المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة عن الرجز - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ١

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌ الجزء الأول: في النظم)

- ‌[تقدمة]

- ‌الإهداء

- ‌تقديم الكتابللأستاذ الكبير الدكتور طه حسين

- ‌شكر واعتراف

- ‌خطبَة الكتاب

- ‌الباب الأولفي النظم

- ‌النظم العربي يقوم على عمادين:

- ‌المبحث الأولعيوب القافية ومحاسنها وأنواعها

- ‌ الإقواء

- ‌الإيطاء

- ‌السناد

- ‌التضمين:

- ‌الردف المشبع:

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌القوافي المقيدة:

- ‌القوافي الذلل:

- ‌القوافي النفر:

- ‌القوافي الحوش:

- ‌هاءات القوافي:

- ‌حركات الروي:

- ‌تعقيب واستدراك:

- ‌خاتمة عن جودة القوافي:

- ‌المبحث الثانيأوزان الشعر وموسيقاها

- ‌الفصل الأول

- ‌تمهيد:

- ‌النمط الصعب (1)

- ‌الأوزان المضطربة (2):

- ‌الأوزان القصار (3):

- ‌ الخفيف القصير

- ‌الخبب والرجز القصيران والمتقارب المنهوك:

- ‌المتقارب المنهوك:

- ‌خلاصة:

- ‌البحور الشهوانية: (4)

- ‌كلمة عامة:

- ‌مستفعلن مفعو أو مفعول (5)

- ‌بحر المجتث (6)

- ‌الكامل القصير (7)

- ‌مخلع البسيط (8)

- ‌الهزج (9)

- ‌الرمل القصير (10)

- ‌الفصل الثانيالبحور التي بين بين

- ‌المديد المجزوء المعتل (1)

- ‌السريع (2)

- ‌الكامل الأحذ وأخوه المضمر (3)

- ‌الفصل الثالثالبحور الطوال

- ‌(1) المنسرح والخفيف:

- ‌المنسرح

- ‌الخفيف

- ‌همزيات الخفيف

- ‌داليات الخفيف

- ‌ضاديات الخفيف:

- ‌لاميات الخفيف ونونياته:

- ‌الرجز والكامل:

- ‌كلمة عن الرجز

- ‌التعليمي

- ‌كلمة عن الكامل

- ‌كامليات شوقي

- ‌الكامل عند المعاصرين

- ‌3 - المتقارب

- ‌4 - الوافر:

- ‌كلمة عن الوافر:

- ‌وافريات المعاصرين:

- ‌الطويل والبسيط:

- ‌وزن البسيط

- ‌كلمة عامة عن الطويل والبسيط

- ‌كلمة عن البسيط

- ‌خاتمة

الفصل: ‌كلمة عن الرجز

كلب جرى لما رأى لما رأى

لصًا أتى، يا لص لا يا لص لا

والقط في والقط في ساحاتنا

والفأر لا يخشاه فلتعجب لذا

والشعر لا يتبع الوزن السالم، كهذا الذي ذكرناه، كل الاتباع. وإنما ينوع الشاعر في الأجزاء حتى يبعد بها عن الرتابة. ولهذا فكثيرًا ما تصير التفعيلة "مستفعلن متفعلن" أو "مفتعلن" وأحيانا "متعلن"، وهذا رديء غاية الرداءة - والنوع الأول من التغيير اسمه "الخبن" والثاني اسمه "الطي" والثالث اسمه "الخبل".

ومثل الرجز من الشعر قول المعري (1):

أهاجك البرق بذات الأمعز

بين الصراة والفرات يجتزي

مثل السيوف هزهن عارض

والسيف لا يروع إن لم يهزز

بدت لنا حاملة أغمادها

حمائل من الدجى لم تخرز

والوزن الثاني من الرجز ينقص من ناحية العجز الأول، ومثاله من الكلمات:

مستفعلن مستفعلن مستفعل

يا صاحبي يا صاحبي يا صاحبي

ومثاله من الشعر (2):

ما هاج عينيك من الأطلال

المقفرات بعدك البوالي

‌كلمة عن الرجز

من الأساطير الشائعة المقبولة بين الأدباء أن الرجز هو أقدم أوزان العرب،

(1) التنوير: 131: 1.

(2)

لذي الرمة من أرجوزة طويلة مما جمعه توفيق البكري.

ص: 282

وأنه اشتق من حركة البعير، وأن أول من نطق به معد بن عدنان، إذ كان راكبًا فسقط فانكسرت يده، فجعل يصيح "يدي يدي يدي يدي"، فكان هذا رجزًا. وقد وجدت في بعض ما قرأت من الكتب التي تذكر هذه الأسطورة، أن معد بن عدنان كان يقول "وايداه وايداه". وهذا ليس برجز بحال من الأحوال، وإنما هو رمل.

ولا أريد أن أتناول هذه القصة بالنقد والتمحيص، فليس ذلك بأمر ذي بال. وكل ما أريد أن أزعمه هو أن الرجز لا يمكن أن يكون أقدم أوزان العرب في صيغته التامة، ولا بد أن تكون الأوزان الأول قد بدأت بصفة أقصر وأقل نظامًا منه. ولا يخدعنك ما يزعمونه من أنه مشتق من حركة الإبل فتتفاعل في عقلك مسائل البيئة والطبيعة، إلى غير ذلك من الاصطلاحات السيكولوجية المستحدثة. فالرجز من أوتاد وأسباب كغيره من أوزان العرب التي تدور كلها على "كم" المقاطع الطويلة والقصيرة، وعلى هذا لا يكون حظه في شبه حركة الإبل أكثر من حظها. ولعلما يكون حظ الخبب - والخبب من أسماء المشيات التي تمشيها الإبل - أوفر منه.

فإذا سلمنا بأن حظ الرجز في الشبه بحركة الإبل، لا يزيد على غيره من الأوزان، أو على الأقل على كثير من الأوزان القصار، لزم أن نسلم بأنه -لطوله- لا بد أن يكون جاء بعد القصادر منها ولا سيما المكونات من مقطع واحد نحو "تن تن تن تن تن" أو مقطع طويل وقصير نحو "تنن تنن". وإنما غر الناس من أمر الرجز أنه صار وزنًا شعبيًا وكثر نظم العرب له في شتى المناسبات فحسبوه لذلك رأس الأوزان وأباها.

والمقصدات من الرجز - نحو الأبيات التي استشهدنا بها من شعر المعري، مما تلتزم القافية في عجزه دون صدره، ليست بكثير. والغالب على الرجز أن تلتزم القافية في كل شطر منه، ويسمى حينئذ مشطورًا، ورأي العلماء أن يعدوا كل شطر من الرجز في هذه الحال بيتًا - وهذا مجرد اصطلاح ليس إلا؛ إذ قل أن تجد شاعرًا جاء بشطر

ص: 283

مفرد من الرجز ليس له أخ. والتقصيد في الرجز قبيح في الغالب وبحسبك منه أبيات المعري على الزاي، ومقصورة ابن دريد، وبعض متكلفات مهيار.

والقطع في الرجز أنسب من الطوال. لأنه كما قدمنا وزن شعبي. وقد كانوا يكثرون منه في المبارزات، والخصومات، والحداء وهلم جرا. والإيجاز أحسن في كل هذه المقامات من الإطناب. مثال ذلك قول عمار بن ياسر (1).

نحن ضربناكم على تنزيله

فاليوم نضربكم على تأويله

ضربًا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحق

إلى سبيله

وقول العنبري (2):

باتوا نيامًا وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم

خدلج الساقين خفاق القدم

هذا أوان الشد فاشتدي زيم

قد لفها الليل بسواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم

وكقول الهذلي (3):

إني امرؤ أبكي على جارية

أبكي على الكعبي والكعبيه

ولو هلكت بكيا عليه

(1) قالها في صفين وتروى:

نحن ضربناكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

وفي هذا سلامة من الضرورة.

(2)

استشهد الحجاج بأشطار من هذه القطعة في خطبته المشهورة، والزلم: القدح. خدلج الساقين: كتابة عن القوة. وزيم: اسم فرسه. والوضم: خشبة الجزار.

(3)

هو أبو جندب الهذلي، وقال هذه الأبيات وهو يطوف عريانا حول الكعبة.

ص: 284

وقول الجرهمية وهي تطوف:

أنت وهبت الفتية السلاهب

وهجمة يحار فيها الحالب (1)

وثلة مثل الجراد السارب

متاع أيام وكل ذاهب (2)

وقالت الأخرى:

ما لأبي حمزة لا يأتينا

يظل في البيت الذي يلينا

غضبان ألا نلد البنينا

تالله ما ذلك في أيدينا

وإنما نأخذ ما أعطينا

وقال الآخر يستسقي ربه:

رب العباد مالنا ومالكا

قد كنت تعطينا فما بدالكا

أنزل علينا الغيث لا أبا لكا

وقال منظور بن مرثد الأسدي:

جارية في سفوان دارها

معصرة أو قددنا إعصارها (3)

تمشي الهويني، مائلا خمارها

يسقط من غلمتها إزارها

وقال عبيدة بن هلال الخارجي:

أنا ابن شيخ قومه هلال

شيخ على دين أبي بلال

وذاك ديني آخر الليالي

(1) الهجمة: القطعة من الإبل.

(2)

الثلة: جماعة المعز أو الضأن.

(3)

سفوان: بناحية شرق الجزيرة، والجارية المعصرة هي التي كعب ثدياها.

ص: 285

وقال القطامي:

يا ناق سيري عنقا زورا

وقلبي منسمك المغبرا (1)

فسوف تلقين جوادا حرا

سيد قيس زفر الأغرا

ذاك الذي بايع ثم برا

وكان في الحرب شهابًا مرا

وقال عبد الله بن همام يهنيء أحد الخلفاء:

الله أعطاك التي لا فوقها

وقد أراد الملحدون عوقها

عنك ويأبي الله إلا سوقها

إليك حتى قلدوك طوقها

وقطع الرجز لا تكاد تحصى، ولا يكاد يخلو منها كتاب من كتب السير والأخبار وقد كان دأب العرب فيه القطع القصار، حتى جاء الإسلام فجعلوا يسلكون به مسلك التطويل. والسبب في ذلك عندي أنهم احتاجوا إليه في القصص الشعبي وأخبار الفتوح. ويخبرنا الرواة أن أول من طوله الأغلب العجلي، وهو من المخضرمين. وهذا خبر لا نستطيع أن نجزم بصحته. ولعل مصدره أن الأغلب العجلي اشتهر بالرجز دون القصيد وأن أكثر أرجازه كانت من الهجاء المراد به السيرورة.

وقد استفحل أمر الرجز عندما استقر العهد الأموي. وظهرت طبقة من الشعراء اشتهروا باسم الرجاز. وكان أكثر هؤلاء، كما يستدل من الأخبار، وكتب الأدب، بالعراق، والحاجة كانت ماسة هنالك إلى أنواع الشعر التي تلقى على البديهة أو الارتجال في مقام الرد والمنافرة والمفاخرة. ومصداق ذلك ما تجده من كثرة الرجز في شعر جرير على أن الذوق العام كان يفضل القصيد على الرجز لاتساع مجال القول فيه، ولأبهته وجلاله؛ ولذلك كان الراجز دون منزلة الشاعر. ولا ريب أن هذا قد أدى إلى شعور بالنقص بين الرجاز جعلهم يحاولون أن يبذوا أصحاب القصيد بأن

(1) العنق من سير الإبل: الشديد، وفيه ازورار وعنجهية.

ص: 286

ينظموا الرجز في أغراض القصيد، ولجوا في ذلك أيما لجاج، فاتخذوا القصائد الجاهلية والمخضرمة -كمنظومات لبيد والشماخ- نموذجًا يحذونه. وأعانهم على هذا اللجاج ما نفق بين طوائف أهل الأدب ولا سيما النحاة من حب الغريب. فكان الرجاز يمدون هؤلاء العلماء والنحويين بضالتهم من الألفاظ النادرة والتراكيب الغريبة، وربما تزيدوا واخترعوا. وقد سمى العجاج، أو ابنه، نفسه في بعض أراجيزه نحويًا. فهذا يقوي ما نزعمه.

والذين ثبت لهم السبق في الرجز من الإسلاميين الأوائل أبو النجم العجلي وذو الرمة والعجاج ورؤبة. أما العجاج ورؤبة فعندي أنهما خرجا بالرجز عما أريد له من الخفة والترنم، لأنهما التزما فيه الإطالة المملة مع تعمد للقوافي الصعبة، واستكثار من الأوابد اللفظية، ولم يخرجا في كل ما نظماه عن محاكاة الشماخ ولبيد وليس في نظمهما الكثير ما يستحق الحفظ، اللهم إلا من حيث الفائدة اللغوية إلا قافية رؤبة:

وقاتم الأعماق خاوية المخترق

فقد أحسن فيها كل الإحسان في صفة الحمار الوحشي - ولعل سر إحسانه أنه ذهب مذهب الحداء المطلق، واهتم بجرس الألفاظ، حتى لتكاد تسمع حركة الحمار ونهيقه منها، تأمل قوله:

حشرج في الجوف سحيلا وشهق

حتى يقال ناهق وما نهق

وقوله في الحمار:

إذا تتلاهن صلصال الصعق

يرمي الجلاميد بجلمود مدق

أي يصيب حجارة الصحاري بحافر له هو نفسه كالجلمود. وقد أعجب أبو

ص: 287

مسلم صاحب الدولة بهذه القصيدة جدًا، وقال لرؤبة وهو ينشده إياها:"أنا ذلك الجلمود المدق".

ومذهب أبي النجم وذي الرمة أسلم من مذهب العجاج وابنه، فالأول لم يخرج بنظمه -مع إطالته- عن مجرد الترنم، وما تجده في كلامه من الغريب فهو سليقي غير متكلف، إذا قد كان الرجل بدويًا قحا (1)، ومن خير ما نظمه أرجوزة في الحلبة أرودها صاحب العقد [172: 1] وهي غاية في الجودة، وإياها احتذى أبو نواس في طردياته المشهورة (2):

أما ذو الرمة فكان رجلًا يعيش في الجاهلية بقلبه وعقله، وكان شديد المحاكاة للجاهليين والسرقة منهم ولا سيما في وصف البادية والإبل والآرام، وكان مغرمًا بالصحراء ومظاهرها - غرامًا ما أحسبه كان طرفًا من حبه للجاهلية ونزعته الرجعية، يدلك على ذلك إفراطه في اتباع التشبيهات الجاهلية مع اجتهاد متعمد منه ليحسنها ويوضحها وللرجل في هذا المضمار مذهب لفظي خاص كأنما كان يتنبأ به عن الإغراب الذي جاء به أبو تمام فيما بعد. وهاك منه على سبيل المثال قوله (3)

وتيها تودي بين أسقاطها الصبا

عليها من الظلماء جل وخندق

(1) قحا بضم القاف بعدها جاء مشددة أي خالصا.

(2)

يوشك المرء أن يفرد ديوانًا كاملا من طرديات أبي نواس. وقد كان الإكثار من النظم في فن واحد فنًا شائعا في عصره، من ذلك منظومات أبي الشمقمق في قطه نازويه، ومنظومات أبي حكيمة في رثاء شبابه وقد وفق أبو نواس في استعمال الرجز لأنه أنسب بحر للطرديات، وهذا لا يقدح فيه ما نجده لزهير وامرئ القيس من طرديات في غير الرجز كالطويل مثلا، فذانك قد أرادا إلى وصف اللذة الناشئة عن الطرد لا الطرد نفسه، ويدل على هذا ما تجده عندهم من ذكر الخدم والطهاة.

(3)

يعني كأنها مخندق عليها، وكأنها لابسة جلا من شدة الظلام، والأبيات من قصيدته "أدارا بخروي" وسيأتي الكلام على شعره في جزء آخر من هذا الكتاب إن شاء الله.

ص: 288

غللت المهارى بينها كل ليلة

وبين الدجى حتى أراها تمزق

وعندي أن ذا الرمة كان يرتاح من القصيد إلى الرجز، إذ كان يهتم ويجد في نظم القصيدة ويتكلف التجويد. أما الرجز فكان يلقي الكلام فيه مترنمًا بلا كلفة. ولهذا فقد كان رجزه يتدفق سلسًا حلوًا، يقل فيه الإغراب بالنسبة إلى غيره من نظم الرجاز مثال ذلك أرجوزته:

هل تعرف المنزل بالوحيد

قفرًا محاه أبد الأبيد

وفيها يقول:

يا مي ذات المبسم البرود

بعد الرقاد والحشي المخضود

والكشح من أدمانة عنود

عن الظباء متبع فرود

أهلكتنا باللوم والتفنيد

ويقول:

قد عجبت أخت بني لبيد

وهزئت مني ومن مسعود

رأت غلامي سفر بعيد

يدرعان الليل ذا السدود

ويقول في قصر الصلاة وكان من المحافظين على أوقاتهم:

إذا حدوهن بهيد هيد

حتى استحلوا قسمة السجود

والمسح بالأيدي من الصعيد

ولاميته التي مطلعها:

ما هاج عينيك من الأطلال

المقفرات بعدك البوالي

غيرها تقادم الأحوال

وغير الأيام والليالي

حلوة النغم رشيقة الجرس، وقد مثل فيها كل ما تعرضه البادية من حسن

ص: 289

ومخافة في يسر وسلاسة مع لفظ شريف وصناعة متينة. خذ قوله مثلا:

إذا خرجن طفل الآصال

يركضن ريطا وعتاق الخال (1)

سمعت من صلاصل الأشكال

والشذر والفرائد الغوالي

أدبا على لباتها الحوالي

وقوله:

ومهمه دواية مثكال

تقمست أعلامه في الآل (2)

تسمع في تيهائه الأفلال

عن اليمين وعن الشمال

فنين من لهاله الأغوال

ومذهب جرير في الرجز قريب من مذهب ذي الرمة، إلا أنه أبرع القصيد، ورجزه في جملته دون قصيده في الجودة.

ومن المحدثين جماعة تعاطوا الرجز وأطالوا فيه - من هؤلاء بشار بن برد، فقد أكثر من الرجز، وكان فيه كثيرًا ما يتشبه بمذهب جرير والتكلف ظاهر في أرجوزته؛ [ديوانه 143: 1].

عوجا خليلي لقينا حسبا

من زمن ألقى علينا شغبا

وأرجوزته [نفسه 140: 1].

يا دار بين الفرع والجناب

عفا عليها عقب الأعقاب

وقد حاكى بشار ذا الرمة في أبيات من الثانية كقوله:

وقد أراهن على المثاب

يلهون في مستأسد عجاب

سهل المجاري طيب التراب

حور العيون نزه الأحباب

فهن أتراب إلى أتراب

فهذا ينظر من بعد إلى قول ذي الرمة: "إذا خرجن طفل الآصال"، وقد سبق ذكره مع أشطار. وفي هذه البائية شطر سلخه بشار سلخًا من ذي الرمة وهو قوله:

فانقلبت والدهر ذو انقلاب

(1) الربط والخال: من الثياب. والأدب: العجب.

(2)

مثكال: أي يهلك سالكها. وتقسمت: غطست. والأفلال: أي الخاليات.

ص: 290

فهو من قول غيلان: "فاستبدلت والدهر ذو استبدال"، والسرقة في تركيب اللفظ ورصفه هنا، إذ المعنى معروف ليس فيه ابتكار، ولم يخل بشار من اتباع للعجاج وابنه لا سيما في المدح. تأمل قوله:

فالآن ودعت الفتو الحزبا

أعتبت من عاتبني أو سبا

وراجعت نفسي حجاها عقبا

وملك يحبي القرى لا يجبى

ضحم الرواقين إذا اجلعبا

يخافه الناس عدًا وصحبا (1)

كما يخاف الصيدن الأزبا

صب لنا من وده واصطبا (2)

وفي الأخرى يقول:

يا عقب يا ذا القحم الرغاب

في الشرف الموفي على السحاب (3)

يربي على القوم بفضل الرابي

وأنت شغاب على الشغاب

للخطة الفقماء آب آبي

وهذا، وإن كان ليس فيه غريب كثير، فإن فيه نفس رؤبة وأسلوبه. وخير أراجيز بشار هي داليته التي أوردها صاحب الأغاني على تمامها، وذكر أن سبب نظمها هو أن عقبة بن رؤبة تحدي بشارًا بمجلس عقبة بن سلم. وهي من أحلى شعر بشار.

(1) اجلعب: نزل واضطجع.

(2)

الصيدن: نوع من الذباب، والأزب: الجمل الكثير شعر الحاجب.

(3)

ياذا القحم الرغاب: يا ذا المخاطرات العظيمة، ورغاب: جمع رغيب.

ص: 291

مع سلاسة ودماثة قل نظيرها عنده، فقد كان الرجل جافًا، خشن الروح، مبغضًا للناس، ومما يختار له فيها (1):

واهًا لأسماء ابنة الأشد

قامت تراءى إذ رأتني وحدي

كالشمس تحت الزبرج المنقد

صدت بخد وجلت عن خد

ثم انثنت كالنفس المرتد

عهدي بها سقيا له من عهد

تخلف وعدًا وتفي بوعد

وليس في هذا الكلام من عمق ولا ابتكار، ولكن لفظه ناصع. ولعله لم يحسن في هذه الأشطار حق الأحسان إلا في الأخيرين.

وقد شفت بعض أبياته عن كراهيته المتأصلة لبني آدم، وذلك قوله:

وصاحب كالدمل الممد

حملته في رقعة من جلدي

حتى مضى غير فقيد الفقد

وما درى ما رغبتي من زهدي

ولكن هذا السخط على شدته مقبول، لأنه ينم عن ألم ممض. ولا يدري الناقد إن كان عنى بشار بهذا الصاحب البغيض "زوجه" فقد ماتت قبله، إذ لا يذكر النقاد أن أحدًا تبع جنازته غير أمة له عجوز، أم أحد إخوانه الذين كانوا يلبسون ثيابه فيملئونها قملا ووسخا وهو يحتمل ذلك منهم ولا يشكو؟ !

وأبو نواس أبرع في الرجز من بشار، لأنه لم يسلك به مسلك القصيد من ذكر الأطلال إلى النسيب والمدح كما فعل بشار. وإنما سلك به في الغالب مسلك الحداء والطرد.

وكذلك فعل أبو تمام في أراجيزه المطرية؛ فقد كان الرجل من البصر بالشعر،

(1) الأغاني: 175: 3.

ص: 292

وسلامة الذوق، بحيث أدرك بفطرته أن الرجز لا يصلح إلا للوصف المستخف والترنم، والأشياء التي تجري مجرى الحداء. وقد سمع ابن الأعرابي -وهو من هو في حب القديم والمحافظة على أساليب العرب- قطعة من أرجوزته المطرية المطرية التي يقول فيها (1):

لما بدت للأرض من قريب

تشوقت لوبلها السكوب

تشوق المريض للطبيب

وطرب المحب للحبيب

وفرحة الأديب بالأديب

وخيمت صادقة الشؤبوب

فقام فيها الرعد كالخطيب

وحنت الريح حنين النيب (2)

فالشمس ذات حاجب محجوب

قد غربت في غير ما غروب

الخ

لما سمع ابن الأعرابي هذه الأرجوزة طرب لها، واستكتبها بعض الحاضرين، ثم لم أخبر أنها لأبي تمام قال لكاتبه:"مزق مزق"، وهذا من نادر التعصب.

ودالية أبي تمام:

حماد من نوء له حماد (3)

لا تقل عن البائية في الجودة، ومما يعجبني فيها قوله:

هدية من صمد جواد

ليس بمولود ولا ولاد

ممنوعة من حاضر وباد

حتى تحل في الصعيد الثادي

فهذا من جوهر الرجز.

(1) ديوانه 353 - 354.

(2)

في الأصل "النوب" وهذا يعقل، والنيب: هي الإبل المسان.

(3)

ديوانه 356.

ص: 293

ومن حذق أبي تمام أنه لم يسرف في الإطالة كما كان يفعل بشار وغيره من المحدثين.

وقد اتبع البحتري نهج أبي تمام في مطريته:

ذات ارتجاز بحنين الرعد

وهي مشهورة ومن المختارات المدرسية.

ومطريات أبي تمام تدخلنا في باب من الرجز أستحسن أن أطلق عليه اسم "رجز الطبيعة". وهو من الشعر الخفيف الذي لا يعدو وصف الأزهار والمواسم كالصيف والخريف. وقد أكثر فيه المحدثون ولا سيما في أخريات القرن الثالث. وفي اليتيمة قطع صالحة منه؛ بعضها في وصف الفصول، وبعضها في صفة الشراب. وقد اختار أبو منصور الثعالبي لأبي فراس الحمداني أبياتًا عدة في جزئه الأول من هذا القبيل (1) ولابن الرومي أراجيز كثيرة في المأكولات كالموز والعنب وما بمجراها. وأبياته الرازقية:

ورازقي مخطف الخصور

مشهورة معروفة. وفيها لفتات بارعة كقوله: "كأنه مخازن البلور"، يعني العنب الرازقي. ولعلك تلاحظ أن هذا التشبيه خارج من الذهن لا من القلب الشاعر الصادق الحرارة - وكذلك أكثر شعر ابن الرومي كما أسلفت.

هذا، والغالب على أراجيز الطبيعة أن تكون مزدوجة الأبيات، أي كل شطرين منها بقافية موحدة، كما في كلمة أبي إسحق الصابي عن الببغاء:

أنعتها صحبية مليحة

ناطقة باللغة الفصيحة

(1) يتيمة الدهر 83: 1.

ص: 294