الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحدّث قبل الستين، وحجّ مرات، وحدّث بالحجاز وحماة ودمشق إلى أن ناحت به النوائح، وقامت في ناديه الصوائح.
توفي رحمه الله تعالى سنة سبع مئة في المحرّم.
أحمد بن محمد بن سالم
بن أبي المواهب
الحافظ الشيخ الإمام العالم قاضي القضاة نجم الدين أبو العباس بن صَصْرى الرَّبَعيّ التغلبيّ الدمشقي الشافعي.
حضر على الرشيد العطار سنة تسع، والنجيب عبد اللطيف. وسمع بدمشق من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليسر، وجدّه لأمه المسلم بن علان. وتفقّه على الشيخ تاج الدين.
ودخل ديوان الإنشاء في ذي الحجة سنة ثمانٍ وسبعين وست مئة هو وشهاب الدين أحمد بن غانم، ونظَمَ ونَثَر، وكتب المنسوب وبهر فيه لمّا مَهَر، وكان قلمه أسرع من رجع الطرْف، ومن الذين يعبدون الله في الشِّرعة على حَرْف.
قيل: إنه كتب خمس كراريس في يوم، وهذا أمر قلّ أن يُعهَدَ من قوم. شارك الناس في فنون، وكان عنده من المسائل عيون، له عبارة فُصحى، وحافظة لا تقبل ردّ السرد نصحاً. يحفظ أربعة دروس لمدارسه، ويلقيها من فمه ويطلع في آفاقها
بدور سطور كأنما يكتبها بقلمه، ولا يكاد أحد يسبقه بسلام، ولا يسمع في العفو وبالصفح عمّن يؤذيه كبير عذل أو صغير مَلام. اشتهر بذلك وعُرف، وسار ذكره بذاك واسمه أحمد وصُرف.
وله أموال ضخمة ومماليك وخدم وحشم وحشمة، وينطوي على تعبّد وديانة وعِفّة في الأحكام وأمانة، وكان بصيراً بالأحكام مسعوداً فيها، قل أنْ أتى إليه زور إلا وعرفه بديهاً، وعرفه بذلك فلم يسلك معه أحد هذه المسالك، وكان يخدم القادمين ويزورهم ويتردد إليهم وغيرهم، وهداياه في أقطار الأرض إلى أعيان الدولة ومن دونهم من أرباب الصون أو الصولة، ولذلك طالت مُدّته وعلى كنفه كِبار المذهب وأشياخه، ومحذلقوه وأشراره وفراخه، وعصره ملآن الجوانح بالأنداد والأضراب، وفي وقته من يقول: لو أنصف لرآه وهو على بابه بوّاب، ومع ذلك فلم يتكدر عليه شرب ولا تنفر له بما لا تشتهيه سِرْب، وله أصحاب وأتراب منحدون، وعشراء وخلطاء لبلاغه أخبار الناس مُتَصدّون، يواصلونه في كل يوم ولا يصدّون، ويجتمع الناس عنده في بستانه اجتماعاً عاماً، ويمد لهم خواناً قد نوّع فيه طعاماً يرون فضله تامّاً، إلى غير ذلك من أنواع الحلوى، والمأكل التي لا منَّ فيها ولا سَلْوى. يقصده الشعراء في المواسم، ويرون ثغور جوده وهي بواسم، لا يخشون مع ذلك بَوّابه ولا عَيْنه ولا حُجّابه، ويعتدّ هو أن تلك الجائزة واجبة.
وكان قد اشتغل بمصر على الأصبهاني في أصول الفقه، ودرّس بالعادليّة الصغرى، وبالأمينية، ثم بالغزاليّة، مع قضاء العسكر ومشيخة الشيوخ، وولي القضاء سنة اثنتين وسبع مئة، وأذن لجماعة في الإفتاء، وخرَّج له الشيخ صلاح الدين العَلائي مشيخة فأجاره عليها بجملة.
ولم يول على القضاء إلى أن نزل به القضا، وقضى نحبه، فأدّى حق العدم وقضى.
وتوفي رحمه الله تعالى فجاءة في نصف شهر ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين وسبع مئة.
وكان مولده سنة خمس وخمسين وستمئة.
ورثاه شيخنا العلامة شهاب الدين محمود وغيره.
ولشعراء زمانه فيه أمداح كثيرة. وكان العلامة شهاب الدين محمود قد كتب إلى الأمير علم الدين سنجر الدواداري يهنّيه بفتح طرابلس، ويصف جراحة أصابته بقصيدة أولها:
ما الحربُ إلا الذي تَدْمى بد اللمَمُ
…
والفخر إلاّ إذا زان الوجوهَ دمُ
ولا ثبات لمن لو تلقَ جبهته
…
حدّ السيوف ولا تُثنّى له قدمُ
فكتب الجواب عن ذلك قاضي القضاة نجم الدين ابن صَصْرى:
وافَى كتابك فيه الفضل والكرمُ
…
فجَلّ قدراً وجَلّت عنديَ النعَمُ
وجاء من بحرٍ قد سَما وطَمى
…
دُرُّ المعاني في الألفاظ تنتظمُ
وصفتَ حالي حتى خلتُ أنك قَدْ
…
شاهدتها ولهيبُ الحَرَب تضطرم
وما جرى في سبيل الله محتسَبٌ
…
فهو الذي لم يزل تسمو له الهِمَمُ
وجاءنا النصر والفتح المبين فلو
…
شاهدت نورَ الظُّبى تُجلى به الظلمُ
غدا العَدُوُّ ذليلاً بعد عِزّته
…
حُليُّ أجيادهم بَعْدَ العُقود دمُ
قد فرّق الجَمعَ منهم عَزْمُ طائفة
…
لم يثنِ همتها يوم الوغى سَأمُ
تُرْكٌ إذا ما انتضوا عزماً لهم تركوا
…
أمامهم كُلّ جمع وهو منْهَزمُ
لَمّا بقَتْل العِدى خاضت سيوفُهم
…
صَلَّت فقبّلها يوم الوغى القمَمُ
حازوا الثوابَ الذي راموا وبعضُهم
…
فازوا بما كسَبُوا منها وما غنُموا
وكنت مشتغلاً في يوم كسبهم
…
عنه بما كَسْبُه عندي هو النِّعَمُ
فكيف يُطلَبُ مني الأرفغان وقد
…
شَهِدْتَ لي ولهذا بيننا حكم
ألستَ أنت الذي قد قال مبتدئاً
…
وذاك قولٌ بحكم الحق مُلتزم
هَجَمْتَه وسيوفُ الهند مُصْلَتةٌ
…
وعُدْتَ والسَّبْيُ والأموال تقتسم
وكان همُّك في الأرواح تكسبُها
…
وهمُّ غيرك فيها المالُ والنَّعَمُ
ورثاه جماعة من شعراء عصره منهم العلامة شيخنا أبو الثناء، أنشدنيها إجازة وهي قصيدة عُظمى يَرْوَى بها مَنْ يظما:
أترى دَرَى داعي المنيّة مَنْ دَعا
…
أم أيّ ركن للشريعة ضُعضعا
أم أيّ طودِ حجىً ترفَع في العُلا
…
عصفت به ريح الصبا فتصدّعا
أم أي نجمِ هدى هوى من بعدما
…
ردّ الكواكب عن مداه طُلَّعا
أم هل درى ناعيه أن الدين وال
…
تقوى ونَشْر العدل أوّلُ ما نعى
أصمى فؤادَ الحكم سهمُ فجيعةٍ
…
لم يبقِ في قوس النكاية منزعا
وأعاد شرح الشرع أضيع سائم
…
لمّا رماه بقصد أفضل من رعى
لله أي زريّةٍ أضحى بها
…
قلب الهدي حين السكون مروّعا
طرقت جناباً بالفضائل آهلاً
…
فثَنَتْه مِنْ ربّ الفضائل بَلْقَعا
وردتْ مَعين ندى ففاض وقد طمى
…
ورنتْ إلى نَوْء النوال فأتلعا
ما خصَّ ما طرقت به خلصاءه
…
بل عمّ فادُحها البريَّة أجمعا
قاضي القضاة ومَنْ حوى رتباً سَمَتْ
…
عَنْ أن تُسامَ وبزّت مَنْ سعى
شيخ الشيوخ العارفين ومَن رقا
…
رتب السلوك تعبّداً وتورُّعا
يأتمّ منه السالكون بعارفٍ
…
بلغ العناء به المقام الأرفعا
وجرت له عين اليقين ففجّرت
…
في حالتيه لكلّ ظام منبعا
حاوي العلوم فما تفرّق في الورى
…
إلاّ الذي منها لديه تَجَمّعا
بَهَرت خلال كماله فسيادةٌ
…
لا تُرْتَقى ومكارمٌ لا تُدّعى
وخلائق كالروض دبّجه الحيا
…
أُصُلاً فوشّى حُلَّتَيْه ووشّعا
تواضعٌ أمسى سناه كَنَعْته
…
يَدنو وقد سكن السماء تَرَفُّعا
ورياسة مُذ كان لم نعرف لها
…
إلاّ إلى رتب الكمال تَطَلُّعا
ووفور حلن إن يضق عن مذنب
…
عذرٌ أقام العذر عنه ووسّعا
وكتابة يكسو السجلّ جلالها
…
تاجاً يزين النيّرات مُرَصَّعا
وبلاغة لا قلب إلاّ ودّ أن
…
تُمْلَى وتنشَر لو تحوَّل مسمعا
وفصاحة في القول أتقن عِلْمَها
…
نظماً ونثراً حين حازهما معا
وتثبّت في حكمه ومضاؤه
…
تعنو له البيض القواضب خُضَّعا
وعبارة كالنيل نِيل بَيَانها
…
مع أنها أروى وأعذب مشرعا
وعبادة في الليل يجزيه بها
…
في الحشر مَنْ يجزي السعودَ الركّعا
مَنْ للأيامى واليتامى فارقوا
…
بالرغم ذاك الكافلَ المتبرِّعا
مَنْ للجدال تضايقت طرق الهوى
…
فيه يَبين به الطريق المَهْيعا
مَنْ للقضايا العقم أصبح وجهها
…
إلاّ عن الذهن السليم مبرقعا
ولَكَمْ له مِن قَبْلُ غُرُّ رسائلٍ
…
أبدى بها دُرَرَ البيان فأبدعا
من كل شاردةٍ ترفّعَ قَدرْها
…
أن يُرتقى وسبيلها أن يُتْبَعا
الدهر أبخلُ حين جادَ بمِثله
…
مِنْ أن يُديم به الوجود ممتَّعا
فأعاد وَجْهَ الأرضِ منه مُجْدِباً
…
كَلْحاً وبَطنَ الأرض منه مُمْرَعا