الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يزل إلى أن انقلب دست الدَّشْتي، وحار فيما نزل به الطبيب والمفتي.
وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث عشرة وسبع مئة.
ومولده بحلب سنة أربع وثلاثين وست مئة.
أحمد بن محمد بن قُرْصة
شهاب الدين بن شمس الدين الأنصاري.
هو من بيت مشهور بالصعيد، منهم جماعة فضلاء رؤساء، تفرّد هذا شهاب الدين من بينهم بنظم القَرْقيّات وجوّدها، وأجراها على قواعد العذوبة وعوُدها، يأتي بها باكورة زَهْر أو كأسُ زُلال جُلي على الظمآن من نَهْر، خفيفةٌ على القلب لذيذة على السمع لِما لها في العقل من السَّلب، ونظم الشعر جيّداً، ودخل به في جملة الشعراء، ولم يكن متحيِّداً، وذاق منه كؤوس العلاقم، وجَرّعهم من هَجوه سُموم الأراقم، جاب الأقطار، وجلب الأوطار، ودخل الأمصار، واجتدى بالمدح والهجو أفات طَلبه أم صار، وكان شيخاً كاد الدهر يحني صَعْدَته ويُري العيون هزَته ورَعْدَته.
وكتب إليّ أشعاراً غلت عندي أسعاراً، ومنها:
ما لي أرى الشعراء تكسبُ عاراً
…
بهجاتهم وتحمّلوا أوزارا
فلذاك طُفْتُ بباب كلِّ مهذَّبٍ
…
وجعلتُ شعري في الكرام شعارا
مدحوا الأخساء اللئام فضيّعوا ال
…
أشعار لَمّا أرخصوا الأسعارا
وجعلت في حلب الشمال إقامتي
…
يا حبذا دار الكرام جِوارا
ولكم دعا مدحي نوالَ معظمٌ
…
فأبَتْ عُتُوّاً عنه واستكبارا
حتى وجدت لها إماماً عالماً
…
أوصافه تستغرق الأشعارا
لولا صلاح الدين لم أرَ جُلّقاً
…
ولكنتُ مِمّن جانبَ الأسفارا
أسدى المكارم من أكفٍّ لم يزل
…
معروفها يستعبدُ الأحرارا
وصنائعاً غرّاً أفَدْنَ منائحاً
…
عُوْناً ولَدْن مدائحاً أبكارا
فوجدْتُ في إجماله وجَماله
…
ما يملأ الأسماع والأبصارا
مولىً غدت يمناه يُمناً لامرئ
…
يبغي نوالاً واليسار يسارا
حلّى الزمان وكان قِدْماً عاطلاً
…
وأعاد ليل الآملين نهارا
وحوى معاليَ في دمشق قديمةً
…
وحديثُها بين الورى قد سارا
بَلَغَتْ به رُتَباً فرُعن محلّه
…
أمْسَتْ نجوم سمائها أقمارا
زانت فضائله بدائعَ نظمها
…
كم مِعصَمٍ يَزين سوارا
ومظفّر الأقلام كم أردى بها
…
ملكاً وخوّف جحفلاً جرّارا
عجباً لها تجري بأسودَ فاحمٍ
…
يكسي الطروسَ ظلامُه أنوارا
تمضي بحيث ترى السيوف كليلةً
…
وتطول حيث ترى الرِّماحَ قِصارا
تجري بواحدها ثلاثُ سحائب
…
تحوي الصواعق والحيا المدرارا
وتمدّه بالفضل حين تمدّه
…
ببديهةٍ لا تُتعب الأفكارا
غم رامَ نائله العفاةُ أمدّها
…
كرماً وإن رام الخميسُ مُغارا
ملأ الكتاب تهدّداً فكأنما
…
ملأ المتاب أسنّة وشفارا
تجني النواظرُ من محاسنِ خطّه
…
رَوْضاً ومن ألفاظه أزهارا
خطٌّ رماحُ الخطّ من خُدّامه
…
إن رام ذِمراً أو أعزَّ ذِمارا
وبلاغةٌ تَضحى بأدنى فقرةٍ
…
تغني فقيراً أو تقُدُّ فَقارا
ويشيم روّاد الندى من بِشره
…
بَرقاً ومن إحسانه أمطارا
بِشرٌ يبشّر بالجميل وعادة ال
…
أزهار أن تتقدّم الأثمارا
وندىً يعمّ ولا يخصّ كأنّه
…
هامي قِطار طبَّق الأقطارا
يستصغر الأمر العظيم إذا عَرا
…
بعزيمةٍ تستهلُ الأوعارا
ويردّ غَرب الحادثات مغلَّلاً
…
بسعادةٍ تستخدم الأقدارا
كم ذلّلت صعباً وردّتْ ذاهباً
…
وحمَت أذلّ وذلّلت جبّارا
ولقد عرفت الناس من أزطارهم
…
سبحان من خلق الورى أطوارا
يا من عرفتُ بجوده الغنى
…
حقاً وكنتُ جهلته إنكارا
أغنيتني بمواهبٍ موصولةٍ
…
لم تُبقِ لي عند الحوادث ثارا
لا زلتَ في عزٍّ يدوم ونعمةٍ
…
ترقى على شُمّ الجبال وقارا
فكتبت أنا الجواب إليه عن ذلك ارتجالاً:
يا شاعراً ملأ الطروس نهاراً
…
وأسال فيه من الدجى أنهارا
لم تُهْدِ لي نظماً بديعاً إنما
…
أهديتَ لي فلَكاً أراه مُدارا
في كل سطرٍ بُرج سعدٍ ثابتٌ
…
تبدو معانيه به أقمارا
لا أرتضي بالروض تشبيهاً له
…
إن الزواهر تفضُل الأزهارا
قلّدتني منه قلادة مِنّةٍ
…
تستوقف الأسماع والأبصارا
يغنى النديم به فإن قوافياً
…
فيه تُدير لمسمعيه عقارا
وترى اللبيب إذا تعاطى فهْمَه
…
لم يذكر الأوطان والأوطارا
فكأن ذلك الطرسَ وجْنة أغيدٍ
…
والسطرَ فيه قد أسال عذارا
فاعذر شهاب الدين من تقصيره
…
أضحى يُلفّق عندك الأعذارا
أنا لا أطيق جوابَ منْ أشعاره
…
تنهلّ حين تَرومها أمطارا
وإذا جرى في حَلبةٍ قصّرتُ عن
…
غاياته بل لا أشقّ غُبارا
إن الغدير وإنْ تعاظمَ قاصرٌ
…
عن أن يقاوم بحْرَك الزَّخارا
وكذا أخو النظم المزلزل ركنه
…
لا يستكنّ مع الجبال قرارا
فخذ القليل إجابة وإجازةً
…
واعذر فمثلك من أقال عثارا
واعتدَّ إنك لم تزر في جلّق
…
أحداً وإنك جئت تقْبس نارا
فلأنت تعلم أنني لم أرضها
…
لو أن درهمها غدا دينارا
ما قَدرُها مئة لو أني سقتها
…
إبلاً يكون حمولهنّ بهارا
وكتب إليّ قصيدة الميزاب أوّلها:
كم سيفُ النظم أجرّده
…
كم أُشهره كم أغمده
كم أنظم عِقد جواهره
…
في مدح كريمٍ أقصده
كم أجمع من معنىً حسنٍ
…
وبيان الشرح يقيّده
وقد سقتها بمجموعها في كتابي ألحان السواجع.
ولم يزل على حاله إلى أن أتى مرة من مصر ونزل بالتعديل ظاهر مدينة دمشق في
بيت التحفَه جدرانه، وتأنس به جردانه، فنزل به ذباب السيف، وعمل من دمه وليمة لذباب الصيف، وأصبح ورأسه قد بان عن جسده وطاح، ودقيق ابن قُرصة تذروه الرياح، وكان مسكيناً يتحلّب أفاويق الندى، ويحتلب ببلاغته أهل زمانٍ لا يجدون على نار المكارم هدىً، إلا من يرتاح للامتياز في عدة الامتياح أو تهزّه نغمة العافين أو مدام المدّاح، وقليلٌ ما هم، وقد بعد حماهم، وكان المسكين يرمق عيشه على بَرَص، ويمسي كالفأرة في قَرض الأعراض بالقَرَض.
وكانت قتلته يوم الجمعة رابع عشر شهر الآخر سنة اثنتين وخمسين وسبع مئة.
وأنشدني من لفظه لنفسه بدر الدين حسن بن علي الغزّي:
مات ابنُ قُرْصةَ بعد طول تعرُّضٍ
…
للموت مِيْتةَ شرِّ كَلْب نابحِ
ما زال يشحذ مُديةَ الهَجو التي
…
طلعت عليه طلوع سعد الذابحِ
حتى فَرى وَدْجَيه عبدٌ صالح
…
عَقَرَ النطيحة عَقْرَ ناقةٍ صالحِ
فليحْيَ قاتله ولا شلّتْ يدٌ
…
كفَتِ المؤونة كفَّ كلّ جرائحي
وقلت أنا فيه:
دع الهجو واقنع بما نلته
…
من الرزق لو كان دون الطفيفِ
فقَرْضُ ابن قُرصة عمّ الورى
…
وراعَ الدنيّ بهجْو الشريفِ
ومات ابنُ قَرُصة من جوعه
…
وشهوته عضّة في رغيف