الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنسرح
إذا صورنا نغم السريع بصورة الخطيب وتكراره وجلجلته، والكامل الأحذ بصورة التأني والتلطف والهمس التي تكون عند المحدث البارع، فإننا لا نملك إلا أن نصور المنسرح بصورة الراقص المتكسر أو المغني الخنث. وهذا التصوير والتقريب لا يناقض ما قدمناه قبل من أن هذه الأبحر جميعًا تصلح للغناء. ومع التكسر والرقص والتثني تجد في المنسرح لونًا جنسيًا يشبه لون المتقارب المجزوء. وقد سبق أن لمحنا إلى هذه الصفة في المنسرح عند كلامنا على المنسرح القصير، وعلى أمثال:
حدبدبا بدبدبا منك الآن
وإذا بحثت في الشعر الجاهلي لم تجد المنسرحيات فيه تخرج عن أحد غرضين:
الرثاء المراد به النوح، والنقائض. ولا يخفى على القارئ أن الرثاء إذا أريد به النوح حوى عنصرًا قويًا من التأنث واللين - وكيف لا والنوح إنما كانت تقوم به النساء، ولا شك أنهن كن يتخذن منه معرضًا للفتنة والتبرج، أليس الربيع بن زياد العيسى، من الأوائل يقول (في الحماسة):
من كان مسرورًا بمقتل مالك
…
فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرًا يندبنه
…
يلطمن أوجههن بالأسحار
قد كن يخبأن الوجه تسترًا
…
فاليوم حين برزن للنظار
أم ليس أبو نواس يقول:
يا قمرا أبصرت في مأتم
…
يندب شجوًا بين أتراب
يبكي فيذري الدمع من نرجس
…
ويلطم الورد بعناب
ولا داعي للتطويل هنا في تبين ما بين الرثاء والغزل من قربى، فأقل ما في موت الفقيد من الرؤساء والفتيان، أنه يجعل حرمه أيامى بعده معرضات لمن يريد
انتهابهن. وربما يحسن أن نستشهد في هذا الموضع بقصة صخر بن عمرو بن الشريد [ذكرها الميداني في أمثاله ج 2 ص 43](1) إذ كان صخر طريح فراشه على شفا الموت، فسمع سائلا يسأل سليمى زوجته:"يباع الكفل؟ " فقالت: "نعم عما قليل".
هذا وفي الرثاء بعد تعمد من جهة الرائي أن يحاكي النساء، فيدعى حز الكبد وتفتت الأحشاء وتدفق الدموع، وانقصام الظهر إلى غير ذلك من المعاني التي تنسب في العادة إلى النساء دون الرجال.
وقد ألمعنا عما بين المناقضات والزفن الجنسي من قرابة، في كلامنا عن المنسرح القصير و"الجابودي". ونضيف هنا أنه لا يستبعد أن كثيرًا من الناقضات كانت تدفع إلى الجواري لينشدنها ويرقصن عليها. ومما يدل على هذا ما نجده في بعضها من إقذاع يندر في الشعر القديم، مثلا قول الجميح (2):
أنتم بنو المرأة التي زعم النا
…
س عليها في الغي ما زعموا
يمرج جار استها إذا ولدت
…
يهدر من كل جانب خصم
وأمها خيرة النساء على
…
ما خان منها الدحاق والأتم
فهذا لا يعقل أنه كان ينشده ناظمه، وهو من السادة، في ندى القوم ومجمع سراة الحي، وإنما المعقول أن يكون منشده جارية أو دنيئًا من الأدنياء.
هذا، والكلمات المنسرحيات التي تخرج عن الرثاء كما وصفناه، وعن المناقضات قلة نادرة، وليست ببعيدة الصلة -إن تأملناها- عن أحد هذين الغرضين.
خذ كلمة المهلهل:
(1) طبعة مصر 1352 هـ.
(2)
المفضليات 48 - س 11 - 14 - هذا تهكم. الخصم بضمتين: الناحية. الأتم بتسكين التاء وتحرك في الضرورة: أن تكون المرأة مفضاة. والدحاق: خروج فم الرحم عند الولادة.
أعزز على تغلب بما لقيت
…
أخت بني الأكرمين من جشم
أنكحها فقدها الأراقم في
…
جنب وكان الحباء من أدم
لو بأبانين جاء يخطبها
…
زمل ما أتف خاطب بدم (1)
فهذه فيها نفحة من النوح، كما فيها نفس من "الردح".
ومن المنسرحيات الشاذة كلمة الأعشى (2):
إن محلا وإن مرتحلا
…
وإن في السفر إذ مضى مهلا
وابن قتيبة يرى أنها منحولة، وما أجدر ذلك أن يكون (3):
وأما كلمة امريء القيس (4):
إن بني عوف أنلو حسبا
…
ضيعه الدخللون إذ غدروا
أدوا إلى جارهم ذمامهم
…
ولم يضيعوا بالغيب من نصروا
لم يفعلوا فعل حنظل بهم
…
بئس لعمري بالغيب ما ائتمروا
لا حميري وفي ولا عدس
…
ولا است غير يحكها ثفر
لكن عوير وفي بذمته
…
لا عور ضره ولا قصر
(1) رواية الغفران في الحاشية 270: "عز على تغلب الذي" إلخ - جشم: حي من تغلب، وهم جشم بن بكر. وهذا سوى جشم بن بكر الذي في هوزان. والأراقم بنو تغلب. الحباء: الصداق. أدم: جلود. بأبانين: أراد بأبان، وهو جبل، فثنى كأنه يريد الجبل وما حواليه، كما قالوا عنيزتين في عنيزة (معلقة عنترة)، وكثير من النحويين المتأخرين يهم فيحسب "أبانان" مما بني من الأعلام على التثنية، وليس الأمر كذلك (راجع حاشية 2 ش 5 - 6 ص 7 من شرح شافية ابن الحاجب للرضي تحقيق محمد نور الحسن مصر ج 2) - قوله زمل ما: ما زائدة في الإعراب مؤكدة في المعنى.
(2)
ديوانه 35.
(3)
الشعر والشعراء 14.
(4)
المفضليات 435 - 436.
كالبدر طلق حلو شمائله
…
لا البخل أزرى به ولا الحصر
من معشر ليس في نصابهم
…
ضعف ولا في عيدانهم خور
فهي من صميم ما قدمناه، إذ فيها شتم ظاهر للدخللين من بني حنظلة الذين فروا عن شرحبيل بن الحارث عم امريء القيس يوم الكلاب، ومحد العوير فيه مبالغة في سبهم والزراية عليهم - وأظن القاريء لم يفته هنا موضع قوله:"ولا است عير يحكمها ثفر".
ولعله يحسن أن يوازن بين هذه الكلمة وأخرى قالها امرؤ القيس في هذا الغرض بعينه (إلا مدح العوير) من رثاء عمه وهجو بني حنظلة (1):
بلغ ولا تترك بني ابنة منقر
…
وفقرهم إني أفقر خابرا (2)
وأبلغ بني زيد إذا ما لقيتهم
…
وأبلغ بني لبنى وأبلغ تماضرا
أليس ابنكم أم ليس وسط بيوتكم
…
بني دارم أم ليس جارًا مجاورا؟ (3)
ألم تك آلاء توالت وأنعم
…
له فيكم يا شر من حل غائرا (4)
ومن حل في نجد ومن حل مخيفًا
…
يسوف آناء العشي البرائرا (5)
أحنظل إذ لم تشكروا وغدرتم
…
فكونوا إماء ينتسجن المعاصرا (6)
أحنظل لو كنتم كرامًا صبرتم
…
حياء ولا تلقى التميمي صابرا
(1) نفسه 435 - 1 - 5.
(2)
فقرهم: فصلهم وبينهم وخصصهم.
(3)
الضمير يعود على شرحبيل.
(4)
غائرًا: في الغور.
(5)
مخيفًا: في خيف منى وأصل الخيف جانب الجبل المداني السفح. والبرائر: ثمار الأراك. ويسوفها: يشمها.
(6)
المعاصر: ضرب من ثياب الأعراب.
فهذا كلام مهتاج فخم يناسب بحر الطويل بخلاف المتكفيء المتكسر الذي كأن صاحبه يرقص على دقات طبل.
والمناقضات القديمة في بحر المنسرح كثيرة، وأشير منها على سبيل التمثيل إلى نقائض الأنصار الفائيات، وفيها من الغزل الجنسي ما فيها. وهاك طرفًا من عينيه في المنسرح لذي الإصبع العدواني (1):
إنكما صاحبي لن تدعا
…
لومي ومهما أضع فلن تسعا
إنكما من سفاه رأيكما
…
لا تجنباني السفاه والقذعا
إلا بأن تكذبا علي ولم
…
أملك بأن تكذبا وأن تلعا (2)
إن تزعما أنني كبرت فلم
…
ألف بخيلا نكسا ولا ورعا
أجعل مالي دون الدنا غرضًا
…
وما وهي ملأمور فانصدعا
إما ترى شكتي رميح أبي
…
سعد فقد أحمل السلاح معا (3)
السيف والرمح والكنانة والنبل جيادًا محشورة صنعا (4)
وهذه القصيدة على سمو معانيها فيها المنزع الرقصي والتكفؤ، وهي تمثل روح شيخ هدم ضاق ذرعًا بأعدائه من الشبان. ولا أحسب القاريء تفوته لمحة الحسرة على فوات الغزل في قوله:"إما تري شكتي رميح أبي سعد".
ومثال آخر من الهجائيات المنسرحيات دالية صخر الغي الهذلي (5):
(1) نفسه 311 - 312.
(2)
تلعا: تكذبا، وأصله من الإسراع والجري.
(3)
رميح أبي سعد: العصا، وأصل هذا أن لقيم بن لقمان وكنيته أبو سعد كبر حتى دب على العصا.
(4)
محشورة: جيدة الريش. صنع: جمع صنيع، وهو الجيد الصنع.
(5)
رغبة الآمل من شرح الكامل للمرصفي مصر 1930 ج 8 ص 194.
إني بدهماء عز ما أجد
…
عاودني من حبابها زؤد
عاودني حبها وقد شحطت
…
صرف نواها فإنني كمد
والله لو أسمعت مقالتها
…
شيخًا من الزب رأسه لبد
مآبه الروم أو تنوخ أو الآطام من صوران أو زبد
لفاتح البيع عند رؤيتها
…
وكان قبل ابتياعه لكد
أبلغ كبيرًا عني مغلغلة
…
تبرق فيها صحائف جدد
الموعدينا في أن تقتلهم
…
أفناء فهم وبيننا بعد
إني سينهى عني وعيدهم
…
بيض رهاب ومجنأ أجد
وصارم أخلصت خشيبته
…
أبيض مهو في متنه ربد
فليت عنه سيوف أريح حتى
…
باء بكفي ولم أكد أجد
وسمحة من قسي زارة صفر
…
اء هتوف عدادها غرد
كأن إرنانها إذا ردمت
…
هزم بغاة في إثرها فقدوا
ذلك بزي فلن أفرطه
…
أخاف أن ينجزوا الذي وعدوا
فلست عبدًا للموعدي ولا
…
أقبل ضيما يأتي به أحد
جاءت كبير كيما أخفرها
…
والقوم صيد كأنما رمدوا
في المزني الذي حششت به
…
مال ضربك تلاده نكد
تيس تيوس إذا يناطحها
…
يألم قرنًا، أرومه نقد
إن أمتسكه فبالفداء وإن
…
أقتل بسيفي فإنه قود (1)
(1) مناسبة القصيدة أن صخر الغي قتل رجلا من مزينة كان جارًا لبني خناعة بن سعد بن هذيل بن مدركة، فحرض أبو المثلم قومه على صخر، وكان بين أبي المثلم وصخر هذا مناقضات، وأبو المثلم أشعر الرجلين، ومن جيد شعره:
يا صخر إن كنت ذا بز تجمعه
…
فإن حولك فتيانًا لهم حلل
ومرثيته النونية في صخر وهي من حسن الشعر ونبيله، ومطلعها:"لو كان للدهر مال كان متلده" وهي مشهورة، وقوله دهماء: اسم محبوبته، وقوله زؤد، عني به رعدة وأصل الزأد: الاستخفاف والفزع، قال الآخر:"حملت به في ليلة مزؤودة": أي ذات أهوال. قوله شيخًا من الزب: يعني الطوال الشعر المفرد أزب. رأسه لبد: أي متلبد الشعر. مآبه: أي موطنه. الروم: بلاد الروم. تنوخ: أقاصي الجزيرة بالشام وأكتاف العراق، وأراد مواطن تنوخ، وهي قبائل من قضاعة أقامت هناك. والآطام: الحصون وصوران وزبد: موضعان بالشام. لفاتح البيع: كنى به عن: طلب وصلها، وهذا مثل قول النابغة "لو أنها عرضت لأشمط راهب" وقول كثير:"رهبان مدين والذين عهدتهم" الأبيات. قبل مبنية على الضم: أي من قبل. لكد: أي عسر. كأنه يقول: لصبا إليها على تزمته، جدد جمع جديد. بعد: أي بعد، ورووا بعد بفتحتين، أس مسافة بيننا بعيدة. بيض رهاب: أي أسهم من التي يقال لها رهاب، وهي التي لا عبورة لها، كذا قال السكري، أي مثلثة ليست عراض النصول فيها خط في وسطها، وإنما هي كهدب الطرفاء. ومجنأ ترس. أجد: قوي. قوله وسمحة إلخ: يعني قوسًا. عدادها: إرنانها. خشيبته: يعني طبيعته وحديده ومعدنه مهو: أي رقيق. قال السكري: سلح مهوا أي سلح رقيقًا. فليت عنه: أي بحثت وفتشت سيوف أريحا وثم اخترته من بينها. ردمت (بالبناء للمجهول) جذب وترها عند الرمي. هزم بسكون الزاي: صوت. بغاة: جمع باغ، وهو الذي ينشد دابة ضالة منه. يقول: كأن إرنان هذه القوس صوت قوم يطلبون بعيرًا= =ضل. قوله: فلست عبدا للموعدي، رواية المرصفي، ورواية ديوان هذيل طبع أوربا "للموعدين". كيما أخفرها أي احميها وضعفت الفاء. صيد: رفعوا رؤوسهم مع ميل. حششت به: زدت به. ضريك: فقير. تلاده نكد: لا تلاد ولا مال له. تيس تيوس: شتم للمزني ومزينة جدهم قتل فيما يزعمون في تيس. نقد بكسر القاف: فيه هوس، قود: قصاص.
وهذه الكلمة في مشربها تشبه عينية العدواني. ولعلك لم يفتك جانب الرقص الثقيل فيها، تراه أظهر شيء في تكرار الصفات والمواضع نحو:
مآبه الروم أو تنوخ أو الـ
…
ـآطام من صوران أو زبد
وهذه القصيدة نمط صعب، وقد جاراها طريح الشاعر بكلمة جيدة في مدح الوليد بن يزيد ذكرها صاحب الأغاني (1).
ومن أمثلة الرثاء في المنسرح قول لبيد في أربد أخيه (2).
أخشى على أربد الحتوف ولا
…
أرهب نوء السماك والأسد
(1) الأغاني 4 - 323 - 325.
(2)
الكامل 2 - 270.
ما إن تعرى المنون من أحد
…
ولا والد مشفق ولا ولد
فجعني الرعد والصواعق بالفارس يوم الكريمة النجد
يا عين هلا بكيت أربد إذ
…
قمنا وقام العدو في كبد
والتأنث وتعمد النوح بين ههنا، ووازن بين هذه الكلمة وبين قوله من الكامل:
طرب الفؤاد وليته لم يطرب
…
وعناه ذكرى خلة لم تصقب
سفهًا ولو أني أطعت عواذلي
…
فيما يشرن به بسفح المذنب
لزجرت قلبًا لا يريع لزاجر
…
إن الغوي إذا نهي لم يعتب
فتعز عن هذا وقل في غيره
…
واذكر شمائل من أخيك المنجب
يا أربد الخير الكريم جدوده
…
غادرتني أمشي بقرن أعضب
يتحدثون مخافة وملاذة
…
ويعاب قائلهم وإن لم يشغب (1)
إن الرزيئة لا رزيئة مثلها
…
فقدان كل أخ كضوء الكوكب
فهذه البائية تأبين صلب فيه شدة أسر لبيد، وليس كالدالية، فقد لان فيها الشاعر وقصد إلى التفجع والتوجع كما تفعل النساء.
وإذا شئت فوازن بين قول لبيد في الدالية "أخشى على أربد". وبين قوله في العينية من الطويل (2):
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع
…
وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وقد كنت في أكناف جار مضنة
…
ففارقني جار بأربد نافع
فال جزع إن فرق الدهر بيننا
…
فكل فتى يومًا به الدهر فاجع
(1) رغبة الآمل 167: 8 - 168. المذنب: جبل. يعتب: ينتهي. الملاذة: الغش من ملذ بضم اللام.
(2)
الشعر والشعراء 236: 1.
وما الناس إلا كالديار وأهلها
…
بها يوم حلوها وغدوًا بلاقع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
…
يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع
أليس ورائي إن تراخت منيتي
…
لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
أخبر أخبار القرون التي مضت
…
أدب كأني كلمة قمت راكع
فهذا كلام جليل شديد الأسر، لم يقصد به إلى رقص أو نياحة، وإنما أريد به الرثاء على طريقة الشعر الرصين التي يعرفها لبيد ويجيدها. ومثل هذه الموازنة بين منسرحية لبيد الدالية وسائر مراثيه في أربد من البحور الطوال يمكن أن نجريها بين عينية أوس بن حجر في المنسرح (1):
أيتها النفس أجملي جزعا
وعينية مالك بن نويرة في الطويل (2):
لعمري وما دهري بتأبين هالك
وسيأتي الكلام على هاتين القصيدتين عندما نتحدث عن البحر الطويل.
وخلاصة ما قدمناه لك من القول أن بحر المنسرح -بحسب ما نجده في أشعار الجاهليين- بحر لين ذو لين جنسي لم يكد يخرج عن صنفي الرثاء النائح والنقائض الهجائية وما يتبعهما من غزل أو شبهة. وقد وجد فيه الإسلاميون الحجازيون بحرًا يلائم مذاهبهم اللينة الغنائية -كما وجدوا في السريع والأحذ- فأكثروا منه ولا سيما ابن قيس الرقيات وابن أبي ربيعة. ولابن قيس الرقيات في المنسرح كلمته المشهورة (3):
(1) الكامل للمبرد 273: 2 - 274.
(2)
المفضليات 526.
(3)
الأغاني 79: 5.
عاد له من كثيرة الطرب
…
فعينه بالدموع تنسكب
ومدائح حسان في عبد العزيز بن مروان، وقد تحدث عن كل ذلك الدكتور طه حسين بما لا مزيد عليه (1).
ولابن أبي ربيعة قوله (الأغاني 1 - 103):
يا من لقلب متيم كلف
…
يهذي بخود مريضة النظر
تمشي الهويني إذا مشت فضلا
…
وهي كمثل العسلوج في الشجر
ما إن طمعنا بها ولا طمعت
…
حتى التقينا يومًا على قدر
أي مصادفة.
قالت لترب لها تحدثها
…
لنفسدن الطواف في عمر
قومي تصدي له ليعرفنا
…
ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها قد غمزته فأبى
…
ثم اسبطرت تسعى على أثري
من يسق بعد المنام ريقتها
…
يسق بمسك وبارد خصر
(أي بارد) - وهذه أبيات لينة في لغتها ونغمها وأسلوبها الحواري المملوء شيطنة وخبثًا.
وقد شاع المنسرح بني طوائف المرققين في العصر الأموي، وقل عند شعراء الفخامة أمثال كثير والأخطل والقطامي وجرير وابن الرقاع والفرزدق، ولم يتعاطه طلاب الجزالة والفحولة إلا الكميت والطرماح. أما الكميت فلأنه أراد أن ينقض بائية ابن قيس الرقيات في عبد الملك ببائية في بني هاشم، وأما الطرماح، فلأن غرامه بالغريب أبي عليه إلا أن يستعمل المنسرح في قافية من أصعب قوافيه، ولغرض جاف
(1) حديث الأربعاء 244: 1 - 248.
غير الأغراض التي خلقه الله لها، ليشق بذلك على نفسه وعلى من بعده. وقد وجد في المولدين من أبي تمام مقلدًا مخلصًا. وذلك في قوله (1):
ما لكثيب الحمى إلى عقده
…
ما بال جرعائه إلى جرده (2)
ما خطبه ما دهاه ما غاله
…
ما ناله في الحسان من خرده
وفيها يقول في نعت البعير:
سأخرق الخرق بابن خرقاء كالهيق إذا ما استحم من نجده (3)
مقابل في الجديل، صلب القرا لو
…
يحك من عجبه إلى كتده (4)
تامكه، نهده، مداخله
…
ملمومه، محزئله أجده
وهذه الأبيات مما عابه ابن الأثير في المثل السائر (طبعة مصر 1282 هـ ص 182).
وقد أكثرت طبقات المولدين الأولى من النظم في المنسرح، كما قد أكثروا من الأحذ والسريع، إذ كانوا يحرصون على محاكاة ابن أبي ربيعة وأضرابه، ويدعون لأنفسهم من الظرف واللين ما كان لأولئك. وقصيدة بشار (5):
قد لامني في خليلتي عمر
…
واللوم في غير كنهه ضرر
(1) ديوانه 1 - 69 - 72.
(2)
العقد: ما تعقد من الرمل. والجرد: الفضاء الخالي من النبات.
(3)
الخرق: بفتح الخاء: الصحراء تنخرق فيها الريح. ابن خرقاء: البعير، وأمه الناقة توصف بالخرق الهيق: ذكرالنعام. النجد بالتحريك: العرق.
(4)
الجديل: من جدود الإبل، ومثله شدقم. القرا: الظهر. الكتد: عند الكتف، يقول: لو يفتش هذا البعير من عجب ذنبه إلى أعلى كتفه وجد حرا صلبا.
(5)
الأغاني 40: 3 - 41.
تنظر نظرًا بينًا إلى رائية عمر ولا تخالفها في المجرى، فهو هنا رفع وهناك خفض وكلام عمر:
يا من لقلب متيم كلف
…
يهذي بخود مريضة النظر
لطيف يتجلى فيه لين المنسرح كأحلى ما يكون. ولكن كلام بشار لتكلفه ومغالاته في إبراز ناحية الرفث لا يخلو من قساوة وغلطة، وهو مع هذا كله جار على ما في سنخ المنسرح من حركة رقص جنسية متهالكة - نقول: ذلك إنصافًا له ولا نملك بعد إلا أن نستهجن منجه وأسلوبه كما استهجنه إسحق الموصلي (1) وهدك من ناقد.
ومنهج الحسين بن الضحاك في كلمته (2):
تيسري للمام من أمم
…
ولا تراعي حمامة الحرم
قد غاب لا آب من يراقبنا
…
ونام لا قام سامر الخدم
أجود وأرق وأحلى. ولولا ما تكلم الدكتور طه حسين في هذه الميمية كلامًا وافيًا في كتابة "حديث الأربعاء" لأوردناها هنا وأطلنا التحدث عنها (3).
ومما يظهر روح المنسرح المخنث كما استعمله المولدون أيما إظهار، قول أبي العتاهية يمدح الرشيد (4):
الله بيني وبين مولاتي
…
أبدت لي الصد والملالات
لا تغفر الذنب إن أسأت ولا
…
تقبل عذري ولا مواتاتي
منحتها مهجتي وخالصتي
…
فكان هجرانها مكافاتي
(1) نفسه راجع 5 - 268 وبعده 3 - 133 وبعده.
(2)
نفسه 7 - 218 - 219.
(3)
حديث الأربعاء.
(4)
الأغاني 4 - 58.
أقلقني حبها وصيرني
…
أحدوثة في جميع جاراتي
ثم انتقل من هذا إلى وصف الناقة والمدح، فقال:
ومهمة قد قطعت طامسة
…
قفر على الهول والمحاماة
بحرة جسرة عذافرة
…
خوصاء غيرانة علنداة (1)
تبادر الشمس كلما طلعت
…
بالسير تبغي بذاك مرضاتي
يا ناق خبي بنا ولا تعدي
…
نفسك مما ترين راحات
حتى تناخي بنا إلى ملك
…
توجه الله بالمهابات
عليه تاجان فوق مفرقه
…
تاج جلال وتاج إخبات
يقول للريح كلما عصفت
…
هل لك يا ريح في مباراتي؟
من مثل ابن عم الرسول ومن
…
أخواله أكرم الخئولات
وقد كان أبو العتاهية كما قدمنا رجلا لينا فلا يستغرب مجيء مثل هذا الكلام منه. وقد قدم صاحب الأغاني هذه القطعة من تائيته في وصف الناقة والمدح بقوله: "وقال حين جد". وفي هذه الكلمة القصيرة من النقد النافذ ما فيها.
ومما يدل على أن المنسرح كان من مستخفات البحور لدى الطبقة الأولى من البغداديين أن الخريمي ألف منه قصيدة فيها مائة وخمسة وثلاثون بيتًا يصف بها الفتنة ببغداد أيام الأمين والمأمون. ولولا ما آنسه من استخفاف الناس لهذا البحر ما اجترأ على الإطالة فيه هكذا، وهو بمعرض نظم يريده أن ينفق بينهم ويكثر منشدوه.
وفي إيراد الطبري لكلمته الطويلة هذه على تمامها في كتاب تاريخ الأمم
(1) جسرة: جسور، عذافرة: قوية، خوصاء: تميل ببصرها. غير أنه: كالعير في السرعة والصبر، علنداة: قوية.
والملوك ما يدل على أن ما أراده الخريمي لمنسرحيته من السيرورة قد تأتي (1). ونورد لك منها على سبيل المثال قوله:
الكرخ أسواقها معطلة
…
يسنن عيارها وعائرها (2)
أخرجت الحرب من سواقطها
…
آساد غيل غلبًا تساورها (3)
من البواري تراسها ومن الخو
…
ص إذا استلأمت مغافرها (4)
تعدو إلى الحرب في جواشنها الصوف إذا ما عدت أساورها
كتائب الهرش تحت رايته
…
ساعد طراها مقامرها
لا الرزق تبغي ولا العطاء
…
ولا يحشرها للقاء حاشرها (5)
في كل درب وكل ناحية
…
خطارة يستهل خاطرها
والنهب تعدو به الرجال وقد
…
أبدت خلاخيلها حرائرها
كل رقود الضحا مخبأة
…
لم تعد في أهلها محاجرها
بيضة خدر مكنونة برزت
…
للناس منشورة غدائرها
معصوصبات وسط الأزقة قد
…
أبرزها للعيون ساترها (6)
تعثر في ثوبها وتعجلها
…
كبة خيل زيغت حوافرها
تسأل أين الطريق والهة
…
والنار من خلفها تبادرها
(1) تاريخ الأسم والملوك للطبري 7 ص 52.
(2)
العيار: الشاطر اللص المتصعلك.
(3)
تساورها، الضمير راجع إلى الكرخ - يعني أن الأحداث أخرجت لصوصًا من شطار الكرخ يقطعون الطريق، ويساورون الناس، ويفسدون الأمن كأنما هم أسود غلب.
(4)
البواري: الحصر. يعني هؤلاء العامة يتخذون من الحصر درقاتهم، ومن الخوص خوذاتهم.
(5)
يعني بالرزق هنا رزق الجند - أي هؤلاء العامة ليسوا كجنود السلطان الذين يعملون بنظام ويرزقون على عملهم وإنما هم نهاب وثاب.
(6)
كبة الخيل: جماعتها.
يا هل رأيت الثكلي مولولة
…
في الطرق تسعي والجهد باهرها
في إثر نعش عليه واحدها
…
في صدره طعنة يبادرها
وقد رأيت الفتيان في عرصه المعرك معفورة مناخرها
ولا يخفى أن هذه الكلمة مرثية ونوح على بغداد. ومع أن غرضها جاد، فإن الشاعر قد أوردها على هذا المذهب المنسرحي نزولًا على حكم البيئة، وجريًا مع طبيعة الذوق البغدادي الناعم.
ومن منسرحيات المولدين التي تجري هذا المجري النائح قول مطيع بن إياس يرثي يحي بن زياد:
يأهل بكوا لقلبي القرح
…
وللدموع الهوامل السفح
راحوا بيحيى إلى مغيبة
…
في القبر بين التراب والصفح
راحوا بيحيى ولو تطاوعني الـ
…
ـأقدار لم يبتكر ولم يرح
يا خير من يحسن البكاء له اليوم ومن كان أمس للمدح (1)
وقول الأخرى ترثي زوجها:
أبكيك لا للنعيم والأنس
…
بل للمعالي والرمح والفرس
أبكي على فارس فجعت به
…
أرملني قبل ليلة العرس
يا فارسًا بالعراء مطرحًا
…
خانته قواده مع الحرس
من لليتامى إذا هم سغبوا
…
وكل عان وكل محتبس
أم من لبر من لفائدة
…
أم من لذكر الإله في الغلس (2)
(1) الكامل للمبرد 2 - 307، قوله الصفح: جمع صفيح، وهو الأجر يوضع في القبر - قوله لم يبتكر ولم يرح، هكذا في الأصل، وأظن الرواية "لم تبتكر ولم ترح"، والضمير يعود على الأقدار - ولعله عنى لم يبتكر به الدافنون إلى القبر ولم يروحوا، على البناء للمجهول.
(2)
الغلس: الفجر قبل أن يسفر.
وقول العتبي يرثي صديقًا له (1):
يا خير إخوانه وأعطفهم
…
عليهم راضيًا وغضبانا
أمسيت حزنًا وصار قربك لي
…
بعدًا، وصار اللقاء هجرانا
إنا إلى الله راجعون لقد
…
أصبح حزني عليك ألوانا
وهذه المقاطيع الثلاث من اختيار المبرد، وقد كان من نقدة الكلام. إلا أني أحسبه -في استحسانه هذه الكئمات - كان متأثرًا بروح عصره وذوقه اللين، لأنه ليس فيها -في حد ذاتها- ما هو جيد بالغ في الجودة. بل إن أسلوبها إلى الضعف أدنى، وليست بشيء إذا وازنتها بالكلمات الجياد حقًا مما اختاره هو للمولدين وغيرهم كدالية ابن مناذر (2) في الثقفي، ودالية المهلبي في المتوكل (3)، وعينيتي أوس (4) ومتمم (5).
وقد أخذ أبو تمام بطرف من المنسرح في بعض قصائده، فجاء به على غير وجهه كما في الدالية التي جارى بها الطرماح، التي مر ذكرها، وكما في البائية التي جاري بها بعض مدائح ابن قيس الرقيات في عبد العزيز بن مروان ومطلعها (6):
إن بكاء في الربع من أربه
…
فشايعا مغرمًا على طربه
وفيها يقول محاكيًا للأعراب:
(1) نفسه 2: 309.
(2)
نفسه 2: 288 - 290.
(3)
نفسه 2: 311 - 312.
(4)
نفسه 2: 272.
(5)
نفسه 3: 295 - 296.
(6)
ديوانه 1: 41 - 43.
دع عنك هذا إذا انتقلت إلى المدح وشب سهله بمقتضبه (1)
إني لذو ميسم يلوح على
…
صعود هذا الكلام أو صببه (2)
لست من العيس أو أكلفها
…
سيرًا يداوي المريض من وصبه
إلى المصفى مجدًا أبي الحسن انصعن انصياع الكدري في قربه (3)
وهذا كلام يجفو عن رقة المنسرح كما جفت رائية زهير "دع ذا وعد القول في هرم" عن السريع. وقس كلام أبي تمام هذا إلى جانب كلمة ابن قيس الرقيات التي يقول فيها:
أمك بيضاء من قضاعة في البيت الذي يستظل في طنبه
وتأمل ما في هذا من السلاسة وما عند حبيب من التكلف تجد فرقًا عظيمًا، شبيهًا بما بين كلام زهير والمسيب بن علس في الرائيتين الحذاوين. ولم يأت أبو تمام بما يستحسن في بائبته هذه إلا بقوله:
نرمي بأشباحنا إلى ملك
…
نأخذ من ماله ومن أدبه
وهذا سرقه من قول بشار بمدح نفسه (4):
تلعابة تعكف النساء به
…
يأخذن من جده ومن لعبه
يزدحم الناس كل شارقة
…
ببابه مشرعين في أدبه
(1) المقتضب: عنى به ما ينتقل فيه الشاعر من الفصيد، من النسيب إلى المدح بلا تخلص، والسهل ما يتخلص فيه. هذا فيما يبدو لي- فانظر في شرح التبريزي.
(2)
الميسم: إما العلامة والطابع وإما الجمال- قال عمرو بن كلثوم: «خلطن بميسم حسبا ودينا»
(3)
الانصياع: الإسراع. الكدري: ضرب من القطا. القرب: بالتحريك: هو المسير إلى الماء من مسافة ليلة.
(4)
ديوانه 1: 160 - 4 - 5.
وحوله لممدوحه. ومن الإنصاف له أن نقول: إن كلام بشار لا ماء فيه ولا رونق في بائيته هذه جميعها.
ولقد تحامى البحتري بفطرته وحدسه الصادق بحر المنسرح، فلم يقع فيما وقع فيه أستاذه من الإسفاف. وقد كان في تقصير هذين الشاعرين العظيمين: أبي تمام وأبي عبادة، عن أن يجيدا في هذا البحر أثر خطير عليه، إذ انحدر فيما بعد عن مكانته بين البحور المهايع التي ذللها المولدون الأولون إلى مكانة ثانوية، فصار يتعاطاه أمثال أبي بكر بن العلاف في داليته المشهورة:
يا هر فارقتنا ولم تعد
…
كنت فينا بمنزل الولد
وأبي سعيد الرستمي في بائيته (1):
لهفي على ذلك الجواد وهل
…
يفك رهن المنون نادبه
لو كان غير الممات حاوله
…
لفللت دونه مخالبه
أو كان غير المنون يخطبه
…
زمل أنف أبداه خاطبه
أو حارب الدهر مشفق حدب
…
لقمت في وجهه أحاربه
والأولى في رثاء هر، والثانية في رثاء فرس، وشبيه بهذا العبث والهزل ما جاء به الواساني في لاميته المقذعة التي وصف بها حادث لواط آية في البشاعة (2).
ولم يرفع المنسرح من الوهدة التي قذفه فيها تنكب أبي تمام له [إلا فيما قل] وإعراض البحتري عنه على وجه الإجمال، شاعر بعدهما إلى يومنا هذا -اللهم إلا ما حاوله المتنبي في كلماته (3):
(1) يتيمة الدهر للثعالبي 3: 221.
(2)
نفسه 1: 349.
(3)
ديوانه - 2.
أهلًا بدار سباك أغيدها
…
أبعد ما بان عنك خردها
وكلمته (ص 125):
أبعد نأي المليحة البخل
…
في البعد لا ما تكلف الإبل
وقوله (ص 552):
أوه بديل من قولتي واها
…
لمن نأت والبديل ذكراها
وقوله (ص 84):
أحق عاف بدمعك الهمم
…
أحدث شيء عهدًا بها القدم
وكلها - فيما عدا اللامية - من حسن القول، وقد جاء في بعضها بابداع لا ينكر. ولكن نغمها جميعًا غير جار على طبيعته هو المرة الشديدة، وإنما كان يكره القول عليه بما أوتيه من مقدرة فائقة في الصناعة، وطبع نادر في تصريف أعنة القول.
ولهذا السبب ليس لهذه القصائد جميعًا من الرنين في نفس من يقرأ شعر المتنبي ما لقصائده الفخمات الطنانات أمثال:
بم التعلل لا أهل ولا وطن
وليالي بعد الظاعنين شكول
وطوال قنا تطاعنها قصار
وفديناك من ربع وإن زدتنا كربا
وغير ذلك مما هو مشهور معروف.
وقد تبع المعري أثر المتنبي في بعض درعياته، فلم يسف -كعادته في التجويد ولكنه لم يعد هذا البحر اللين القديم نفس الحياة الذي خمد بعد أيام البحتري.