الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأن عبدة بن الطيب لم يقو في قوله:
ينحزن من بين محجون ومركول (1)
والقصيدة من روي "بانت سعاد".
وقد أحس علماء الشعر بجمال قوافي المولدين والمجودين من الإسلاميين مثل القطامي وذي الرمة، فأرادوا أن يبالغوا في هذا التحسين بزيادة القيود وحث الشعراء على أن يلتزموا الإعراب حتى في القوافي المقيدة (الساكنة). ومثل هذا الالتزام عسير جدًا. وقد كان الشعراء أحكم وأعقل من أن يأبهوا له أو يعيروه نظرة، ولو قد فعلوا لكان النظم في القوافي المقيدة من أشق الأشياء، ولصعب على أبي الطيب مثلًا أن ينظم قصيدته:
أزائر يا خيال أم عائد
…
أم عند مولاك أنني راقد (2)
وهي كلمة لو أطلقت قوافيها لاختلفت حركات الإعراب فيها أشد اختلاف، لأن فيها نحو:"وانثني راشد" و "ألصق ثديي بثديك الناهد".
الإيطاء
اصطلح العلماء على جواز إعادة القافية بعينها بعد سبعة أبيات أو عشرة. وحظر الإيطاء على وجه العموم أمر يتقبله الذوق، لأن الذوق السليم يكره التكرار ما لم يدع إليه داع قوي، إلا أن الإصرار على الحظر في كل حالة وكل مناسبة، وبغض النظر عن مقتضيات الظروف التي تدعو إليه خطأ عظيم. وهاك على سبيل المثال قول الأعشى (ديوانه، جاير أوروبا سنة 1927 ص 33 - 51 إلى 257):
(1) من قصيدته التي مطلعها "هل حبل خولة" رقم 26 من شرح المفضليات للأنباري ص 273.
(2)
ديوان المتنبي، (تحقيق الدكتور عزام، مصر- 1944) ص 567.
تقول ابنتي حين جد الرحيل
…
أرانا سواءً ومن قد يتم
أبانا فلا رمت من عندنا
…
فإنا بخيرٍ إذا لم ترم
أي لم تبرح.
ويا أبتا لا تزل عندنا
…
فإنا نخاف بأن تخترم
أرانا إذا أضمرتك البلا
…
د نجفى وتقطع منا الرحم
أفي الطوف خفت علي الردى
…
وكم من ردٍ أهله لم يرم
أي كم من هالك لم يفارق أهله.
فالفعل المضارع «ترم» و «يرم» مستعمل في قافيتي البيت الثاني والخامس، ولا يفصل بين هذين البيتين إلا بيتان اثنان. ومع ذلك فهذا الإيطاء ليس بمكروه موقعه في السمع. بل هو مناسب للمقام، وملائم جدًا لما سبقه من تكرار «أبانا» و «يا أبتا» و «عندنا» .
فهذا يوضح لك ما ذكرته من أن الإيطاء، وإن كان في الكثير الغالب غير مقبول، قد يحسنه المقام المناسب له أحيانًا.
والغالب على نقاد الشعر أن يعيبوا تكرار الضمير المتصل في قوافي الشعر، وأن يشموا في تكراره نوعًا من الإيطاء، وإن كان تكراره في القوافي يجئ حسنًا أحيانًا، كما في قول ذي الأصبع (المفضليات 325 - 326):
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ
…
عني ولا أنت دياني فتخزوني
ولا تقوت عيالي يوم مسغبة
…
ولا بنفسك في العزاء تكفيني
فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي
…
فإن ذلك مما ليس يشجيني
ولا يرى في غير الصبر منقصة
…
وما سواه فإن الله يكفيني
إن الذي يقبض الدنيا ويبسطها
…
إن كان أغناك عني سوف يغنيني
يا عمرو إن لاتدع سبي ومنقصتي
…
أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
يعني على جمجمتك، ومن الجمجمة تخرج الهامة، وهي طائر خرافي.
هذا، والضمير «ني» (1) كما ترى، معاد في كل بيت مما روينا، وهو مكرر في اثنين وعشرين بيتًا من قصيدة ذي الإصبع هاته، وعدة أبياتها ستة وثلاثون والقوافي الأربع عشرة التي ليست بضمير المتكلم مع نون الوقاية، فيها كلمة «مكنون» مكررة مرتين، و «لين» ثلاث مرات. وكأن الشاعر اعتبر الضمير «ني» جزءًا من الكلمات التي وصله بها، وهو كذلك في السمع. وموقعه حسن جدًا كما ترى، والإيطاءات التي في القصيدة لا تعيبها، بل لا يكاد يشعر بها السامع.
وقد غالى ابن رشيق في مسألة الإيطاء والتقفية بالضمائر، فمنع أن تجيء أمثال «تكره» و «نصره» قوافي في القصيدة الواحدة، لأن هاء «تكره» أصلية، وهاء «نصره» ضمير (2).
وعندي أن التدقيق في القيود إلى هذا الحد فيه تعنت، ويكفي أن نقول على وجه الإجمال: إنه خير للشاعر أن يتجنب الضمائر في التقفية، وألفات التثنية، وواو الجماعة ونونها، وياء التثنية ونونها، ما أمكنه ذلك. ولكن علينا في نفس الوقت أن نعترف بأن الشاعر الحاذق، قد يأتي بكل هذه في المقام المناسب، فيضطرنا إلى قبوله كما فعل ذو الإصبع، وكما فعلت الشاعرة في قولها:
أعمرو علام تجنبتني
…
أخذت فؤادي وعذبتني
فلو كنت يا عمرو أخبرتني
…
أخذت حذاري فما نلتني (3)
(1) النحويون يعدون النون للوقاية، والباء هي الضمير، وأولى أن تجعل «ني» كلها ضميرًا. والتعليلات التي يذكرها النحويون ليبرروا بها قولهم "النون للوقاية" كلها واهية.
(2)
العمدة لابن رشيق: مصر 1907 - 1 - 103.
(3)
الأغاني (الدار) 5: 223.