذا لمع، والودق إذا همع، يُملي على المسألة الواحدة ما شاء من رأس القلم، ويكتب الكرَّاسين والثلاثة في قعدة، وجدُّ ذهنه ما كل ولا انثلم، قد تحلى بالمُحلى، وتولّى من تقليده ما تولى، فلو شاء أورده عن ظهر قلب وأتى بجملة ما فيه من الشناع والثَّلب.
وضيع الزمان في ردّه على النصارى والرافضة، ومن عائد الدين أو ناقضه؛ ولو تصدى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم.
وكان من صغره حريصاً على الطلب، مجدّاً على التحصيل والدأب، لا يؤثرُ على الاشتغال لذة، ولا يرى أن تضيع لحظةٌ منه في البطالة فذّة، يذهلُ عن نفسه ويغيب في لذّة العلم عن حسه، لا يطلب أكلاً إلا إذا أحضر لديه، ولا يرتاحُ إلى طعام ولا شراب في أبرديه.
قيل: إن أباه وأخاه وأهله وآخرين ممن يلوذون بظله سألوه أن يروح معهم يوم سبت ليتفرج، فهرب منهم وما ألوى عليهم ولا عرج، فلما عادوا آخر النهار لاموه على تخلُّفه، وتركه لاتباعهم وما انفرده من تكلُّفه، فقال: أنتم ما نزيد لكم شيئاً ولا تجدد، وأنا حفظت في غيبتكم هذا المجلد، وكان ذلك كتاب " جنة الناظر وجنّة المناظر "، وهو مجلد صغير، وأمره شهير.
لا جرم أنه كان في أرض العلوم حارثاً وهو همام، وعلومُه كما يقول الناس تدخل معه الحّمام. هذا إلى كرم يضحك البرقُ منه على غمائمه، وجودٍ ما يصلحُ حاتمٌ أن يكون في فضِّ خاتمه، وشجاعة يفرّ منها قشورة، وإقدام يتأخر عنه عنترة. دخل على محمود غازان وكلمه كلاماً غيظاً بقوه، وأسمعه مقالاً لا تحملّه الأبوةُ من البنوّة.
وكان في ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وست مائة، قد قام عليه جماعة من الشافعية، وأنكروا عليه كلاماً في الصفات، وأخذوا فُتياه الحموية، وردوا عليه
فيها، وعملوا له مجلساً، فدافع الأفرم عنه ولم يُبلّغهم فيه أرباً، ونودي في دمشق بإبطال العقيدة الحموية، فانتصر له جاغان المشدّ، وكان قد مُنع من الكلام، ثم إنه جلس على عادته يوم الجمعة، وتكلم ثم حضر عنده قاضي القضاة إمام الدين، وبحثوا معه، وطال الأمر بينهم، ثم رجع القاضي إمام الدين وأخوه جلال الدين وقالا: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئاً عزّرناه.
ثم إنه كُلب إلى مصر، هو والقاضي نجم الدين صَصرَى، وتوجها إلى مصر في ثاني عشر شهر رمضان سنة خمس وسبع مائة، فانتصر له الأمير سيف الدين سلاّر، وحطّ الجاشنكير عليه، وعقدوا له مجلساً انفصل على حبسه، فحُبس في خزانة البنود، ثم نقل إلى الإسكندرية في صفر سنة تسع وسبع مائة، ولم يمكن أحد من أصحابه من التوجه معه، ثم أفرج عنه وأقام بالقاهرة مُدة. ثم اعتقل أيضاً، ثم أُفرج عنه في ثامن شوال سنة تسع وسبع مائة، أخرجه الناصر لمّا ورد من الكرك، وحضر إلى دمشق، فلما كان في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبع مائة جمع الفقهاء والقضاة عند الأمير سيف الدين تنكز، وقرأ عليهم كتاب السلطان، وفيه فصل يتعلق بالشيخ تقي الدين بسبب فُتياه في مسألة الطلاق، وعُوتب على فُتياه بعد المنع، وانفصل المجلس على توكيد المنع.
ثم إنه في يوم الخميس ثاني عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبع مائة عُقد له مجلس بدار السعادة وعاودوه في فتيا الطلاق وحاققوه عليها، وعاتبوه لأجلها. ثم إنه حُبس بقلعة دمشق، فأقام بها إلى يوم الاثنين يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين وسبع مائة، فأخرج من القلعة بعد العصر بمرسوم السلطان، وتوجه إلى منزله. وكانت مدة سجنه خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً.
ولما كان في يوم الاثنين بعد العصر، سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبع مائة في أيام قاضي القضاة جلال الدين القزويني تكلموا معه في مسألة الزيارة، وكُتب في ذلك إلى مصر، فورد مرسومُ السلطان باعتقاله في القلعة، فلم يزل بها إلى أن مات رحمه الله تعالى في ليلة الاثنين عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مائة بقلعة دمشق في القاعة التي كان بها محبوساً.
ومولده بحرّان سنة إحدى وستين وست مائة.
وأول ما اجتمعت أنا به كان في سنة ثماني عشرة، وهو بمدرسته في القصاعين بدمشق المحروسة، وسألته مسألة مشكلةً في التفسير في الإعراب، ومسألة مشكلة في الممكن والواجب، وقد ذكرت ذلك في ترجمته في تاريخي الكبير. ثم اجتمعت به بعد ذلك مرّات، وحضرت دروسه في الحنبلية، فكنت أرى منه عجباً من عجائب البرّ والبحر، ونوعاً فرداً وشكلاً غريباً وكان كثيراً ما ينشد قول ابن صردر.