الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقديم الكتاب
للأستاذ الكبير الدكتور طه حسين
هذا كتاب ممتع إلى أبعد غايات الإمتاع، لا أعرف أن مثله أتيح لنا في هذا العصر الحديث.
ولست أقول هذا متكثرًا أو غاليًا، أو مؤثرًا إرضاء صاحبه، وإنما أقوله عن ثقة وعن بينة، ويكفي أني لم أكن أعرف الأستاذ المؤلف قبل أن يزورني ذات يوم، ويتحدث إليَّ في كتابه هذا، ويترك لي أيامًا لأظهر على بعض ما فيه. ثم لم أكد أقرأ منه فصولا، حتى رأيت الرضى عنه، والإعجاب به، يفرضان عليَّ فرضًا، وحتى رأيتني ألح على الأستاذ المؤلف في أن ينشر كتابه، وأن يكون نشره في مصر، وآخذ نفسي بتيسير العسير من أمر هذا النشر. وأشهد لقد كان الأستاذ المؤلف، محتفظًا متحرجًا، يتردد في نشر كتابه حتى أقنعته بذلك بعد إلحاح مني شديد. وقد يسر الله هذا النشر، بفضل ما لقيت من حسن الاستعداد، وكريم الاستجابة، من شركة الطبع والنشر لأسرة الحلبي، فشكر الله لهذه الشركة حسن استعدادها، وكريم استجابتها، وما بذلت من جهد قيم، لتطرف قراء العربية بهذا الكتاب الفذ، الذي كان الشعر العربي في أشد الحاجة إليه.
وإني لأسعد الناس حين أقدم إلى القراء صاحب هذا الكتاب، الأستاذ عبد الله الطيب، وهو شاب من أهل السودان، يُعلم الآن في جامعة الخرطوم، بعد أن أتم دراسته في الجامعات الإنجليزية، وأتقن الأدب العربي، علمًا به، وتصرفًا فيه، كأحسن ما يكون الإتقان، وألف هذا الكتاب باكورة رائعة لآثار كثيرة قيمة ممتعة إن شاء الله.
أنا سعيد حين أقدم إلى قراء العربية هذا الأديب البارع، لمكانه من التجديد الخصب في الدراسات الأدبية أولا، ولأنه من إخواننا أهل الجنوب ثانيًا.
وأنا سعيد بتقديم كتابه هذا إلى القراء، لأني إنما أقدم إليهم طرفة أدبية نادرة حقًا، لن ينقضي الإعجاب بها، والرضى عنها، لمجرد الفراغ من قراءتها، ولكنها ستترك في نفوس الذين سيقرؤنها آثار باقية، وستدفع كثيرًا منهم إلى الدرس والاستقصاء، والمراجعة والمخاصمة. وخير الآثار الأدبية عندي، وعند كثير من الناس، ما أثار القلق، وأغرى بالاستزادة من العلم، ودفع إلى المناقشة وحسن الاختبار.
وأخص ما يعجبني في هذا الكتاب، أنه لاءم بين المنهج الدقيق للدراسة العلمية الأدبية، وبين الحرية الحرة التي يصطنعها الشعراء والكتاب، حين ينشئون شعرًا أو نثرًا، فهذا الكتاب مزاج من العلم والأدب جميعًا، وهو دقيق مستقص حين يأخذ في العلم، كأحسن ما تكون الدقة والاستقصاء، وحر مسترسل حين يأخذ في الأدب، كأحسن ما تكون الحرية والاسترسال. وهو من أجل ذلك يرضي الباحث الذي يلتزم في البحث مناهج العلماء، ويرضي الأديب الذي يرسل نفسه على سجيتها، ويخلي بينها وبين ما تحب من المتاع الفني، لا تتقيد في ذلك لا بحسن الذوق، وصفاء الطبع، وجودة الاختيار.
وقد عرض الكاتب للشعر، فأتقن درس قوافيه وأوزانه، لا إتقان المقلد، الذي يلتزم ما ورث عن القدماء، بل إتقان المجدد، الذي يحسن التصرف في هذا التراث، لا يضيع منه شيئًا، ولكنه لا يفنى فيه فناء، ثم أرسل نفسه على طبيعتها بعد ذلك، فحاول أن يستقصي ما يكون من صلة بين أنواع القرافي وألوان الوزن، وبين فنون الشعر التي تخضع للقوافي والأوزان، فأصاب الإصابة كلها في كثير من المواضع، وأثار ما يدعو إلى الخصام والمجادلة في مواضع أخرى، فهو لا يدع بحرًا
من بحور الشعر العربيّ، إلا حاول أن يبين لك الفنون التي تليق بهذا البحر، أو التي يلائمها هذا البحر، وضرب لذلك الأمثال في استقصاء بارع لهذا البحر، منذ كان العصر الجاهليّ، إلي أن كان العصر الذي نعيش فيه، وهو يعرض عليك من أجل ذلك، ألوانًا مختلفة مؤتلفة من الشعر، في العصور الأدبية المتباينة، ألوانًا في البحر الذي أقيمت عليه، وفي الموضوعات التي قيلت فيها، ولكنها تختلف بعد ذلك باختلاف قائليها، وتباين أمزجتهم، وتفاوت طبائعهم، وتقلبهم آخر الأمر بين التفوّق والقصور، وما يكون بينهما من المنازل المتوسطة والمؤلف يصنع هذا بالقياس إلي بحور العروض كلها، فكتابه مزدوج الإمتاع، فيه هذا الإمتاع العلميّ، الذي يأتي من اطراد البحث علي منهج واحد دقيق، وفيه هذا الإمتاع الأدبيّ، الذي يأتي من تنوع البحور والفنون الشعرية التي قيلت فيها، وتفاوت ما يعرض عليك من الشعر، في مكانها من الجودة والرداءة.
والمؤلف لا يكتفي بهذا، ولكنه يدخل بينك وبين ما تقرأ من الشعر، دخول الأديب الناقد، الذي يحكم ذوقه الخاص، فيرضيك غالبًا، ويغيظك أحيانًا، ويثير في نفسك الشك أحيانًا أخري. وهو كذلك يملك عليك أمرك كله، منذ تأخذ في قراءة الكتاب، إلى أن تفرغ من هذه القراءة. فأنت متنبه لما تقرأ تنبهًا لا يعرض له الفتور، في أي لحظة من لحظات القراءة. وحسبك بهذا تفوقًا وإتقانًا.
وليس الكتاب قصيرًا يقرأ في ساعات، ولكنه طويل يحتاج إلى أيام كثيرة، وحسبك أن صفحاته تقارب المائة والخامسة. وليس الكتاب هينًا يقرأ في أيسر الجهد، ويستعان به على قطع الوقت، ولكنه شديد الأسرْ، متين اللفظ، رصين الأسلوب، خصب الموضوع، قَيَّم المعاني، يحتاج إلى أن تنفق فيه خير ما تملك من جهد ووقت وعناية، لتبلغ الغاية من الاستمتاع به. هو طُرْفة بأدقّ معاني هذه الكلمة، وأوسعها وأعمقها. ولكنها طُرفة لا تقدَّم إلى الفارغين، ولا إلى الذين
يؤثرون الراحة واليسر، ولا إلى الذين يأخذون الأدب على أنه من لهو الحديث، وإنما تقدم الذين يَقْدُرون الحياة قدرها، ولا يحبون أن يضيعوا الوقت والجهد، ولا يحاولون أن يتخففوا من الحياة، ويأخذون الأدب على أنه جد، حلو مرّ، يُمتع العقل، ويرضي القلب، ويصفَّي الذوق.
هؤلاء هم الذين سيقرؤون هذا الكتاب، فيشاركوني في الرضى عنه، والإعجاب به، والثقة بأن له ما بعده، ويشاركونني كذلك في ترشيح هذا الكتاب لجائزة الدولة، التي تقدمها الحكومية المصرية لخير ما يُصْدِره الأدباء من كتب، إن جاز لك ولي أن نَدُلّ لجنة هذه الجائزة، علي ما ينبغي أن تدُرس من الكتب، لمنح هذه الجائزة.
أما بعد، فإني أهنيء نفسي، أهنيء قّراء العربية بهذا الكتاب الرائع، وأهنيء أهل مصر والسودان بهذا الأديب الفذّ، الذي ننتظر منه الكثير.