الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس من له أدنى نظر بالشعر يشك أن هذه الرائية أجود بكثير من رائية أبي نواس، وأصدق لهجة وأصلح للنغم الشجي الذي صيغت فيه. وقد زعموا أن المأمون لما سمع بها غيظ على شاعرها حتى أمر بقتله قتلة شنيعة.
هذا وقد قل النظم في بحر المديد المعتل عند متأخري العباسيين حتى كاد يهجر، وقد جعل بعض المعاصرين يحيونه. ولم أعثر في ذلك على شيء يستحق الاختيار "بمقدار اطلاعي". وقد زعم الأستاذ الهاشمي رحمه الله في ميزان الذهب (36) أن السبب في إقلال الشعراء في هذا الوزن هو ثقله. ولا أنكر أن فيه ثقلا. ولكني لا أراه منع ابن قيس الرقيات وأبا نواس والعكوك وجماعة من تلك الطبقة أن ينظموا فيه. وعندي أن السر في ندرته عند المتأخرين هو أن الفحول أمثال المتنبي وأبي تمام والبحتري والمعري قد تنكبوه في الكثير الغالب وبهم اقتدى من جاء بعدهم.
السريع (2)
السريع مستمد من الرجز، وله أنواع، منها: الثقيل الطويل، وأكثرها دورانًا في الشعر ما يدخل في دائرة البحور التي بين بين.
ويزعم العروضيون أن وزن السريع الأصلي هو:
مستفعلن مستفعلن مفعولات
…
مستفعلن مستفعلن مفعولات
بضم التاء غير ممدودة ولا مشبعة.
وهذا لم يستعمله أحد من الشعراء
ويقول العروضيون -ليبرروا ما افترضوه- إن الوزن الأصلي تعتريه علة اسمها الوقف عند الاستعمال، وهذه العلة تسقط ضمة التاء وتسكنها. ومن المعلوم ضرورة أن آخر البيت إما أن يكون مسكنًا، وإما أن يكون متحركًا، فإن كان
متحركا فلا بد من إشباع الحركة أو مدها. وعلى هذا فعلة الوقف التي زعمها العروضيون مجرد وهم وباطل، لأنه إن لم يكن وقف فلا بد من حركة طويلة لا مجرد ضمه، وإن كانت حركة طويلة فلا يمكن أن يقع في التفعيلة وقف، لأنه لا يصيب إلا المتحرك من الوتد وهو السابع المتحرك ههنا.
والوزن العمدة من السريع:
مستفعلن مستفعلن فاعلن
…
مستفعلن مستفعلن فاعلن
ومثاله من العبث:
مستفسر مستخدم خادم
…
مستخبر مستدرج صائم
ومستفعلن كثيرًا ما تصير "متفعلن، أو مفتعلن"، وبهذا يكون الوزن أكثر حرية، ومثاله:
مجتهد منبعث قائم
…
مستقتل مجتهد نائم
قارورة مصنوعة تن ترن
…
من فضة جيدة تن ترن
مسافر في دارنا درنا
…
مذاكر للدرس يا صاحبي
قد طار قط أيها المرء لا
…
يزعجك ذكر القط في وزننا
مستفعل مستفعل فاعلن
…
فالقط للفار ترن عاشق
يعشقه يعشقه تن ترن
…
يأكله يأكله يأكل
علقم يا علقم يا علقم
…
إنا هجوناك فهل تعلم
مفتعلن تن تن ترن تاتري
…
تن تن تتن مفتعلن تاتري
ومثله من الشعر قول الأعشى:
علقم ما أنت إلى عامر
…
الناقض الأوتار والواتر
سدت بني الأحوص لم تعدهم
…
وعامر ساد بني عامر
هذا هو الوزن العمدة، وسنشير إليه فيما بعد باسم الوزن الثاني، لأن هذا ترتيبه في جداول العروضيين. وعنه يتفرق وزنان أحدهما بزيادة وهو الأول، والآخر بنقصان وهو الثالث.
ويجيء الوزن الثالث من الوزن العمدة (الثاني) بحذف آخر سكون في التفعيلة السادسة وتسكين آخر متحرك هكذا:
مستفعلن مستفعلن فاعلن
…
مستفعلن مستفعلن فاعل
علقم ما أنت إلى عامر
…
الناقض الأوتار والواتر
وفي بيت التصريع يصير الوزن هكذا:
علقم ما أنت إلى عامر
…
الناقض الأوتار والواتر
يا فوز يا منية عباس
…
واحربا من قلبك القاسي
هذا غلام حسن وجهه
…
مستقبل الخير بلا شك
أنت امرؤ مستفعلن فاعلن
…
أبوك منسوب إلى الترك
تن تن ترن مستفعلن تركي
…
تم تم تتم مستفعلن تركي
إن كنت لا ترضى بذا نسبة
…
إذن نسباك إلى الشرك
هل أنت من أوزاننا ضاحك
…
بل أنت من أوزاننا تبكي
في يوم صفين بكى قبلنا
…
جند علي من قناعك
الحزم والقوة خير من الـ
…
إدهان والهاعة والفك
الحزم والقوة خير من الـ
…
إدهان والفكة والهاع
والوزنان الثاني والثالث من البحور التي بين بين.
والوزن الأول يحدث بزيادة شبه مقطع على الوزن الثاني العمدة هكذا:
مستفعلن مستفعلن فاعلن
…
مستفعلن مستفعلن فاعلن ن
مستفعلن مفتعلن فاعلن
…
مستفعلن مفتعلن فاعلن ن
يا صاحبي يا صاحبي عندنا
…
مستفعلن مستفعلن فاعلان
يا صاحبي مستفعل عندنا
…
يا سيدي عن عندنا عندنان
جارية طيبة حلوة
…
أحبها أحببتها حبان
إن الثمانين وبلغتها
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وفي التصريع يصير صدره مثل عجزه كقول عوف بن محلم:
يابن الذي دان له المشرقان
…
وألبس الأمن به المغربان (1)
وسنبدأ بالحديث عن هذا الوزن الأول لطوله وثقل وزنه، ثم نتبع ذلك بالحديث عن أخويه:
هذا الوزن الأول من الأبحر المتحاماة، لأن آخر أجزائه ثقيل جدًا، ودندنته أشبه شيء بدندنة القدح من القرع تضربه مكفأ على الماء، ولذلك فالناظم فيه يحتاج إلى البطء والتأني، وقد يوقعه هذا في التكلف والتقعر إن لم يلائم بين أغراضه ونغماته. ولعل هذا الوزن في أولياته عدل به عن الرجز ليناسب الحداء بالإبل المحملة وهي تهبع بأعناقها في الصحاري الأماريت. ألا ترى أنهم قد استعملوه مشطورًا في مثل قولهم (2):
لما رأتنا واقفي المطيات
…
قامت تبدي ل بأصلتيات
ومثل قولهم:
إن عليا قتل ابن عفان
…
ردوا علينا شيخنا كما كان
(1) معجم الأدباء: 16 - 143 - 144.
(2)
الشعر والشعراء 1 - 277.
فكأنهم استخفوا الرجز في الحداء، ثم في الأغراض التي تشبهه وأرادوا أن يقرنوه بأخ له أثقل وأرزن حركة منه، فكان ذلك مشطور السريع (وقد سبق أن تكلمنا عنه في باب المنسرح القصير)، ثم غيروا وبدلوا في هذا المشطور ليلائموا به القصير فجاء منه السريع الأول، وجاء يحمل من طابع الثقل قريبًا مما يحمله المشطور خذ كلمة عوف بن محلم الشيباني:
يا بن الذي دان له المشرقان
…
وألبس الأمن به المغربان
إن الثمانين وبلغتها
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وأبدلتني بالشطاط الحنا
…
وكنت كالصعده تحت السنان
وقاربت منى خطا لم تكن
…
مقاربات وثنت من عنان
وجعلت بيني وبين الورى
…
عنانة من غير نسج العنان
ولم تدع في لمستمتع
…
إلا لساني وبحسبي لسان
أدعو به الله وأثني به
…
على الأمير المصعبي الهجان
فقرباني بأبي أنتما
…
من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة
…
أوطانها حران والرقتان
سقي قصور الشاذياخ الحيا
…
من بعد عهدي وقصور الميان
فكم وكم لي عندها دعوة
…
أن تتخطاها صروف الزمان
ألا تحس أن حركة الوزن في هذه الأبيات تمثل شيخًا هرمًا همًا باليًا يهدج في مشيته، ويشتكي من أحوال الزمان، وهب عوف بن محلم جاء بهذه الأبيات في المتقارب لا السريع، ونظمها على طراز قول الأعشى:
فان الحوادث ضعضعنني
…
وإن الذي تعلمين استعيرا
إذا كان هادي الفتى في البلا
…
د صدر القناة أطاع الأميرا
وخاف العثار إذا ما مشى
…
وخال السهولة وعثًا وعورا
ألا ترى أنا كنا نفقد ما في قصيدته من التمثيل الصادق لحال شيبه وتداعيه، ثم عسى ألا نظفر بعد ذلك بشيء شبيه بما يفعله بنا متقارب الأعشى من إثارة الطرب ولم نلجأ إلى الفروض وعندنا في رسالة الغفران كلمة رائية من بحر البسيط أنشدها المعري على لسان جني يدعى هدرش مطلعها:
سبحان من حط أوزاري ومزقها
…
عنى فأصبح ذنبي اليوم مغفورا
وكنت آلف من أتراب قرطبة
…
خودًا وبالصين أخرى بنت يغبورا
أزور هذي وهذي غير مكترث
…
في ليلة قبل أن استوضح النورا
وهي كلمة طريفة إلا أنها فيما يتراءى لي لم ترق في نظر أبي العلاء ولم تؤد المعنى الذي كان أراده من تصوير هرم الجني أبي هدرش وصوته المتكسر العفري ووحشته وتأبده بين أدحال (1) الجنة وغماليلها (2)، وخلقه المخالف لخلق الأنيس. لذلك -فيما يبدو لي- أتبعها المعري سينية طويلة من السريع الأول يحمل نغمها كل هذه المعاني. ويفصح بها أيما إفصاح، وذلك قوله:
مكة أقوت من بني الدردبيس
…
فما لجني بها من حسيس
وقد ذكرنا للقارئ طرفًا من هذه الكلمة في معرض حديثنا عن قافية السين؛ هذا ومن حقق النظر في بحر السريع الأول وجد الجياد فيه كلها من قبيل ما ذكرنا من اصطناع التأني والريث، ووجد حركته البطيئة تمثل جانبًا مهمًا من جوانب المعنى المقصود، خذ قصيدة عدي بن زيد الصيادية في القصص (3):
قل لخليلي عبد هند فلا
…
زلت قريبًا من سواد الخصوص
(1) أدحال جمع دحل: وهو حفرة غامضة.
(2)
غماليلها: أماكنها المستورة.
(3)
أسلفنا في باب الكلام عن قافية الصاد أن شك في نسبة هذه القصيدة - رسالة الغفران 71.
مجاور الفورة أو دونها
…
غير بعيد عن غمير اللصوص (1)
تجنى لك الكمأة ربعية
…
بالخب تندى في أصول القصيص (2)
تقنصك الخيل وتصطادك الطير ولا تنكع لهو القنيص (3)
إلخ .. إلخ
تجدها توضح لك جانبًا مما ذكرناه من بطء السريع الأول. هذه القصيدة معظمها في وصف الصيد والقنص. ولكن عديًا كان في سجن النعمان حينما بعث بها إلى صديقه عبد هند، يعاتبه على إهماله له ويذكره بأيام الوداد التي خلت. ونغمها يحمل إليك وأنت تقرؤها صورة السجين وهو في حال بائسة من رسفان في القيد، وصبر على الأذى، وتعلل بالذكريات السحيقة مع بصيص من الأمل في النجاة، صورة أنسب شيء لها النغم البطيء الثقيل.
وانظر في سينية حبيب التي ذكرنا لك منها طرفًا في باب الكلام عن قافية السين (4)
جرت له أسماء حبل الشموس
…
والهجر والوصل نعيم وبوس
(وهي في وصف الخيل) تجدها لا تعطيك صورة حصان منطلق محضر، ولكن صورة طرف بارع يناقل ويدور ليريك كل محاسن جسده أو جلها، وهذه حركة بطيئة بلا ريب. خذ قوله مثلًا (5):
(1) سواد الخصوص: موضع.
(2)
الفورة وغمير اللصوص: موضعان.
(3)
ربعية: في الربيع، الخب: الوادي، القصيص: الشجر.
(4)
تنكع: تمنع.
(5)
ديوانه 133 - 134.
سام إذا استعرضته زانه
…
أعلى رطيب وقرار يبيس
وإن غدا يرتجل المشي فالموكب في إحسانه والخميس
كأنما خامره أولق
…
أو غازلت هامته الخندريس
عوذه الحاسد بخلا به
…
ورفرفت خوفًا عليه النفوس
وتأمل مجمهرة المهلهل:
حلت ركاب البغي من وائل
…
في رهط جساس ثقال الوسوق
تجد فيها مزيجًا من الأسى والتحرق يصحب ذلك خطاب متمهل له رنة كرنة الطبول وهي تدوي من بعيد. وخذ قول البحترى (1):
بات نديمًا لي حتى الصباح
…
أغيد مجدول مكان الوشاح
كأنما يبسم عن لؤلؤ
…
منظم أو برد أو أقاح
ألا تجد فيه ما نزعمه من غلبة الرزانة والتمهل على هذا الوزن؟ أم لا تحس بأن الشاعر هنا كأنه يجتر لذة ليلته الماضية كما تجتر البقر علفًا أكلته منذ ساعات؟
وبطء السريع الأول هذا يوشك أن يجعله من قبيل النثر لولا انتظام وزنه والشبه بينه وبين الأسجاع المطولة قريب جدًا. وبحسبك أن توازن بينه وبين أسجاع الكهان نحو قول سطيح: "عبد المسيح، على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح" ونحو قول شق: "أقسم برب الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش" لترى مصداق ذلك.
وقرب السريع من السجع نزل به عن مرتبة الأوزان القصار من حيث
(1) ديوانه 1 - 112 - 113.
الإطراب وعن مرتبة الطوال من حيث جلال النغم. ولذلك فإن الناظمين فيه مما يستعينون بالقوافي الوئاد الثقال من قوافي المترادف ليضيفوا عليه ثوبًا من الأبهة.
والسريع الثاني كما في قول الوليد بن يزيد:
نشربها صرفًا وممزوجة
…
بالسخن أحيانًا وبالفاتر
والسريع الثالث كما في قول العباس بن الأحنف:
يا فوز يا منية عباس
…
واحربا من قلبك القاسي
كلاهما دون السريع الأول في الجلال، وكأنما هما سجع صرف، لولا شدة انتظام التفعيلات والقوافي. ولذلك فالمجودون من الشعراء أمثال النابغة وزهير وطفيل الغنوي وعامر بن الطفيل ولبيد بن ربيعة قد تحاشوهما حتى كادت دواوينهم تخلو منهما كل الخلو. وكأن زهيرًا والنابغة (1) احتقرا هذين الوزنين، إذ ليس منهما في ديوانيهما شيء
…
وقد جاء امرؤ القيس بالسريع الثاني في كلمته:
يا دار ماوية بالحائل
…
فالسهب فالخبتين من عاقل
صم صداها وعفا رسمها
…
واستعجمت عن منطق السائل
قولا لدودان عبيد العصا
…
ما غركم بالأسد الباسل (2)
وهذا كأنه خطبة مسجوعة، لولا ما يلابسه من ذكر الأطلال والوزن والقافية. ولطرفة حائية (3) مي أيضًا من قبيل الخطب، وذلك قوله:
أسلمني قومي ولم يغضبوا
…
لسوءة حلت بهم فادحه
(1) ليس في ديوانه من السريع إلا "هذا غلام حسن وجهه"، وإنما ارتجلها.
(2)
مختارات الشعر الجاهلي 72.
(3)
نفسه 183.
كل خليل كنت خاللته
…
لا ترك الله له واضحه (1)
كلهم أروغ من ثعلب
…
ما أشبه الليلة البارحة!
ومن هذا القرى كلمة الحرث اليشكري في المفضليات:
قلت لعمرو حين نبهته
…
وقد حبا من دوننا عالج
لا تكسع الشول بأغبارها
…
إنك لا تدري من الناتج (2)
واحلب لأضيافك ألبانها
…
فإن شر اللبن الوالج (3)
بينا الفتى يسعى ويُسعى له
…
تاح له من أمره خالج (4)
يترك ما رقح من عيشه
…
يعيث فيه همج هامج (5)
وكلمة ابن الأسلت المفضلية:
قالت ولم تقصد لقيل الخنى
…
مهلا فقد أبلغت أسماعي
أنكرته حين توسمته
…
والحرب غول ذات أوجاع
من يذق الحرب يجد طعمها
…
مرًا وتحبسه بجعجاع
(1) الواضحة: السن، ويشير في هذا البيت إلى أن أصدقاءه كانوا يبسمون له وفي صدورهم سوى ما يظهرونه من بشر.
(2)
الشول: الإبل. وكسعها: وضع الماء البارد على ضروعها ليرتفع اللبن، يفعل المرء ذلك بخلا باللبن. والأغبار: بقايا اللبن في الضروع. والناتج هو الذي ينتج الدابة ويأخذ جنينها فيصير له مالا -يعني إنك لا تدري أأنت ناتجها أم يكون ناتجها رجل غيرك.
(3)
الوالج: المكسوع.
(4)
خالج: عائق.
(5)
رقح: أصلح.
عدل به إلى النظم وزينه بنغمة فيها تكفؤ ورتابة. وأزيدك إيضاحًا، خذ قول الأعشى (1):
شاقتك من قتلة أطلالها
…
بالشط فالوتر إلى حاجر
فهي قصيدة نظمت في المنافرة التي كانت بين علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل، وموضوعها من مواضيع الخطب والأسجاع. وقد راعى الأعشى فيها أن يكون خطيبًا أكثر منه شاعرًا في أغلب أبياتها، غير أنه في بعضها غلبت عليه نزعة الشعر وأسلوب الشعراء، فوضع فيها من الكلام ما لا يناسب البحر الذي سلكه خذ قوله في النسيب:
عهدي بها في الحي قد سربلت
…
هيفاء مثل المهرة الضامر
قد نهد الثدب على صدرها
…
في مشرق ذي صبح نائر (2)
لو أسندت ميتًا إلى نحرها
…
عاش ولم ينقل إلى قابر
فهذا وإن كان غرضًا من أغراض الشعر القديمة تجد الشاعر قد تعمد فيه إلى اليسر والسهولة النثرية. وكذلك قوله في تفضيل عامر:
علقم لا، لست إلى عامر
…
الناقض الأوتار والواتر
سدت بني الأحوص لم تعدهم
…
وعامر ساد بني عامر
ساد وألفى قومه سادة
…
وكابرًا سادوك عن كابر
حكمتموني فقضى بينكم
…
أبلج مثل القمر الزاهر
لا يأخذ الرشوة في حكمه
…
ولا يبالي غبن الخاسر
يا عجب الدهر متى سويا
…
كم ضاحك من ذا وكم ساخر
(1) ديوانه 104.
(2)
الصبح: إشراق الحلى.
فاقن حياء أنت ضيعته
…
مالك بعد الشيب من عاذر
ولست بالأكثر منهم حصى
…
وإنما العرة للكاثر (1)
أقول لما جاءني فخره
…
سبحان من علقمة الفاخر (2)
فهذا كنثر الخطابة سواء بسواء لولا ما قدمته من انتظام الوزن وتواتر القافية. ولكن انظر في بيتي الأعشى هذين:
ما يجعل الجد الظنون الذي
…
جنب صوب اللجب الزاخر (3)
مثل الفراتي إذا ما طما
…
يقذف بالبوصي والماهر (4)
ألا ترى مكانهما نابيصا من القصيدة (وموضعهما فيها بعد قوله ساد وألفى البيت)؟ وهل ذلك إلا لأن الشاعر سلك فيهما سبيل التصوير الشعري فتكلف وتعمل واضطر إلى التضمين في قصيدة يكاد كل سطر منها يستقل بنفسه؟ ولا يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أني أعيب التضمين على هذا الشاعر من حيث هو تضمين، فما إلى ذلك أردت، وإنما أعيب عليه أنه ترك ما يتطلبه بحره هذا من جعل الكلام أسجاعًا أسجاعًا، كل سجعة منها كالمستقلة لا تحتاج إلى غيرها لأنها من قبيل التكرار لما سبقها من صور وآراء. والخروج من هذه القاعدة إلى تتبع صورة كاملة والتعمق فيها لا يناسب هذا البحر البتة. وإنما زل الأعشى في هذين البيتين وفي أبيات سواها كقوله:
عبهرة الخلق بلاخية
…
تشوبه بالخلق الطاهر (5)
(1) استشهد به النحويون على شذوذ تحلية اسم التفضيل بأل.
(2)
استشهدوا به على مجيء "سبحان" منقطعة عن الإضافة. وقال الأخفش الأكبر: معناها "تبرؤا".
(3)
الجد الظنون: البئر القليلة الماء البعيدة عن العيون الثرة.
(4)
البوصي: السفينة. والماهر: الملاح.
(5)
عبهرة الخلق: بادنة، وبلاخية: طويلة لينة.
لأن هذه المعاني تكررت في شعره ودرب عليها فلا يستطيع منها خروجًا، ولا سيما وصف الفرات وموجه وبوصيه، فقد أكثر منه جدًا.
وأزعم من هذه الأمثلة التي قدمتها ومن كثير غيرها أن بحري السريع الثاني والثالث لا يصلح فيهما الكلام إلا إذا جاء قطعًا صغارًا قصارًا متشابهة المعنى لا تعمق فيها -وهذا يجعله من أوزان الشعر الدنيا كما أسلفت، ويجور به عن سنن التعالي والسمو المحض الذي هو غاية الشعر الرفيع. ولقرب السريع الثاني والثالث من الأسجاع تجد النظم فيه سهلا يسيرًا. ولعله أن يكون أيسر من النظم في مثل بحر:
صمم صمم صمم صمم
…
عمى عمى عمى عمى
لأن الكلمات التي يوازن جرسها جرس "ترن ترن" منتظمًا هكذا لا تعطيك طواعية الكلمات التي يلائم جرسها جرس "تن تن ترن تن تن ترن تن ترن" مثل: "أنظر إلى البحر وأمواجه". "ما أجمل الدار وسكانها"، "هذا غلام حسن وجهه"، "قد ملأ البدر المنير الربا"، "دجاجنا في قفص جيد"، "حمارنا أسرع من قاطرة"، "إن عادت العقرب عدنا لها" وهكذا. ومن أجل يسره وسهولته هذه مستخفه شعراء الغزل الحجازيون أمثال ابن أبي ربيعة والعرجي. وأكثر ما نظموه فيه من قبيل "المشاغبات" و"المشاغلات" الغزلية، كما يقول فتيان اليوم، نحو قول عمر:
من عاشق صب يسر الهوى
…
قد شفه الوجد إلى كلثم
رأتك عيني فدعاني الهوى
…
إليك للحين ولم أعلم
قتلتنا يا حبذا أنتم
…
من غير ما جرم ولا مأثم
والله قد أنزل في وحيه
…
مبينًا في آيه المحكم
من يقتل النفس كذا ظالما
…
ولم يقدها نفسه يظلم
وأنت ثأري فتلافي دمي
…
ثم اجعليه نعمة تنعمي
وحكمي عدلا يكن بيننا
…
أو أنت فيما بيننا فاحكمي
وجالسيني مجلسًا واحدًا
…
من غير ما عار ولا مأثم
وخبريني ما الذي عندكم
…
بالله في قتل امري مسلم (1)
فهذه "مشاغبة" لامراء ولهذه الأبيات قصدة طريفة ذكرها صاحب الأغاني (2). وأكثر كلام ابن أبي ربيعة من قبيل هذا العبث، ولذلك كان هذا البحر من أطوع البحور له، وأشدها ملاءمة لأغراضه ومعانيه. وقد نفق عند معاصريه وطبقات المتحضرين التي تلتهم حتى صار إلى حوالي نهاية القرن الثالث من الأوزان الشائعة المألوفة. وسأورد عليك منه أمثلة من شعر المائة الأولى، ثم أتبعها بأمثلة من شعر القرنين اللذين تلواها. خذ قول العرجي، وهو من جيل ابن أبي ربيعة (3):
عوجي علينا ربة الهودج
…
إنك إن لا تفعلي تحرجي
إني أتيحت لي يمانية
…
احدى بني الحرث من مذحج
نلبث حولا كاملا كله
…
لا نلتقي إلا على منهج
في الحج إن حجت وماذا منى
…
وأهله إن هي لم تحجج
وقد قلد هذه الأبيات أبو نواس في كلمته (4):
وعاشقين التف خداهما
…
عند التثام الحجر الأسود
نفعل في المسجد ما لم يكن
…
يفعله الأبرار في المسجد
(1) الأغاني 10 - 205 - في الأصل "في آية المحكم" وهو وهم، وصوابه من طبعه بولاق.
(2)
نفسه، راجع 1 - 204 - 207.
(3)
نفسه 1 - 406 - 77.
(4)
حديث الأربعاء.
وتأمل قول وضاح اليمن وهو أموي (1):
قالت ألا تلجن دارنا
…
إن أبانا رجل غائر
قلت فإني طالب غرة
…
منه وسيفي صارم باتر
قالت فإن القصر من دونه
…
قلت فإني فوقه ظاهر
قالت فإن البحر من دوننا
…
قلت فإني سابح ماهر
قالت فحولي إخوة سبعة
…
قلت فإني غالب قاهر
قالت فليث رابض بيننا
…
قلت فإني أسد عاقر
قالت فإن الله من فوقنا
…
قلت فربي راحم غافر
قالت لقد أعييتنا حجة
…
فأت إذا ما هجع السامر
فاسقط علينا كسقوط الندى
…
ليلة لا ناه ولا زاجر
ولم يشع السريع بين الحجازيين المرققين فحسب، بل تجاوزهم إلى متحضرة الشام كما نجد في شعر الوليد بن يزيد وهو القائل (2):
ليت هشاما عاش حتى يرى
…
مكياله الأوفر قد أترعا
كلنا له الصاع التي كالها
…
فما ظلمناه بها أصوعا
(1) الأغاني 216: 6 - زعم الدكتور طه حسين في كتابه حديث الأربعاء أن هذه الكلمة عباسية أسلوبها بغدادي حضري. وكأن الدكتور طه حسين يشك في نسبتها إلى العصر الأموي. وفي هذا الشك نظر، فإن كان الدكتور قد ذهب إلى عباسيتها لما يجده من لين لفظها فنحو من ذلك موجود في شعر ابن أبي ربيعة وأضرابه، وإن كان رابه ما رآه من حوارها الحضري، فمثل ذلك لا يخلو منه الشعر الأموي. ثم إن في متن هذه الرائية على وجه الإجمال -أشياء يستبعد الناقد أن تصدر من شاعر عباسي مرقق نحو قوله:"ألا لا تلجن دارنا" وقوله: "قالت فليث رابض بيننا" وقوله: "ليلة لاناه ولا زاجر" فهذا النهج قل أن يجيء في الكلام البغدادي الرقيق. تأمل الإيجاز والبتر في كل ما جاء به من مقول القول، وتأمل رفع "زاجر" بعد "الناهي" على المحل. ولا تقل إن "الناهي" على المحل. ولا تقل إن "الناهي" مرفوعة، فالأغلب الخفض في مثل هذا. قال جرير: [حين
لا حين - سيبويه 1 - 358] وأرجح أن لو لم تكن هذه الأبيات قديمة لكان احترب في انتحالها المولدون أمثال أبي نواس وبشار (راجع حديث الأربعاء 234: 1).
(2)
الأغاني 18: 7.
والقائل (1):
يأيها السائل عن ديننا
…
نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفًا وممزوجة
…
بالسخن أحيانًا وبالفاتر
وإلى متحضرة العراق مثل أعشى همدان، وقد كان لين الكلام حتى إن بعض النحاة "يقال إنه قطرب" جسر على أن ينسب إليه (2):
من دعا لي غزيلي
…
أربح الله تجارته
وقد جاء السريع بأنواعه في شعره، ومن أمثلة نظمه في السريع يعاتب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث (3):
مالك لا تعطي وأنت امرؤ
…
مثر من الطارف والتالد
تجني سجستان وما حولها
…
متكئًا في عيشك الراغد
لا ترهب الدهر وأيامه
…
وتجرد الأرض مع الجارد
إن يك مكروه تهجنا له
…
وأنت في المعروف كالراقد
ثم ترى أنا سنرضى بذا
…
كلا ورب الراكع الساجد
وحرمة البيت وأستاره
…
وما به من ناسك عابد
ما أنا إن هاجك من بعدها
…
هيج بآتيك ولا كابد
ولا إذا ناطوك في حلقة
…
بحامل عنك ولا ناقد
فأعط ما أعطيته طيبًا
…
لا خير في المنكود والناكد
(1) نفسه 7 - 4.
(2)
نفسه 6 - 56.
(3)
ديوان الأعشى (جاير) 324 - 326، وانظر الأغاني 6 - 47 - 49.
وهذا الكلام لا يخفى لينه، وما فيه من الذهاب بالشعر مذهب الخطب النثرية مثلما ذكرنا آنفًا عن رائية الأعشى.
والسريع الثاني والثالث كثيران عند السيد الحميري من المولدين، بحسب ما نجد مما وصلنا من نتفه، كقوله في أهل البصرة وقد خرجوا يستسقون (1):
اهبك إلى الأرض فخذ جلمدًا
…
ثم ارمهم يا مزن بالجلمد
لا تسقهم من سبل قطرة
…
فإنهم حرب بني أحمد
وكقوله يهنيء العباسيين بالخلافة (2):
دونكموها يا بني هاشم
…
فجددوا من مجدها الدارسا
دونكموها فالبسوا تاجها
…
لا تعدموا منكم له لابسا
قد ساسها من قبلكم ساسة
…
لم يتركوا رطبا ولا يابسا
وكقوله في علي (3):
أقسم بالله وآلائه
…
والمرء عما قال مسئول
إن علي بن أبي طالب
…
على التقى والبر مجبول
(وهذا من السريع الثالث)، وكقوله (4):
فالناس يوم الحشر راياتهم
…
خمس فمنها هالك أربع
قائدها العجل وفرعونهم
…
وسامري الأمة المفظع
(1) الأغاني 7 - 250.
(2)
نفسه 7 - 240.
(3)
نفسه 7 - 247.
(4)
نفسه 7 - 252.
ومارق من دينه مخرج
…
أسود عبد لكع أوكع
وراية قائدها وجهه
…
كأنه الشمس إذا تطلع
ولا يخفى على القارئ المذهب النثري في هذا الكلام.
وفي شعر أبي نواس والعباس بن الأحنف من السريعيات عدد وافر. وقد استعمله أبو تمام في كلامه الفخم اتباع للطبقة التي سبقته، فجاء به نابيا جدًا. من ذلك كلمته (1):
ها إن هذا موقف الجازع
…
أقوى وسؤر الزمن الفاجع
فهي كلمة في الاستعطاف، وغرضه يصلح لأن يجاء به على مذهب الخطابة النثرية وهذا لم يغب عن أبي تمام، فقد عمد إليه في مثل قوله:
إن حويا حاجتي فاقضها
…
ورد جأش المشفق الجازع
فتى يمان كاليماني الذي
…
يعرم حداه على الوازع
في حلية النابي وفي جفنه
…
وفي مضاء الصارم القاطع
أدل بالقفر وأهواله
…
من الدعيميص ومن رافع
ولكن مذهب أبي تمام على العموم مذهب تأن واستعارة وتجنيس، وبحر السريع لا يصلح لشيء من هذا. وأنت تجده غير ملائم لمثل قوله:
تجاوز الخفض وأفياءه
…
إلى السرى والسفر الشاسع
أخفق واستقدم في همة
…
وغادر الرتعة للراتع
إن أنت لم تنهض به صاعدًا
…
في مستراد الزاهر اليانع
حتى يرى معتدلا أمره
…
بعد التقاء الأمل الطالع
(1) ديوانه 148 - 150 - قوله في حيلة النابي، لأن السيف النابي يحلى حلية حسنة ليخفي ذلك سوء جوهره.
أكدى الذين يعتده عدة
…
وضاع من يرجوه للضائع
ومثل قوله:
يكره صدر الرمح أو ينثني
…
وقد تروى من دم ماتع
بطعنة خرقاء قد ضيعت
…
حزامة المستلئم الدارع
وما أرى استعمال أبي تمام للسريع وأشياء غيره من بحور الشعر التي لا تلائم نفسه ونبل أغراضه ومنهجه في النظم إلا اعتسافا منه أو شيئًا من قبيل ما يسميه الإنجليز نقلا عن الفرنسية "تور دي فورس"، فقد كان الرجل حريصا على أن يروض كل البحور وكل القوافي.
وكلا الشاعرين "البحتري والمتنبي" كان أحكم منه إذ تنكب هذا البحر. واستعمله المعري فلم يوفق إلا في سينيته التي ذكرناها وهي من النوع الأول من السريع وهو ثقيل مباين للضربين الثاني والثالث. وقد ركبه في داليته (1):
أحسن بالواجد من وجده
…
صبر بعيد النار في زنده
وهي كلمة أفلتت من اللزوميات فجاء مكانها من سقط الزند قلقا.
هذا وكأن إعراض البحتري والمتنبي عن السريع ألقى على سوقه التي كانت رائجة ظللا من الكساد. ولم يجده إكثار ابن الرومي منه، فقد كان الرجل على فضله جهم الديباجة فاتر النفس.
وابتعث السريع بأخرة جماعة من المعاصرين. ولعل السبب في هذا سهولة النظم فيه وغلبة الترقيق على الأساليب الحديثة. ولكني أرجح أنه لن يزحزح الرمل عن مكان الصدارة من قلوب المعاصرين (2).
(1) شرح التنوير 2 - 3.
(2)
قد تجاوز الناس السريع الآن إلى مذاهب الشعر الحر فاعلم.