المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النظم العربي يقوم على عمادين: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ١

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌ الجزء الأول: في النظم)

- ‌[تقدمة]

- ‌الإهداء

- ‌تقديم الكتابللأستاذ الكبير الدكتور طه حسين

- ‌شكر واعتراف

- ‌خطبَة الكتاب

- ‌الباب الأولفي النظم

- ‌النظم العربي يقوم على عمادين:

- ‌المبحث الأولعيوب القافية ومحاسنها وأنواعها

- ‌ الإقواء

- ‌الإيطاء

- ‌السناد

- ‌التضمين:

- ‌الردف المشبع:

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌القوافي المقيدة:

- ‌القوافي الذلل:

- ‌القوافي النفر:

- ‌القوافي الحوش:

- ‌هاءات القوافي:

- ‌حركات الروي:

- ‌تعقيب واستدراك:

- ‌خاتمة عن جودة القوافي:

- ‌المبحث الثانيأوزان الشعر وموسيقاها

- ‌الفصل الأول

- ‌تمهيد:

- ‌النمط الصعب (1)

- ‌الأوزان المضطربة (2):

- ‌الأوزان القصار (3):

- ‌ الخفيف القصير

- ‌الخبب والرجز القصيران والمتقارب المنهوك:

- ‌المتقارب المنهوك:

- ‌خلاصة:

- ‌البحور الشهوانية: (4)

- ‌كلمة عامة:

- ‌مستفعلن مفعو أو مفعول (5)

- ‌بحر المجتث (6)

- ‌الكامل القصير (7)

- ‌مخلع البسيط (8)

- ‌الهزج (9)

- ‌الرمل القصير (10)

- ‌الفصل الثانيالبحور التي بين بين

- ‌المديد المجزوء المعتل (1)

- ‌السريع (2)

- ‌الكامل الأحذ وأخوه المضمر (3)

- ‌الفصل الثالثالبحور الطوال

- ‌(1) المنسرح والخفيف:

- ‌المنسرح

- ‌الخفيف

- ‌همزيات الخفيف

- ‌داليات الخفيف

- ‌ضاديات الخفيف:

- ‌لاميات الخفيف ونونياته:

- ‌الرجز والكامل:

- ‌كلمة عن الرجز

- ‌التعليمي

- ‌كلمة عن الكامل

- ‌كامليات شوقي

- ‌الكامل عند المعاصرين

- ‌3 - المتقارب

- ‌4 - الوافر:

- ‌كلمة عن الوافر:

- ‌وافريات المعاصرين:

- ‌الطويل والبسيط:

- ‌وزن البسيط

- ‌كلمة عامة عن الطويل والبسيط

- ‌كلمة عن البسيط

- ‌خاتمة

الفصل: ‌النظم العربي يقوم على عمادين:

‌الباب الأول

في النظم

‌النظم العربي يقوم على عمادين:

(أ) البحر، ويتكون عادة من عدد من المقاطع الطويلة والقصيرة منظمة بطريقة خاصة (1).

(ب) القافية، وهي الحرف الذي يجيء في آخر البيت. ولا يخفي أن حديثنا هنا عن النظم العربي وحده.

وبحور الشعر العربي محصورة العدد، ولا سبب لهذا الحصر إلا اتفاق العلماء وتواضعهم، فقد اخترع الخليل بن أحمد (2) علم العروض، وبناء على خمس دوائر هي:

(1) المقطع القصير: هو عبارة عن أي حرف متحرك نحو ل. م. ب. والمقطع الطويل نوعان: الأول مثل قد وفي ولم - حرف متحرك، بعده ساكن أو مد أو إشباع أو تنوين. والثاني مثل: قال، باع، بعل. حرف متحرك بعده ساكنان خالصان أو مد فسكون وما بمجرى ذلك. ولتثبته في ذهنك أنشد قول عدي بن أبي الزغباء الأنصاري:

أنا عدي والسحل

أمشي بها مشي الفحل

(2)

اختراع الخليل للعروض ليس معناه أن العرب لم تكن تعرف شيئًا عن طبيعة الأوزان قبله. بل الأدلة موجودة على أنهم كانوا يعرفون كيف يقطعون الشعر ويمتحنون وزنه (راجع سيرة ابن هشام - بتحقيق محمد محيي الدين، مصر، (1 - 62). كل ما فعله الخليل أنه اخترع العروض بصيغته المعروفة الآن. ويزعم الرواة أن سبب اختراعه له انصراف الناس عنه إلى سيبويه، وهذا بعيد. فكتاب سيبويه تدوين وتكملة لعلم الخليل. وسيبويه لم ينصب نفسه للتدريس إلا بعد وفاة الخليل.

ص: 15

1) (فعولن مفاعلين فعولن مفاعيلن) × 2

2) (مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن) × 2

3) (مستفعلن مستفعلن مستفعلن) × 2

4) (مستفعلن مستفعلن مفعولات) × 2

5) (فعولن فعولن فعولن فعولن) × 2

واستخرج من هذه الدوائر خمسة عشر وزنًا أسماها بحورًا. ثم أدخل كل الأوزان المستعملة - كما زعم- في نطاق بحوره الخمسة عشر. وقد استدرك عليه الأخفش الأوسط (سعيد بن مسعدة، 215 هـ) وزنًا سادس عشر، استخرجه من الدائرة الخامسة هكذا: لن فعولن فعو الخ، وتساوي: فاعلن فاعلن فاعلن الخ. ولم يزد العلماء شيئًا بعد الأخفش. ولم يجرؤ الشعراء على الإتيان ببحر جديد إلا ما ندر. وحتى هذا النادر لم يتعد الدوائر الخمس مثل بيت العتاهي (1):

للمنون دائرا

ت يدرن صرفها

ولعل الشاعر الوحيد الذي خرج عن هذه الدوائر خروجًا بينا، هو رزين العروضي في كلمته (2):

(1) الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، مصر 1366 هـ، 2 - 766. البيت من المقتضب أو المديد.

(2)

معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) تحقيق أحمد فريد رفاعي، مصر، 15 - 265 - 266.

ص: 16

قربوا جمالهم للرحيل

غدوة أحبتك الأقربوك (1)

وقد استحسنها بعض معاصريه (2). ولكن لم يتبعه أحد -بحسب ما نعلم- في اختراعه هذا.

ومن عجيب الأمر أن القيود التي وضعها العروض، لم تمنع من اختراع بحر جديد فحسب، ولكنها أيضًا ضيقت دائرة الرخص في استعمال الزحاف والعلل، وأماتت كثيرًا من الأوزان القديمة. وعندي أن العلماء تعمدوا هذا التضييق لأسباب أهمها:

1) ولعهم بتعميم القواعد النظرية وطرد الشواذ. وهذا يفسر استنكارهم لوزن المعلقة العاشرة لعبيد بن الأبرص:

أقفر من أهله ملحوب

ولوزن كلمة المرقش (3)

هل بالديار أن تجيب صمم

لو أن رسما ناطقًا كلم

وكلمة الآخر:

لو وصل العيث لابنينا امرأ

كانت له قبة سحق بجاد

هكذا رواه أبو عبيد البكري في سمط اللآلي، ورواية ابن قتيبة في الشعر والشعراء مختلفة (4).

2) الغيرة على القرآن. وذلك أن العلماء كانوا حرصًا على ألا يوافق كلام الله المنزل في قطعة وافية منه شيئًا من أوزان الشعر القديم، لقوله تعالى، في سورة الحاقة:

(1) و (2) معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) تحقيق أحمد فريد رفاعي، مصر، 15 - 265 - 266.

(3)

مفضلية وانظر رسالة الغفران، تحقيق ابنة الشاطيء الطبعة الأولى، مصر، 298.

(4)

انظر الشعر والشعراء 1 - 49 - 50.

ص: 17

{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} الآية. ولقوله تعالى، في سورة يس {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} الآية.

وقد لاحظ بعض العلماء أن في كتاب الله آيات توافق أوزان الشعر، كقوله تعالى، في سورة براءة 14:{وَيُخْزِهِمْ (1) وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} إذا وقفت عند النون (2) كما كانت تفعل العرب بالقوافي المطلقة أحيانًا. وقد ذكر صاحب العقد الفريد في مقدمة فصله عن أوزان الشعر آيات سوى هذه. ونظم أحد الشهابين أبياتًا في البحور ضمنها آياتٍ من كتاب الله سوى ما ذكره ابن عبد ربه، كقوله:

يا مديد الهجر هل من كتاب

فيه آيات الشفا للسقيم

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن*

"تلك آيات الكتاب الحكيم"

وهذا النظم رديء للغاية، وفيه مع ذلك من إساءة الأدب. على أني أسلم أن الشهاب كان حسن النية، وكان يقصد إلى التعليم فقط حين نظم هذه القصيدة وغيرها (3)

وقد لوحظ مجيء الوزن في الحديث كقوله صلى الله عليه وسلم:

ما أنت إلا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

وكقوله في غزوة حنين (4):

(1) ضم الميم قراءة ابن كثير وعندنا (أبو عمرو)، وعند حفص الميم ساكنة، وعلى هذا يكون في الآية إذا أجريت على وزن الوافر زحاف العقل في أول الأجزاء.

(2)

ذكر سيبويه في الجزء الثاني من كتابه، في الحديث عن الوقف، أن القوافي المطلقة يجوز إسكانها، نحو:

أقلي اللوم عاذل والعتاب

(3)

ورد نظم الشهاب كاملًا في الكتيب المدرسي ميزان الذهب للمرحوم الهاشمي طبع سنة 1978 - ص 105.

(4)

قاله لما انكشف الناس عنه منهزمين. والخبر مشهور، وانظره في سيرة ابن هشام.

ص: 18

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

وهذا من وزن رجز دريد بن الصمة الذي قتل في نفس الغزوة (1):

يا ليتني فيها جذع الخ.

وهذه الشواهد جميعها، مما يذكرنا ومالم نذكر، من قبيل الاتفاقات النادرة، ولا تقوم بها للملحد حجة، ومثلها كثير في الكتب النثرية البحتة (2). إلا أن العلماء كانوا يخشون عددها أن يزيد، إن هم توسعوا في البحور، وتسهلوا في أمر الزحاف والعلل. كما كانوا يخشون أن يحاكي بعض الزنادقة آيات بأعيانها من القرآن، ويضع على طرازها شعرًا، وليس هذا الفرض ببعيدٍ، فقد كان الزنادقة يحاولون كل وسيلة ليهجنوا من قدر القرآن ويشنعوا عليه.

وثم عامل ثالث سوى ما ذكرنا، من نفس طبيعة البحور العربية، أعان العلماء جدًا على مسلك التضييق الذي سلكوه. وهو أن أهم الأوزان وأجملها، وأحبها إلى الأسماع، وأقواها على البقاء، وأكثرها تصرفًا ودورانًا في المنظوم، كانت كلها داخلة تحت نطاق الدوائر الخمس، لكان نظام العروضيين قد انهار من أوله إلى آخره.

وكلا الناقد والشاعر في عصرنا هذا، يجد من ضيق الأوزان العربية وانحصار عددها عنتا، ويود لو كان العلماء قد تسهلوا وتيسروا شيئًا، ولم تستبعدهم دوائر

(1) قاله لما نازعه مالك بن عوف النصري الراي قبل تلقى هوازن المسلمين، وانظره في سيرة ابن هاشم 4 - 67.

(2)

عثرت على الاشطار الآتية الهزجية في صفحة واحدة من بخلاء الجاحظ (الحاجري مصر 1948 - 90)"فاني عندهم مسلم" و "قد اعتقد القوم""وكنيتني أبو الحرث""ولفظي لفظ عربي". وفي الأصل ضبط "لفظ" بالرفع والتنوين وجعل "عربي" صفة لها لا مضافًا إليه- وما ذكرناه أجود. ولا أعرف إن كان أصل الحاجري المخطوط مضبوطًا.

ص: 19

الخليل كل الاستبعاد. وكم يتمنى المرء لو أن الشعراء الأوائل، ولا سيما المحدثين من طبقة بشارٍ وأبي نواس، كانوا أكثر تحررًا، وأقل تقليدًا واتباعًا للأوزان القديمة.

وشكوى النقاد والشعراء المعاصرين من نظام القافية العربية أشد وأمر، إذ القافية في نظرهم قيد ثقيل، يمنع من التعبير الصحيح، ويشغل الشاعر عن الاسترسال في معاينه، بالتفتيش عن أحرف الروي المناسبة. وهذه الحجة في ذاتها ضعيفة، لأن اللغة العربية واسعةٌ جدا. وبنيتها تساعد على كثرة القوافي، إذ فيها أكثر من ستين ألف أصلٍ ثلاثي ورباعي، وكل أصل من هذه الأصول له نظائر عدة تنتهي بمثل الحرف الذي ينتهي به ذلك الأصل، نحو "ضرب، كتب، طرب، سلب، هرب، أرب، رغب" وهلم جرا. ونحو (هدم، لثم، إرم، برم، علم، ألم) وهلم جرا .. ثم إن هذه الأصول فيها نحو عشرين ألف أصل، ذي فروع ومشتقات. وهذه المشتقات تنتهي بنفس الحروف التي تنتهي بها أصولها في الغالب نحو "كاتب وكتب وكتّب وكتائب، وسلب وسليب وسالب وأسلاب". وما لا ينتهي منها بحروف أصولها نحو: "فرحان من فرح، وحسناء من حسن" يقع في صيغ تعين على كثرة القوافي كباب فعلان وفعلاء وفعلن كضيفن.

ولا تنس الضمائر فإن لها في تيسير القوافي أثرًا عظيمًا.

وكل هذا يجعل الكلمات المتشابهة الأواخر كثيرة جدًا في القاموس العربي، حتى إن أمر السجع والتقفية، يصير سهلًا للغاية. وقد أدرك إسمعيل بن حماد الجوهري وأضرابه من أصحاب المعاجم هذه الظاهرة في بنية الكلمة العربية، فقسموا أبواب القواميس بحسب أواخر الكلم، وكأنهم راعوا في ذلك أن ييسروا طلب القوافي للشعراء.

ولا شك أن التزام القافية في الشعر العربي جاء نتيجة لتجارب طويلة من

ص: 20

الشعراء. ولا بد أن تكون سبقته أجيال وأجيال من النظم المسمط القوافي (أي المنوع القوافي) والنظم المرسل المعتمد على جرس الحركات والسكنات. ولا يستبعد أن السجع قد كان طرازا من الشعر أول أمره، ثم صار من السهولة بحيث خرج من باب النظم إلى باب النثر مرة واحدة. ومما يدل على أن السجع كان أول أمره شعرًا، أن الكهان في الجاهلية كانوا يسجعون، وكان لهم نوع خاص من السجع. والشعر في أول أمره يرتبط عادة بالسحر والكهانة والدين. بل يكاد يكون محصورًا في هذه الدائرة في البدء، ثم بعد ذلك ينتقل من ربع الدين والكهانة، فيتصرف فيه الشعراء، وينوعون في أوزانه بحيث يجعلونها تصلح للرقص والغناء والفخر وغير ذلك. ويظل النوع منه الذي لم يفارق الكهانة والدين على حالته الأولى، أو قريبًا منها في الغالب الأكثر. ولأن الكهانة والدين تسيطر عليهما المحافظة دون التجديد. ومما يستحق الذكر هنا أن أعداء النبي كانوا يتهمونه إما بالكهانة، وإما بالشعر. وما أحسب أنهم ربطوا بين الكهانة والشعر من غير أن يكون في عقولهم رابط قوي بينهما.

هذا، وعلى تقدير أن الشعر في تطوره الطويل من كلام مرسل إلى كلام مسجوع، لم يهتد إلى القافية الموحدة الملتزمة التي هي طابعه الآن، أتراه كان بذلك يكون أفضل وأسمى وأطلق عنانًا، ثم يبلغ من درجات التعبير الرفيع، مالم يبلغه بعد أن دخلت عليه القافية؟ أستبعد ذلك جدًا. لأننا لو سلمنا بوجود شعراء ينظمون في هذا الشعر الطليق الذي افترضناه، وعندهم من اتساع الذخيرة ما كان عند امرئ القيس وزهير، فلا بد أن نسلم أيضًا بأن نظم هؤلاء ما كان ليسلم بحال من الأحوال من الزخرفة اللفظية المبالغ فيها. وهذا أمر تقتضيه طبيعة الذخيرة العربية الواسعة، ما لم تكبح جماحها قيود شديدة من القوافي الملتزمة والقواعد النحوية الصلبة.

لا، بل إن القافية الملتزمة قد تكون سهلة جدًا على الشاعر ذي الموسوعة الضخمة، إذا اتفق أن كان حروف الروي فيها من الحروف الذلل. فيضطر الشاعر

ص: 21

في هذه الحالة إلى مضاعفة القيود اللفظية على نفسه ليضمن السلامة من الزخرف اللفظي والإكثار من الجناسات والأسجاع، وهذا ما فعله كثير عزة في تائيته المشهورة، وما فعله أبو العلاء المعري في ديوانه الدرعيات، ثم ديوانه الكبير "لزوم ما لا يلزم"- وعندي أن قيود هذا الديوان الثاني كانت في خير الشاعر لا ضروره كما يزعم بعض النقاد.

وفي عصرنا هذا نجد الذخيرة اللغوية قد ضؤلت جدًّا حتى إن محفوظ الأديب لا يزيد على عشرة آلاف من الكلمات أو نحو ذلك. وهذه الضآلة تستدعي نظامًا من التأليف مخالفًا للنظام القديم، إذا أصر أصحابها على ألا يزيلوها بتوسيع ذخائرهم اللغوية. والتأليف الجديد إما أن يتبع طريقة التسميط -أي تنويع القوافي- وإما أن يتبع طريقة الشعر المرسل ويستغني عن القافية. وإما أن يحاول مخرجًا ثالثًا غير هذين.

والتسميط كان مستعملا منذ عهد قديم، إلا أنه كان لا يجيء إلا في الأنواع الدنيا (أعني غير الجادة العالية) من الشعر، مما يقصد فيه إلى مجرد الترنم، ويحسن عليه الرقص. وقد نشأ التسميط في العهود الجاهلية، لأنه لابد أن يكون قد سبق القافية الموحدة، بحسب ما تقتضيه قوانين التطور والتدرج. ويبدو أنه كان في الغالب نوعًا شعبيًا، لا يرقى إلى مرتبة المقصدات والقطع، التي كانت تنشد في المحافل والأسواق والأندية. كما يبدو أنه كان مقصورًا على أنواع قليلة من الأوزان الخفاف، كالرجز ومنهوك المنسرح مثل:

ويهًا بني الدار

ويهًا حماة الأدبار

ضربًا يكتل بتار

إن قبلوا نعانق

ونفرش النمارق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

ص: 22

ثم انتقل التسميط إلى سائر البحور القصار، واستعمله الأندلسيون في الرمل من البحور الطوال، ثم شاع استعماله حتى عم كل البحور، فظهرت أنواع التخميس والتسبيع والتثمين، وكثرت الموشحات وتعددت أنواعها. إلا أن التسميط على كثرته عند المحدثين، لم يتجاوز الأنواع الثانوية من الشعر إلى الأنواع الجدية، ولم يتغلغل في البحور الطوال كما تغلغل في البحور القصار. (إذ المسمطات الطوال كانت كلها من صناعة العلماء والمتكلفين كتخميسات البردة والهمزية) ولا أحسبه يستطيع أن يتغلغل فيها، لأن طبيعته طبيعة ترنم وتغن خفيف، لا طبيعة جد واحتفال وجلالة.

وفي التسميط مع هذا عيب آخر، وهو أنه قابل جدًا لأن يدخله من أنواع القيود، ما يجعله أعسر بكثير من القافية الموحدة. وطبيعة اللغة العربية الخصبة بالقوافي تدعو إلى ذلك وتعين عليه. افرض أنك أردت أن تنظم قصيدة مسمطة، أي منوعة القوافي، قد تكتفي فيها بقافية تلتزم في كل ثلاثة أبيات أو أربعة أو خمسة. وقد تنوع فتجعل لصدور الأبيات قافية، ولأعجازها قافية أخرى، وقد تزيد في التنويع فتقسم قصيدتك إلى أجزاء، كل جزء يتكون مثلًا من خمس أشطار- بيتين كاملين وشطر منفصل، يكتب تحتهما في وسط السطر، ولصدري البيتين قافية، ولعجزيهما قافية أخرى، وللشطر المنفصل قافية ثالثة، تماثل القوافي المستعملة في الأشطار المنفصلة التي تأتي في جميع الأجزاء، هكذا:

شطر، قافية أ

شطر، قافية ب

شطر قافية أ

شطر قافية ب

شطر قافية جـ

شطر قافية د

شطر قافية هـ

شطر قافية د

شطر قافية هـ

شطر قافية جـ

ص: 23

شطر قافية و

شطر قافية ز

شطر قافية و

شطر قافية ز

شطر قافية جـ

كل هذه الأوجه أمامك تختار منها ما تشاء، ولعلك تفضل الوجه الأول -التزام القافية في ثلاثة أبيات أو أربعة أو خمسة- لسهولته. ولكنك بعد أن تكثر من النظم فيه، تجد نفسك تمله، وتميل شيئًا فشيئًا إلى الزخرفة اللفظية، فتفارقه إلى الوجه الثاني، فالوجه الثالث، وهكذا إلى أن ينتهي بك التجريب والأخذ والترك، إلى النوع الذي رسمناه، أو إلى شيء زخرفي قريب منه. وأظنك توافقني أن كثرة تنويعه، وتعدد قوافيه، أشد تشويشًا على الناظم من القافية الموحدة، وأحرى أن يصرفه عن متابعة أفكاره، وأن يشغله باصطياد أحرف الروي المناسبة.

وقد تقول لي: لماذا افترضت أني سأمل القافية التي تتغير بعد كل بيتين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وزعمت أني سأستبدلها بقواف مزخرفة بالطريقة التي رسمتها أو بشيء من ذلك القبيل؟ لماذا لم تفرض أني سأحبها وألتذّها وأستمر فيها؟ وجوابي على ذلك أن تغير القافية بعد بيتين شيء ممل لا يقبله الذوق العربي، وحتى بعض الافرنج الذين استعملوه قد ملوه وكرهوه. وتغير القافية بعد ثلاثة أبيات أو أربعة قريب من ذلك في الإملال، وإن صلح لشيء فإنما يصلح للأوزان القصار، كالهزج والرمل المجزوء. أما الطوال فلا يصلح لها، ذلك بأن البحور الطوال فيها مجال للقول، وطبيعة اللغة العربية بمشتقاتها المتشابهة وضمائرها التي تعين على السجع والقافية، لا ترتضي نظامًا سهلًا كهذا النظام الذي لا يتيح لها أن تبرز جمالها اللفظي، وتتبرج في حلي من ذخيرتها الغنية. وفضلًا على ذلك فإن القافية التي تتغير بعد كل ثلاثة أبيات أو أربعة، تقطع تسلسل الأفكار وتضطر الشاعر إلى أن يحول مجرى خواطره بين حين وآخر تبعًا للقافية المتغيرة، اللهم إلا أن يكون نظمه في غرض

ص: 24

ثانوي غير جدي خالص، وفي بحر قصير من بحور الترنم، ولا مدفع أن الجد الخالص هو أسمى ما يسمو إليه الشعر.

ولعلك تقول بعد هذا: لماذا لا أجعل مسمطاتي من ستة أبيات أو خمسة أو سبعة أو عشرة، فهذا خير من تنويع القوافي في الأشطار والإتيان بها على زخرف خاص؟ وجوابي عن هذا هو أن القافية التي تلتزم في سته أبيات أو عشرة، كالقافية الموحدة من حيث العسر. والذي يعيب القافية الموحدة في عشرين بيتًا أو ما دون ذلك أو فوقه، ويزعم أنها قاتلة للمواهب مضيقة على الشاعر، فإنه لا شك يعيب القافية التي تُلتزم في الستة أو العشرة من الأبيات بمثل ذلك. وإلا فإنه يكون قد رجح ناحية "الكم" على ناحية "الكيف" وهذا سقم في التفكير. - (أعني "كم" العسر و"كيفه").

والمسِّمط الذي يريد التسميط حقًّا، لا يلتزم في القافية في أكثر من أربعة أبيات، لأنه سمط فرارًا من التزامها في أبيات كثيرة، وحتى التزام القافية في أربعة أبيات فما دونها فيضطر إلي ينصرف عنه إلى الزَّخرفة. وليس هذا بمجرد افتراض، فبعندنا من الموشحات أمثله كثيرة وأدله قوية تؤيد ما نذهب إليه. وإذا تتبعت تاريخ الموشحات وجدتها بدأت بطراز سهل من بحر الرمل، وبنوع من التسميط رشيق، كما في منظومة ابن الخطيب "جادك الغيث" ومنظومة ابن المعتَزّ "أيها الساقي"، ثم جعلت أنواع الموشحات تكثر، وزخارفها تزيد، حتى تعدت مجرّد الزخرفة اللفظية، إلى الزخرفة الخطية- أعني بالزخرفة الخطية أن يكون رسم الموشحة على الورق ذا أشكال هندسية منتظمة. وهاك أمثالا من الموشحات القديمة:

قال ابن سناء الملك (المستطرف للأبشيهي مصر 1942 - 2 - 238):

شمْسُ المُحَيّا أم القَمَرْ

أمْ بَارِقٌ الثّغر يَا بَشَرْ

ص: 25

أمِ البَها حَفّهُ الخَفَرْ

بطَرْزِ خدَّيْك مُسْتَطَرْ

قمْ تَبَاهى، بما تَباهَى، ولا تَلاهَى

فكُلُّ أحْبابِنا حَضَرْ والعُودُ يُشْجِيكَ والوتَرْ

أفْديك بالسّمْع والبَصَرْ

يا أهيفًا وصله وطرْ

بدرٌ بَدَا في دُجى الشّعَرْ

قد لَذِّ في حُبٍّهِ السّهَرْ

إذا تجلّى وقد تحلّى، عليك يُجْلَى

تَحَيّرُ في وَصْفِهِ الفِكَرْ والعَقْلُ والسّمْعَ والنّظَرْ

وهكذا على هذا المنهاج.

ولابن سناء الملك أيضًا "نفسه 2 - 238":

أزْهَرَت

لَيْلَتُنا بالْوَصْلِ مُذْ أسْفَرَتْ

أصْدَرَتْ

بِزَوْرَةِ المحبوبِ إذْ بَشّرَتْ

أخّرَتْ

فَقُلْتُ للظّلْماءِ مذ قصرت

طَولي

يا لَيْلَةَ الوَصْلِ ولا تَنْجلي

وأسْبِلي

سِتْرَكِ فالمْحُبوبُ في مَنْزِلي

ص: 26

وهكذا ..

وقال آخر، وهو أقل زخرفة مما مضى (نفسه 2 - 239):

حُمِّلْتُ مُذْ سارَتِ الحُمُولُ

وَجْدًا مَضى العُمْرُ وهُو بَاقي

وغادَة كالقَضيبِ قَدّا

والوَرْدِ والياسَمينِ خَدّا

كأنها البَدْرُ إذْ تَبَدّى

وشَعْرُها أسْودٌ طويلُ

كأنّهُ لَيْلَةُ الفِراقِ

هَوْنًا أَتتنْا تِميلُ مَيْلا

سَحابَةٌ كالسّحابِ ذَيْلا

فُقْلتُ شَمْسٌ تَزُورُ لَيْلا

وما دَرَى كاشحٌ عَذولُ

فَذَاكَ مَنْ أعْجَبِ اتِّفاقِ

وهلَّم جراَّ ..

وأنشدني السيد محمد عبده غانم العدني، من موشح يمني قديم، قال. إن زمن تأليفه مقارب لآخر الدولة العباسية أو قبل ذلك بقليل:

يا مفرد

بوادي الدرْ

من فوق الأغصانْ

يا مهيجْ

صباياتي

بترديد الألحان

ما جرى لك؟

تُهَيّج

شوْق قلبي والأشجان

لا أنت عاشق

ولا مثلي

مفارقْ للأوطان

* * *

بلبل الوادي الأخضر

تعال

أين دمعَك

ص: 27

تدعي لوعة العشاق

وما العشق

طبعَك

فاسترح

واشغل البان

بخفضَك ورفّعْكَ

واترُكِ الحبْ

لأهل الحبْ

يا بلبل البانْ

وهكذا أنشدنيه السيد الكريم، وقال: إن متنه شيء بين الفصيحة والعامية، وله بقيةٌ أضرب عنها الآن خشية التطويل.

فلعلّ ما ضربناه لك من الأمثلة هنا، يكفي في التدليل على أن الزخرف احتلّ مكانًا عظيمًا في الموشحات القديمة، لا في فصيحها فحسب، ولكن في عاميها أيضًا، ولك أن ترجع إلى آخر مقدمة آبن خلدون، وإلى ما جمعه المقري في النفح والأزهار، لتستزيد من الأمثلة.

ونترك الموشحات القديمة جانبًا الآن، لننظر في أمثلة من الأنواع الحديثة المبتدعة من مسمطات العصر، لنري إن كان أصحابها قد وفقوا فيها إلى تجنب الزخرفة والتكلف أكثر من أسلافهم. قال أحدهم (الشعر المعاصر للسحرتي مصر 1948 ص 116):

أُشِيرُ إليك بطَرف رِدائي

تعالَ ورَائي تَعال ورَائي

هُنالك بينَ الجزيرَةِ نقْضِي

سُوَيْعاتِ أُنْسٍ بأجملِ رَوْضِ

حدَيقة "مُورو" إليها سأمضي

فهيا اصطحبني

لتقطف مني

أزاهيرَ حُسني وطلعَ رُوائي

أشير إليك

الخ

ص: 28

قال الأستاذ الفاضل السحرتي عن هذه الموشحة الحديثة: إنها من "أمثلة الموسيقى المتوائمة مع موضوعها" وأنا أوافقه بحسب ظاهر لفظه، ولكني أخالفه حين يأخذ في باب من أبواب الباطن ويزعم -مفسرًا لما قدمه- أن في هذه القطعة نوعًا من الموسيقي اسمه:"المنخفض الأنغام".

موضوع هذه القصيدة أو الموشحة، هو تصوير فتاة تشير إلي فتاها بطرف ردائها، ليتبعها إلى الجزيرة، إلى حديقة "مورو" ليختفي معها بين الأشجار، ويقطف زهر حسنها و"طلع" روائها! وهذا موضوع من النوع الجنسي السطحي الذي لا يصلح له نوع من الموسيقي -إذ تُغُنِّي فيه- "إلا الجاز". (وليست موسيقى الجاز بمنخفضة الأنغام) وطريقة التقفية في هذه القطعة، ونغمة الوزن، وتفاهة الكلمات، كل ذلك "جازي" كأسمج ما تكون "الجازيات". ودونك فوازن بين قوله "أشير إليك -بطرف ردائي- تعال ورائي" وبين قول الجازيّ الأوروبّي:

You and I،

On the five forty- five

We shall not be disturbed،

This compartment is reserved.

لتدرك إلى أيّ حد تلتقي طرق التفكير عند الجازيين الذين لا يهمهم إلا التعبير السطحي عن الجنسية السطحية. فتاة "أشير إليك" تدعو بطرف ردائها إلى الحديقة "مورو" وهي حديقة "مودرن" صالحة للاختباء فيما يبدو. والشاعر أو الساجع الأوربي أو الأمريكي يطمئن فتاته بأنها معه في "قمرة" محجوزة، لا يصل إليها الإزعاج. وعندي أن مذهبه أسلم من مذهب صاحب "أشير إليك" لأنه وقف من المرأة موقف الداعي -وهذا من مذاهب الرجولة- وصاحب "أشير إليك" جعل صاحبته داعية ومبتدئة، فهذا يحملك على أن تسيء بها الظن.

ص: 29

وأظنك لم يخف عليك أيها القارئ الكريم مكان الزركشة والتكلف في قوافي هذه المسمطة: ردائي - ورائي- نقضي- روضي- أمضي- اصطحبني- مني

إلخ.

ودونك مثالا آخر من التسميط العصري "نفسه 120":

خمر شبابٍ رطيب

معصورة من قلوب

في القبلتين وآه

من طعمها أسكريني

أنشودة في السكون

يطوي بريق العيون

فيها فتور الجفون

لو رددتها الشفاه

في لثمها بادليني

وهذه السجعات تشبه عندي ما رواه لي صديقي الفاضل الدكتور محمد الحسن أبو بكر، من أن بعض الناس سمع لأول مرة صوت فتاة سودانية تلقي كلمة من مذياع أم درمان، فكسر من صوتها، وألهمه ذلك أن يقول:

بالمكرفون

كان حاجه بون

"أي جميلة"

نغم مؤنث بارتجال

هذا ويزعم الأستاذ السحرتي، بمعرض الحديث عن المسمطة التي أوردناها، أن صاحبها قد تحرر من عبودية القافية، فتأمل! إن المرء ليرتعد إلى مخ عظامه (كما يقول الإنجليز) حينما يفكر في مقدار العناء الذي بذله صاحب هذه المسمطة ليصطاد كلمة "الشفاه" حتى يناسب بها "آه" وكلمة "بادليني" ليقابل بها "أسكريني" والكلمات سكون- عيون- جفون- متوالية- في هذا النسق، وفي تلك الأشطار القصار التي التزمها.

وهاك مثالا ثالثًا (نفسه 180):

أهلا "أبو قردان"

يا منقذ الفلاح

ص: 30

كلاكما قد هان

واستمرأ الأتراح

إن قدروك الآن

لم يجهلوا قدره

لم يفهموا الإنسان

إن يفهموا غيره

ومعنى هذا البيت غير واضح.

تعيش بين الحقول

مستأصلا للضرر

بناقرٍ لا يحول

وناظر من شرر

قد لبست البياض

في صورة الناسك

وتارة مثل قاضٍ

يقضي على الهالك

أي يحكم بالإعدام! ! ولا يخفى عليك ما في كلام الناظم من لت وعجن.

تتابع الحرثا

وتلقط الديدان

تلوح كالوسنان

والحلم العابد

لكنك اليقظان

والباحث الساجد

في صفرة البرتقال

رجلاك والمنقار

كلاهما في الجمال

تراه أبهى شعار

شعارنا للنضار

شعارنا للغنى

معنى الشاعر الذي قصد إليه كريم، ونياته التي بعثته إلى قرض هذه المسمطة من أحسن النيات. ولكن ليست النيات الحسنة وحدها كافية لأن تبلغ الجنة. إن لم يسلك بها على نهج حسن. ولأمر ما زعم الغزالي أن الذي يبدو محسنًا ونيته سيئة هو عند الله مسيء، وأن الذي يبدو مسيئًا ويفعل ما من شأنه أن يضر على حسن نية منه، هو أيضًا عند الله مسيء. وفي ذلك ما يدل على أن للوسائل ما للنوايا من أهمية، بل ربما تكون أهميتها أكثر. وما أكثر الوسائل المعوجة التي يتبعها أصحاب النوايا الطيبة، فتوقعهم في غمرة الشرور.

تأمل إلى نسج هذه الموشحة- تجد الشاعر بدأها بموازنة ثم وصل إلى نتيجة، وكان حقه أن يقف هناك، عند قوله: لم يفهموا الإنسان، ولكنه ترسل، وترسل حتى أداه ترسله إلى غاية غير ملائمة لما بدأ بذكره، وهي تشبيه "أبي قردان" بالبرتقال ثم الذهب! ! وادعاء العمق والفلسفة بعد ذلك في قوله: شعارنا للغنى! !

ص: 31

وقد كان الشاعر مع هذا ضعيفا في أدائه، عبدا لزخرف من القوافي، مقيدة في الصدور ومختلفة بين الإطلاق والتقييد في الأعجاز، كما في "الديدان" من البيت التاسع، و"النضار" من البيت الأخير. ثم إن هذه الزخرفة اللفظية مع افتنان الشاعر فيها، ليس لها شفيع من رصانة أو قوة في الصياغة. بل الركاكة ووضع الكلمات في غير مواضعها، هو الصفة الغالبة على هذه القطعة. خذ قوله "شعارنا للنضار" ما معنى هذا الكلام؟ أليس مراده أن يقول "هو لون النضار" إذ ليس للنضار لون غير الصفرة حتى نتخذها له شعارّا، والشعار فيه معنى الاصطلاح والتواضع كما لا يخفى.

ومن أكثر أنواع التسميط المعاصر نفاقا الهزجيات والرمليات، ومن الهزجيات المشهورة كلمة نعيمة:"أخي إن ضج بعد الحرب الخ". ولأبي الوفا كلمة، مدحها صاحب الشعر المعاصر (نفسه 206) منها:

تعالي زهرة الوادي

نذيع العطر في الوادي

فتحملنا نسائمه

كما شاءت أمانينا

وتشدونا حمائمه

أغاني للمحبينا

ويزجينا الصبا والحب من واد إلى وادي

* * *

تعالي زهرة الآس

نذيع الحب في الناس

فلا يصبح في الدنيا

سوى قلب على قلب

ص: 32

وأقول: تصير الدنيا حينئذ كوكر امرئ القيس الذي وصفه في قوله:

كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا.

ولا نلقى امرأ يحيا

لغير العطف والحب

ونغدو زهرة الآس

شعار الحب في الناس

هذه الكلمة من الهزج، وهو بحر حلو صالح للتسميط، ولكنه لا يصلح للهجين من الألفاظ.

وقصيدة نعيمة -أخي إن ضج بعد الحرب- كلها تدور حول معني القسم الأول منها، وهو معنى معادٌ مكرورٌ مسروق من أشعار موريس برنج وروبرت بروك. وما نسبه الدكتور محمد مندور إلى هذه القصيدة من معاني الهمس (في كلمة له قديمة نشرت في الرسالة او الثقافة عنوانها: الشعر المهموس) شيء غامض كل الغموض. ولعله أعجبته كلمة "أخي" فعد ذلك همسًا. ونظام نعيمة في التقفية على وجه الإجمال من الكلفة والصناعة بحيث يمنع من الاسترسال في المعاني، ويجبر الشاعر على التكرار، ويجعله عبدًا لزخرفٍ كنسج العنكبوت.

وأبيات أبي الوفا الهزجية التي ذكرناها، وصفها السحرتي بأنها ذات أسلوب مباشر مبتدع سلس الحركة - "إسبنتانيوس" كما يقول الإنجليز- ووالله إني لأقرؤها ثم أقرؤها فلا أحصل إلا على ألفاظ مرصوصة في شكل هندسي- "وادي- نسائمه-نينا- حمائمه- بينا- آس- ناس- دنيا- قلب- يحيا- حب- آس-ناس".

والتركيب ضعيف من ناحية النحو، والمعنى واحد متكرر، وليس التعبير عنه بذي حرارة، ولكنه باهت خافت.

ومما يغيظ محب الشعر أن يجد هذه المعاني الجليلة العالية، التي أفصح عنها كبار الأنبياء والمتصوفة أعمق إفصاح وأنصعه. ممسوخة مشوهةً في أشباه هذا العبث

ص: 33

اللفظي، ثم يجد هذا العبث يمدحه النقاد ويرفعونه إلى أعلى الدرجات. اللهم غفرا!

فالدكتور طه حسين -وهدك من ناقد- يقول عن ديوان أبي الوفا -وهذه المسمطة منه-؛ إنه خال من الشعر، وإنه على خلوه من الشعر لا يخلو من سوء النظم وفساده واضطرابه الذي لا يطاق. ولولا أن الظروف السياسة

قد حملت جماعة من الناس على أن يشيدوا بأمر صاحب هذا الديوان، ويسرفوا في ذلك إسرافًا شديدًا، لما استطاع كلام كهذا الكلام أن يوصف بالشعر، وأن يرقى إلى مرتبة الكلام الذي يوصف بجودة النظم، واستقامة الوزن، وحسن الانسجام. فأنت تستطيع أن تقرأ الديوان من أوله إلى آخره دون أن تظفر فيه ببيت واحد، فضلا عن مقطوعة، فضلا عن قصيدة، يثير من نفسك هذا الرضا الذي يثيره الشعر العالي، أو يبعث من نفسك هذه اللذة التي يبعثها الفن الجميل" أهـ. "حديث الأربعاء دار المعارف 3 - 213".

وفي هذا الذي ذكرناه عن التسميط حجة قاطعة في أنه لا يحل مشكلة الشعراء المعاصرين، الذين يشنأون القافية الموحدة ويرومون تبديلها. فدعنا ننظر في مسألة الشعر المرسل إذن.

من المعلوم أن الشعر المرسل كان نادرًا عند العرب، ولعله لم يرد إلا في المكفآت (وسيأتي الحديث عن الإكفاء) وأقرب شيء إليه فيما سوى ذلك المقصورات، وهي قصائد أحرف الروي فيها ألفات لينة. وقد كانت المقصورة قليلة عند الأوائل لا تكاد تجد لها أمثلة طويلة (والنادر لا حكم له). وراجت سوقها عند المتأخرين حتى طولوا فيها جدا، من ذلك ما فعله ابن دريد في كلمته المشهورة:

يا ظبية أشبه شيءٍ بالمها

وجياد المقصورة قليلة جدًا. وكلمه ابن دريد -على إطناب بعض الناس في مدحها- من متكلف الكلام عندي، وليس فيها شعر حق إلا قوله:

ص: 34

بل رب ليلٍ جمعت قطريه لي

بنت ثمانين عروس تجتلي

يعني الخمر وكان بها كلفًا.

فإن أمت فقد تناهت لذتي

وكل شيءٍ بلغ الحد انتهي

وإلا قوله في آل ميكال:

نفسي الفداء لأميري ومن

تحت السماء لأميري الفدا

ونسج المقصورة الدريدية، وما جوريت به من مقصورات، يؤيد ما نذهب إليه من أن ترك القافية الموحدة الصريحة (والألف اللينة ليست صريحة) يفتح على الشاعر باب شر عظيم من الثرثرة والصناعة اللفظية.

والشعر المرسل عند المعاصرين ليس بكثير، وقد نظم فيه جماعة من الفضلاء كالأستاذ عبد الرحمن شكري والأستاذ أبي حديد. وأضرب لك مثلا من نظم الأول (الشعر المعاصر 121 - 122):

سد كت بنابليون سالبة الكرى

والنوم لا يعنو لكل عظيم

في ليلة قلب اللئيم كقلبها

زنجية قد عريت من حليها

وفي هذا إشارة لقول المعري:

ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان رجع:

خرج العظيم يخط في ترب العرا

خط المدلس في تراب الطالع

يمشي وحيدًا في الخلاء وحوله

جيش من الآراء والعزمات

يرعى بعين النسر أرجاء العرى

كالقانص الرامي بسهم صائب

وهلم جراّ

ص: 35

ولا يمكنني أن أزعم أن في هذه الأبيات زخرفًا لفظيًا، كلا ولا أزعم أن في مرسلات الأستاذ أبي حديد شيئًا من ذلك. ولكني ألفت نظر القارئ إلى ظاهرة أجدها في الأبيات السابقة. ألا يجد القارئ أن قافية البيت الأول (وقل ذلك فيما بعده من أبيات) مستقلة بنفسها، منقطعة عما بعدها، صالحة لأن تجيء من قصيدة من نفس الروي والبحر، وحينئذ لا تشعر أنها من بيت مرسل؟ ألا يشعر القارئ معي أن نظم هذه الأبيات ليس بنظم مرسل صريح، وإنما هو استعمال لقافية مستقلة في كل بيت -وهو من أجل ذلك ضرب من الإجازة أو الإكفاء؟ أليس الشاعر الذي يعمد إلى الشعر المرسل ينسى مكان القافية من آخر البيت، وسيطرتها عليه، كل النسيان؟ أليس إذا فعل ذلك لم يجد بدًا من أن يعوض فقدانها بشيء من المحسنات اللفظية ليضمن سلامة الموسيقى في شعره؟ وهل المحسنات اللفظية إلا الجناس والطباق والسجع وما إلى ذلك؟

ولا تقل لي: فنهج شكري وأبي حديد إذن أفضل من النظم المرسل الصريح، إذ نظمها كما قلت لك إكفاءٌ وإجازة، وذلك يفسد رنة الكلام، وينبو عن الذوق، وقد فرغ النقاد الأولون من تهجين الإكفاء والإجازة.

وبحسب أنصار النظم المرسل الصريح، أن يتذكروا كيف عبثت طبيعة السجع المتأصلة في بنية العربية بالنثر، وهو كلام مرسل حقًا لا وزن فيه. ليتذكروا مقامات الحريري، وسجع الصاحب ابن عباد، وتكلف القاضي الفاضل وابن الأثير وأضراب هؤلاء. ثم ليتذكروا كيف طغى هذا الأسلوب المسجوع المصنوع على غيره من الأساليب، حتى صار هو الطريقة المستحسنة، وحتى لم يستطع أمثال ابن خلدون من ذوي الأفكار والأصالة أن يتحرروا من ربقته (1)، وحتى أن النثر

(1) خطبة المقدمة من السجع المتكلف، ولكن سائر الكتاب بعد ذلك نثر مرسل. هذا وفي مقامات الحريري ورسائل القاضي من جيد البيان روائع. والله أعلم.

ص: 36

العلمي الجاف، الذي لا تجوز فيه الصناعة بحال خضع للسجع كثيرًا، وكاد يستسلم له. ليتذكروا كل هذا. ثم ليفكروا إن كان النظم المرسل سيكون أسعد حظًا من النثر في مقاومة الزخرف والأسجاع المتكلفة. أستبعد ذلك كل الاستبعاد.

ولعل أنصار النظم المرسل يحتجون علينا بما يجدونه من كثرة القصائد الطوال المختارات في أشعار الغربيين المرسلة، ويقولون لنا: لولا أن ترك القافية أعطى هؤلاء الأوروبيين قسطًا عظيمًا من الحرية، ما كان ليتسنى لهم ما بلغوه من الإبداع في مطولاتهم. وهذا احتجاج مردود. ذلك بأن طبيعة اللغات الأوروبية تضن بالقوافي. والجوادة بالقوافي منها، كاللغة اللاتينية لا يتسنى لها الجودة إلا من طريق الاعراب والضمائر. وهي طريق يملها السالك وينفر منها السامع، ولذلك آثر اللاتينيون الشعر المرسل.

فلا غرابة اذن أن نجد النظم المرسل مناسبًا للغات الغرب، لأنها بطبعها تعجز عن التقفية والأسجاع، ولا يتأتى فيها التجنيس بأنواعه كما يتأتى في العربية. واللغة الإنجليزية بخاصة تؤثر الترسل على التقفية. ومع هذا فلا ينكر القارئ لأشعار الإنجليزية أن ترسلها كثيرًا ما يجر إلى الثرثرة والإسهاب، كما هي الحال في الجزء الأكبر من فردوس ملتون، وفي أكثر روايات شكسبير. خذ مثلًا ماكبيث. فإحسان الرجل فيها محصور ما بين آخر الفصل الأول إلى آخر الثاني، ويسمو في نتف من الثالث، ثم يسف بعد ذلك إلا في قطع أهمها هذيان الملكة، وهو نثر محض (1).

(1) وإسفاف الغربيين في المسمطات أكثر من أن يحصى. وأضرب لك أمثلة من الشعر الإنكليزي قصيدة ملكة الجنيات لسبنسر، وهي مملة للغاية وفيها حشد من الصناعة يشبه ما فعله ابن جابر في بديعيته، ونحو مقدمة وردزورث، التي لو محي سائرها وأبقيت منها قطع يسيرة لأغنى ذلك. ولعل ما دهى شعراء أوروبا من داء التطويل والإسهاب. شر مما دهى شعراء العربية من داء التزام النسيب ووصف الابل. وعسى ألا يكون هذان داء والله تعالى أعلم.

ص: 37

وإذن فلا مفر من أن نقول بأن الشعر المرسل لا يناسب اللغة الفصحى، وأنه لن يستطيع أن يقوم فيها مقام القافية الملتزمة التي تقمع شيطان الثرثرة الجموح.

وقد تنبري لي أيها القارئ فتقول: "أوافقك في استهجان التسميط، وأحط معك في ازدراء الترسل، وأسلم لك بأن القافية الموحدة الملتزمة، قد تكون حقًا هي أنسب شيء للشعر العربي، وأنجع علاج لداء الصناعة والزخرف والتلاعب بالألفاظ. وإن كانت هي في ذاتها نوعًا من الزخرف، كما أن التطعيم أنجع وقاية من الجدري، وإن كان هو في ذاته ضربًا من الجدري -قد أذهب معك إلى هذا الحد، ولكن على تقدير أن الناظم المعاصر لا يزال يملك، كالقدماء، ذخيرة واسعة، ويقدر على التصرف في نحو اللغة وأساليبها كما كانوا يقدرون. ولكن الحقيقة الواضحة هي أن الذخائر اللغوية قد صغرت، وأن النحو نفسه قد تغير وتبدل، وأن تركيب الجملة قد دخله من الجمود ما لو بصر به النابغة وزهير وأضرابهما لولوا منه فرارًا ولملئوا منه رعبًا. فهل نزعم كذبًا أن الدنيا لم تحل عن حالها؟ وهل نفرض ادعاء أن لنا من الملكات والقدرة على تصريف أعنة اللغة ما كان للأوائل؟ ثم نظل بعد ذلك نقيد أنفسنا بالقافية الموحدة الملتزمة لنكبح جماح صناعة لفظية لا نملك من أداتها غير كلمات محدودة "وكليشهات" باهتة ضربت عليها عنكبوت الزمان بنسجها؟ ألا نأبه لما طرأ علينا من تغيير، والي ما تتطلبه حاجات اليوم من تعبير سلس واضح طلق، غير ذي عوج ولا ربق ولا قيود؟ ".

ولو قلت لي هذا أيها القارئ لقلت لك: "انظم باللغة العامية ولا تعدها". ثم لنبهتك إلى أن اللغة العامية نفسها مازال ينظم فيها الناظمون منذ ألف عام أو أكثر، وأن كاهلها قد اثقله "الكليشيهات" والزخارف، التي يحاكي بها أصحابها زخرفة الأشعار الفصيحة، حذوك النعل بالنعل، من دون أن يقدروا على أن يأتوا بشيء شبيه بما في اللغة الفصيحة من سمو.

ص: 38

فإن كنت تنفر من اللغات العامية أيها القارئ، فليس أمامك إلا أحد أمرين:

1) إما أن تستحدث أوزانا جديدة كل الجدة وتخترع لها ما يلائمها من قيود.

2) وإما أن تقول بتوسيع الذخيرة ودراسة اللغة كما ينبغي.

أما الوجه الأول، قد فات المناسب منذ القرن الثالث الهجري، والإقدام على التجديد في الأوزان الآن، معناه أن نحدث تغييرًا جوهريًا في ناحية جوهرية من نواحي اللغة العربية لازمتها أكثر من ستة عشر قرنا. وإحداث تغيير كهذا في لغة عريقة في القدم مليئة بالتقاليد المعتقة، مطلب عزيز جدا تحقيقه، أدخل في باب الأوهام والتخيلات منه في باب المعقول المقبول، اللهم إلا أن تكون اللغة العربية بدعا بين اللغات.

والوجه الثاني هو الرأي الصواب وإن كنت أراك تنفر منه. وكيف يجوز لك أن تقول سأكتب وأنظم بالعربية الفصيحة، ومع ذلك فلن أبالي بتوسع ذخيرتي فيها ولا بتجويد نحوها وصرفها، ورحم الله الشيخ الطيب السراج (1) إذ سمع مثل هذا القول من بعضهم فقال: أيجوز لك أن تقول وأنت تكتب نثرًا بالإنجليزية: I goes أو تقول: They is، فيكيف تحرص على سلامة الإنجليزية ولا تحرص على سلامة العربية؟

حتى وإن أبيت وقلت: فإن كان لا بد من دراسة الأصول ومعرفة اللغة، فأنا أنظم وأكتب بالعامية، فإني لا أجد مفرًا من أن أذكرك بأنك مع هذا لن تستغني عن الفصحى، لأنها أصل العامية ومنبعها، ولأنها ولأنها مستودع التراث الديني والأدبي، الذي لا يمكن أن نفصل عنه أنفسنا بحال من الأحوال.

(1) في الطبعة الأولى: ولله دره .. وكان الشيخ الطيب السراج آنذاك حيًا.

ص: 39

ومن أجل هذا كله فإني سأنتقل بك من هذا التمهيد الذي مهدته، إلى حديث عن أصول الصناعة الشعرية، من حيث القوافي والأوزان، بحسب ما يمكن استقراؤه من أشعار العربية، ومؤلفات علمائها -إذ كل ذلك لازم للأديب، ولا غنى للناقد عنه، وأول ما أبدأ بالحديث عنه: القافية.

ص: 40