الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه المنظومة كما ترى طويلة، ويغلب عليها الحوار. ومنظومة عمرو بن يربوع أطول منها بكثير. وكلا الطول والحوار، عندي يعينان على اتباع الطريقة الجماعية لقراءة الشعر في فصولنا الكبيرة. وهي طريقة سبق إلى استعمالها النرويجيون (1). وقد جربناها في معهد التربية ببخت الرضا فوجدناها ناجحة. ومن أجل هذا عرضت النماذج التي تقدمت حتى يحتذى حذوها ذوو المواهب، وينظموا ما هو أجود منها وأمتن وأسلس.
الرمل القصير (10)
ووزنه: "فاعلاتن" أربع مرات. ومثال نغمه:
طائرات سابحات
…
جامدات ذائبات
مستحيل مستعيد
…
مستفيد مستجيد
أنا في دنيا من العبا
…
س أغدو وأروح
هاشمي عبدلي
…
عنده يغلو المديح
وهذا الوزن يتغير ويتنوع إما بزيادة هكذا:
فاعلاتن فاعلاتن
…
فاعلاتن فاعلاتون
يا جميلا يا جميلا
…
يا جميلا يا جميلات
وإما بنقصان هكذا:
فاعلاتن فاعلاتن
…
فاعلاتن فاعلات
يا جميلا يا جميلا
…
يا جميلا يا جميل
إن لي بيتا كبيرًا
…
يا حبيبي يا حبيب
يا حبيبي أنت في الحسن مفاعيلن عجيب
(1) لا بل قد سبق إليها المدرسون في مدارس القرآن.
والنقصان كما ترى يحدث بإزالة الإشباع الذي في الآخر. خذ مثلا قول أبي العتاهية:
خانك الطرف الطموح
…
أيها القلب الجموح
إذا سكنت الحاء صار هذا رملا قصيرًا ناقصًا هكذا:
خانك الطرف الطموح
…
أيها القلب الجموح
ونغمة الرمل خفيفة جدًا. وتفيعلاته مرنة للغاية، إذ كثيرًا ما تصير "فاعلاتن""فعلاتن" ولا يكاد يلحظ ذلك. وفي رنته نشوة وطرب والأوائل من الجاهليين يكثرون من هذا الوزن في أشعارهم. ويبدو لي أنه كان بمنزلة الأناشيد الشعبية، ومما يدل على ذلك أنه لا يزال يستعمل في شيء من هذا النحو في عاميتنا السودانية، مثال ذلك أنشودة الأطفال:
ال حدوك لي
…
جاتنا بابور (1)
ال حدوك لي
…
فيها طابور
ويدل على ذلك ما رووه من أن فتيات المدينة استقبلن النبي صلى الله عليه وسلم أول مهاجره وهن يضربن بالدفوف ويغنين:
أشرق البدر علينا
…
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
…
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
…
جئت بالأمر المطاع
وليس في السيرة شعر من الرمل القصير غير هذا.
(1) أي أيهذا الذي حدوك لي -فأل موصولة كقول الآخر: ال ترضى حكومته البيت.
ويترجح عندي أن هذا الوزن ظل نشيديًا ترنميًا وخاصة بين الصغار والعامة إلى أوائل العهد العباسي. يدل على ذلك نظم أبي الشمقمق يهجو بشارا (1):
هللينه هللينه
…
هللينه هللينه
إن بشار بن برد
…
تيس أعمى في سفينه
فالرواة يخبروننا أن أبا الشمقمق لقن هذه الأبيات للأطفال، ولو لم يكن الوزن مألوفًا لديهم في ألعابهم ما كان فعل ذلك. والسيد الحميري -وكان يتعمد أن يشيع شعره بين العامة- هجا سوارًا القاضي بأبيات منه حتى فزع سوار إلى المنصور، ولعل السيد كان قد لقنها الأطفال (أو من يجري مجراهم من الكبار الذين لا يستحون) وهي قوله (2):
يا أمين الله يا منصور يا خير الولاة
إن سوار بن عبد الله من شر القضاة
جده سارق عنز
…
فجر في فجرات
وابن من كان ينادي
…
من وراء الحجرات
يا هناة أخرج إلينا
…
إننا رهط هناة
ومما ينسب إلى عنترة في السيرة [وهي من صنع المتأخرين بلا ريب]، مما يجري مجرى الأناشيد، قوله (3):
أشعل النار ببأسي
…
وأطاها بجناني
إنني ليث عبوس
…
ليس لي في الخلق ثان
خلق الرمح لكفي
…
والحسام الهندواني
(1) الأغاني 3 - 195.
(2)
نفسه 7 - 261، 262.
(3)
ديوان عنترة "المكتبة التجارية، مصر" 170 - 171.
ومعي في المهد كانا
…
فوق صدري يؤنساني
فإذا ما الأرض صارت
…
وردة مثل الدهان
والدما تجري عليها
…
ولنها أحمر قان
ورأيت الخيل تجري
…
في نواحي الصحصحان
فاسقياني لا بكأس
…
من دم كالأرجوان
أسمعاني نغمة الأسياف حتى تطرباني
أطيب الأصوات عندي
…
حسن صوت الهندواني
وصرير الرمح جهرًا
…
في الوغى يوم الطعان
وكما كان الرمل مستحسنًا عند العامة والأطفال كان أيضًا مستحسنًا عند أهل الشراب والغناء، ولذلك تغنوا فيه بمثل قولهم:
عللاني عللاني
…
بشراب أصفهاني
بشراب الشيخ كسرى
…
أو شراب القيرواني
وقولهم:
إنما الذلفاء همي
…
فليلمنى من يلوم
أحسن الناس حديثًا
…
حين تمشي وتقوم
ويبدو أن الغنائيات الرمليات كانت كثيرة بالحجاز أيام الأحوص وعمر. ومن ثم أخذه الوليد بن يزيد الخليفة الأموي. فقد استكثر من الرمل القصير في شعره وروجه ترويجًا فتح به بابه لمن بعده من المولدين (1)، فأكثروا منه في غزلياتهم
(1) تاريخ الشعر العربي لنجيب محمد البهبيتي (الدار، 1950) راجع الباب: ملك يقود الشبيبة ص 294 ومن العجب أن هذا الكتاب لا يكثر التنويه به كما ينبغي له وهو من عيون ما كتب في المائة الرابعة عشرة (هـ) في باب النقد وتأريخ الأدب العربي.
وخمرياتهم وما إلى ذلك. وفي النتف التي ذكرها أبو الفرج الأصبهاني من شعر هذا الأمير الموهوب ما يدل على أنه كان يترنم بالرمل القصير ترنمًا، ويلقي الكلام فيه على أذلاله من غير ما تكلف. وقد لاحظ هذه الظاهرة أبو الفرج نفسه في ترجمته له.
خذ قوله مثلا (1):
خبروني أن سلمى
…
خرجت يوم المصلى
فإذا طير مليح
…
فوق غصن يتفلى
قلت من يعرف سلمى
…
قال ها ثم تعلى
قلت يا طير ادن مني
…
قال ها ثم تدلى
قلت هل أبصرت سلمى
…
قال ها ثم تولى
وهذا لا تكلف فيه، وقد سماه أبو الفرج سخيفًا، وانظر إلى قوله يصف حالته عندما تنكر في زي شيخ زيات ليزور بعض حبائبه (2):
إنني أبصرت شيخًا
…
حسن الزي مليح
ولباسي لبس شيخ
…
في عباء ومسوح
وأبيع الزيت بيعًا
…
خاسرًا غير ربيح
وقوله (3):
يا سليمى يا سليمى
…
برد الليل وطابا
يا سليمى يا سليمى
…
كنت للقلب عذابا
أيما واش وشى بي
…
فاملئي فاه ترابا
(1) الأغاني 7 - 36. وفي أبي الفرج ميل لا يخفيه لبني أمية وهو منهم.
(2)
نفسه 29: 7.
(3)
نفسه 7 - 40.
وقوله (1):
أدر الكاس يمينًا
…
لا تدرها ليسار
اسق هذا ثم هذا
…
صاحب العود النضار
فلقد أيقنت أني
…
غير مبعوث لنار
فذروا من يطلب الجنة يسعى لتبار
وهذا كلام سكارى لا يعقلون.
وممن قلد الوليد فأكثر في استعمال الرمل القصير: أبو العتاهية وأبو نواس. أبو العتاهية استعمله في الزهديات، -وكأنه كان ينظمها ليترنم بها في حلقات الذكر. وأبو نواس في الخمريات. ومن مشهور كلام أبي العتاهية في هذا الباب قوله (2):
خانك الطرف الطموح
…
أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والشر دنو ونزوح
سيصير المرء يومًا
…
جسدًا ما فيه روح
بين عيني كل حي
…
علم الموت يلوح
لطف الله بنا أن
…
الخفايا لا تفوح
ولأبي نواس حائية جارى بها هذه (3) هي قوله:
غرد الديك الصدوح
…
فاسقني طاب الصبوح
واسقني حتى تراني
…
حسنًا عندي القبيج
واسقني حتى تراني
…
جسدًا ما فيه روح
(1) نفسه 7 - 46.
(2)
نفسه 4 - 103.
(3)
أم لعل أبا العتاهية هو الذي جارى أبا نواس؟
وهذا شبيه جدًا بشعر الوليد بن يزيد، ولعل أبا نواس استخرجه منه.
ولأبي نواس في الرمل خمريات عدة جميلة، فانظرها في الكتاب القيم "ألحان ألحان" للأديب الفاضل، عبد الرحمن صدقي. وفي كتاب الأغاني من أمثلة الرمل القصير عند المحدثين أنواع وضروب.
وطبقات أبي تمام والبحتري والمتنبي والشعراء المداحين الذين جاؤوا بعد الطبقة الأولى من المحدثين لم يستكثروا من الرمل إلا أن هذا لم يمته، فقد كان متظرفة الكتاب وأصحاب المجون من ظرفاء الشعراء يتعاطونه كثيرًا، على أنهم لم يحسنوا فيه إحسان من قبلهم. ومن خير ما نظموه فيه كلمة الصنوبري [أوردها العاملي في ترجمته في كتاب أعيان الشيعة كاملة]:
أذكرا الدار اذكراها
…
واحبسا العيس احبساها
وفيها يقول:
ورياض تلتقي آ
…
مالنا في ملتقاها
سروها الداني كما تد
…
نو فتاة من فتاها
وربما كان الرمل القصير قد مات بين المتأخرين كما مات كثير غيره من البحور لو لم يأخذ بيده أن أخاه الرمل الطويل قد أكثر أوائل الموشحين من استعماله. فهذا مهد لاستعمال الرمل القصير في الموشح ثم لغيره من البحور القصار.
وقد ذكرت في تمهيد هذا الكتاب أن كثيرًا من المعاصرين يستعملون الرمل في مسمطاتهم، وليس تعاطيهم للقصير منه بأقل من تعاطيهم لطويله إن لم يكن أكثر. والذي يرجع إليه الفضل الأكبر في تحبيب الرمل بنوعيه إلى شعراء العصر هو
المرحوم شوقي، فقد أحيا الموشح القديم في قصيدته "صقر قريش (1) ":
من لنضو يتنزى ألما
…
برح الشوق به في الغلس
حن للبان وناجي العلما
…
أين شرق الأرض من أندلس
بلبل علمه البين البيان
…
بات في حبل الشجون ارتبكا
في سماء الليل مخلوع العنان
…
ضاقت الأرض عليه شبكا
كلما استوحش في ظل الجنان
…
عاد فاستضحك من حيث بكى
ارتدى برنسه والتثما
…
وخطا خطوة شيخ مرعس
ويرى ذا حدب إن جثما
…
فإن ارتد بدا ذا قعس
فمه القاني على لبته
…
كبقايا الدم في نصل دقيق
مده فانشق من منبته
…
من رأى شقي مقص من عقيق
وبكى شجوًا على شعبته
…
شجو ذات الحسن في الستر الرقيق
سل من فيه لسانًا عنما
…
ماضيًا في البيت لم يحتبس
وتر من غير ضرب رنما
…
في الدجى أو شرر من قبس
والقصيدة في جملتها حسنة، وهي عندي أجمل أندلسيات شوقي. وقد استعمل شوقي الرمل في غير هذا الموشح فوفق جدًا، من ذلك قصيدته "الطيارون الفرنسيون" (2):
قم سليمان بساط الريح قاما
…
ملك القوم من الجو الزماما
وقد جارى بها كلمة مهيار:
أقبل العارض تحدوه النعامي
…
فسقاك الري يا دار أماما
(1) الشوقيات 2 - 214.
(2)
نفسه 2 - 107.
ومن خير ما جاء في ميميته هذه قوله:
ما لروجي صاعدًا ما ينتهي
…
أتراه آثر الجو فراما
كلما دار به دورته
…
أبدت الريح امتثالا وارتساما
أنا لو نلت الذي قد ناله
…
ما هبطت الأرض أرضاها مقاما
هل ترى في الأرض إلا حسدًا
…
ورياء نزاعا وخصاما
وقوله:
في سبيل المجد أودى نفر
…
شهداء العلم أعلاهم مقاما
خلفاء الرسل في الأرض هم
…
يبعث الله بهم عاما فعاما (1)
قطرة من دمهم في ملكه
…
تملأ الملك جمالا ونظاما
وقوله:
لطف الله بباريس ولا
…
لقيت إلا نعيمًا وسلاما
روعت قلبي خطوة روعت
…
سامر الأحياء فيها والنياما
أنا لا أدعو على "سين" طغى
…
إن "للسين" وإن جار ذماما
لست بالناسي عليه عيشة
…
كانت الشهد وأحبابا كراما
اجعلوها رسلكم أهل الهوى
…
تحمل الأشواق عنكم والغراما
واستعيروها جناحًا طالما
…
شغف الصب وشاق المستهاما
يحمل المضني إلى أرض الهوى
…
يمنًا حل هواه أم شآما
ولعلك تتساءل ما نسبة ما ذكرته من شعر شوقي وهو رمل طويل إلى ما نحن بصدده من الحديث عن الرمل القصير؟ والحقيقة أن الوزنين شديدا القرابة،
(1) أستضعف "عاما فعاما" كما لا يعجبني قوله "نظاما". وفي متن شوقي لين.
لا لأن القصير مجزوء من الطويل فحسب، ولكن لأن الطويل مع كثرة تفعيلاته دان جدًا من القصر في روحه، وخفيف النغمة للغاية، والتدرج منه غلى أخيه المجزوء كالخطوة الطبعية. ومن أجل ذلك لا أجد بدا من ذكره مع البحور القصار.
الرمل الطويل (11)
وزنه: "فاعلاتن" مكررة ست مرات. وصدره غالبًا يكون على: "فاعلاتن فاعلاتن فاعلن" إلا أن يكون البيت مصرعًا: أي ذا قافية في الصدر والعجز. وتأتي في الرمل -كثيرًا- "فعلاتين" مكان "فاعلاتن" و"فعلن" مكان "فاعلن" في الصدر. وهاك مثالا لوزن الرمل من عبث الكلام:
ضاربات سابحات عائمات
…
راقصات لابسات عاريات
عاشقات ساليات فعلن
…
فرحات طربات ضاحكات
فرحات لا نعم لا لللا
…
سابحات في الهوى مستبقات
قال عمرو قال عمرو قولة
…
قال عمرو قال عمرو تتتات
ولقد أجمع رجلي بها
…
حذر الموت وإني لفرور (1)
ولقد أعطفها كارهة
…
حين للنفس من الموت هرير
كل ما ذلك مني خلق
…
وبكل أنا في الروع جدير
وابن صبح سادرًا يوعدني
…
ما له في الناس ما عشت نصير (2)
هذا هو الوزن الأول من الرمل. فإذا حذفت النفاذ من آخره وقيدت القافية [أي إذا حذفت الإشباع الذي في آخر الروي وسكنت القافية] حصلت على الوزن الثاني هكذا:
(1) لعمرو بن معد يكرب الزبيدي - العقد الفريد 1 - 147.
(2)
ابن صبح - هذا حرف يطلق على من يجهل أصله، لأن أمه تلده بخفية، ثم تلقيه ليلا في موضع من المواضع ويسفر الصبح فيراه الناس، فلا يعرفون له أبا، فيقولون: هذا ابن الصبح.
ولقد أجمع رجلي بها
…
حذر الموت وإني لفرور
فعلاتن فعلاتن فاعلن
…
فعلاتن فعلاتن فعلات
ومن هذا الوزن قول العقاد:
أمضت بعد الرئيس الأربعون
…
عجبًا كيف إذن تمضي السنون
وقد يقصر الرمل فيجعل عجزه مثل صدره نحو:
ولقد أجمع رجلي بها
…
حذر الموت وإني لفرر
وهذا لمجرد التبيين. فصدر البيت هنا كعجزه في الوزن، هكذا:
فعلاتن فعلاتن فعلن
…
فعلاتن فعلاتن فعلن
وقد نقص هذا الوزن الثالث عن أخيه السابق بإسقاط المد الذي قبل الروي الواو من "فرور" والألف من "فاعلات" ومثاله من النظم قول ابن الوردي في لاميته:
ليس من يقطع طرقًا بطلا
…
إنما من يتقي الله البطل
لا تقل أصلي وفصلي أبدًا
…
إنما أصل الفتى ما قد حصل
هذا، وهاك أمثلة من الشعر توضح أوزان الرمل الثلاثة:
مثال الأول قول مهيار: (1)
يا لواة الدين عن ميسرة
…
والبخيلات وما كن لئاما
حملوا ريح الصبا نشركم
…
قبل أن تحمل شيحًا وثماما
وابعثوا لي في الكرى طيفكم
…
إن أذنتم لجفوني أن تناما
(1) الديوان: 3 - 327 - روى: "والضنينات" و"وابعثوا أشباحكم لي في الكرى".
ومثال الثاني قول أعشى همدان (1):
حييا خولة مني بالسلام
…
درة البحر ومصباح الظلام
لا يكن وعدك برقا خلبا
…
ساطعا يلمع في عرض الغمام
واذكري الوعد الذي واعدتني
…
ليلة النصف من الشهر الحرام
ومثال الثالث قول المرار (2):
إنما النوم عشاء طفلا
…
سنة تعتادها مثل السكر
والضحا تغلبها رقدتها
…
خرق الجؤذر في اليوم الخدر
تطأ الخز ولا تكرمه
…
وتطيل الذيل منه وتجر
ما أنا الدهر بناس حبها
…
ما غدت ورقاء تدعو ساق حر (3)
ونغم الرمل كأنما أخذ من المتقارب: فعولن فعولن فعولن، هكذا مطردًا، والرمل كله: فا فعلون فا فعلون هكذا، ولا يخفى أن أصل هذا من ذاك. وموسيقا الرمل خفيفة رشيقة منسابة، وفيه رنة يصحبها نوع من "الملنخوليا". -لا أعني "بالملنخوليا" الجنون -وإنما أعني بهذا الحرف [وقد كان مستعملا عند القدماء] هذا الضرب العاطفي الحزين في غير ما كآبة ومن غير ما وجع ولا فجيعة [وقد استعمل الإنجليز هذا الحرف Melancholy في بدء العصور الحديثة، وكانت الملنخوليا "مودة" عاطفية بين الأدباء على عهد شكسبير].
أزعم أن هذه "الملنخوليا" المتأصلة في نغم الرمل تجعله صالحًا جدًا للأغراض الترنمية الرقيقة وللتأمل الحزين، وتجعله ينبو عن الصلابة والجد وما إلى ذلك. وأسوق
(1) ديوان الأعشى (جابر)239.
(2)
المفضليات: 158.
(3)
ساق حر: ذكر الحمام.
إليك أمثلة مختلفة من الشعر الرملي لأوضح ما ذكرته. قال عدي بن زيد العبادي على لسان شجرتين (1):
من رآنا فليحدث نفسه
…
أنه موف على قرن زوال
رب ركب قد أناخوا حولنا
…
يمزجون الخمر بالماء الزلال
والأباريق عليها فدم
…
وجياد الخيل تردي في الجلال
ثم أمسوا عصف الدهر بهم
…
وكذاك الدهر حالا بعد حال
أترى هذا الكلام يستقيم على البحور الثقال الرزان كالبسيط أو الخفيف أو الطويل مثلا. تأمل قول المعري في نفس المعنى (2):
فاسأل الفرقدين عمن أحسا
…
من قبيل وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار
…
وأنارا لمدلج في سواد
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد
اطرد تفاصيل المعنى من ذهنك، وانظر في المعنى العام المشترك، ثم تأمل الوزن [وقد تعمدت اختيار أبيات المعري لك وهي من الخفيف لقرب ما بين هذا البحر والرمل من نسب]. ألا ترى أن رنة الوزن في كلام عدي فيها من الحزن الملنخولي ما ليس في كلام المعري، مع أن الأبيات التي ذكرنا من دالية المعري المرثية المعروفة العميقة الملأى بمعاني الحزن؟ وتأمل قول ابن الزبعري في يوم أحد (3):
قد جزيناهم بيوم مثله
…
وعدلنا ميل بدر فاعتدل
ليت أشياخي ببدر شهدوا
…
جزع الخزرج من وقع الأسل
(1) الأغاني 2 - 134.
(2)
شرح التنوير 1 - 303 - 316.
(3)
انظر خبر أحد في السيرة.
حين ألقت بقباء بركها
…
واستحر القتل في عبد الأشل (1)
كم ترى بالجر من جمجمة
…
وفتى أبيض وضاح رفل
وقول سويد بن أبي كاهل (2):
كيف يرجون سقاطي بعدما
…
جلل الرأس بياض وصلع
ساء ما ظنوا وقد أبليتهم
…
عند غايات المدى كيف أقع
رب من أنضجت غيظًا قلبه
…
قد تمنى لي شرًا لم يطع
ويراني كالشجا في حلقه
…
عسرًا مخرجه ما ينتزع
مزبد يخطر ما لم يرني
…
وإذا أسمعته صوتي انقمع
فهذان الكلامان تصحبهما رنة من الملنخوليا الشجية، وهي خفية المدخل. هذا مع أن الكلمتين كلتيهما في الفخر، والفخر -كما يبدو- من أبعد الأشياء عن الملنخوليا. ولكن الفخر هنا ليس بنفج خشن، وإنما هو تغن وترنم، ولعل القصة التي يذكرها الرواة من أن الحجاج كشف عن رأسه يوم رستا قباذ (3)، وأخذ بقدح وجعل يضرب به صلعته وينشد أبيات سويد، والقصة الأخرى التي يروونها عن يزيد بن معاوية من أنه لما بلغه خبر الحرة جعل ينكت الأرض ويتمثل ببعض أبيات ابن الزبعري، لعل هاتين القصتين توضحان ما ذكرناه من ملنخوليا الرمل. الأميران كلاهما في موقف ظفر، ولكنه ظفر نيل بتشقيق الرحم ووتر ذوى الشرف والمروءات من رجالات العرب. ولذلك شابت الظفر عند كليهما شوائب من الشعور بالخطأ، والرغبة في تبرير ما ارتكبا من الجلائل. ألا تراهما ينقران الأرض وينكتانها
(1) قوله: عبد الأشل، عنى عبد الأشهل، من بطون الأنصار.
(2)
المفضليات 381 - 409.
(3)
الشعر والشعراء 1 - 384، وراجع أخبار الحجاج في الجزء الخامس من تاريخ الأمم والملوك للطبري.
ويضربان الصلعات ويمسحانها ويتمثلان بهذا الشعر المفتخر المحتزن في آن واحد، تمثلا كأنما أرادا به أن يترنما لأنفسهما لا أن يسمعا جموعهما.
وصبغة الأسى في الرمل واضحة، لا تكاد تحتاج إلى دليل. وفيه معها قابلية للاسترسال، السر فيها اطراد نغمه:
فا فعولن، فا فعولن فا فعولن
…
فا فعولن فا فعولن فا فعولن
وهذه نغمة بسيطة للغاية. وهو من ناحية القابلية للاسترسال هذه أسمى من الكامل والرجز الطويلين. إلا أن أنغامه لبساطتها ورتابتها، وتفعيلاته وتكرارها وجرسها البين تزاحم المعنى في ذهن السامع. أعني أنك تسمع كلام الشاعر ووزنه كأنهما منفصلان، وكأن لوزنه استقلالًا عن كلماته. ومثل هذا الوزن الذي يزاحم المعنى إلى سمع السامع له ميزاته وجماله، ولكنه لا يبلغ إلى الرفعة التي ينبغي أن تكون عليها موسيقا الشعر العالي بحال من الأحوال. والموسيقا الشعرية الرفيعة بحق، هي التي يكون الوزن فيها كالمنزوي وراء كلام الشاعر وكأنه منه بمنزلة الإطار الجميل من الصورة المتقنة.
ولتوضيح هذا المزعم أضرب لك مثلين: أحدهنا من البحر الطويل وهو من مختارات الأخطل، والآخر من الرمل وهو من مختارات الأعشى قال الأخطل (1):
صريع مدام يرفع الشرب رأسه
…
ليحيا وقد ماتت عظام ومفصل
تهاديه أحيانًا وحينا تجره
…
وما كاد إلا بالحشاشة يعقل (2)
إذا رفعوا عظمًا تحامل صدره
…
وآخر مما نال منها مخبل
شربت ولاقاني لحل أليتي
…
قطار تروى من فلسطين مثقل (3)
(1) ديوانه 2 - 4، وراجع رسالة الغفران 263 - 264.
(2)
تهاديه: قال الشارح، تسوقه ولم يفصل. وعندي أن الأخطل أراد: تأخذ بهاديه، أي رقبته حينا وتجره حينا آخر آخذة برجله، وهذا يطابق صفة الخمر لأنك تحسها حينا في الرأس وحينا في الرجل.
(3)
كأنه أقسم ليشربن فلاقاه هذا الفطار يحمل الخمر ليحل قسمه والآلية بتشديد الياء: القسم والحلف.
عليه من المعزى مسوك روية مملأة يعلى بها وتعدل (1)
فقلت اصبحوني لا أبا لأبيكم وما وضعوا الأثقال إلا ليفعلوا
أناخوا فجروا شاصيات كأنها رجال من السودان لم يتسربلوا
وجاءوا ببيسانية هي بعدما يعل بها الساقي ألذ وأسهل
تمر بها الأيدي سنيحًا وبارحًا وتوضع باللهم حي وتحمل (2)
وتوقف أحيانًا فيفصل بيننا غناء مغن أو شواء مرعبل (3)
فلذت لمرتاح وطابت لشارب وراجعني منها مراح وأخيل
فما لبثتنا نشوة لحقت بنا توابعها مما نعل وننهل (4)
تدب دبيبًا في العظام كأنه
…
دبيب نمال في نقا يتهيل
وقال الأعشى من الرمل (5):
وشمول تحسب العين إذا
…
صفقت وردتها نور الذبح (6)
مثل ذكي المسك زاك ريحها
…
صبها الساقي إذا قيل توح (7)
من زقاق الشرب في باطية
…
جونة حارية ذات روح (8)
(1) مسوك جمع مسك: وهو الجلد، وعنى بها القرب التي تكون فيها الخمر، يعلى بها، كقولك: يذهب بها (بالبناء للمجهول) أي تعلى، وتعدل: أي توضع أعدالا من جانبي البعير.
(2)
قوله: سنيحا وبارحا، يعني يمينا ويسارا. ودل بهذا على أن الشرب لم يكونوا يتبعون نظاما خاصا في إمرار الكؤوس. وقوله اللهم حي: بمنزلة "شيريو" عند الإنجليز.
(3)
مرعبل: مقطع.
(4)
لبثتنا بتشديد الباء، وفي الأصل:"لبثتنا" بكسرها ولا معنى لها إلا بتقدير حرف جر محذوف، ورواية رسالة الغفران "ألبثتنا".
(5)
ديوانه 162.
(6)
نور الذبح: أحمر.
(7)
نوح: أي نوح (بتشديد الحاء) بمعنى أسرع، اشتقاقها من الوحي.
(8)
حارية: نسبة إلى الحيرة. والروح تباعد ما بين الطرفين، وهنا معناه الاتساع.
ذات غور ما تبالي يومها
…
غرف الإبريق منها والقدح
وإذا ما الراح فيها أزبدت
…
أفل الإزباد فيها فامتصح (1)
وإذا مكوكها صادمه
…
جانباها كر فيها فسبح (2)
فترامت بزجاج معمل
…
يخلف النازح منها ما نزح (3)
تحسب الزق لديها مسندا
…
حبشيا نام عمدا فانبطح (4)
ولقد أغدو على ذي عتب
…
يصل الصوت بذي زيز أبح (5)
فترى الشرب نشاوى كلهم
…
مثلما مدت نصاحات الربح (6)
بين مغلوب كريم خده
…
وخذول الرجل من غير كسح (7)
الأعشى والأخطل كما ترى يقولان كلاما واحدا من حيث المعنى الظاهر، وللأعشى فضيلة السبق. وبالرغم من التشابه الشديد بين الكلامين في المعنى، فالفرق عظيم جدًا من حيث الموسيقا والتأثير الشعري العام. ومصدر هذا الفرق عندي هو اختلاف الوزن، واختلاف أغراض الشاعرين العاطفية التي نشأ من جرائها اختلاف الوزن، تأمل كلام الأخطل تجد نغم البحر الطويل منزويًا وراءه حتى إن معاني الشاعر وجرس كلماته يصل إلى سمعك أبرز وأوضح منه. وتأمل كلام
(1) امتصح: ذهب، والمعنى أنه إذا الراح أزبدت في هذه الباطية الواسعة لم يرد الإزباد، وسرعان ما يأفل لكثرة الخمر ويذهب قبل أن يصل إلى الجانبين ويسيل من الأطراف.
(2)
المكوك: قدح صغير.
(3)
النازح: الغارف، من نزحت البئر: إذا أخذت من مائها فهي منزوحة.
(4)
نام عمدا: قال هذا الكلام ليعطيك صورة الزق وأطرافه شائلة.
(5)
ذو العتب: العود لأن مقبضه مدرج فيه مفاتيح تحركها الأصابع. والزير: من أوتار العود. وعنى به هنا الوتر من حيث هو، لا وترا خاصا.
(6)
الربح كجرذ: القرد. والنصاحات: الحيال، ويشير هنا إلى حبال القرود حينما يلعب بها المضحكون فهي تتواثب وتنزو وكذا السكارى.
(7)
الكسح: داء.
الأعشى تجد دندنة الرمل فيه مبارية لمعانيه حتى إنك لتحسبها جزءًا ضروريا من تلك المعاني. ولذلك فكلام الأعشى يعطيك صورة مجل الشراب وجلبته ونشوته وغناءه وترتح مترنحيه، وانبطاح منبطحيه، وتعثر الكلام والمشي والحركة فيه، وما يتبع ذلك من اندلاق قدح، وانكسار زجاجة، وشخير مخمور، وغلبة النوم على بعض من يتكلف السهر، واصطدام المكاكيك العائمة في الباطية إلى غير ذلك مما يحدث في مجالس السكر. وأما كلام الأخطل فهو على ما فيه من التشبيهات والأوصاف (المأخوذة من الأعشى) لا يمثل لك صورة مجلس الشراب بقدر ما يمثل لك النشوة التي تدخل في رأس السكران المؤمن بأن السكر من طيبات الرزق وخيرات الحياة.
ألا ترى إلى قوله مثلا:
وتوقف أحيانا فيفصل بيننا
…
غناء مغن أو شواء مرعبل
أتراه يعمد إلى تصوير الغناء كما فعل الأعشى أو ينهمك في نحو من الوصف الخالص؟ وإنما هي لمحة خاطفة أوردها لكي يكمل معنى النشوة الذي صوره لك بدءا. وهذا التصوير للنشوة - في نفسه هو خاصة- يجعل كلام الأخطل مختلفا في جوهره عن كلام الأعشى وإن كان مظهر الكلامين واحدًا. وإذا تأملت كلام الأخطل بعد وجدت فيه أبهة تحمل ما أراده وكان قصد إليه من تمثيل الشعور السلطاني الذي استولى على نفسه حين انتشى. أما الأعشى فإنه مع استرساله القصصي الصبغة، ورقته، وبراعته، في الوصف، له رنة حزينة منشؤها -فيما أرى- ملنخوليا الرمل، فهي متداخلة في معاني الشاعر حتى إن بعض ألفاظه لم يسلم منها. أنظر إلى قوله مثلا:
بين مسلوب كريم خده
…
وخذول الرجل من غير كسح
ألا تحس في قوله: "كريم خده"، وفي قوله:"من غير كسح" شيئا من معاني الرثاء والأسى؟
وفي الرمل رقة وعذوبة مع ما فيه من الأسى. ولذلك أكثر منه الغزلون أمثال ابن أبي ربيعة. وقد تعاطاه بعض العراقيين الذين كانوا ينظمون في الملاحم والأحداث. والشعر الغزلي يناسب الرمل أكثر من هذا النوع الآخر الملحمي. لأن ذكر الملاحم -لا سيما في معرض المفاخرة والمنافرة- يحتاج إلى رنة قاسية غليظة، وفحوى معاني الفخر وما إليه تتنافر مع رقة الرمل وملنخولياه. وما أظن الذين استعملوه من أصحاب الملاحم فعلوا ذلك إلا لخفة هذا الوزن وسهولته في الحفظ. فمن هنا أصابوا، ولكنهم خطئوا من حيث عدم مناسبة هذا الوزن لأغراضهم. وقد فتح باب الرمل في هاته الناحية الملحمية، في الإسلام، نابغة بني جعدة، إذ نظم في صفين كلمة لامية طويلة تأثر فيها عبد الله بن الزبعري، منها قوله المشهور:
ليت شعري عن أناس درجوا
…
أهل صفين وأصحاب الجمل
وجانب الرقة فيها واضح. وفيها تندم على ما كان من انشقاق المسلمين واحترابهم. [وقد ذكر جانبا من هذه القصيدة نصر بن مزاحم في كتابه عن صفين](1).
وقد قلد أعشى همدان نابغة بني جعدة بلامية مطلعها (2):
اكسع البصري إن لاقيته إنما يكسع من قل وذل
وليست هذه القصيدة موجودة بأكملها في ديوانه. إذ ليس فيه منها (طبعة أوروبا - جاير) غير أحد عشر بيتا. وأرجح أنها كانت طويلة كسائر ملحميات أعشى همدان، وأن أيدي الزمن قد عبثت بها. وما بأيدينا منها ليست فيه ذرة من رقة الرمل وملنخولياه. خذ قوله مثلا:
(1) طبعه عبد السلام هرون، بمصر.
(2)
ديوانه 337.
أفخرتم أن قتلتم أعبدًا
…
وهزمتم مرة آل عزل
نحن سقناهم إليكم عنوة
…
وجمعنا أمركم بعد فشل
وعفونا فنسيتم عفونا
…
وكفرتم نعمة الله الأجل
فهذا كلام غليظ خشن، وبحر الرمل لا يناسبه. ولذلك تجده فاقدًا للموسيقا والرنين، إذ أن رنين الشعر لا يتم إن لم يوافق معناه طبيعة نغمه ووزنه.
وقد أردك بعض المرفقين من طبقات المولدين الأولين رقة الرمل وعذوبته فتعاطوه في غزلياتهم، واستغلوا ناحية الملنخوليا والأسى فيه، لتصوير مجونهم وغرامياتهم. من ذلك ما فعله بشار في رائيته الرملية الفاجرة حيث يقول (1):
أمتى بدد هذا لعبي
…
ووشا حي حله حتى انتثر
فهذا كلام يمثل ما تصطنعه الجارية من تألم وبكاء إذا عصفت بها عواصف الريدة الجسدية.
وكثر الرمل عند متأخري المولدين، فاستعملوا فيه التوشيح وسلكوا به كل مسلك، وخف على ألسنتهم حتى إن ابن الوردي نظم فيه لاميته المشهورة:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل
…
وقل الفصل وجانب من هزل
وهي تجري مجرى الرجز التعليمي، على أنها تنظر من بعد إلى لاميات أعشى همدان والجعدي وابن الزبعري. وقد كتب لها من السيرورة ما لم يكتب للاميتي العرب والعجم، وما لم يكتب لرجزية أبي العتاهية ذات الأمثال على سهولة لفظها. وما ذلك إلا لأن بحر الرمل قد لذته نفوس المتأخرين حتى صار عندهم بمنزلة الأوزان القصار. وقد وفق ابن الوردي توفيقا لا ينكر حتى إن روح الأسى ليشيع في قطع عدة
(1) انظر الأغاني 3 - 173.
من لاميته على ما في صناعتها من لبن. والرجل قد عاش في عصر غلبت عليه نزعة التصوف و"الدروشة" وكان قصد بلاميته إلى المتفقهة وأضرابهم ممن لا تهزهم الجزالة والرصانة.
وقد ذكرنا من قبل أن شوقيا أنشر الرمل في دنيا الشعر المتين. ومن تأمل ديوانه الأول وجده يجري بحري الرمل (الطويل والقصير) مجرى القصار من الأوزان، لقصره النظم فيهما -بحسب الغالب- على المناسبات التي تستدعي شعرًا خفيفا مثل قوله:(1 - 312).
ارفعي الستر وحيي بالجبين
…
وأرينا فلق الصبح المبين
وقفي الهودج فينا ساعة
…
نقتبس من نور أم المحسنين
واتركي فضل زماميه لنا
…
نتناوب نحن والروح الأمين
وكقوله (1 - 319):
قف على كنز بباريس دفين
…
من فريد في المعالي وثمين
وربما كان الأستاذ العقاد تأثر بروي هاتين الكلمتين في رثائه لسعد:
أمضت بعد الرئيس الأربعون
…
عجبا كيف إذن تمضي السنون
والكلمة التي قالها شوقي في أم المحسنين عيب عليه مطلعها واتهم بالرجعية لذكره الهودج والزمان. وعندي أن هذا ظلم ممن انتقدوه. فالرجل لم يكن يجهل أن الأميرة المصرية التي رام مدحها لم تكن ظعينة مثل ظعائن ربيعة بن مكدم ودريد بن الصمة، تركب الأحداج وتجزع البيد على الجماليات الهراجيب. بل قد كان من أشد الناس إحساسا بروح عصره، وأعرفهم بنواحي الحضارة والترف فيه، كما كان من أسلم الناس ذوقا في العربية وأعرفهم بأساليبها. وما أحسبه افتتح نونيته "ارفعي
الستر" بهذا الافتتاح النسيبي القديم إلا لغاية في نفسه. وما أستبعد أنه بذكره للهودج وللزمام وما إلى ذلك من نعوت الظعائن، كان يكني عن إعجاب أحسه بجمال أم المحسنين ولم يجد إلى ذكره صريحا من سبيل، بل لو صرح به لعد ذلك عليه من سوء الأدب. وما قرأت مطلع هذه القصيدة وتأملت فيه إلا تأكد عندي أن شوقيا إنما كان يتغزل في الأميرة، ولم يكن مقلدًا فحسب، ورجعيا أعمى في رجعيته.
ولم يقف إحياء شوقي للرمل على استعمال الطويل منه وحده، فله من القصير عدة كلمات في ديوانيه الأول والثاني وإن كانت كلها من النوع الوسط.
والرمل اليوم بنوعيه القصير والطويل -شكرًا لشوقي- بحر الشعر الركوب. وكأن الناطقين بالضاد استحالوا كلهم ملنخوليين باكين دامعين. تأمل الأمثلة الآتية (1):
ربما جدد أو هاج لنا
…
نبأ أو قصة من حبنا
نوح ورقاء أرنت حولنا
…
أو شجى قبرة مرت بنا
أو خطا إلفين في فجر الصبا
…
أترعا كأسهما من ذوبه
أو صدى راع على تلك الربا
…
صب في الناي أغاني حبه
حلم مثلته في خاطري
…
فعشقت الخلد في هذا الرواء
أنكروه فحكوا عن شاعر
…
جن بالخمر وأعوته النساء
ولقد قالوا شذوذ مغرب
…
وإباحية لاه لا يفيق
آه لو يدرون ما يضطرب
…
بين جنبيك من الحزن العميق
أولا يغرب في نشوته
…
شارب الغضة في اليوم الأخير
أولا يمعن في نشوته
…
مسلم الجسم إلى الدود الحقير
(1) ليالي الملاح التائه، راجع 24 - 26.
(2)
نفسه 5 - 6.
وهكذا .. وهلم جرا
ولا أحتاج إلى الدليل على مكان الملنخوليا من هذا الكلام. وهاك مثالا آخر للشاعر نفسه (2):
أين من عيني هاتيك المجالي
…
يا عروس البحر يا حلم الخيال
ذهبي الشعر شرقي السمات
…
مرح الأعطاف حلو اللفتات
كلما قلت له خذ قال هات
…
يا حبيب الروح يا أنس الحياة
أنا من ضيع في الأوهام عمره
نسي التاريخ أو أنسي ذكره
غير يوم لم يعد يذكر غيره
يوم أن قابلته أول مره
أين من عيني هاتيك المجالي
…
يا عروس البحر يا حلم الخيال
قال من أين؟ وأصغى ورنا
…
قلت من مصر غريب ههنا
قال إن كنت غريبًا فأنا
…
لم تكن فينسيا لي وطنا
إلخ .. إلخ
فهذا فيه رنة من أسى وإن لم يكن عنصر الملنخوليا فيه صرفًا خالصًا. ولا يخفى على القارئ ما في أبيات المرحوم علي محمود طه هاته التي استشهدنا بها من اللين اللفظي والمعنوي مع غموض في التشبيهات والصور والتعابير على وجه الإجمال، مثل قوله (1):
حيث روى الموج في أرخم نبره
…
حلم ليل من ليالي كليوبتره
(1) نفسه 7.
ومثل قوله (1):
وترنم بالنشيد الوثني
…
هذه الليلة حلم العبقري
وهذا الغموض نشؤه حضرية في الذوق وضعف في الأداء. والرمل يكسوه ثوبًا هلهلا من الدندنة الدامعة.
والرمليات من الطويل والقصير في هذا العصر لا تحصى عدا. والجيد فيها أندر من الكبريت الأحمر، ولعلك لا تجده في غير الشوقيات، ولا أستثني من ذلك بائية حافظ في الميكادو على خفة روحها ولا تائية العقاد:
يا نديم الصبوات
…
أقبل الليل فهات
على شغف كثير من الناس بها ولا سيما بالسودان. وقد قارب الدكتور ناجي أن يجيد في قوله (2):
وحبيب كان دنيا أملي
…
حبه المحراب والكعبة بيته
من مشى يومًا على الورد له
…
فطريقي كان شوكًا ومشيته
من سقى يومًا بماء ظامئًا
…
فأننا من قدح العمر سقيته
خفق القلب له مختلجا
…
خفقة المصباح إذ ينضب زيته
قد سلاني فتنكرت له
…
وطوى صفحة حبي فطويته
فهذا معنى شريف في جملته ولكن لفظه وضيع وقد جاء به الشعراء في صياغة أسمى من هذه بكثير كما في قوله الآخر:
وهبك يميني استأكلت فقطعتها
…
وجشمت قلبي صبره فشجعا
(1) ليالي القاهرة لإبراهيم ناجي (مصر) ص 64.
(2)
()؟ ؟ ؟ ؟ ؟
وقد جاء به لبيد وافيًا في قوله من المعلقة:
فاقطع لبانة من تعرض وصله
…
ولشر واصل خلة صرامها
وأحب المجامل بالجزيل وصرمه
…
باق إذا ظلعت وزاغ قوامها
ومثل هذا كثير.
ومن تأمل كلام الدكتور ناجي وجد كثيرًا من تشبيهاته ومقابلاته لا تستقيم.
مثلا قوله: "حبه المحراب إلخ"، ما هو وجه الشبه بين الحب والمحراب؟ وما هي الصلة بين الكعبة والمحراب؟ وإذ قد جعل بيت الحبيب هو الكعبة فقد كان ينبغي أن يجعل حبه دينا يدفعه إلى زيارة تلك الكعبة لا محرابًا. وتأمل قوله:"من مشى يومًا على الورد له" أحسبه عنى "من مشى يومًا على الورد إلى حبيبه" فاضطره الوزن إلى استبدال لفظ "حبيبه" بضمير يعود إلى الحبيب الهاجر الذي من أجله نظمت هذه القصيدة. ويستفاد من هذا أن الشاعر كان قد صحب هذا الحبيب على ضماد أو شركة، وأن غيره من المحبين لم يلاقوا من المشاق ما لاقاه. وهذا لم يرده الشاعر وإن كان لفظه يفيده. وقوله "وطريقي كان شوكًا ومشيته" كان الوجه فيه أن ينتهي عند قوله "شوكًا"، إذ لا حاجة إلى قوله "ومشيته"، وهذا نهج إفرنجي في التعبير، والإفرنج يؤثرون الإطناب على الإيجاز. وقوله:"سلاني فتنكرت له" مراده فيه: "قد سلاني فتصبرت على ذلك، وعزمت -إن هو حاول أن يعود إلى ما كان عليه من وصل- أن أعزف عن وصله". وهذا معنى لا يؤديه لفظه إلا بالحدس والتخمين. وكيف يتنكر المرء لمن قد سلاه وهجره، فالمتنكر هو السالي الهاجر لا المهمل المهجور.
ومهما يكن من شيء فمراد الشاعر مفهوم بالرغم من اضطراب ألفاظه وهذا يغفر له. وفي شرف معناه وحلاوة وزنه ما يقرب به إلى الحسن والإجادة.