الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتوفي رحمه الله تعالى في يوم الأحد تاسع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وستين وسبع مئة.
كان شهاب الدين هذا على ما ذكر غير واحد أنه يُصفّ له ثلاثة أجمال أحمالها تبن، وأنه يقف من هذا الجانب ويثبُ في الهواء فيتعدّاها إلى ذلك الجانب الآخر، وأنه كان يسوف الفرس فإذا كان في وسط جَرْيه وثب قائماً على السرج ثم يسلّ سيفه ويضرب به في الهواء يميناً وشمالاً وخلفاً وأماماً، ثم يمسكه بين أصبعيه، ويأخذ القوس ويوتره على ما قيل، ويرمي به عدة سهام، وهذا لم أره بعيني، ولكنه حكاه لي غير واحد، وهذا أمرٌ خارق باهر، سيأتي ذكر أخيه ناصر الدين محمد بن مكي قبجق في المحمدين.
أحمد بن منصور بن أسطوْراس
بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، وضمّ الطاء المهملة، وسكون الواو، وراء بعدما ألف وسين مهملة، شهاب الدين المعروف بابن الجبّاس.
اجتمعت به في ديوان الإنشاء بقلعة الجبل بالديار المصرية سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وكان به صمم، وأنشدني من لفظه لنفسه:
إنْ قلّ سمعي إنّ لي
…
فهْماً توفّر منه قِسمُ
يدني إليّ مقاصدي
…
ويروقك الرَّمح الأصمّ
ولربّ ذي سمع بع
…
يد الفهم عييّ النطق فَدْمُ
زادوا على عيب التصا
…
مُم أنهم صُمٌّ وبُكمُ
قلت: في البيت الثالث نظر.
وكان مقيماً بدمياط، وهو خفيف الحركة، جمُّ النشاط لأنه كان خطيب الورّادة، يجيء إليها كل جمعة، ويخطب بها على العادة، ثم يعود إلى دمياط.
ولم يزل على حاله إلى أن صار ابن الجبّاس في الجبّان، وانتقل إلى رحمة الملك الديّان.
وتوفي رحمه الله تعالى....
وسألته عن مولده فقال: في سنة ثلاث وخمسين وست مئة.
وأجاز لي بخطه ما يجوز لي تسميعه، وأنشدني من لفظه لنفسه يصف المور:
كأنما الموز في عراجنه
…
وقد بدا يانعاً على شجرهْ
فروع شعرٍ برأس غانيةٍ
…
عُقصن من بعد ضمّ منتشره
وفي اعتدال الخريف أحسن ما
…
تراه في وَردِه وفي صدره
كأنّ مَنْ ضمّه وعقّصه
…
أرسل شُرّابةً على أثره
كأن أشجاره وقد نُشرتْ
…
ظلال أوراقه على ثمره
حاملةٌ طفلها على يدها
…
تظلّه بالخِمار من شَعره
كأنما ساقُه الصقيل وقد
…
بدت عليه نقوش معتبره
ساقُ عروسٍ أُميط ميزرُها
…
فبان وشيُ الخضاب في حبره
يصاغ من جدولٍ خِلاخلها
…
فتنجلي والنشار من زهره
حدائقٌ خفقت سناجقُها
…
كأنها الجيش أمّ في زُمره
زُهي فَراق العيون منظره
…
فما تملُّ العيونُ من نظره
وكل آياته فباهرةٌ
…
تَبين في وِرده وفي صدره
كأنما عمره الحقير حكى
…
زمان وصل الحبيب في قصره
كأن عرجونه المشيب أتى
…
يخبر أنْ خانه انقضى عمره
كأنه البدر في الكمال وقد
…
أصيب بالخُسف في سنا قمره
كأنه بعد قطعه وقد اص
…
فرّ لما نال من أذى حِجره
متيّمٌ قد أذابه كَمدٌ
…
يبيت من وَجْده على خَطَره
معلّقٌ بالرجاء ظاهره
…
يخبر عمّا أجنّ من خَبره
يطيب ريحاً ويُستلذّ جنىً
…
على أذىً زاد فوق مُصطَبره
كأنه الحُرّ حالَ محنته
…
يزيد صبراً على أذى ضرره
قلت: قد تكرر معه لفظ في وِرده وفي صدره في موضعين وهو عيب جائز، وفي بقية الأبيات لا يجوز من حيث العربية، ولكن لهذه الأبيات ديباجة لحلاوة هذه القافية.
وأنشدني من لفظه لنفسه في رمّانة:
كتمتْ هوىً قد لجَّ في أشجانها
…
وحشَتْ حشاها من لظى نيرانها
فتشقّقتْ من حبّها عن حبها
…
وجداً وقد أبدى خَفا كِتمانها
رُمّانةٌ ترمي لها أيدي النوى
…
من بعدما رُمّا على أغصانها
فاعجبْ وقد بكت الدموع عَقائقاً
…
لا مِنْ محاجرها ولا أجفانها
ومن نظمه أيضاً، والتزم الهاء الأولى.
أفنيتُ ماء الوجه من طول ما
…
أسأل مَن لا ماء في وجهه
أُنهي إليه شرحَ حالي الذي
…
يا ليتني متُّ ولم أُنهه
فلم يُنلني كرماً رَفْدُه
…
ولم أكد أسلم من جبهه
الموت من دهرٍ جهابيذه
…
ممتدّة الأيدي إلى بُلْهه
ومن نظمه أيضاً وقد اشتهر:
وقائلةٍ ما بالُ دمعك أسوداً
…
وقد كان محمرّاً وأنتَ نحيلُ
فقلت دمي والدمع أفناهما البكا
…
وهذا سوادُ المقلتين يَسيل
وأنشدني من لفظه قطعةً خمَّس بها قصيدة شيخنا العلاّمة أبي الثناء في مدح سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أولها:
هذا اللقاء وما شِفيتُ غليلاً
…
كيف احتيالي إن عزَمتُ رحيلا
وكتب بخطّه على كتابي جنان الجناس:
أتطنّ قلباً منك يوماً قد خلا
…
وهواك ما بين الضلوع تخلّلا
وكتابك البحر المحيط بفضل ما
…
عَقَد الجمان معقداً ومفصّلا
بهر العقول جِناسه فجنانه
…
تُدني جَناه يانعاً ومذلَّلا
روض تفتّق زهره وتكهّلا
…
أفقٌ تألّق بدره فتكمّلا
يهدي المعاني من مغانيها التي
…
غَنيت فأغنت كلّ فهْم أمحلا
إن قال غرٌّ مثله فيما مضى
…
فلقد تأوّل باطلاً وتقوّلا
فليهني العلياء ما تجري به
…
أقلامك الغرُّ الميامنة العُلا
وليهنئ القرطاس ما قلدته
…
يا ابن الكرام من المآثر والحُلا
كتبتْ عليه من الأفاضل سادةٌ
…
مدْحاً يروق مدبَّجاً ومسلسلا
ورأيتُ أني عن مداهم قاصرٌ
…
فقعدتُ ثم أتيتهم متطفّلا