الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتجمل والتصبر على ما فاته من لذاته. وفي البيتين الأخيرين ما يؤيد مزعم من يقولون بأن ابن أبي ربيعة تنسك في أخريات أيامه، لأن فيهما «رواقية» لا تخفى ولا سيما البيت الأخير.
وافريات المعاصرين:
الوافر من الأوزان الخصبة، إذ لم يخل من نظم حسن حتى في العصور المظلمة التي تلت سقوط بغداد. والمعاصرون يتعاطونه كثيرًا، ومنهم من ينسون أن له حقوقًا عليهم أهمها تجويد الأداء، وإعطاء التفعيلات نصيبها الوافي مما يلائمها من الألفاظ. فيوقعهم هذا النسيان في الأوابد. مثال ذلك قول أحمد رامي [الشعر المعاصر 230].
نعم أهوى ولا أُخفي غرامي
…
ومن شرف الهوى أني صريح
وأما إن سئلت هل اصطفتني
…
سكت فما استرحت ولا أريح
والمعنى واضح، وقد حاول فيه الشاعر طباقًا فتعثرت عليه الألفاظ.
ومن لي أن أقول تعلقتني
…
وقلب الغانياث مدى فسيح
وهذا اللت والعجن معناه: أتمنى أن تحبني، ولكن من يثق بحب الغواني؟
تلاقيني فتخلص لي نجيًّا
…
وألمس حبها فيما يلوح
وأراد الشاعر قوله: «فنخلص لي نجيا» أن يقتبس من القرآن: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} فأخطأ فهم الآية. وقوله: «ألمس حبها» استعارة أفرنجية، وشر منها قوله:«فيما يلوح» فهو هجين كودنٌ، مسلوخ من كليشهات الفرنجة النثرية.
ومثال آخر قول إلياس قنصل [نفسه 244]:
أنرضى بالهوان ونحن قوام
…
ملأنا صفحة التأريخ فخرًا
وهذا بيت مستقيم اللفظ.
بلينا بالتخاصم وهو داءٌ
…
عضال ينخر الأخلاق نخرًا
ولا أعلم «نخر» فعلاً متعديًا في اللغة، وإنما يقال نخر العظم: أي بلى، ونخرت العشية: أي تفتتت، ونخر الرجل ينخر نخيرًا، والنخير أخو الشخير. ولا تقل لي مثل هذا النقد «فقهي» - فهذا إما نظم بالعربية الفصيحة وإما بسواها. فإن كان بالفصيحة وهذا ما يزعم مؤلفه وناقدوه فاللحن فيها في نحو أو صرف هجنة لا تغتفر. ثم قال:
فأنهكنا وغادرنا شعوبًا
…
ممزقة تجر الغل جرا
وهذا تخليط- إذ ليس بعد التمزيق إلا البلى المحض. ومثل هذا الكلام قد يقبل من تلميذ يعالج الشعر. أما من شاب أو كهل يجسر على نشر شعره فلا.
ونحن أمام غاصبنا سجود
…
ننفذ أمره سرًا وجهرًا
فهذا كلام «ساذج» شبيه بكلام الصحف الركيك، لا سيما قوله «ننفذ أمره» .
وآبدة الأوابد قول إلياس:
قيود الذل فلتكسر ويكفي
…
على حمل الأذى والذل صبرا
ولا أدري ما معنى قوله «صبرًا» ولا موقعه من الأعراب -وكأنه أراد أن يقول وكفانا ما صبرناه على الأذى إلخ- وعلى هذا فالواجب رفع الصبر، ونصبه لحن. ويزيد هذا اللحن قبحًا، وقوعه بعد قوله «قيود الذل فلتكسر» وهو تركيب قديم المنحى، مثله قول الآخر:
وقائلة خولان فانكح نساءهم
…
وأكرومة الحيين خلو كما هيا
ولا جدوى في أن أستكثر لك من مثل هذه الشواهد الضعيفة، ففي ديوان الشعر العصري منها ضروب.
ومن المجيدين في الوافر من شعراء العصر المرحوم شوقي، على أن الوافر لم يكن بواديه الطبعي وإنما كان يعتسفه اعتسافًا. وله فيه قصائد طوال، ومنها كلمته المشهورة «قفي يا أخت يوضع خبرينا» وقد شان بعض أجزائها السرد الجاف، وحسبك شاهدًا من ذلك قوله:
وتاج من فرائده ابن سيتي
…
ومن خرزاته خوفو ومينا
ومن طواله الحسنة: «سلام من صبا بردى أرق» وهي مشهورة، ولم يخل فيها من إسفاف، وأحسب سبب ذلك أنه تكلف أن يتملق روح القومية والوطنية في سورية، ولم يكن شوقي في قرارة نفسه قوميًا ولا وطنيًا، وإنما كان «إنسانًا» إسلامي النزعة. ومن قوله الذي يدوي دوي الطبل ولا طائل تحته في هذه القصيدة:
وللحرية الحمراء باب
…
بكل يدٍ مضرجةٍ يدق
وللمستعمرين وإن ألانوا
…
قلوب كالحجارة لا ترق
بني سورية اطّرحوا الأماني
…
وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
فهذا كلام يصفق له في حزته (1) ثم لا تبقى منه باقية.
ويعجبني من سينية له في ديوانه الثاني اسمها «كوك صو» قوله:
حملن اللؤلؤ المنثور عينًا
…
كما حملت حباب الماء كأس
كأن سوافر الغادات فيها
…
ملائك همها نظر وهمس
(1) أي في ساعته.
كأن براقع الغادات تهفو
…
على وجناتها غيم وشمس
كأن مآزر العين انتسابا
…
زهور لا تُشم ولا تُمس
وكم كان شوقي يود لو يشمها ويمسها. وإذن لقال فيها غير ما قال جرير في نساء الراعي: «تطلّي وهي سيئة المعرّي» البيت- ومما يمثل روح شوقي خير تمثيل قوله في هذه القصيدة يخاطب ماء كوك صو، ويوازن بينه وبين النيل:
وكان النيل يُعرس كل عامٍ
…
وأنت على المدى فرح وعرس
وقد زعموه للغادات رمسًا
…
وأنت لهمهن الدهر رمس
وردنك كوثرًا وسفرن حورًا
…
وهل بالحور إن أسفرن بأس
كلا ورب الكعبة. ولا يفتك أن هذه الأبيات قد قيلت في زمن كان السفور فيه منفورًا عنه في بلاد الإسلام لم تقدم عليه إلا تركيا.
هذا ولشوقي في الوافر -سوى ما أجاد فيه- أوابد مضحكات لا بأس بذكر واحدة منها، ومن شرف المرء أن تعد معايبه، وهي قوله:
وكل مسافر سيئوب يومًا
…
إذا رُزق السلامة والإيابا
ولا أكاد أفهم للإياب هنا معنى إلا أن يكون أراد الشاعر «تذكرة الإياب» - وشوقي كثيرًا ما يُسف حين يطلب الحكمة وضرب الأمثال.
ولحافظ وافريات أشهرها «بنات الشعر بالنفحات جودي» ، وهي كلمة شعبية يغلب على أسلوبها اللين والضعف. ومما يحيرني أن حافظًا على سعة اطلاعه لم يكن يحسن الأداء في النظم. وكثيرًا ما أعجب كيف لم يفطن لذلك من نفسه فيقلع عن صناعة الشعر. وقاتل الله أبا تمام إذ يقول:
ويُسيء بالإحسان ظنًا لاكمن
…
هو بابنه وبشعره مفتون
فإن فتنة المرء ببنيه وبشعره كثيرًا ما تُعميه عن الحق. ولا ريب أن فتنة المرحوم حافظ بشعره أعمته عن مواضع الضعف فيه. ومن الغريب حقًا أن تجد هذا الرجل الرفيع النثر يرضى لنفسه بالركاكة في الشعر وأسلوب الصحافة المبتذل فيجيء بمثل قوله:
بحمد الله ملككم كبير
…
وأنتم أهل مرحمةٍ وجود
خذوه فأمتعوا شعبًا سوانا
…
بهذا الفضل والعلم المفيد
وكقوله:
وهل في دار ندوتكم أناس
…
بهذا الموت أو هذا الجمود
فهذا نثر صحفيّ ليس فيه رونق الشعر. على أني لا أنكر له في هذه القصيدة أبياتًا صالحة كقوله:
أذيقونا الرجاء فقد ظمئنا
…
بعهد المصلحين إلى الورود
ومنوا بالوجود فقد جهلنا
…
بفضل وجودكم معنى الوجود
إذا اعلولي الصياح فلا تلمنا
…
فإن الناس في جهد جهيد
على قدر الأذى والظلم يعلو
…
صياح المشفقين من المزيد
جراح في النفوس نغرن نغرا
…
وقد كن اندملن على صديد
إذا ما هاجهن أسىً جديدٌ
…
هتكن سرائر القلب الجليد
إلى من نشتكي عنت الليالي
…
إلى العباس أم عبد الحميد
ودون حماهما قامت رجال
…
تروعنا بأصناف الوعيد
والأبيات الثلاثة الأول لا تخلو من ابتذال، ولكن سائر هذه القطعة جيد،