الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيها ما يصلح له الوافر من انفعال وخطابة. وقد وفق فيها حافظ رحمه الله إلى لفظ سلس وأداء مستقيم.
وبحسبنا هذا القدر عن بحر الوافر.
الطويل والبسيط:
هذان البحران في الشعر العربي بمنزلة السداسي عند اليونان، والمرسل عند الإنجليز، والمزدوج عند فرنجة القرن الثامن عشر. والبسيط منهما يحل المكان المتقدم في شعر العامة باسم «الكان وكان» أو «الدوبيت» علاوة على أنه مقدم مرموق المكان بين أشعار الفصحاء (1).
أما الطويل، فوزنه من المتقارب كله. وأقرب وسيلة إلى معرفة رنته أن تأتي بتفعيلة من المتقارب التام. ثم بتفعيلة من الهزج، وتكرّر ذلك أربع مرات على التوالي. وهاك أمثلة توضح ذلك: تفعيلة المتقارب هي «فعولن» وتعادلها كلما «دجاج» ، وتفعيلة الهزج هي مفاعلين، وتعادلها كلمة «دجاجات» ، فتفعيلات الطويل هي إذن:
دجاج دجاجات دجاج دجاجات
…
دجاج دجاجات دجاج دجاجات
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
…
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلين
فعولن فعولفعو، فعولن فعولفعو
…
فعولن فعولفعو، فعولن فعولفعو
فهو كما ترى من المتقارب. ولا يجيء تامًا على هذه الصيغة في الكلام المنظوم، فالشعراء أحكم من أن يأتوا به رتيبًا هكذا، ولكنهم يجرون فيه أنواعًا من التغيير والتنويع. وقد حصر العروضيون هذه التغييرات في ثلاثة أنواع سموها الطويل
(1) في السودان يسمون الكان وكان بالدوبيت.
الأول والطويل الثاني والطويل الثالث، ثم كل واحدٍ من هذه الأنواع تدخله ضروب من التنويع.
وخذ مثالنا الأول الذي بدأنا به، وهو:
(دجاج دجاجات دجاج دجاجات) ×2
هذا أكمل أوزان الطويل ولا يجيء إلا في الأبيات المصرعة من الطويل الأول كما في قوله الشاعر (امرئ القيس):
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان
…
ورسمٍ عفت آياته منذ أزمان
وأكثر ما يجيء الطويل الأول على هذا الوزن:
دجاج دجاجات دجاج دجاجة
…
دجاج دجاجات دجاج دجاجات
كلاب كثيرات كلاب كثيرة
…
كلاب كثيرات كلاب كثيرات
أسود وأفيال أسود وأنمر
…
أسود وأفيال أسود وأفيال
ومثاله من الشعر «للمعري» :
فيا وطني إن فاتني بك سابق
…
من الدهر فلينعم لساكنك البال
وإن أستطع في الحر آتك زائرًا
…
وهيهات لي يوم القيامة أشغال
تمنيت أن الخمر حلت لنشوةٍ
…
تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
مقلٌ من الأهلين يسرٍ وأسرةٍ
…
كفى حزنًا بينٌ مشتٌ وإقلال
والطويل الثاني وزنه:
دجاج دجاجات دجاج دجاجة
…
دجاج دجاجات دجاج دجاجتو
عجاج عجاجات عجاج عجاجة
…
عجاج عجاجات عجاج عجاجتو
ديار ديارات ديار مفاعلن
…
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
ومثله من الشعر «للمتنبي» :
عواذل ذات الخال في حواسد
…
وإن ضجيع الخود مني لماجد
يرد يدًا عن ثوبها وهو قادر
…
ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
متى يشتفي من لاعج الشوق في الحشى
…
محب لها في قربه متباعد
مررت على دار الحبيب فحمحمت
…
جوادي وهل تشجو الجياد المعاهد
والطويل الثالث وزنه في حال التصريع:
دجاج دجاجات دجاج دجاج
…
دجاجن دجاجات دجاج دجاج
ديار ديارات ديار ديار
…
ديار ديارات ديار ديار
كلاب كلابات كلاب كلاب
…
كلاب كلابات كلاب كلاب
ومثاله من الشعر قول أبي فراس (1):
أكل خليلٍ أنكدٌ غير منصف
…
وكل زمانٍ بالكرام بخيل
نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوة
…
أجاب إليها عالم وجهول
وفارق عمرو بن الزبير شقيقه
…
وخلى أمير المؤمنين عقيل
فيا حسرتي من لي بخل موافقٍ
…
أقول بشجوي مرةً ويقول
مما تقدم ترى أن وزن الطويل يدور كله على «فعولن مفاعيلن» فوزنه الأول:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
…
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
والثاني:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
…
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
(1) يتيمة الدهر 1: 63.
ووزنه الثالث:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
…
فعولن مفاعيلن فعول فعولن
والتصريع يجعل صدر الوزن الأول في طول عجزه كما في:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ وعرفان
وقوله:
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي
…
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
والوزن الثاني لا يؤثر فيه التصريع، فصدره أبدًا مساوٍ لعجزه، قال أبو الطيب في مطلع قصيدة من الوزن الثاني وصرّع.
عواذل ذات الخال في حواسد
…
وإن ضجيع الخود مني لماجد
وقال منها ولم يصرع:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
…
مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد
فواضح أن التصريع لم يؤثر في الوزن كما ترى.
والطويل الثالث يقصر صدره ويصير مثل عجزه كالأمثلة التي قدمناها لك منه وكقول أبي فراس:
مصابي جليل والعزاء جميل
…
وظني بأن الله سوف يديل
فصدر هذا البيت كعجزه، وفي سائر القصيدة هو أطول من عجزه نحو:
وفارق عمرو بن الزبير شقيقه
…
وخلي أمير المؤمنين عقيل
وتفعيلات الطويل تحدث فيها تغييرات كثيرة بعضها من اللطف بحيث توشك
أن تخفي على السمع، وبعضها واضح يدركه السمع لأول وهلة، كما في قوله امرئ القيس:
ألا رب يوم لك منهن صالح
…
ولا سيما يوم بدارة جلجل
وكقول الآخر (المفضليات):
أقيموا بني النعمان عنا صدوركم
…
وإلا تقيموا صاغرين الرؤوسا
فالأول في حشو صدره نقص. والثاني في عجزه زيادةٌ تسمى ترك الاعتماد. وكثيرًا ما يحذف الشعراء أول حرف متحرك في الطويل، كواو العطف مثلاً، وهذا يسمى الخرم، ومثله قول المتنبي:
لا يحزن الله الأمير فإنني
…
سآخذ من حالاته بنصيب
فهذا البيت يقيمه أن تقول:
ولا يحزن الله الأمير إلخ
ولكن هذا مبدأ الكلام ولا حاجة للواو. وبعد فهذه تفاصيل لا يحتاج إليها الأديب إلا قليلاً. وبحسب المرء أن يدرك جملة الوزن، فإن اختلّ فيه شيء يسير فذلك أمر موكول إلى الذوق. وقد كان الجاهليون لا يبالون بالاختلال اليسير في الطويل خاصة وبحسبك أن تنظر في «قفا نبك» المعلقة لترى حقيقة ذلك.
وكان البحتري من المتأخرين يحاكي الجاهلين في هذا التساهل من غير ما إسراف كما في قوله (1):
نزور أمير المؤمنين ودونه
…
سهوب البلاد رحبها ووسيعها
(1) ديوانه: أول قصيدة.