الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا مَنْ يَقِلّ له البكاء ولو غدا
…
ذوبَ القلوب أسىً يَمُدّ الأدمُعا
لو سالم الدهرُ امرءاً لكماله
…
لغدا لنا في خُلْد مثلك مَطعما
لكنّه الدهرُ الذي ساوى الردى
…
فيه الأنامَ عصيّهم والطيِّعا
فَلأبكيّنك ما حييتُ وما البكى
…
في فَقْدِ مثلكَ يا خليليَ مُقْنِعا
ولألبسنّ عليك ثوبَ كآبةٍ
…
مهما تمادت مُدّتي لن يُنزعا
ولأبعثنّ من الرثاء قوافياً
…
محزونةً تُبكي الحَمام السُّجعا
ولأمنَعَنْ عَيْنيَّ بعدك إن جفا
…
طيفُ الخيال جُفونها أن تهجعا
ويَقِلّ ذام فإنها جهد الأخ ال
…
محزون أن يُبكيك أو يتفجّعا
قلت: هذا القدر منها كافٍ، وقد بقي منها خمسة وعشرون بيتاً.
أحمد بن محمد بن سلمان بن حمايل
القاضي الكاتب الأديب شهاب الدين أبو العبّاس بن غانم، هو ابن بنت الشيخ القُدوة غانم، وكان يَذكُرُ نَسبَه إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، أملاه من فمه على الشيخ أثير الدين أبي حيّان.
سمع من ابن عبد الدائم، وقرأ على ابن مالك جمال الدين، وخرَّج له البِرزالي مشيخةً، منهم ابن أبي اليُسر وأيّوب الحمّامي، والزين خالد، وعبد الله بن يحيى البانياسي، ومحمد بن النُّشَّبي، ويحيى بن الناصح، وعرض على الشيخ
جمال الدين بن مالك كتابه العُمْد، وبعده على ولده بدر الدين. وقرأ الأدب على مجد الدين بن الظهير.
وفارق أباه وهو صغير وتوجّه إلى السماوة، ونزل على الأمير حسين من خفاجة، وأقام عنده مدّة يصلّي بقي شيء من العلوم، وكان الوقت قريب العهد بخراب بغداد، وتشتَّت أهل بغداد في البلاد، فظُنَّ به أنه ابن المُستعصم الخليفة ببغداد، واشتهر ذلك عنه، واتّصل خبره بالظاهر بيبرس، فلم يزل في اجتهاد إلى أن أقدمه عليه لِما أهمّه من أمره، فلمّا بين يَدَيه قال له: ابن مَنْ أنت؟ فوفّق ذلك الوقت لمصلحته وقال: ابن شمس الدين بن غانم، فطلب والده من دمشق إلى القاهرة، وحضرا بين يديّ الظاهر فاعترف والده به، فقال له: خذه، فأخذه وتوجّه به إلى دمشق.
وكان قد كتب الإنشاء بدمشق وبمصر وبصفد وبغزة وبقلعة الروم، ثم توجّه إلى اليمن، وخرج منه هارباً، وقاسى شدائد من العُرْبان وتخطّفهم له حتى وصل إلى مكة، وكان سبب خروجه إلى اليمن أنه كان يكتب الدُّرْجَ بين يدي الصاحب شمس الدين غبْريال فاتّفق أنْ هربَ مملوكٌ للأمير شهاب الدين قرطاي نائب طرابلس، فكتب بسببه إلى الصاحب، فوَقَعَ عليه، فظفر به وجهّزه إلى مخدومه،
وقال لشهاب الدين: اكتب على يده كتاباً إلى مخدومه واشفع فيه، فكتب شهاب الدين الكتاب وتأنّق فيه، وجاء من جملة ذلك: وإذا خَشُن المقرّ حَسُن المفرّ، وتوهّم شهاب الدين أن ذلك يُعجب الصاحب، فلمّا وقف عليها أنكرها دون ما في الكتاب، وقال: يا شهاب الدين غيِّر هذه فإنها وحشة، فطار عقل شهاب الدين، وضرب بالدواة الأرض، وقال: ما أنا ملزوم بالغُلْف القُلف، وخَرَجَ من عنده وتوجّه إلى الحجاز، ودَخَل من مكّة إلى اليمن، وتلقاه الملك المؤيَّد، وأحسن إليه إحساناً زائداً، وجعله كاتبَ سرّه، فلم يَطِبْ له المقام، وهربَ بعد خمسة أو ستة أشهر، وقلّما خرج من مدينة إلاّ وهو مختفٍ.
وكان كاتباً مترسِّلاً، عارفاً بمقاصد الكتابة متوسِّلاً، يَستحضر من اللغة جانباً وافراً، ويُبدي في المنادمة وجهاً بالمحاسن سافراً، ويُورِدُ من كلام المعرّي قطعة كبيرة قد حفظها غائباً، ويرمي منها سهماً في البلاغة صائباً، خصوصاً من اللُّزوميات، وما له من العِظات والزهديّات. وإذا تكلّم تَفَيْهَق، وتنطَّع في كلامه وتمنطق، ويأتي في ترسُّله بالغريب، والحوشيّ العجيب، وإذا فكّر بشيء فَكَّر، وغاص في المعاني وتذكّر، ووضع شَعْر ذقنه في فيه وقَرَضَه، وقال الشعر وقَرَضَه، ويحوم بكلامه على المعنى المقصود زماناً، وما يكسوه مع ذلك بياناً، وكان مَتِع الكلام، بريئاً من النَّقْض والملام، لا يعبأ بملبس ولا مأكل، ولا يتكلّف لشيء سِوى أنه
يعقلها ويتوكّل، يلبس الجمجم القَطن الصوفي، والمُقَدَّرة الصوف، والطول المقفّص المعروف بأهل إسكندرية الموصوف، وخاتَمهُ كان سِواراً، وفصّه يعمل منه شواراً، وكان يتحدّث بالتركيّ والعجميّ والكردي، وإذا سافر خلع حُلّة الكُتّاب ولبس حلّة البدَوي أو الجندي، مع تندير وتنديب وتطاريب وتطريب.
وكان قد أحبه صاحب حَماة المنصور، وجعل ظِلّه ممدوداً غير مقصور، حضر يوماً سِماطَه وكان أكثرُهُ مَرَقاً، وقد أضرم منه الجوع حُرَقاً، فقال:" بسم الله الرحمن الرحيم " نَويت رَفْعَ الحدثِ واستباحةَ الصلاة، الله أكبر. وكان المظفّر بن المنصور يكره ابن غانم، فاغتنم الوقيعة فيه وقال لأبيه: اسمع ما يقول ابنُ غانم يَعيب طعامك ويُشبّهه بالماء، فعاتبه المنصور على ذلك، فقال: هذا ما قَصَدْتُه! ولكنّ البسمَلة في كل أمر مستحبّة، والحدثُ الذي نويت رَفْعَه حَدَثُ الجوع واستباحة الصلاة في الأكل، فقال: فما معنى الله أكبر؟ قال: على كل ثقيل، فاستحسن المنصور منه ذلك. وخلع عليه.
وخرج مرّةً مع المنصور إلى شَجريّات المعرّة، وقد ضُربت الخيام وامتلأ الفضاء
وما رأى الدخول إلى الخربشت، فصعِد إلى شجرة ليتحلّى والمنصور يراه، فأرسل إليه شخصاً ليرى ما يفعل، فلمّا صار تحت الشجرة وقد تهيّأ لقضاء شغله فقال له: أطْعِمني من هذه التِّينة، فقال له: خُذْ، وسلَحَ عليه سلحاً ملأت وجهه، وتركته عبرةً، فقال: ما هذا؟ قال: أطعمتك من التينة، فلمّا اطّلع المنصور على القضية خَرَّ مغشيّاً عليه من الضحك.
وكان ليلةً في سماعٍ، فرقصوا ثم جَلَسوا، فقام من بينهم شخص وطال الحال في استماعه وزاد الأمر، فظلّ شهاب الدين مُطْرقاً ساكناً، فقال له شخص آخر: ما بك مُطرِقاً كأنّما يوحى إليك؟ فقال نعم " قُلْ أُوحيَ إلَيَّ أنّه استمعَ نَفَرٌ من الجِنّ ".
واجتمع ليلة عند القاضي كريم الدين الكبير في موضع بعلاء الدين بن عبد الظاهر يتحدّث معه، فجاء إليه شخصٌ وقال له: معاوية الخادم يريد الاجتماع بك، فقال: وَاْلَك! مَنْ يفارق عليّاً ويروح إلى معاوية؟! وكتب إلى قاضي القضاة جمال الدين بن واصل، وقد أقْعَدَه بحماة في مَكتبٍ عاقداً، وفيه السيف علي بن مُغِيْزل:
مولاي قاضي القضاة يا مَنْ
…
له على العَبْد ألفُ مِنَّهْ
إليكَ أشكو قَرينَ سوءٍ
…
بُليتُ منه بألف مِحنهْ
شَهرْتَه بيننا اعتداءً
…
أغمِدْهُ فالسيف سيفُ فِتنَهْ
وكتب إلى قلعة الروم وقد جاءه ولد سمّاه أنساً واسمُ أبيه مبارك:
تَهَنَّ يا مباركاً
…
بالوَلَد المبارك
بمن سَمَوه أنساً
…
لأنه ابن مالكي
ومن نظمه:
تعجّبَ الناس للبطيخ حيت أتى
…
بحيْن حَيْن وإذْ وافى بطاعُونِ
وكيف لا يقطعُ الأعمار مَقْدَمُهُ
…
وليس يُؤكَلُ إلاّ بالسكاكين
ومنه:
ما اعتكافُ الفقيه أخْذاً بأجْرٍ
…
بَلْ بحكمٍ قضى به رمضان
هو شهر تُغَلُّ فيه الشياط
…
ينُ ولا شَكَّ أنه شيطان
ومنه:
طَرفْكَ هذا به فُتورٌ
…
أضحى لقلبي به فُتُون
قد كنتُ لولاه في أمانٍ
…
لله ما تفعلُ العيون
ومنه:
يا نازحاً عنّي بغير بعادٍ
…
لولاك ما علقَ الهوى بفؤادي
أنت الذي أفردتني مني فلي
…
بكَ شاغلٌ عن مَقْصَدي ومُرادي
سَهِرَتْ بحُبّكَ مُقلتي فَحَلا لها
…
فيك السُّهَادُ فلا وجَدْتُ رُقادي
ورضيتُ ما تَرْضى فلو أقصيْتَني
…
أيّامَ عُمري ما نَقَضْتُ وِدادي
أنت العزيز عليّ أن أشكو لك ال
…
وجد الذي أهدَيته لفؤادي
وأنشدني من لفظه لنفسه:
واللهِ ما أدعو على هاجري
…
إلاّ بأنْ يُمحَنَ بالعشقِ
حتّى يَرى مقدارَ ما قد جرى
…
منه وما قد تمَّ في حقّي
وأنشدني له أيضاً:
يا حُسْنَها مِن رِياضٍ
…
مثلِ النضَار نَضارَهْ
كالزُّهر زَهْراً وعنها
…
ريح العبير عِبارَهْ
وأنشدني له أيضاً:
بأبي صائغٌ مليحُ التَّتنِّي
…
بقَوامٍ يُزري بخُوطِ البان
أمسكَ الكَلْبتين يا صاحِ فاعجب
…
لغزالٍ بكفّه كلبتان
ومن شعره:
أيّها اللائمي لأكلي كُروشاً
…
أتقَنُوها في غاية الإتقان
لا تلُمني على الكروش فحبّي
…
وَطَني من علائمِ الإيمان
قلت أخذ هذا من قول النصير الحمّامي:
رأيت شخصاً آكلاً كِرشةً
…
وعنده ذوق وفيه فِطَنْ
وقال ما زلتُ محبّاً بها
…
قلتُ من الإيمان حُبُّ الوَطَنْ
ومن شعره في مقصوص الشَّعَرْ:
قالوا ذوائبه مَقصوصه حَسَداً
…
فقلت قاطعُها للحسنِ صوّاغُ
صُدغان كان فؤادي هائماً بهما
…
فكيف أسلو وكلّ الشَّعر أصداغ