الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مستفعلن مفعو أو مفعول (5)
هذا الوزن رجزي أصله البسيط المنهوك أو المنسرح المنهوك، وكلاهما ذو لون جنسي، ولكنه خال من اللون الجنسي كل الخلو، وسبب ذلك قصره الشديد، ولا بد في الأوزان الجنسية من تكفؤ. وهذا الوزن بصيغته "مستفعلن مفعول" و"مستفعلن مفعو" كثيرًا ما يرد في الكلمة الواحدة، من ذلك قول شوقي في رواية مجنون ليلى (45 - 46):
هلا هلا هيا اطو الفلا طيا وقرب الحيا للنازح الصب
جلاجل في البيد شجية التغريد كنغمة الغريد في الفنن الرطب
أناح أم غنى أم للحمى حنا جليجل رنا في شعب القلب
إلى آخر ما قاله
وهذا نشيد حلو عذب، ولمثله يراد هذا البحر.
بحر المجتث (6)
هذا بحر قصير ليس بجنسي اللون، ولو أريد به إلى ذلك أطاع، وقد عده ابن عبد ربه أحلى البحور. وقال فيه إسحق الموصلي وهو يتغنى بحضرة الرشيد:
اسمع للحن خفيف
…
من صنعة الأنباري
ووزنه: "مستفعلن فاعلاتن أو فعلاتين" مرتين
والخفة والظرف جاءاه "فاعلاتن"، ولو كان استمر على "مستفعلن" لكان رجزًا ليس إلا: ولو كانت فاعلاتن تقدمت لكان جنسي اللون فيه تكفؤ. ومثاله من العبث:
يأيها الذاهبونا
…
مهلا ألم تعرفونا
هلا وقفتم قليلا
…
فإننا واقفونا
والله أنتم أناس
…
للعهد لا تحفظونا
مستفعلن فاعلاتن
…
مستفعل فاعلونا
مستفهم فاهمات
…
مستفهم فاهمونا
ومثاله من منظوم الشعراء قول المرحوم التيجاني يوسف بشير (1):
أذبت من خمر روحي
…
على يديه وثغره
بقية من ربيع
…
شقيت وحدي بزهره
ولا أذهب إلى ما ذهب إليه ابن عبد ربه من أن هذا البحر أحلى البحور جميعها، فالهزج والرمل المجزوء كلاهما أحلى منه عندي. ولا أنكر أن له رنة عذبة، وأنه من الأبحر القصار القليلة التي يحسن فيها تطوير الكلام للإطراب والإمتاع.
وقد عرف المتصوفة هذه المزية له فأكثروا من استعماله في أناشيدهم من ذلك:
يا قبلتي في صلاتي
…
إذا وقفت أصلي
وهي نشيد معروف، ولسبط ابن التعاويذي (2) مقطوعات ومطولات حسنة من هذا الوزن نحو (ديوانه 362):
بمن أباحك قتلي
…
علام حرمت وصلي
أنفقت فيك دموعي
…
والدمع جهد المقل
أتعبت نفسك يا عا
…
ذلي عليه بعذلي
كيف السلو وقلبي
…
رهن دليه وعقلي
(1) ديوانه: إشراقه -الخرطوم- 1369 هـ ص 44. وانظر الحديث عنه من بعد إن شاء الله في أواخر هذا الكتاب.
(2)
أي حفيد ابن التعاويذي فلا تظن أنه علم هديت.
وقد أكثر المرحوم التيجاني يوسف بشير من استعمال المجتث. وبعض الناس يعجبهم قوله (ديوانه 48):
آمنت بالحسن بردًا
…
وبالصبابة نارا
وبالكنيسة عقدا
…
منضدًا من عذارى
وبالمسيح ومن طا
…
ف حوله واستجارا
إيمان من يعبد الحسـ
…
ـن في عيون النصارى
وهذا كلام حسن ظاهره، ولكنه فيه هنات، منها قوله "منضدًا" والوجه "منظمًا" إذ التنضيد يكون للمتاع لا العقود (1). وقوله "طاف حوله" وإنما عنى "اتبعه" فاستعمل لغة الجرائد وهي لا تصلح للشعر، وإن كان عنى بقوله "طاف حوله""قدسه" فقد أخطأ الاستعارة، وكأنه نظر إلى طواف المسلمين حول الكعبة ونسب مثله للنصارى (2). وف يالكلام بعد -على ظرفه البادي- روح غير مهذب، لا سيما البيت الأخير، فإنك لو ترجمته إلى العامية لصار شيئًا من هذا القبيل:
"أموت في دين عيسى
…
وفي دين عيون النصرانيات" (3)
وهذا أليق لأن يقال في المقاهي والبارات لا الشعر.
ومن مجتثيات التيجاني التي تعجب الناس رائيته في توتي (ديوانه 35 - 38) وفيها أبيات حسنة كقوله:
يا درة حفها الما
…
ء واحتواها البر (4)
(1) بعد التأمل الذي ذهب إليه التجاني جيد، إذ فيه اطلاع إلى حال مقاعد صلاة الكنيسة ومناضدها.
(2)
أيضًا هنا للتيجاني وجه جيد في ما ذهب إليه.
(3)
وجه آخر انه ينكر دين النصارى ويعجبه حسن جواريهم.
(4)
لعل الرواية الصحيحة: "واحتواها البر" وكأن الشاعر أراد أن يقول: إن هذه البقعة لفظها البر وألقى بها في أحضان النيل! وفي القاموس: واحتواه: كرهه، فهي هنا تعبير بالملائم. هنا وقوله قنواء بعد التأمل لا يخلو من دقة لأن الشجرة ذات علو واحد يداب فتأملة.
وهو مطلعها، وكقوله:
والفلك في جانبيها
…
كالدهر ما تستقر
وكقوله يصف شجرة مطلة على النيل:
ورب قنواء
…
للعصم والأنوق مقر
أوفى على النيل فرع
…
منها وأشرف جذر
يقلها الدهر عرقا
…
ن مستطيل وشبر
يكاد يلفظها الشـ
…
ـط وهي شمطاء بكر
وهذه الأبيات أجمل ما في القصيدة، وهي من أجل شعر التيجاني. ولو كان نظم سائر القصيدة على منوالها لكان قد أحسن جدًا. على أنها ذاتها لا تخلو من مآخذ لغوية كما في بيته "ورب قنواء إلخ" ومراده أن يقول: وربب دوحة سامقة، فأساء في الأداء. والقنا توصف به الأنوف، وهو احديداب مع ارتفاع، وقد يوجد للتيجاني في استعماله هنا مخرج وتأول. والعصم جمع أعصم وعصماء، وهي ضرب من الوعول لا تأوي إلى رؤوس الشجر، وإنما تأوي إلى شعاف الجبال. (وتوجد في شمال السودان) والأنوق وهي الرخم تقر على الطوال والقصار من الشجر كما تقر على الأرض، وقد رأيتها تفعل ذلك. ولعل الشاعر غره قولهم:" بيض الأنوق والأبلق العقوق" فحسب أن مقر الأنوق كمقر بيضه (1).
هذا، وفي غير الأبيات التي ذكرناها ركب المرحوم التيجاني ضروبًا من التكلف أفسد عليه لفظه فأوقعه في الركاكة، وبعضها أفسد عليه معانيه، وشاب صدق عاطفته بنوع من كذب -من ذلك قوله عن سواقي النيل يصف جرارها المشعوبة:
(1) أو أراد المبالغة وهو وجه جائز وقد كان رحمه الله شابا لم يتجاوز الخامسة والعشرين.
إن الجرار وقد ضا
…
ق بالقليب الممر
تكسرت وهي تهوي الخ .. الخ
ولا قليب ولا ممر (والقليب: البئر) وإنما هي تغرف من النيل وقد ثلمها تطاول الدهر وبؤس الفلاحين، وعجزهم أن يستبدلوها بغيرها، وهذا أمر عرفته بالمعاينة، وقد كان التيجاني رحمه الله حضريًا من أهل أم درمان.
ومن ذلك قوله في الشجرة المطلة على النيل:
وتلك يأوي إليها
…
في الوقدة المستحر
ثم قوله بعد أن فرغ من وصف المنظر البادي من توتي:
كم في المزارع قوم
…
شم العرانين صعر
ذياك يعزق في العشـ
…
ب جاهدًا ما يقر
إلخ .. إلخ
فهذا كله عناء لا طائل وراءه. وما أشك أن الدفع الأول الذي ألهم التيجاني أن ينظم هذه القصيدة هو رغبته أن يفصح بمعاني النشوة والفرح التي يحسها الإنسان عندما يستقبل ملتقى النيلين وتوتي عند الصباح أو الأصيل. واختيار التيجاني للمجتث، وهو وزن رشيق حلو النغمة لا يصلح لغير مجرد الإطراب والإمتاع، يدل على ذلك. ولكنه رحمه الله لم يطلق نفسه على سجيتها، وفكر في النقاد العصريين ممن يعجبهم ملاحظة الدقائق (حتى لو كان الشاعر بعيدًا عنها بحيث لا يراها) كالجرار المنشعبة، وكظل الشجرة الذي يأوي إليه "المستحر"وكالفلاحين المجاهدين بمساحيهم ومكاتلهم ومعاولهم -لا يخالجني شك أن الأبيات المتكلفة التي نظمها التيجاني ليصور بها هاته التفاصيل ما أوقعها في خاطره إلا الرغبة في ترضية هذا النوع من النقاد الذين يسمون أنفسهم واقعيين، ويعجبهم تصوير الكوخ والكدح