المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة عن الوافر: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ١

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌ الجزء الأول: في النظم)

- ‌[تقدمة]

- ‌الإهداء

- ‌تقديم الكتابللأستاذ الكبير الدكتور طه حسين

- ‌شكر واعتراف

- ‌خطبَة الكتاب

- ‌الباب الأولفي النظم

- ‌النظم العربي يقوم على عمادين:

- ‌المبحث الأولعيوب القافية ومحاسنها وأنواعها

- ‌ الإقواء

- ‌الإيطاء

- ‌السناد

- ‌التضمين:

- ‌الردف المشبع:

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌القوافي المقيدة:

- ‌القوافي الذلل:

- ‌القوافي النفر:

- ‌القوافي الحوش:

- ‌هاءات القوافي:

- ‌حركات الروي:

- ‌تعقيب واستدراك:

- ‌خاتمة عن جودة القوافي:

- ‌المبحث الثانيأوزان الشعر وموسيقاها

- ‌الفصل الأول

- ‌تمهيد:

- ‌النمط الصعب (1)

- ‌الأوزان المضطربة (2):

- ‌الأوزان القصار (3):

- ‌ الخفيف القصير

- ‌الخبب والرجز القصيران والمتقارب المنهوك:

- ‌المتقارب المنهوك:

- ‌خلاصة:

- ‌البحور الشهوانية: (4)

- ‌كلمة عامة:

- ‌مستفعلن مفعو أو مفعول (5)

- ‌بحر المجتث (6)

- ‌الكامل القصير (7)

- ‌مخلع البسيط (8)

- ‌الهزج (9)

- ‌الرمل القصير (10)

- ‌الفصل الثانيالبحور التي بين بين

- ‌المديد المجزوء المعتل (1)

- ‌السريع (2)

- ‌الكامل الأحذ وأخوه المضمر (3)

- ‌الفصل الثالثالبحور الطوال

- ‌(1) المنسرح والخفيف:

- ‌المنسرح

- ‌الخفيف

- ‌همزيات الخفيف

- ‌داليات الخفيف

- ‌ضاديات الخفيف:

- ‌لاميات الخفيف ونونياته:

- ‌الرجز والكامل:

- ‌كلمة عن الرجز

- ‌التعليمي

- ‌كلمة عن الكامل

- ‌كامليات شوقي

- ‌الكامل عند المعاصرين

- ‌3 - المتقارب

- ‌4 - الوافر:

- ‌كلمة عن الوافر:

- ‌وافريات المعاصرين:

- ‌الطويل والبسيط:

- ‌وزن البسيط

- ‌كلمة عامة عن الطويل والبسيط

- ‌كلمة عن البسيط

- ‌خاتمة

الفصل: ‌كلمة عن الوافر:

واستقامة الوزن أن تقول. «ومالك والتلدد حول نجد» . وهاك أبياتًا في الوافر من شعر عبد الله بن الصمة القشيري من شعراء الحماسة:

أقول لصاحبي والعيس تهوي

بنا بين المنيفة فالضمار

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار

ألا يا حبذا نفحات نجدٍ

وريا روضه بعد الفطار

وأهلك إذ يحل الحي نجدًا

وأنت على زمانك غير زار

شهورٌ ينقضين وما شعرنا

بأنصاف لهن ولا سرار

فأما ليلهن فخير ليلٍ

وأقصر ما يكون من النهار

‌كلمة عن الوافر:

في الوافر تدفق استمده من أصله «بحر المتقارب» . إلا أن نغمه ينبتر في آخر كل شطر كما قدمنا. وهذا الانبتار شديد المفاجأة. وله أثر عظيم جدًا في نغمة الوافر- إذ يكسبها رنة قوية ليست في المتقارب. وهذه النغمة القوية بالطبع تسلبه مزية الإطراب الخالص الذي في المتقارب. ولكنها تعوضه تعويضًا عظيمًا عن هذا النقص، بأنها؟ ؟ ؟ للأداء العاطفي سواءٌ أكان ذلك في الغضب الثائر والحماسة أم في الرقة الغزلية والحنين.

ولانبتار الوافر الذي يحدث في كل شطر خاصةٌ غريبة. وهي أن عجزه سريع اللحاق بصدره، حتى إن السامع لا يكاد يفرغ من سماع الصدر حتى يهجم عليه العجز، بل الشاعر نفسه، أثناء النظم، فيما أرجح، يشعر بهجوم العجز والقافية بمجرد فراغه من الصدر، وربما سبق عجز بيت صدره إلى نفسه.

ولأوضح لك كلامي هذا بمثال. تخيل أن شاعرًا أراد أن يجعل كلام بشار:

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن

برأي نصيح أو نصيحة حازم

ص: 406

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة

فريش الخوافي قوةٌ للقوادم

وقاتل إذا لم تعط إلا ظلامةً

شبا الحرب خيرٌ من قبول المظالم

في بحر الوافر، ألا تحسب أن ذلك لن يتأتى له إلا بمضاعفة عدد الأبيات ثم هو لن يقدر بعد ذلك على أن يوجد فيها هذا النفس الرزين الهادئ الذي في طويل بشار؟

وحقيقة الأمر أن الوافر بحرٌ مسرع النغمات متلاحقها، مع وقفة قوية سرعان ما يتبعها إسراعٌ وتلاحق. وهذا يتطلب من الشاعر أن يأتي بمعانيه دفعًا دفعًا، كأنه يخرجها من مضخة، لا في انثيال كما يفعل صاحب المتقارب، ولا في رشاقة ورقص كما يفعل صاحب الكامل.

ولهذا فإنك أكثر ما تجد الوافر في نظم الشعراء ذا أساليب تغلب عليها الخطابة- لا فرق في ذلك بين رقاق الوافرات وفخماتها والخطابة في الوافر جليّ فيها عنصر التكرار والمزاوجة والمطابقة، وحملها الصدر على العجز، والإضراب عن الشيء إلى سواه، وعرض جوانب مختلفة من المعنى الواحد يتبع بعضها بعضًا.

وأحسن ما يصلح هذا البحر في الاستعطاف والبكائيات وإظهار الغضب في معرض الهجاء والفخر، والتفخيم في معرض المدح.

وقد يصلح جدًا لنوع النوادر والنكت التي تصدر عن الحذق والمهارة، وسرعة الخاطر. خذ مثلاً قول الفرزدق في عمر بن هبيرة، وقد ولته بنو أمية العراق (1):

أمير المؤمنين وأنت برٌ كريم لست بالطبع الحريص (2)

(1) الكامل 2: 65، ديوانه 2: 487 ومظانها غير ذلك كثير.

(2)

الطبع بكسر الباء: الجشع بكسر الشين.

ص: 407

أأطعمت العراق ورافديه

فزاريًا أحذ يد القميص (1)

تفهق بالعراق أبو المثنى

وعلم أهله أكل الخبيص (2)

ولم يك قبلها راعي مخاضٍ

ليأمنه على وركي قلوص (3)

وهذا الكلام لا يخلو من فكاهة صحيحة. ولكن عامل «النكتة» الصادر عن سرعة الخاطر أوضح فيه. وانظر إلى أثر الوزن البين في ترتيبات الكلمات وصياغة البيت. لا يكاد الشاعر يفرع من «بر» في البيت الأول حتى يتبعها «بكريم» ، ثم يُردف ذلك بأوصاف تقرى النعت الأول. ولا يجد الشاعر متنفسًا -من سرعة الوزن- ليخلص إلى معنى آخر. وكذلك البيت الثاني إن تأملته وجدت خلاصته:«أوليت العراق فزاريًا أو بعبارة أدق: أوليت عمر بن هبيرة وهو من تعلم؟ » - وقد

(1) رواية الشعر والشعراء 1: 34 «أوليت» والذي أثبتناه رواية الكامل والديوان واللسان 155 ص 21، وهي أجود، وكانوا يقولون: أطعم أمير المؤمنين فلانًا خراج كذا وكذا. وقوله أحذ يد القميص أي سارق خائن، قال المبرد:«الأحذ: الخفيف، قال طرفة: وأتلع نهاض أحذ ململم. وإنما نسبه لخفة في يده إلى السرقة» - وهذا كتفسيري ابن قتيبة واللسان. وأضاف اليد إلى القميص على الاتساع ولضرورة القافية، وفي تفسير الأحذ سوى ما ذكرنا.

هذا وقد حرف الدكتور مندور رواية البيت في كتابه «النقد المنهجي عند العرب» (النهضة- مصر) ص 27. فروي «أخذ» بالخاء المعجمة، ومصدره الشعر والشعراء، إذ عنه نقل س 6 - 7. وفسر الأخذ بالسائل الصديد من خذ الجريح يخذ خذيذًا، إذ سال صديده. ولعل طبعة الشعر والشعراء التي رجع إليها تلك الطبعة الرديئة المليئة بالتصحيف. ولو رجع الأستاذ إلى اللغة والنحو قليلاً، لعلم أن رواية الخاء المعجمة لا تجوز أما من جهة اللغة فالحرف نادر، ولم يعطه صاحب اللسان أكثر من سطر، ولو كان ورد في بيت الفرزدق لكان اللغويون قد استشهدوا به. وأما من جهة النحو، فخذ بالخاء المعجمة من باب ضرب، واسم الفاعل منها «خاذ» لا «أخذ» ، ولو جاز لك أن تقول أخذ اليد، أو أخذ يد القميص بمعنى خاذ اليد، أو خاذ يد القميص، لجاز لك أن تقول: هو أكرم الخلق، بمعنى: هو كريم الخلق، وهو أكرم يد النوال، بمعنى هو كريم يد النوال، وأنت تعلم أن قولك: هو أكرم، بمعنى: هو كريم، فيه أخذ ورد وتأويل وما أدري ما أوقع الدكتور مندورًا في هذه الآبدة- وجل من لا يسهو.

(2)

تفهق: أي تملأ من النعمة، وتملأها.

(3)

المخاض: الإبل. والقلوص: الفتية منها. ويكنى بها عن المرأة الشابة والخبيص: ضرب من رقيق الطعام.

ص: 408

فطن ابن قتيبة رحمه الله إلى ما في بيت الفرزدق من احتيال على إكمال الوزن (1).

(1) قال ابن قتيبة (الشعر والشعراء 1 - 34 - 15): «والمتكلف من الشعر وإن كان جيدًا محكمًا، فليس فيه خفاء على ذوي العلم لتبينهم ما نزل بصاحبه من طول التفكر، وشدة العناء، ورشح الجبين، وكثرة الضرورات، وحذف ما بالمعاني حاجة إليه، وزيادة ما بالمعاني غنى عنه كقول الفرزدق في عمر بن هبيرة لبعض الخلفاء: «أوليت العراق البيت» يريد أوليتها خفيف اليد، يعني في الخيانة. فاضطرته القافية إلى ذكر القميص، ورافداه مجلة والفرات. أهـ كلام ابن قتيبة». -وهو كلام جيد ولكنه لم يعجب الدكتور مندورا، فانبرى له بهجمة عنيفة قائلاً من كلام طويل «النقد المنهجي عند العرب 27 - 28):«ونحن لا نرى إسرافًا في اللفظ ولا ضعفًا في الصياغة في قول الفرزدق «أوليت العراق» البيت (وروى أخذ بالخاء المعجمة وشرحها) فالرافدان يزيدان العراق جمالاً وشعرًا ونبلاً. وليسا من الحشو في شيء، وإنما هو الفرزدق الشاعر الدقيق الحس، الخبير بطبيعة الشعر ولغة الشعر، وقد عرف كيف يرفع من قدر العراق، ويضفي عليه جلال الشعر بهذين الرافدين .... وأما أخذ (بالمعجمتين) يد القميص فكناية جميلة لم يفطن إلى روعتها ابن قتيبة. وهل أدل على الخيانة من أن تكني عنها بقميص يقطر صديدًا؟ وهل أقوى من هذا عبارة؟ ومع ذلك يقول ابن قتيبة: إنها حشو. أهـ كلام الدكتور مندور».- قلت، ويل للعلماء القدماء من ألسنة النقد الحديث التي لا ترحم. وقد نسخت لك كلام ابن قتيبة عن بيت الفرزدق كاملاً، فهل تجده عد «الرافدين» حشوًا؛ فما بال الدكتور مندور ينسب إلى ابن قتيبة ما لم يقله، ويلومه على نقد لم ينتقده. وكل ما ذكره ابن قتيبة عن الرافدين أنه تلطف ففسرهما لمن عسى ألا يعرف ما هما. أفيلام ابن قتيبة على شرحه، فقد كان الرجل معلمًا في كتبه؟ ولعل الطبعة التي اطلع عليها الدكتور مندور خط فيها «والرافدين» مكان «والرافدان» خطأ، فتوهم هذا التصحيف صحيحًا، وحسب أن ابن قتيبة يريد الزراية على الفرزدق. والله أعلم. وأما كلام الدكتور مندور عن القميص فمنقوص عليه من جهتين: الأولى جهة الرواية، فهي أحذ بالحاء المهملة، وقد سبق التنبيه على ذلك، وابن قتيبة كان يحفظ البيت على صحته، ويعلم أن العرب تقول رجل أحذ اليد: أي سارق، كما نقول في السودان: خفيف اليد، وكما يقال في مصر: طويل اليد، ولو قال شاعر عامي الآن:«فلان طويل يد الجلابية» ، أو خفيف يد البالطو لعد ذلك حشوًا. على أن ابن قتيبة لم يعب كلام الفرزدق كل العيب. بل قدم أنه يعده «جيدًا محكمًا» . ولو تأخر العهد بابن قتيبة رحمه الله إلى القرن الرابع الهجري، لربما عد حشوة الفرزدق بذكره القميص هنا نوعًا من ذلك الحشو الذي كانوا يسمونه «حشو اللوزينج» . أي هو لابس قميص الوالي ولكنه خفيف يده أي سارق فتحت قميص الوالي لص؛ وعلى تقدير التسليم بصحة الرواية التي رواها الدكتور مندور (أخذ بالخاء المعجمة، وذلك بعيد ومستحيل) فليس في صورة القميص الذي يسيل صديدًا دليل على الخيانة، وإنما يدل على القذارة والمرض. ولا أعرف ما وجه الشبه بين صورة من يلبس قميصًا يسيل صديدًا، وصورة الخائن السارق. اللهم إلا بتأويل بعيد وإعراب وكم وددت أن لو كان الدكتور مندور تريث قليلاً قبل أن يشن هجومه على ابن قتيبة. ومهما كان النقاد القدماء يخطئون، فلا ريب أنهم بحكم إتقانهم للغة العرب أقرب لأن يفطنوا إلى ما لا نستطيع أن نفطن له من دقائق أسرارها.

ص: 409

والبيت الثالث عجزه كله تفسير لكلمة في صدره هي قوله «تفهق» . والبيت الرابع فيه سرعة الخاطر بينة، وهي تعوض عن متابعة الأوصاف، وغير ذلك من عناصر الخفة اللفظية.

وهاك مثالاً آخر من شعر الفرزدق في الوافر (ديوانه 2: 439):

أقول لصاحبي من التعزي

وقد نكبن أكثبة العقار

أعيناني على زفرات قلبٍ

يحن برامتين إلى النوار

إذا ذُكرت نوار له استهلت

بدمع سمبل العبرات جار

فلم أر مثل ما قطعت إلينا

من الظلم الحنادس والصحاري

(أكثبة: جمع كثيب، والعقار: موضع).

وهذا من نادر ما رق فيه الفرزدق. ولا شك أنه كان كلفًا بنوار، وقد أفرغ فيها فرائد من شعره. هذا ولا إخاله يخفى عليك سلطان الوزن على أداء الكلام في الأبيات الرائية هذه- انظر كيف اضطر الشاعر إلى قوله «من التعزّي» ثم إلى الاستطراد بذكر الإبل، ثم أكمل المعنى في البيت الثاني، وجعل عجزه كالتفسير لصدره. وإذ أقول هنا إن الشاعر قد اضطر إلى الإكثار من الألفاظ ونحو ذلك، فلست أنسبه إلى التكلف، إذ أن هذا النوع من الاضطرار ناشئ عن نفس طبيعة الوزن. وسر جماله يكمن في المقدرة على تزويج ألفاظ ذات طنة ورنين بهذه التفعيلات الشديدة الطلب للفظ الرنان، والأداء الخطابي الإنشائي. وهاك مثالاً آخر من شعر الفرزدق، قوله يهجو كليب بن يربوع رهط جرير (من نفس القصيدة):

ألا قبح الإله بني كليب

ذوي الحمرات والعمد القصار

ولو ترمى بلؤم بني كليبٍ

نجوم الليل وما وضحت لساري

ولو لبس النهار بنو كليب

لدنس لؤمهم وضح النهار

وما يغدو عزيز بني كليب

ليطلب حاجةً إلا بجار

ص: 410

والخطابة والتكرار والمطابقة كل ذلك بين في أداء هذه الأبيات. هذا من الناحية اللفظية ومن الناحية المعنوية تجد سرعة الخاطر، وبراعة البديهة أوضح ولا سيما في البيت الرابع. وانظر إلى قوله من نفس القصيدة يفتخر:

بنو السيد الأشاتم للأعادي

نمتني للعلى وبنو ضرار

وأصحاب الشقيقة يوم لاقوا

بني شيبان بالأسل الحرار

وله من قصيدة لامية جيدة مدح بها سعيد بن العاص (ديوانه 2: 616، 618):

أرقت فلم أنم ليلاً طويلاً

أراقب هل أرى النسرين زالا

فأرقني نوائب من هموم

عليّ ولم يكن أمري عيالا

أي ولم يكن أمر يعوله قبل الهم الذي جعله يراقب النسرين. وقد كان الفرزدق صادقًا في قوله هذا، فهو يشير إلى تهديد زياد له، وقد غبر حينًا من الدهر يتراوغ منه بين البصرة والكوفة، ثم لم يجد من ملجأ غير الفرار:

وكان قرى الهموم إذا اعترتني

زماعًا لا أريد به بدالا

فعادلت المسالك نصف حول

وحولا بعده حتى أحالا

فقال لي الذي يعينه شأني

نصيحة قوله سرًا وقالا

عليك بني أمية فاستجرهم

وخذ منهم لما تخشى حبالا

فإن بني أمية من قريش

بنوا لبيوتهم عمدًا طوالا

إليك فررت منك ومن زياد

ولم أحسب دمي لكما حلالا

ولكني هجوت وقد هجتني

معاشر قد رضخت لهم سجالا

فإن يكن الهجاء أحل قتلي

فقد قلنا لشاعرهم وقالا

وإن تك في الهجاء تريد قتلي

فلم تدرك لمنتصر تبالا (1)

(1) أي: ثأثرا.

ص: 411

ترى الشم الجحاجح من قريش

إذا ما الأمر في الحدثان عالا

بني عم النبي ورهط عمرو

وعثمان الذين علوا فعالا

قيامًا ينظرون إلى سعيدٍ

كأنهم يرون به هلالا

فهذا الكلام خطبة حارة صادقة. وإنه لمن حسنات زياد أنه قد أخاف الفرزدق وتوعده، فإن ذلك قد شغل على ذلك الشاعر الفذ جوانب قلبه بالجد والعاطفة القوية حينًا من الدهر، وصرفه شيئًا علما كان إجرياه من الهزل والعبث. ولعلك تسائلني. لم أكترث لك من شعر الفرزدق في معرض التمثيل لبحر الوافر. وما ذلك إلا لأنني أكثرت لك من شعر الفرزدق في معرض التمثيل لبحر الوافر. وما ذلك إلا لأنني وجدت الفرزدق من الذين لا يكادون يحفلون بتجويد الصياغة في أكثر شعرهم. كما أني ألفيته يميل إلى التمهل في كلامه دون الإسراع، وإلى عرض جوانب عدة من الأمر الواحد، إلا أني في الوافر وجدته يؤثر الخطابة وتحكيك اللفظ مع الاقتصاد في المعاني إلا ما كان لازمًا لغرضه، أو ما كان يستلزمه خاطر سريع، ونكتة لاذعة. ثم وجدته مع ذلك يأتي بكلامه دفعًا دفعًا متلاحقة سريعة على خلاف طبيعته في غير الوافر من الأوزان.

وأضرب لك مثلين آخرين من شعره في الوافر، قال يأسف ويتندم على طلاقه للنوار (1)

ندمت ندامة الكسعي لما

غدت مني مطلقة نوار

وكانت جنتي فخرجت منها

كآدم حين لج به الضرار

وكنت كفاقيء عينيه عمدًا

فأصبح لا يضيء له النهار

ولو أني ملكت يدي ونفسي

لكان علي للقدر الخيار

وقال يهجو أحد بني باهلة يدعي الأصم (2).

(1) الكامل 1 - 72.

(2)

الديوان 2 - 773 - 775.

ص: 412

ألا كيف البقاء لباهلي

هوى بين الفرزدق والجحيم

ألست أصم أبكم باهليًا

مسيل قرارة الحسب اللئيم

وهل يستطيع أبكم باهلي

زحام الهاديات من القروم

ونهج الفرزدق في الوافر كله من هذا النمط المسرع. وهذا وحده يصدق قول النقاد الأوائل فيه: إنه كان معنًا مفنًا. وأي افتنان أعظم من أن يستطيع شاعر كالفرزدق، عرف بالإطناب والتعقيد، أن يضح كل هذا الوضوح، ويتدفق كل هذا التدفق.

وقد كان جريرٌ يخالف الفرزدق في طريقة الأداء. كان جادًا في الصياغة حين كان الفرزدق عابثًا هازلاً. وكان حريصًا على الإيجاز والتسهيل، حين كان الفرزدق لا يبالي أأكمل معناه في بيت واحدٍ أم عدة أبيات، ولا يهتم أجاء به سهلاً مناسبًا أم ملفتًا معقدًا، وكان حريصًا على تجويد الصياغة، حين كان الفرزدق يرى نفسه فوق أن يجود ألا أن يجيء ذلك اتفاقًا، وكان يحافظ على اللغة القديمة الصافية ما أمكن، حين كان الفرزدق لا يبالي أن يخرج عن النحو أو يزيد في متن اللغة، أو يستعير من السوقة والأعاجم.

وقد كان جرير ذا طبع صاف، وعاطفة مندفعة، وخاطرٍ سريع، وبديهة حادّة، وحذق ومهارة في إلقاء القول. ولكن الفرزدق كان أميل إلى الفكاهة العميقة منه إلى النكتة الخاطفة. ومن أجل هذا كله كان جريرٌ -حين ينظم في الوافر- يجري مع طبيعته، وينساب في واديه. ولو نظرت في ديوان جرير وجدت إحسانه في الوافر أضعاف إحسانه في الطويل مثلاً. كما أنك لو نظرت في ديوان الفرزدق وجدت إحسانه في الطويل يزيد على الوافر بقدر عظيم.

ولو ذهبت أختار لك من وافر جرير، قاصدًا بذلك أن أوفيه حقه، لاضطررت

ص: 413

إلى تسطير يكل عنه الساعد. وأكتفي بذكر أبيات، ثم بحسبك أيها القارئ أن تقرأها جهرًا لنفسك لترى كيف تدفع نغمها وسلاسته، قال في مطلع قصيدة:(1)

ألا حيِّ الديار بسعد إني

أحب لحب فاطمة الديارا

أراد الظاعنون ليحزنوني

فهاجوا صدع قلبي فاستطارا

لقد فاضت دموعي يوم قو

لبين كان حاجته ادكارا

أبيت الليل أرقب كل نجم

تعرض حيث أنجد ثم غارا

يحن فؤاده والعين تلقى

من العبرات جولاً وانحدارا

إذا ما حل أهلك يا سليمي

بدارة صلصلٍ شحطوا مزارا

خذ هذا البيت الأخير، هل تجد فيه إلا إنشاء صرفًا لا يكاد يخالطه خبرٌ، أو نفسٌ من خبر؟ (أعني بالإنشاء مدلول هذا اللفظ عند علماء المعاني)

وقال جرير في هشام بن عبد الملك (2):

أمير المؤمنين جمعت دينًا

وحلمًا فاضلاً لذوي الحلوم

أمير المؤمنين على صراطٍ

إذا اعوج الموارد مستقيم

له المتخيران أبًا وخالاً

فأكرم بالخئولة والعموم

نما بك خالدٌ وأبو هشام

مع الأعياص في الحسب الجسيم (3)

وتنزل من أمية حيث تلقى

شئون الرأس مجتمع الصميم

ومن قيسٍ سما بك فرع نبع

على علياء خالدة الأروم

ترى للمسلمين عليك حقًا

كفعل الوالد الرؤف الرحيم

(1) ديوانه 280.

(2)

نفسه 506 - 508.

(3)

الأعياص من بني أمية: هم العاص وأبو العاص جد خلفاء المروانيين، والعيص، وأبو العيص.

ص: 414

وليتم أمرنا ولكم علينا

فضولٌ في الحديث وفي القديم

إذا بعض السنين تعرقتنا

كفى الأيتام فقد أبى اليتيم (1)

وكم يرجو الخليفة من فقيرٍ

ومن شعثاء جائلة البريم (2)

وأنت إذا نظرت إلى هشامٍ

نظرت نجار منتجبٍ كريم

ولي الحق حين يؤم حجًا

صفوفًا بين زمزم والحطيم

تواصت من تكرمها قريشٌ

برد الخيل دامية الكلوم

فما الأم التي ولدت قريشًا

بمقرفة النجار ولا عقيم

فهذا مدح صاف. ولعلك تسألني كما سألني أحد الطلبة: ماذا في هذه القصيدة مما يستحق أن يحسب في الشعر الجيد؟ إن شاعرها لم يعد أن ذكر آباء الممدوح، ثم عدد بعد ذلك صفات ولم يجيء بمعنى فريد أو صورة رائعة أو شيء يهز؟ وقد لفتني ذلك الطالب -لما رأيت صدقه في سؤاله- إلى ثلاث نواح في القصيدة، ولو كانت توفرت للشاعر واحدة منها لكفته:

(1)

ناحية المدح المناسب لعظمة الخلافة، وهذه قد حواها جرير من أطرافها مع إيجاز ويسر- فقد أشاد بعراقة الخليفة في بيوتات السيادة العربية، ثم مدح عصبيته من قريش، ثم أثنى على عدل الحاكم فيه وبره بالرعية، ثم وفى رئاسته الدينية حقها من الإكبار.

(2)

وناحية اليسر، فقد جاء جرير بلفظ سلسٍ واضح يفهمه القارئ الآن فضلاً عن المعاصر في ذلك الحين. وفي هذا من الدعاية للخليفة ما لا يخفى.

(1) أي إذا حلت بنا سنة شهباء مهلكة للمال، وهذا البيت من شواهد النحاة في أن الإضافة إلى المؤنث قد تفيد المضاف تأنيثًا.

(2)

جائلة البريم: أي مهزولة. والبريم: خيط تشده المرأة في حقوها، وإذا جال فقد زال لحم عجيزتها من الهزال.

ص: 415

(3)

ثم إنه مع إيجازه ويسره وقلة تكلفه تخير الأداء، فاستعمل ضروبًا من المجاز والاستعارة منسجمة كل الانسجام مع مسلكه اليسير السهل الممتنع.

هذا ومع هذا النواحي الثلاث -في الأبيات التي ذكرنا، وفي سائر القصيدة التي اخترنا منها هذه الأبيات- ناحيتان أخريان مهمتان للغاية. الأولى هذا الوزن القوي المطرد، وافتنان الشاعر في إظهار نفعه طورًا بتكرار كلمات بعينها كقوله «أمير المؤمنين» في البيتين الأول والثاني، وطورا بأرداف كلمات متقاربة في الوزن والمعنى كقوله «أبًا وخالاً» و «الخؤولة والعموم» في البيت الثالث، وتارة بإعادة أطراف من الألفاظ والمعاني بعضها على بعض كقوله «كفى الأيتام فقد أبى اليتيم» وكقوله «إذا نظرت إلى هشام نظرت» وطورًا بالمطابقة كقوله «فما الأم التي ولدت البيت» . وربما يُضرب جريرٌ عن التكرار والمطابقة، ويأتي يبيته كله دفعةً واحدة بحيث يبدو لك مشتملاً على عدد من الكلمات أكثر من أن يحتمله وزنه كقوله:

وتنزل من أمية حيث تلقى

شئون الرأس مجتمع الصميم

فهذه جملة واحدة لا تستطيع أن تحذف منها شيئًا. ومثل هذا البيت في الوافر لا يقوى على أن يجيء به إلا ذو ملكة قوية، إذ لا يكاد شاعر يخلو في الوافر من الاستعانة بأنواع الإطناب واللعب اللفظي.

والناحية الثانية المهمة هي أن قصيدة جرير هذه، طرازٌ من مدح الخلفاء اتخذه من بعده من الشعراء نموذجًا -لا سيما مروان بن أبي حفصة وعلى منهاجه في المدح سار الطائي والبحتري من بعد. ولو فتشت في شعر الذين تقدموا جريرًا فإنك لن تجد شيئًا من مدائحهم يجمع كل ما ينبغي أن يمدح به خليفة كما تفعل هذه القصيدة- حتى ولا شعر جرير في عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز فإنه لا يصلح نموذجًا للمدح كما تصلح هذه الميمية في هشام.

ص: 416

والقصيدة التي توضح كل التوضيح كيف نفس جرير في الوافر، دماغته التي هجا بها عبيد بن حصين الراعي. ولولا خشية الإطالة لأوردتها هنا كاملة، ثم أتبعتها بداليته في التيم. واليائية خاصة قد جمع فيها جرير كل فنون الطبع والأداء كما ينبغي أن تتجلى في الوافر- التكرار الخطابي، والتقسيم، والطباق، والتلاعب باللفظ، والافتنان في الإطناب، ثم مع ذلك الإيجاز الذي لا بعده، والإتيان بأبيات كاملة مصمتة التركيب، لا تستطيع أن تبدأ بأولها ثم تقف في جزء منها بدون أن تخل بنظام الكلام، ولا تكاد تملك إلا أن تندفع فيها إلى الآخر، كأنما أراد الشاعر لتنشدها مسرعًا في نفس واحج. مثال ذلك قوله:

ستهدم حائطي قرماء مني

قوافٍ لا أريد بها عتابا

وقوله:

ترى الطير العتاق تظل منه

جوانح للكلاكل أن تصابا

ولعلما يُصلح هذا التمثيل أن أنشدك معه قطعة وافية من القصيدة. قال رحمه الله (1):

أعد الله للشعراء مني

صواعق يخضعون لها الرقابا

قرنت العبد عبد بني نمير

إلى القينين إذ غلبا وخابا (2)

لبئس الكسب تكسبه نميرٌ

إذا استأنوك وانتظروا الإيابا

أتلتمس السباب بنو نمير

فقد وأبيهم لاقوا سبابا

أنا البازي المدل على نميرٍ

أتحت من السماء لها انصبابا

(1) ديوانه 71 - القصيدة (64 - 80).

(2)

عنى عبيد بن حصين وجعله عبدًا تلاعبًا باسمه. والقينان: هما الفرزدق والبعيث- والقين: الحداد- وقد كان أكثر القيون عبيدًا.

ص: 417

إذا علقت مخالبه بقرنٍ

أصاب القلب أو هتك الحجابا (1)

ترى الطير العناق تظل منه

جوانح للكلاكل أن تصابا (2)

انظر إلى تكرار «بني نمير» ثم إلى هذه الصورة (صورة البازي) التي تشبه نغم الشاعر في هولها وسرعتها، وتباين كل المباينة في أدائها المجازي ما قدم لك الشاعر من أداء خطابي.

فلا صلى الإله على نميرٍ

ولا سقيت قبورهم السحابا

وخضراء المغابن من نُمير

بشين سواد محجرها النقابا

إذا قامت لغير صلاة وترٍ

بعيد النوم أنبحت الكلابا

تطلى وهي سيئة المعرى

بصن الوبر تحسبه ملابا

هذا من خبيث الهجاء، وعماده «التنكيت» وسرعة البديهة.

وقد جلت نساء بني نمير

وما عرفت أناملها الخضابا (3)

إذا حلت نساء بني نميرٍ

على تبراك خبثت الترابا

انظر إلى «جلت وحلت» .

ولو وزنت حلوم بني نميرٍ

على الميزان ما وزنت ذبابا

فصبرًا يا، تيوس بني نمير

فإن الحرب موقدةٌ شهابا

هذا كله خطابة وتهويل بالخواطر والبداهة، ومقارعة بالكلمات. ثم يدع جرير هذا المنهج جانبًا، ويرتفع فجأة إلى الشعر الصرف:

(1) عنى الحجاب بين الصدر والمعدة.

(2)

الطير العتاق: هي الجوارح. الكلا كل: الصدور، أن نصابا: أي خشية أن تصابا.

(3)

جلت أي كبرت في السن.

ص: 418

ستهدم حائطي قرماء مني

قوافٍ لا أريد بها عتابا

دخلن قصور يثرب معلماتٍ

ولم يتركن من صنعاء بابا

لقد كان الرجل يشعر بأنه مكتوب له الخلود، وأنه من العظماء- فأضفى جانبًا من اعتداده بنفسه على قومه وعصبيته:

تطولكم جبال بني تميم

ويحمي زارها أجمًا وغابا

ولكن هذا الفخر لم يحن أوانه بعد، ولا تزال في الهجاء علالة مهرٍ أرنٍ. قد جارى وجوري:

ألم نعتق نساء بني نمير

فلا شكرًا جزين ولا ثوابا

أجندل ما تقول بنو نمير

إذا ما .... غابا

ألم ترني صُببت على عبيدٍ

وقد فارت أباجله وشابا (1)

أعد له مواسم حاميات

فيشفي حر شعلتها الجرابا

فغض الطرف إنك من نمير

فلا كعبًا بلغت ولا كلابا

أتعدل دمنةً خبثت وقلت

إلى فرعين قد كثرا وطابا

وحق لم تكنفه نمير

وضبة لا أبالك أن يعابا

فلولا الغر من سلفي كلابٍ

وكعبٍ لاغتصبتكم اغتصابا

فإنكم قطين بني سليم

ترى برق العباء لكم ثيابا

إذن لنفيت عبد بني نمير

وعلي أن أزيدهم ارتيابا

لقد هجا نميرًا ففضحها، ولكن أين هو من شعر عبيد بن حصين الراعي، وقد كان يعد شاعر مضر، أيتركه ويكتفي من هجاء فنه بهجاء عشيرته؟ كلا فقد كان

(1) فارت عروقه من الهرم.

ص: 419

الرجل أحذق وأخبث من ذلك. وقد تعرض في الأبيات التالية لشعر الراعي، فأصاب منه مقتلاً:

فيا عجبًا أتوعدني نُميرٌ

براعي الإبل يحترش الضبابا

ولم يكن عبيد يدعى بالراعي لأنه كان راعيًا -فالرعي كان من المهن الحقيرة لا يتعاطاه إلا الصبيان والإماء والعبيد- وإنما لقب هذا اللقب لحسن نعته للإبل والرعي.

لعلك يا عبيد حسبت حربي

تقلدك الأصرة والعلابا (1)

إذا نهض الكرام إلى المعالي

نهضت بعلبةٍ وأثرت نابا

قد يخيّل لقارئ هذا الشعر أن جريرا أراد أن يهجو عبيدًا بمهنة الرعي، فهو لذلك يوازن بينه وهو يحمل قعبه ليحلب النوق، وبين الكرام الناهضين إلى المعالي. ولكن ليس هذا بقصد جرير. وإنما أراد أن يعيب شعر الرجل، وبين ناحية تقصيره في الفن والأداء والأغراض الشعرية، باتهامه بأنه لم يكن يحسن أن يقول في سوى الصر والحلب والعفاس وبروع، ولم يكن يقدر على تناول الأحداث الجسام بالوصف والتصوير، ولا مدح من حقه أن يمدح من السادة، ولا ذم من حقه أن يُذمّ من اللئام. والأبيات التالية توضح قصد جرير هذا أيما توضيح:

تنوخها بمحنية وحينًا

تبادر حد درتها السقابا (2)

وفي هذا إشارة لأوصاف الراعي للحلب.

تحن له العفاس إذا أفاقت

وتعرفه الفصال إذا أهابا

(1) الأصرة: جمع صرار، ويوضع على ضرع البهيمة. والعلاب: جمع علبة، وهي إناء يُحلب فيه. والناب: الناقة.

(2)

الساقب: جمع سقاب، وهو ولد الناقة.

ص: 420

والعفاس: ناقة ذكرها الراعي في شعره حيث يقول: «أشلي العفاس وبروعا» وجرير في موضع آخر من دماغته يذكر «برووع» وينسب الراعي إليها، وذلك قوله:«وما حق ابن بروع أن يهابا» كأنه لا يجعل له أمًا ولا أبًا في دولة الشعر غير هذه الناقة التي أحسن وصفها وأشاد بذلك بنو نمير وأكبروه، كما أكبرت تغلب نونية عمرو بن كلثوم وهذا البيت الآتي يبين لك ذلك:

فأولع بالعفاس بني نمير

كما أولعت بالدبر الغرابا

وخلاصة هذا النقد الذي وجهه للراعي أنه اتهمه بالتقليد والعكوف على أغراض البداوة، «والانحصار الفني» و «الإفلاس» العاطفي. وليس هذا الأمر بمجرد فرضٍ مني. ففي شعر الفرزدق ما يدل أنه هو أيضًا كان ينقم من طبقة الراعي وذي الرمة تقليدهم الشديد لشعر البداوة القديم. وقد ذكروا أنه لما سمع ذا الرمة ينشد حائيته في صيدح قال له:

وداوية لو ذو الرميم يرومها

بصيدح أودى ذو الرميم وصيدح

قطعت إلى معروفها منكراتها

وقد خب آل الأمعز المتوضح

ولم يقصد الفرزدق بهذين البيتين إلى هجاء ذي الرمة في شخصه، وإنما عنى أن مثل كلام ذي الرمة في الصحراء، نوع من التقليد الذي لا يعجز عنه أحدٌ ممن يستقيم له الوزن إذ ليس أكثر من أن يذكر الآل المتوضح، ومعروفات الصحراء ومنكراتها كما كان يفعل الأوائل.

فهذا هذا. ثم نرجع إلى ما كنا فيه من الاختيار. قال جرير:

يرى المتعيدون علي دوني

أسود خفية الغلب الرقابا (1)

إذا غضبت عليك بنو تميم

حسبت الناس كلها غضابا

(1) المتعيدون: المتغضبون.

ص: 421

ألسنا أكثر الثقلين رجلاً

ببطن مني وأعظمه قبابا (1)

وأجدر إن تجاسر ثم نادى

بدعوة يال خندف أن يجابا

هذا من الأبيات التي أوردها الشاعر لتلقى دفعة واحدة، وكأنه -مع ما كان يقصد إليه من التنويع الموسيقي- كان يريد من مثل هذه الأبيات أن تفصل بين غرض وغرض وأداء وأداء. وكثيرًا ما نجده ينتقل بأمثالها من أداء خطابي إلى آخر خيالي، ومن مجرد البلاغة، إلى بحبوحة الشعر- وانظر في الأبيات التي تلي ما قدمناه:

لنا البطحاء تفعمها السواقي

ولم يك سيل أوديتي شعابا

فما أنتم إذا عدلت قرومي

شقاشقها وهافتت اللعابا (2)

تأمل هذه الصورة- صورة الجمال المصاعب أزبدت وأخرجت شقاشقها وهدرت

تنحٌ فإن بحري خندفي

ترى في موج جريته حبابا

بموجٍ كالجبال فإن ترمه

تُغرق ثم يرم بك الجنابا

ثم عدل جرير عن هذه الصور المهولة إلى الغناء الطليق العنان، وتعداد المآثر:

علوت عليك ذروة خندفي

ترى من دونها رتبا صعابا (3)

له حوض النبي وساقياه

ومن ورث النبوة والكتابا

(1) أعظمه، الضمير يعود على النقلين، وكأنه أعاده إلى معنى النقلين وهو الخلق، ومثل هذا التعبير كثير في الكلام القديم، تقول: هو أفضل الناس وأكرمه.

(2)

القروم: فحولة الإبل.

(3)

خندف: هي أم كنانة وهذيل وتميم.

ص: 422

ومنا من يجيز حجيج جمع

وإن خاطبت عزكم خطابا (1)

ستعلم من أعز حمى بنجد

وأعظمنا بغائرة هضابا

أعزك بالحجاز وإن تسهل

بغور الأرض تنتهب انتهابا

أتيعر يابن بروع من بعيدٍ

فقد أسمعت فاستمج الجوابا (2)

فلا تجزع فإن بني نمير

كأقوام نفحت لهم ذنابا (3)

وهذا كلام مدل معتد بنفسه. ثم ألقى جرير بآخر ما عنده من صيحات النصر:

شياطين البلاد تخاف زأري

وحيه أريحاء له استجابا

تركت مجاشعًا وبني نُمير

كدار السوء أسرعت الحزابا

ألم ترني وسمت بني نمير

وزدت على أنوفهم العلابا (4)

إليك إليك عبد بني نمير

ولما تقتدح مني شهابا

وعسى أن تقول لي أيها القارئ الكريم: إنك اخترت أمثلة الوافر من شاعرين عرفا بالنقائض والخطابة في المربد. فهلا اخترت من غيرهما لتبين إن كان ما تذهب إليه من صفة طبيعية الوافر مذهبًا صائبًا.

وهذا مأخذ لا أدفعه، على أني أزعم أن وافريات الشعراء الجيدة جميعها، يتصف نغمها وجرسها وموسيقاها بما قدمته لك في وصف وافريات هذين الشاعرين لاسيما جرير، مع التسليم بأن الشعراء مذاهبهم تختلف وأغراضهم تتباين.

(1) يعز، بضم العين: يغلب.

(2)

أتيعر: أي أنصيح كالتيس.

(3)

الذناب: جمع ذنوب، وهو الدلو الممتلئ

(4)

العلاب: من سمات الإبل.

ص: 423

وما عليك إلا أن تقرأ من المتنبي في المتأخرين ومن المهلهل وابن كلثوم وزهير ولبيد في المتقدمين، لتجد أن ما ذكرته لك من طريقة إلقاء الكلام على دفع، والإكثار من الإطناب والمطابقة هو المذهب اللفظي الغالب. اقرأ مثلاً للمتنبي:

طوال قنا تطاعنها قصار

و:

ملومكما يجل عن الملام

و:

مغاني الشعب طيبًا في المغاني

و:

أحاد في سداس في أحاد (1)

وغير هذه. واقرأ لأبي تمام (2).

سقى عهد الحمى سبل العهاد

وروّض حاضر منه وباد

واقرأ للبحتري: (3)

أكنت معنفي يوم الرحيل

وقد جدّت دموعي في الهمول

ولأبي العلاء (4):

أرى العنقاء أكبر أن تُصادا

و: (5)

أعن وخد القلاص كشفت حالا

وإن شئت المتقدمين فاقرأ للمهلهل (الأمالي):

أليلتنا بذي حسم أنيري

إذا أنت انقضيت فلا تحوري

(1) ديوانه: 76.

(2)

ديوانه: 1: 60.

(3)

ديوانه 2: 160.

(4)

ديوانه 1: 21.

(5)

نفسه 1: 170.

ص: 424

وللبيد قوله (ديوانه- أوروبا):

ألم تلمم على الدمن الخوالي

ولامرئ القيس قوله:

وكل مكارم الأخلاق صارت

إليه همتي وبه اكتسابي

وقد طوّفت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

أبعد الحارث الملك ابن عمروٍ

وبعد الخير حجر ذي القباب (1)

أرجيّ من صروف الدهر لينا

ولم تغفل عن الصم الصلاب

وأعلم أنني عما قريب

سأنشب في شبا ظفر وناب

كما لاقى أبي حجر وجدي

ولا أنسى قتيلاً بالكلاب

يعني شرحبيل بن الحارث عمه. وهذه الأبيات كما ترى فيها طبيعة الوافر جلية. وكذلك قوله (2):

أبعد الحارث الملك ابن عمرو

له ملك العراق إلى عمان

مجاورةً بني شمجي بن جرم

هوانًا ما أتيح من الهوان

ويمنعها بنو شمجي بن جرم

معيزهم حنانك ذا الحنان

والوافر لخفته وسرعته وقوته من أصلح بحور الشعر العربي للقطع. إذ القطعة تتطلب من الشاعر أن يحصر نفسه في غرضٍ واحدٍ، وأن ينفق كل ما عنده من بلاغة وحذق في أدائها. وهاك مثالاً من ذلك قول اللص الطائي وقد هرب من وجه عليّ بن أبي طالب (3).

(1) مختارات الشعر الجاهلي- ذو القباب: أي ذو الخيام.

(2)

نفسه 82.

(3)

الحماسة، وابنا شميط من شرطة علي.

ص: 425

ولما أن رأيت ابني شميط

بسكة تغلبٍ والباب دوني

تجللت العصا وعلمت أني

رهين مخيسٍ إن أدركوني

العصا: فرسه، ومخيس: سجن عليّ.

ولو أني لبثت لهم قليلاً

لجروني إلى شيخ بطين

شديد مجامع الأكتاف باقٍ

على الحدثان مختلف الشئون

وهذه الأبيات على قلتها قد جمعت من فنون الأداء في الوافر ضروبًا في الإحسان. البيت الأول كله دفعة واحدة. والثاني قريب منه، ويدخله الإطناب في قوله «إن أدركوني» . والبيت الثالث يأخذ الشرط فيه شطرًا والجزاء شطرًا، والبيت الرابع مقسم. فانظر إلى هذا التدرج ولا يغب عنك مكان «النكتة» في البيت الثالث.

ومن القطع الحسنة في الوافر قول الحماسي:

فدت نفسي وما ملكت يميني

فوارس صدقت فيهم ظنوني

هم منعوا حنى الوقبي بضربٍ

يقرّن بين أشتات المنون

ولا يجزون من حسنٍ بسي

ولا يجزون من غلظ بلين

ولا يرعون أكناف الهويني

إذا حلوا ولا أرض الهدون

ومما يجري مجرى القطع في هذا الباب ما أجمع النقاد على اختياره من كلمة المثقب النونية - «أفاطم قبل بينك متعيني» - في وصف الناقة. وقد قال أبو عبيد البكري في سمط اللآلي إن المثقب خرج في هذه الأبيات من الوصف إلى المناجاة. وقد أحسن أبو عبيد في قوله هذا جدًا. والأبيات هي (1):

(1) من المفضليات.

ص: 426

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوه آهة الرجل الحزين

تقول إذا درأت لها وضيني

أهذا دينه أبدًا وديني

أكل الدهر حل وارتحال

أما يبقى عليّ أما يقيني

فأبقى باطلي والجد منها

كدكان الدرابنة المطين (1)

ورحت بها تعارض مسبطرّا

على صحصاحه وعلى المتون (2)

ويلحق بهذه الأبيات قوله:

فإما أن تكون أخي بحق

فأعرف منك غثي من سميني (3)

وإلا فاطرحني واتخذني

عدوًا أتقيك وتتقيني

وما أدري إذا يممت أرضًا

أريد الخير أيهما يليني

أألخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي هو يبتغيني

وفي هذا البيت الأخير مجاز مرسل كريم، وهو نسبة الابتغاء إلى الشر، والشر لا يبتغي، وإنما المرء به الأعداء والجدود العواثر. ولله درّ الدكتور طه إذ يقول في حديث الأربعاء (1: 166): «وانظر إلى هذا البيت الأخير خاصة كيف صور الشاعر فيه أجمل تصوير مكر الأقدار بالناس، فهم يبتغون الخير حين يقصدون إلى أمر من الأمور، ولكن الشر كامن لهم، يرصدهم حينًا، ويسعى إليهم حينًا آخر، وهم لا يدرون أينتهون إلى ما يريدون من خير أم يقعون فيما يريدهم من شر. أهـ» .

ومن خير ما يستشهد به في التدليل على طبيعة نغم الوافر شعر ابن أبي ربيعة

(1) هذا من حسن الكلام. الجد منها: أي سيرها. وباطلي: أي سفري في سبيل الغرام والرزق وما إلى ذلك: جعل السفر منه باطلاً ومنها جدًا. والدكان: دكة تجعل أمام البيت. والدرابنة: البوابون، والكلمة معربة. والمطين: المصنوع من الطين.

(2)

مسبطرًا: عني طريقًا مستقيمًا. الصحاح: السهل. والمتون: الأماكن الرابية.

(3)

تنصب على العطف أو على تقديم أن. وجعل الفاء للسببية، والرفع جيد.

ص: 427

الذي جاء في هذا الوزن. فقد ثبت عندك أيها القارئ وعند أكثر النقاد أن ابن أبي ربيعة ينهج نهج الحوار، ويصطنع المغازلة و «المشاغبة» ، وهذا نهج تناسبه الأبحر القصار، ولا يكاد يُصلح له الوافر لما فيه من إسراع وتدفع وخطابة وإنشاء. وإنك إذ تقرأ وافريات ابن أبي ربيعة تلفيه يخالف فيها مذهبه المعهود كل المخالفة، حتى إنك لتلتمس شخصه الذي تعرف، فلا توشك أن تلم به، إلا متخفيًا دقيقًا يقارب أن يطل ولا يفعل. خذ مثلاً قوله في عائشة بنت طلحة:

لعائشة ابنة التيمي عندي

حمى في القلب، لا يُرعى حماها

يُذكرني ابنة التيمي ظبيٌ

يرود بروضةٍ سهلٍ رباها

فقلت له وكاد يراع قلبي

فلم أر قط كاليوم اشتباها

سوى حمشٍ بساقك مستبين

وأن شواك لم يشبه شواها (1)

وأنك عاطل عارٍ وليست

بعارية ولا عطلٍ يداها

وأنك غير أفرع وهي تدلى

على المتنين أسحم قد كساها

ولو قعدت ولم تكلف بود

سوى ما قد كلفت بها كفاها (2)

أي لو لم تسلب من القلوب سوى قلبي لكفاها ذلك، وهذا إما أن يحمل على غرور المخزومي، وإما على أنه كان قد بلغ من المحبة الغاية التي لا يستطيع أحد أن يربي عليها.

أظل إذا أكلمها كأني

أكلم حية غلبت رقاها

تبيت إلى بعد النوم تسري

ولو أمسيت لا أخشى سراها وهذا معنى لطيف- أي أرى خيالها حتى حين أرقد ولم تكن في بالي قبل الرقاد.

(1) الأغاني 1: 199 الجمش: دقة الساق.

(2)

الأفرع: ذو الشعر الجم. والأسحم: الشعر الأسود.

ص: 428

ولا يخفى عليك أيها القارئ أن مذهب هذه الأبيات ليس ما نعهده من مذهب ابن أبي ربيعة، ولا أرتاب في أن طبيعة الموسيقا الوافرية هي التي اضطرته أن يورد قوله على هذا الأسلوب، ويترك ما هو أقدر عليه، من المذهب الحواري والتلطف والتظرف ومجيء مثل هذه الأبيات من ابن أبي ربيعة كالشيء الشاذ ولذلك تستحسن لا لأنها غاية في ذاتها. فأرجو أن يقوي هذا عندك ما تقدمت إلي به آنفًا من أن بحر الوافر يتطلب أداء خاصًا.

وهاك مثلاً آخر من ابن أبي ربيعة يؤيد ما زعمت [1: 145]:

تقول وليدتي لما رأتني

طربت وكنت قد أقصرت حينًا

أراك اليوم قد أحدثت شوقًا

وهاج لك الهوى داءً دفينًا

وكنت زعمت أنك ذو عزاءٍ

إذا ما شئت فارقت القرينا

بربك هل أتاك لها رسول

فشاقك أم لقيت لها خدينا

- أي صاحبه

فقلت شكا إلى أخٌ محب

كبعض زماننا إذ تعلمينا

فقص علي ما يلقى بهندٍ

فذكر بعض ما كنا نسينا

وذو الشوق القديم وإن تعزى

مشوق حين يلقى العاشقينا

وكم من خلة أعرضت عنها

بغير قلي وكنت بها ضنينا

أردت بعادها فصددت عنها

ولو جن الفؤاد بها جنونا

ومذهب هذه الأبيات أشبه بمذهب عروة بن أذينة، منه بمذهب المخزومي. اللهم إلا البيتين الرابع والخامس ولا سيما قوله:«كبعض زماننا إذ تعلمينا» فهذان فيهما لمحة من نفس ابن أبي ربيعة المألوف. أم ترانا نتوهم ذلك لطول ما عرفنا هذا الشاعر، ولا شك أن هذه الأبيات التسعة أدخل في سنخ الوافر من الهائية التي في ابنة طلحة، إذ لم ينظمها الشاعر بقصد الغزل، وإنما نظمها بقصد البكاء على الشباب

ص: 429