الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أشم شذى الأنفاس منك وفي غد
…
سيرمي بنا البين المشت المراميا
وألثمه كيما أبرد غُلتي
…
وهيهات لا تلقى مع النار راويًا (1)
فقبلت كفيه وقبلت ثغره
…
وقبلت خديه وما زلت صاديًا
كأنا نذود البين بالقرب بيننا
…
فنشتد من خوف الفراق تدانيًا
وأبيات القصيدة كلها حسن. وهي بلا ريب أميرة شعر الأستاذ العقاد. ومع أنها تنظر من بعد إلى قصيدة الحسحاسي (2):
عميرة ودع إن تجهزت غاديًا
…
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا
فإنها غاية في ذاتها ومن خير ما نظم المعاصرون في الطويل بعد كلمات البارودي.
كلمة عن البسيط
البسيط كما قدمنا أخو الطويل في الجلالة والروعة، إلا أن الطويل أعدل مزاجًا منه. ويُقصر بالبسيط أن فيه بقية من استفعالات الرجز ذات دندنة تمنع نغمه أن يكون خالص الاختفاء وراء كلام الشاعر، وكامل النزول منه بمنزلة الجو الموسيقي الذي يكون من الشعر كالإطار من الصورة. ولا يكاد روح البسيط يخلو
(1) قوله «راويا» فيه شيء من ضعف.
(2)
يخيل إلي -والله تعالى أعلم- أن المقتول سحيم آخر غير صاحب اليائية:
عميرة ودع إن تجهزت عاديًا
…
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا
إذ هذا كما ترى قد جاوز عصر الشباب في زمان عمر والآخر جلب ليباع في خلافة عثمان بحسب ما رووا. ثم بين نفس اليائية والسينية والميمية تباين. شاعر اليائية صافي القريحة منتش بلذة الشعر يمازجه في ذلك بعض الأسى. وشاعر السينية والميمية محتدم عارم متصيد للذات فإنك بها لا يبالي.
وما أكثر ما كانت تتداخل أخبار الشعراء وما يروى لهم. والله تعالى أعلم.
من أحد النقيضين: العنف واللين. وتكاد صبغته على وجه الإجمال تكون إنشائية إذا افترضنا في الطويل صبغة خبرية، وهذا مجرد تقريب وتمثيل.
وبما أن الوصف والقصص مما يغلب فيهما جانب الخبر على الإنشاء، فإن البسيط يتطلب منهما أنواعًا خاصة، وإلا فإنهما لا يستقيمان فيه ولا يصلحان له.
وأضرب لك مثلاً قول النابغة يخاطب النعمان:
ولا أرى فاعلاً في الناس يُشبهه
…
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان إذ قال الإله له
…
قم في البرية فأحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
…
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
وأحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
…
إلى حمام سراع وارد الثمد (1)
يحفه جانبًا نيق وتتبعه
…
مثل الزجاجة لم تُكحل من الرمد
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا
…
إلى حمامتنا ونصفه فقد (2)
فأكملت مائة فيها حمامتها
…
وأسرعت حسبة في ذلك العدد
فحسبوه فألفوه كما زعمت
…
تسعًا وتسعين لم تنقص ولم تزد
فالقصص هنا، وإن كان موردًا على سبيل العظة والتذكير، لا يخلو من تعمل وتكلف. والنابغة من قد عرفت في تجويد العبارة وإصابة القصد. وإنما أتي هنا من جهة الوزن الذي سلكه، وشبيه بهذا ما فعله الأعشي، وهو ينظر إلى النابغة في قوله:
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها
…
حقًا كما صدق الذئبي إذ سجعا (3)
(1) الثمد: الماء القليل.
(2)
فقد: فكفى- والقصة تشير إلى ما زعموه من ان زرقاء اليمامة رأت حمامًا، فقالت:
ليت الحمام ليه
…
ونصفه قديه
…
إلى حماميته
…
ثم الحمام ميه
(3)
الذئبي: سطيح.
إذ نظرت نظرة ليست بكاذبة
…
إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا
وقلبت مُقلة ليست بُمقرفة
…
إنسان عين ومأقا لم يكن قمعًا (1)
فكذبوها بما قالت فصبحهم
…
ذو آل حسان يُزجي الموت والشرعا (2)
فهذا الكلام وإن كان فيه نفس من روح الأعشي، خال في جملته من الرونق والقوة، ولو جاء به الأعشي في المتقارب لكان له شأن آخر.
والقصص الذي يستقيم في البسيط هو ما يكون فيه لون من عنف أو لين- فمثال الذي فيه العنف قول عبد الله بن سبرة الحرشي [وأحسبه الجرشي، لأنه لا حرش ببلاد قيس، وقد كان الرجل قيسيًا] يرثي أصابعه ويذكر قتاله مع أطربون الرومي (3):
ويلم جار غداة الروع فارقني
…
أهون على به إذ بان فانقطعا
يُمنى يدي غدت مني مُفارقة
…
لم أستطع يوم فلطاس لها تبعًا
وما ضننت عليها أن أُصاحبها
…
لقد حرصت على أن نستريح معًا
وقائل غاب عن شأني وقائلة
…
هلا اجتنبت عدو الله إذ صُرعا
وكيف أركبه يسعى بُمنصله
…
نحوي وأعجز عنه بعدما وقعًا
ما كان ذلك يوم الروع من خُلقي
…
ولو تقارب مني الموت فاكتنعا
أي دنا.
ويلمه فارسًا أجلت عشيرته
…
حامي وقد ضيعوا الأحساب فارتجعا
يمشي إلى مُستميت مثله بطل
…
حتى إذا أمكنا سيفيهما امتصعا
(1) قمع، ذو قمع، وهو داء.
(2)
الشرع: النبال والقسى.
(3)
أمالي الدار 1: 47 - 48.
أي اجتلدا، وفسره أصحاب حاشية الأمالي بقولهم «بعدًا» وذلك ليس بشيء.
كل ينوء بماضي الحد ذي شطب
…
جلى الصياقل عن ذرية الطبعا
يريد السيف: أي كل منهما يحمل سيفًا طويلاً من حديد جيد، له طرائق كأنها الذر في الرمل، والطبع: الصدأ.
حاسيته الموت حتى اشتف آخره
…
فما استكان لما لاقى ولا جزعًا
كأن لمته هُداب مُخملة
…
أحم أزرق لم يُشمط وقد ضلعا
فإن يكن أطربون الروم قطعها
…
فقد تركت بها أوصاله قطعًا
يعني كفه.
وإن يكن أطربون الروم قطعها
…
فإن فيها بحمد الله مُنتفعًا
بنانتين وجذمورًا أقيم بها
…
صدر القناة إذا ما آنسوا فزعًا
فهذا كلام يتقطر دمًا كما ترى، وقد كان ابن سبرة، صاحب هذه الأبيات من الفتاك لا يخشى في إقدامه عاقبة، ولا يبالي ما صنع. وفي هذه الأبيات العينية أمثلة من العنف الشديد. كقوله:«وكيف أركبه، إلى آخر البيت» ، فهذا مذهب محارب حريص على قتل قرنه، وكقوله:«حاسيته الموت إلخ» فأنظر إلى تحاسي الموت هذا، وأنظر إلى التعبير الدقيق عن قسوة القتال وفظاعته في قوله «حتى اشتف آخره». وأعنف ما في القصيدة بلا ريب قوله:«فقد تركت بها أوصاله قطعًا» ، وأذكر أني كنت أدرس تلاميذ أحد الفصول الرابعة من المدارس الوسطى عندنا بالسودان هذه القصيدة، فلما بلغنا قوله:«فقد تركت إلخ» صاح بعض التلاميذ: «وجع! » وهو لفظ تعجب يطلق في عاميتنا السودانية في موقف الهول والانتصار وما إلى ذلك.
وقد تكلم الأستاذ أحمد الزين رحمه الله عن هذه الأبيات كلامًا حسنًا في أحد الأعداد الأول من مجلة الثقافة، وما أحسبني أستطيع أن أزيدك على ما قاله.
ولعبد الله بن سبرة قصيدة طويلة عينية، أوردها التبريزي في شرح الحماسة يصف فيها قتله لرجل رام من إحدى عقائل قيس ريبة، وأورد لك خبر ذلك بحسب ما ورد في شرح الحماسة، قال (2 - 60):«كانت امرأة قيسية في بعض مدائن الشام، فتعرض لها بعض المتعزبة، فجعل يخطبها في العلانية، ويراودها عن نفسها في السر، فمر بها قوم فيهم ابن سبرة، فأرسلت إليهم خادمة لها، تسألهم هل فيهم رجل من قيس. قال ابن سبرة: نعم فما حاجتك؟ قالت: أنا مولاة امرأة من قيس ولها إليك حاجة، فأتاها، فأخبرته خبر الرجل، فقال: ابعثي إليه حتى أكلمه؟ فبعثت إليه، فراح مُهيئًا يرجو غير الذي لقي، فدخل فضربه ابن سبرة بسيفه حتى قتله، ثم حفر له في بيتها قامة، وقال لجاريتها: ادخلي فاخرجي التراب. فلما دخلت الجارية الحفرة ضربها فقتلها، فصاحت المرأة، فقال لها: اسكتي، فإنك إن أنذرت بنا هلكنا جميعًا، ولم يكن أمرك لينكتم مع هذه الجارية. فقالت: والله ما كان لي على وجه الأرض غيرها. فدفن أمر الجارية، ثم أتى أصحابه وقد استبطئوه، وساء ظنهم فيه، فأخرجوا ما معهم، فجمع لها سبعين دينارًا ثم أتى بها المرأة وقال: اشترى خادمًا مكان خادمتك» .
فهذه قصة فيها عنف شديد كما ترى، وفيها ظلم وتعد على الجارية المسكينة التي قتلها ابن سبرة على الظن. وقد ندم هو على ذلك ندمًا شديدًا، وإن كان مع ندمه يرى أنه قد أصاب وجه الحزم حين قتلها. فقال في ذلك (60 - 61):
دعتني وما تدري علام أجيبها
…
مُقنعة عنها أخو الضيم شاسع
لأدفع عنها صئبلاً مُصمئلة
…
وفي الله وابن العم للضيم دافع
فلما أمت الضيم عنها تبادرت
…
أسى ضللت منها هناك المدامع
بكاء على مملوكة قتلت لها
…
وما قتلت إلا لتخفى الودائع
وقلت لها لا تحزعي إن سرنا
…
متى ما يجزنا لا محالة شائع
أرحتك من خوف وذو العرش مخلف
…
وفي الصبر أجر حين تعرو الفجائع
وهذي لكم سبعون أوسا مكانها
…
وفيها إخال خادم لك نافع
فبعدًا له ميتًا ولا تبعد التي
…
به قُرنت في القبر ما حم واقع
إذا لم يزع ذا الجهل حلم ولا تقى
…
ففي السيف تقويم لذي الجهل رادع
أقول لدن فكرت عُقب مُصابه
…
إلهي تجاوز إن عفوك واسع
وإني أخو الذنب العظيم وإنني
…
إليك من الخوف المباغت ضالع
لي الويل إن لم تعف عني ولم يكن
…
بمنك لي عند الشفاعة شافع
فروح هذا الكلام كما ترى ليس فيه روح فتك، وإن كان الفعل الذي أوحى به فتكًا فظيعًا هائلاً. وما ذلك إلا لعنصر الندم والتفكير الشائع فيه. ولهذا حسن موقعه من البحر الطويل. ولو كان ابن سبرة أراد أن يقول هذا الكلام المختلف تيارات العواطف في البسيط لكان وجد مجال القول حرجًا. وأنظر إلى فرق ما بين هذه العينة وتلك التي قالها في أطربون الروم: العاطفة في تلك بسيطة واضحة لا اضطراب ولا عُقد فيها. والمعنى الذي أراده الشاعر معنى حماسة وقوة وفتوة، ولكن المعاني هنا عميقة معقدة. وليس قتل الرجل نفسه ولا قتل الجارية نفسها هو المعنى به، وإنما الدوافع التي دفعته إلى القتل، والتي جعلته يندم. وربما يحسن ونحن بصدد هذه الموازنة أن أذكر لك بيتين لابن سبرة من البسيط قالهما في قصة فتك ثالثة لم يلابسها خوف من العواقب ولا ندم.
وخبرها بحسب ما ذكره التبريزي أنه (59) «كان الرجل له فيروز، عطارًا يبيع القيسيات بأثناء الرات، فأتته قيسية فاشترت منه عطرًا وأكبت تناول
شيئًا، فضرب على أليتها، فقالت يا عبد الله بن سبرة ولا عبد الله بالوادي، فتغلغلت هذه الكلمة إليه وهو بقالي قلا فأقبل حتى أخذ فيروز فذبحه وقال:
إن المنايا لفيروز لمعرضة
…
يغتاله البحر أو يغتاله الأسد
أو عقرب أو شجًا في الحلق مُعترض
…
أو حية في أعالي رأسه ربد
أو مضمر الغيظ لم يعلم باحنته
…
وما يُجمجم في حيزومه أحد
وهذا من أعنف الكلام كما ترى ولم يُرد به الشاعر أن يلتمس عذرًا لما فعله، فهو يرى أنه قد أصاب، وأن سيفه كان سيف القدر. ثم هو يبالغ في تحقير شأن القتيل فيقول: وماذا إن قتلته، أليس إن غرق يموت، أو ليس إن افترسه أسد يموت، ومن يدري فربما تميته لسعة عقرب، أو غُصة تعترض في الحلق، أو لدغة من حية نكراء، فكما يجوز أن تقتله كل هذه الأشياء، فكذلك يجوز أن يقتله رجل محنق مغيظ عليه مثلي، يتربص به الغوائل، وهو غافل لا يدري، ولا يجول بخاطره أن أحدًا من الناس سيقتله.
فهذا كلام امرئ غير مكترث، ومثل هاته الأغراض يصلح فيها البسيط.
ومن نوع القصص الذي يصلح فيه البسيط ما ينزل منزلة الفخر ويُذهب به مذهب الخطب الطنانة من أوصاف الملاحم. من ذلك كلمة الأخطل (ديوانه 98 - 112):
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
…
وأعجلتهم نوى في صرفها غير
وفيها يفخر الأخطل بمقتل عُمير بن الحباب السلمي، ويذكر مواقع بني أمية في قيس، وقد كانت القيسية حينذاك منزوين عن بني أمية، وهاك منها أبياتًا تريك كيف ظهور روح الخطابة في هذه الكلمة:
بني أمية إني ناصح لكم
…
فلا يبيتن منكم آمنًا زُفر
واتخذوه عدوًا إن شاهده
…
وما تغيب من أخلاقه دعر
إن الضغينة تلقاها وإن قدمت
…
كالعر يكمن حينًا ثم ينتشر
وقد نُصرت أمير المؤمنين بنا
…
لما أتاك ببطن الغوطة الخبر
يعرفونك رأس ابن الحُباب وقد
…
أضحى وللسيف في خيشومه أثر
لا يسمع الصوت مُستكًا مسامعه
…
وليس ينطق حتى ينطق الحجر
والحارث بن أبي عوف لعبن به
…
حتى تعاوره العُقبان والسبر
وهو الحدأة:
وقيس علان حتى أقبلوا رقصًا
…
فبايعوك جهارًا بعدما كفروا
فلا هدى الله قيسًا من ضلالتها
…
ولا لعا لبني ذكوان إذ عثروا
ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم
…
وقيس عُيلان من أخلاقها الضجر
ولم يزل بسليم أمر جاهلها
…
حتى تعايا بها الإيراد والصدر
إذ ينظرون وهم يجنون حنظلهم
…
إلى الروابي فقلنا بعدما نظروا
كروا إلى حرتيهم يعمرونها
…
كما تكر إلى أوطانها البقر
وما سعى فيهم ساع ليدر كنا
…
إلا تقاصر عنا وهو مُنبهر
والقصيدة كلها على هذا المجرى القوي الخطابي، وتُشبهها شيئًا في الأداء، رائية كعب بن معدان الأشقري (1):
يا حفص إني عداني عنكم السفر
…
وقد سهرت فآذى جفني السهر
إلا أن لفظ التغلبي أجود، وكعب لم يقصر، بل أربى على الأخطل في ناحية ذكر المواقع، وقد كان شهد الحروب واصطلى بنارها. ورائيته هذه قالها بعقب انتصار المهلب على عبد ربه، وفرار قطري إلى أقاصي الجبال. وكان أوفده المهلب في جماعة
(1) الطبري 5: 122 - 126 (مصطفى محمد 1939).
إلى الحجاج بخبر النصر. فأول ما قاله له أنه جعل ينشد هذه القصيدة. فلما ذكر مطلعها قال له الحجاج: أشاعر أم خطيب؟ فأجاب: كلاهما. وكان كما قال إذ قد جمع في رائيته الطويلة هذه بين المدح والخطابة وتصوير أهوال الحرب فأبدع حق الإبداع. استمع إليه وهو يمدح آل المهلب والأزدونهوضهم وجدهم في إجلاء الخوارج وكسر شوكتهم:
ثاروا بقتلي وأوتار نُعددها
…
في حين لا حدث يُرجى ولا وزر
واستسلم الناس إذ حل العدو بهم
…
فما لأمرهم ورد ولا صدر
وما تجاوز باب الدرب من أحد
…
وعضت الحرب أهل المصر فانجحروا
عنى البصرة، وكان الشراة أحدقوا بها زمن القباع:
وأُدخل الخوف أجواف البيوت على
…
مثل النساء رجال ما بهم غير
واشتدت الحرب والبلوى وحل بنا
…
أمر تشمر في أمثاله الأزر
نظل من دون خفض مُعصمين بهم
…
فشمر الشيخ (1) لما أعظم الخطر
كُنا نُهون قبل اليوم شأنهم
…
حتى تفاقم أمر كان يحتقر
لما وهنا وقد حلوا بساحتنا
…
واستنفر القوم تارات فما نفروا
وسنعرض لهذه القصيدة الجليلة وشبيهاتها من القصائد في موضع آخر من كتابنا هذا إن شاء الله.
هذا والوصف -وهو أخو القصص- لا يلائم البسيط إلا إذا صحبه روح قوي من حنين أو ألم أو عاطفة ظاهرة جلية، فإن كانت العاطفة التي وراء الوصف من النوع الهادئ المتأمل، فقل أن يصلح البسيط لذلك، وكفى شاهدًا على ما أقول كلمة ذي الرمة الطويلة:
(1) عنى بالشيخ المهلب.
ما بال عينك منها الماء ينسكب
…
كأنه من كُلى مفرية سرب
وضلالاً كان يعدها ذو الرمة أميرة شعره (1)، فالرجل قد كان ذا مزاج متمهل متأمل، وكان الخبر أغلب في مذهبه من الإنشاء، والطويل أشبه به من البسيط.
ولعلك تقول لي هنا كالمعترض: ماذا عندك في هائية البحتري (ديوانه 319) يامن رأى البركة الحسناء رؤيتها» فهي من الوصف الهادئ المتمهل فيما يبدو، ولا ريب في جودتها، وبحرها البسيط كما تعلم؟ وجوابي عن ذلك أن هذا المزعم مردود، لأن هذه القصيدة مع دقة الوصف فيها، ونعومة المأتى، وإرهاف الحس وجودة السبك، ومع لفظها الناصع، وتمليها من نضرة الحضارة، ما أريد بها محض الوصف، ولا حاق التأمل. وإنما أنشأها البحتري ليمدح بها الخليفة ويشيد بمحامده وآثاره، ويسجل فيها حادثًا من أحداث البلاط العظيمة، هو تشييد البركة المتوكلية. ولا شك أن البحتري كان قد أعد هذه الهائية لتلقى في مشهد حافل، وعمد بها عمد الخطابة، ومن أجل ذلك اختار لها بحر البسيط (2) وأورد لك طرفًا منها لتتبين صحة ما أقول:
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها
…
والآنسات إذا لاحت مغانيها
ما بال دجلة كالغيري تُنافسها
…
في الحسن طورًا وأطوارًا تُباريها
أما رأت كالئ الإسلام يكلؤها
…
من أن تُعاب وباني المجد يبنيها
كأن جن سليمان الذين ولوا
…
إبداعها فأدقوا في معانيها
(1) القصيدة جمهرية، وهي في أول ديوانه، وقد كان جرير يستحسنها كاذبًا في ذلك. ولم يستشهد صاحب الكامل منها إلا ببيتين في معراض بعض المسائل النحوية، مع أنه قد استشهد بأبيات عدة من طويلياته ونبه على جودة قصيدته القافية «أدارا بُحزوى» ؛ فهذا يدلك على أنه لم يكن حسن الرأي فيها. ولولا أننا قد أفردنا لبائية ذي الرمة هذه وقصائد أخر من طواله شروحًا كاملة لفصلنا لك الكلام عنها في هذا الموضع.
(2)
ولقريب من هذا الوجه أختار ذو الرمة البسيطة للبائية وهي أميرة شعره ومن أميراث الشعر كله وكأن ما تقدم من مقالنا ما خلا من جور عليه وعلى جرير والله تعالى أعلم.
فلو تمر بها بلقيس عن عرض
…
قالت هي الصرح تمثيلاً وتشبيهًا
وهنا دقيقة لطيفة، إذ بلقيس حسبت صرح سليمان لجة فكشفت عن ساقيها، فأبدى ذلك عن شعر بهما لم يعجب سليمان. والبحتري هنا يزعم، على مذهب العكس، أنها لو رأت بركة المتوكل هذه لظنتها صرحًا، وإذن لكانت عاقبة ظنها في هذه الحال أسوأ بكثير من عاقبة ظنها في تلك الحال.
تنصب فيها وفود الماء مُعجلة
…
كالخيل جارية من حبل مُجريها
كأنها الفضة البيضاء سائلة
…
من السبائك تجري في مجاريها
إذا علتها الصبا أبدت لها حُبكا
…
مثل الجواشن مصقولاً حواشيها (1)
فحاجب الشمس أحيانًا يُضاحكها
…
وريق الغيث أحيانًا يباكيها (2)
إذا النجوم تراءت في جوانبها
…
ليلاً حسبت سماء رُكبت فيها
لا يبلغ السمك المحصور غايتها
…
لبُعد ما بين قاصيها ودانيها
يعمن فيها بأوساط مُجنحة
…
كالطير تنفض في جو خوافيها
لهن صحن رحيب في أسافلها
…
إذا انحططن وبهو في أعاليها
تغنى بساتينها القصوى برؤيتها
…
عن السحائب مُنحلاً عزاليها
كأنها حين لجهت في تدفقها
…
يد الخليفة لما سال واديها
وزادها رُتبة من فوق رُتبتها
…
أن اسمه حين تُدعى من أساميها
محفوفة برياض لا تزال ترى
…
ريش الطواويس تحكيه ويحكيها
والأبيات الأخيرة من هذه القطعة توضح ما ذكرناه آنفًا من أن البحتري عمد إلى الخطابة، وأراد الإشادة بمدح البركة متخذًا ذلك طريقًا غير مباشر لمدح الخليفة نفسه، ولم يرد محض التأمل والوصف.
(1) الجواشن: الدروع.
(2)
تأمل حسن الطباق في هذا البيت.
وأعوذ بك بعد إلى ما قلته في بدء حديثي من أن البسيط شديد الصلاحية للتعبير عن معاني العنف والتعبير عن معاني الرقة. خذ مثلاً قصيدتي البحتري والمهلبي في رثاء المتوكل. قصيدة البحتري من الطويل (ديوانه 1: 215) وها هي ذي نذكرها لك كاملة:
محل على القاطول أخلق دائره
…
وعادت صروف الدهر جيشًا تغاوره
كأن الصبا توفى نُذورًا إذا انبرت
…
تراوحه أذيالها وتُباكره
ورب زمان ناعم ثم عهده
…
ترق حواشيه ويورق ناضره
تغير حُسن الجعفري وأنسه
…
وقوض بادي الجعفري وحاضره
إذا نحن زُرناه أجد لنا الأسى
…
وقد كان قبل اليوم يُبهج زائره
تحمل عنه ساكنوه فجاءة
…
فعادت سواء دوره ومقابره
ولم أنس وحش القصر إذ ريع سربه
…
وإذ ذُعرت أطلاؤه وجآذره (1)
وإذ صيح فيه بالرحيل فهتكت
…
على عجل استاره وستائره
ووحشته حتى كأن لم يقم به
…
أنيس ولم تحسن لعين مناظره
ولم تجمع الدنيا إليه بهاءها
…
وبهجتها والعيش غض مكاسره
فأين الحجاب الصعب حيث تمنعت
…
بهيبتها أبوابه ومقاصره
وأين عميد الناس في كل نوبة
…
تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره
تخفى له مُغتاله تحت غرة
…
وأولى لمن يغتاله لو يجاهره! (2)
فما قاتلت عنه المنايا جنوده
…
ولا دافعت أملاكه وذخائره
ولا نصر المعتز من كان يُرتجى
…
له وعزيز القوم من عز ناصره (3)
(1) عنى بالوحش: النساء على التشبيه.
(2)
أي فالويل لمغتاله. ليته كان جاهره، أولى: بمعنى ويل، ولو للتمني.
(3)
عنى المعتز بالله، وكان المتوكل يقدمه على ابنه المنتصر، وكان يفكر أن ينزع المنتصر من ولاية العهد ويعهد بها إلى المعتز.
تعرض نصل السيف من دون فتحه
…
وغيب عنه في خراسان طاهره (1)
ولو عاش ميت أو تقرب نازح
…
لدارت من المكروه ثم دوائره
ولو لعبيد الله عون عليهم
…
لضاقت على وُراد أمر مصادره (2)
حلوم أضلتها الأماني ومدة
…
تناهت وحتف أوشكته مقادره
ومغتصب للقتل لم يُخش رهطه
…
ولم تُحتشم أسبابه وأواصره
صريح تقضاه الرماح حشاشة
…
يجود بها والموت حُمر أظافره
أدافع عنه باليدين ولم يكن
…
ليثنى الأعادي أعزل الليل حاسره
ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي
…
درى الفاتك العجلان كيف أساوره (3)
حرام علي الراح بعدك أو أرى
…
دمًا بدم يجري على الأرض ماثره
وهل أرتجي أن يطلب الوتر واتر
…
يد الدهر والموتور بالدم واتره
أكان ولي العهد أضمر غدرة
…
فمن عجب أن ولي العهد غادره
فلا مُلي الباقي تراث الذي مضى
…
ولا حملت ذاك الدعاء منابره
ولا وأل المشكوك فيه ولا نجا
…
من السيف ناضي السيف غدرًا وشاهره (4)
لنعم الدم المسفوح ليلة جعفر
…
هرقتم وجنح الليل سود دياجره
كأنكم لم تعلموا من وليه
…
وباغيه تحت المرهفات وثائره
وإني لأرجو أن تُرد أموركم
…
إلى خلف من شخصه لا يُغادره (5)
مُقلب آراء تُخاف أناته
…
إذا الأخرق العجلان خيفت بوادره
هذه قصيدة البحتري كاملة، وأنت تراه فيها قد أخفى لوعته الشخصية تحت
(1) الفتح بن خاقان نديم المتوكل. وطاهر بن عبد الله بن طاهر والي خراسان.
(2)
عبيد الله بن خاقان وزير المتوكل، أخو الفتح.
(3)
ذكر الرواة أن البحتري اختفى في إحدى أنابيب الدار لما هو جم المتوكل.
(4)
وأل: وجد موثلاً، والمشكوك فيه هو المنتصر، لأنه كان يتهم بتدبير المؤامرة.
(5)
يغادره: أي يضمر له الغدر، وأظنه عنى المعتز.
ستار التفكر في هول الحادث، والتأمل في أحوال الدنيا الغدارة. فاستهل كلامه بذكر الأطلال كما كان يفعل القدماء. وجعل طلله قصر المتوكل نفسه ليرمز بذلك إلى ما أصابه من خراب بفقد سيده، وإلى ما دهاه به الدهر من تكدير صفائه وإذلال أبهته وعظمته. ثم انتقل من ذلك إلى تعظيم أمر الخلافة وتهويل ما اقترفه المغتالون من حُرمتها مع حسرة وتفجع في ذلك، واستسلام للقضاء، وخضوع لصولته. تأمل قوله:«فأين الحجاب العصب، البيت» . ثم أخذ يوضح بعد ذلك كيف أن صُروف القضاء جميعها قد تواطأت على خذلان المتوكل، من إحكام المتأمرين لما أجمعوا عليه من الغيلة، ومن أن الفتح كان أعزل، وأن أخاه عبيد الله لم يجد عونًا على العدو. وأن طاهر بن عبد الله كان بعيدًا بخراسان ثم أخذ بعد ذلك يصف منظر الفتك نفسه، وقد أحسن في تصوير عجزه هو نفسه حيث قال:«أدافع عنه باليدين، البيت» وإن كان قد كذب في ذلك. ولم يخل من نفج وخروج عن جلال المقام حين قال: «حرام علي الراح، البيت» فهذا كان يقوله أمثال المهلهل في مثل كليب؛ وماذا يغني أن يُحرم البحتري حرامًا مجمعًا على تحريمه، حزنًا على أمير المؤمنين المقتول؟ وأي فائدة في تحريم الخمر على نفسه (على فرض أنها حلال) حتى يدرك تأثر بدم المتوكل؟ وهل مثل فاجعة المتوكل مما يغني فيه إدراك ثأر؟ أحسب أن البحتري لم يوفق في هذه الأبيات الأخيرة التي ختم بها القصيدة كتوفيقه في أولها، إذ نحس أن الأبيات الأخيرة تنظر إلى المتوكل من حيث إنه فرد لا من حيث إنه رمز لمعنى الدولة الإسلامية والخلافة العباسية كما في الأبيات الأول:
والآن أذكر لك قصيدة المهلبي (الكامل 2: 311 - 312):
لا حُزن إلا أراه دون ما أجد
…
ولا كمن فقدت عيناي مُفتقد
لا يبعدن هالك كانت منيته
…
كما هوى من غطاء الزبية الأسد (1)
(1) الزبية: شرك يصاد به الأسد. والتشبيه بليغ.
لا يدفع الناس ضيمًا بعد ليلتهم
…
إذ لا تُمد إلى الجاني عليك يد
لو أن سيفي وعقلي حاضران له
…
أبليته الجهد إذ لم يُبله أحد (1)
جاءت منيته والعين هاجعة
…
هلا أتته المنايا والقنا قصد (2)
هلا أتته أعاديه مُجاهرة
…
والحرب تُسعر والأبطال تجتلد
فخر فوق سرير الملك مُنجدلاً
…
لم يحمه مُلكه لما انقضى الأمد (3)
قد كان أنصاره يحمون حوزته
…
وللردى دون أرصاد الفتى رصد
وأصبح الناس فوضى يعجبون له
…
ليثا صريعًا تنزى حوله النقد (4)
علتك أسياف من لا دونه أحد
…
وليس فوقك إلا الواحد الصمد
جاءوا عظيمًا لدنيا يسعدون بها
…
فقد شقوا بالذي جاءوا وما سعدوا
ضجت نساؤك بعد العز حين رأت
…
خدًا كريمًا عليه قارت جسد (5)
كم في أديمك من فوهاء هادرة
…
من الجوائف يغلي فوقها الزبد (6)
إذا بكيت فإن الدمع مُنهمل
…
وإن رثيت فإن القول مطرد
قد كنت أسرف في مالي فتخلف لي
…
فعلمتني الليالي كيف أقتصد
لما اعتقدتم أناسًا لا حُلوم لهم
…
ضعتم وضيعتم من كان يُعتقد
ولو جعلتم على الأحرار نعمتكم
…
حمتكم السادة المذكورة الحشد
(1) هذا كقول البحتري «ولو كان سيفي» ، ولكنه أدق، وفيه مع ذلك خبر صريح بأن الناس قد فروا عن المتوكل.
(2)
قصد: متكسرة. وهذا كقول البحتري: «وأولى لمن يغتاله» البيت. وهو أدق لأنه يبين أنه من حق الخليفة أن ترعى حرمته، وألا يموت قتيلاً إلا في حرب، وهو يذب عن حرمة الدولة.
(3)
هذا كقول البحتري: وما قاتلت عنه المنايا.
(4)
تنزي: تتواثب. والنقد: صغار المعزى.
(5)
القارت الجسد، عنى به الدم الملطخ به جسده.
(6)
الجائفة: الطعنة تدخل في الجوف، والفوهاء: العظيمة الفم.
قوم هم الجذم والأحساب تجمعكم
…
والمجد والدين والأرحام والبلد (1)
إذا قريش أرادوا شد مُلكهم
…
بغير قحطان لم يبرح به أود (2)
قد وتر الناس طُرأ ثم قد سكنوا
…
حتى كأن الذي نيلوا به رشد
هذه قصيدة المهلبي. ومعانيها فيها مشابه من معاني رائية البحتري، إلا أن المهلبي كما ترى أعنف مسلكًا، وعاطفته أشد استعارًا. استهل كلامه ببيت مصرع ذكر فيه حُزنه الشخص على المتوكل. وكأنما جاء به تمهيدًا للكلام. ثم انتقل بالسامع فجاءة إلى هول النكبة، فشبه هوي المتوكل بهوي الأسد يسقط من غطاء الزبية، ثم أردف هذا التشبيه القوي بقوله:«لا يدفع الناس ضيما» البيت. وهو بيت على إيجاز لفظه، يحمل معاني عظيمة لم ينتبه لها البحتري في رائيته. ولما فرغ المهلبي في ثلاثة أبيات من تصوير حزنه وتصوير فظاعة المقتل وهوله، والتنبيه على عواقبه الوخيمة، أخذ بعد ذلك يفصل؛ فانتقل إلى موضوع القدر، وكيف أنه أعان المتآمرين بإسدال ستر الكتمان على نواياهم، وكيف أنه خذل المتوكل بجعل قتلته غيلة لا مجاهرة في الحرب والمعاني التي تناولها المهلبي في التعبير عن فعل القدر هي نفس التي تناولها البحتري مع فارق واحد: هو أن البحتري التزم جانب التسليم بالقضاء، والتفكر عبر الدهر والتحسر على إن كان ما قد كان، ولم يكن غيره من حضور وزير أو معين، أو وفرة سلاح يمكن به دفع القتلة. أما المهلبي فوقف من القدر موقف الساخط المحنق، إذ أنه جرد المتوكل من الأنصار، وجعل منيته بأيدي سفلة من الناس، ليس دونهم من أحد؛ وقد عدوا على حُرمة من ليس فوقه إلا الواحد الصمد. ثم لم يقف بالسخط على القدر عند هذا الحد؛ فتجاوزه إلى السخط المحنق، إذ أنه جرد المتوكل من الأنصار، وجعل منيته بأيدي سفلة من الناس، ليس دونهم من أحد؛ وقد عدوا على حُرمة من ليس فوقه إلا الواحد الصمد. ثم لم يقف بالسخط على القدر عند هذا الحد؛ فتجاوزه إلى السخط على القتلة أنفسهم، لأنهم ما ارتكبوا مجرد جريمة قتل، وإنما اجترءوا على الأمير الكبير، والرمز الأعلى للإسلام،
(1) الجذم: بكسر الجيم، الأصل.
(2)
أود: اعوجاج.
كل ذلك فعلوه لا لشيء إلا رغبة في عرض الدنيا الزائل من جاه ومال. وكأنه يُعرض في هذا بالمنتصر ولي العهد، وعندي أن تعريضه في هذا المقام أبلغ من تصريح البحتري:«أكان ولي العهد أضمر غدره» البيت. ثم لما بلغ هذا المبلغ من السخط والغيظ، انفجر يبكي بكاء حارًا على المتوكل، فسماه شهيدًا، ووقف يتأمل جسده الممزق المضرج بالدم، ثم ذكر فضله عليه وإحسانه وبره. وكأنه لم يرض هذا البكاء والجزع فالتفت ينظر إلى الجسد الممزق، وأخرج من صدره آخر غضبة على القدر وعلى الدنيا، وهذه المرة لم يقف غضبه عند لوم القدر ولوم الرعية، وتبكيت ولي العهد ومن نفذوا أمره؛ بل تعدى ذلك إلى الخليفة المقتول نفسه وإلى من سبقوه من خلفاء. وهنا جسر على ما لم يجسر البحتري، وأدرك من سر النكبة ما لم يدركه: اليس بنو العباس أنفسهم هم الذين مهدوا لحدوث مثل هذه الكارثة؟ أليس المتوكل نفسه جديرًا باللوم لأنه لم يردع طغيان الأتراك، ولم يعمل على تقوية الدولة، بأهلها الذين أسسوها من العرب؟ ولم يبكي هو الآن على المتوكل أو على غيره من ملوك بني العباس؛ وقد رآهم يعتقدون من لا حُلوم لهم من العبدي والأعاجم، ويُقصون العرب، وينسون قرابتهم وعصبيتهم، وأن هذا الملك إنما قام بأسيافهم بادي بدًا. وإذ قد بلغ المهلبي هذا المبلغ، فإنه يقذف بآخر ما عنده من حسرة قائلاً:«قد وتر الناس طرًا ثم قد سكتوا» البيت. فالموتور إذن ليس المعتز ولا بنو العباس، وإنما الناس جميعًا. وها قد صمت الناس وذلوا ولم يثوروا كما ينبغي أن يفعلوا، فهل للمهلبي بعد ذلك إلا أن يموت بغيظه؟ .
نفس هذه القصيدة عنيف أعنف من رائية البحتري. وذلك العنف يرجع إلى غيظ الشاعر على الأعاجم، وإلى اللفظ الجزل الذي تخيره للتعبير عن هذا الغيظ، وإلى رنة البحر البسيط، ورنة البحر البسيط عندي أبلغ أثرًا من اللفظ الذي تخيره، لأن البحتري يشاركه في الجزالة بل يفوقه كثيرًا.
ومن تأمل مرائي البسيط المشهورة كرائية أعشى باهلة المعروفة:
إني أتتني لسان لا أُسر بها
…
من عل لا كذب فيها ولا سخر (1)
وكلامية جرير في ابنه سوادة:
قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم
…
كيف العزاء وقد فارقت أشبالي (2)
لكن سوادة يجلو مقلتي لحم
…
باز يصرصر فوق المرقب العالي (3)
فارقتني حين كف الدهر من بصري
…
وحين صرت كعظم الرمة البالي
إن لا تكن لك البديرين باكية
…
فرب باكية بالرمل- معوال (4)
وكرائية الخنساء:
يا صخر وراد ماء قد تناذره
…
أهل المياه وما في ورده عار
هذا من كلام المتقدمين.
وكبسيطيات الأندلسيين في بكاء ديارهم نحو:
لكل شيء إذا ما تم نُقصان
…
فلا يُغر بطيب العيش إنسان
وكبائية المتنبي في أخت سيف الدولة:
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب
…
كناية بهما عن أشرف النسب
من تأمل هذه المرثيات جميعًا وجدها: إما تذهب مذهب السخط على القدر،
(1) الكامل 2: 291.
(2)
ديوانه 430.
(3)
اللحم بكسر الخاء: هو الموت هنا لشهوته للحم من يهلكه. وباز بيان للحم، وشبه الموت بباز لحم، وجعله فوق مرقب عال، أي مكان عال، لأن عين سوادة كانت شاخصة إليه تجلوه: أي تبصره.
(4)
الرمل: موضع ببلاد تميم.
وإما مذهب التجلد، وإما مذهب الجزع والضعف أمام المصيبة. فمثال الأول ما في دالية المهلبي، والثاني ما في رائية أعشى باهلة، والثالث ما في لامية جرير وشعر الخنساء. وقد تجمع بين المذهب الأول والثالث من غير توسط بينهما، وذلك ما فعله المتنبي في رثاء خولة، أخت سيف الدولة، بدأها بجزعه عليها، وختمها بسخطه على الأيام، ويأسه من الدهر. وقد تسلك مرثيات البسيط مسلك الدعوة إلى الثأر، كما في نونية حسان بن ثابت القصيرة التي رثى بها سيدنا عثمان حيث يقول:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به
…
يُقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا
لتسمعن وشيكًا في ديارهم
…
الله أكبر يا ثارات عثمانًا
وكل هذا يفسر ما ذكرناه لك من أن البسيط بحر النقيضين، إما الشدة وإما الرقة، ولا توسط في ذلك.
وإذا تركنا الرثاء ونظرنا في مدائح البسيط، وجدناها كلها تعمد إلى التفخيم، وتحم حم الخطابة، فإن كان صاحبها جاء بها معتذرًا، كما فعل كعب بن زهير أمام النبي صلى الله عليه وسلم، والنابغة أمام النعمان، فإنه يبالغ في الحلف، ويندفع في تمجيد الممدوح وإظهار قوته متطرفًا في ذلك. خذ مثلاً قول النابغة:
ما جئت من سيئ مما رُميت به
…
إذن فلا رفعت سوطي إلي يدي
إذن فعاقبني ربي مُعاقبة
…
قرت بها عين من يأتيك بالفند
نبئت أن أبا قابوس أوعدني
…
ولا قرار على زأر من الأسد
فما الفرات إذا جاشت غواربه
…
ترمي أواذيه العبرين بالزبد
يُمده كل واد مُترع لجب
…
فيه ركام من الينبوت والخضد (1)
يظل من خوفه الملاح مُعتصمًا
…
بالخيزرانة بعد الأين والنجد (2)
(1) الخضد: ما تكسر من النبات.
(2)
الخيزرانة: سكان السفينة والأين: التعب. والنجد بالتحريك: العرق.
يومًا بأجود منه سيب نافلة
…
ولا يحول عطاء اليوم دون غد (1)
وانظر إلى قول كعب بن زهير:
نُبت أن رسول الله أوعدني
…
والعفو عند رسول الله مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
…
أذنب وقد كثرت في الأقاويل
وقد أقوم مقامًا لو يقوم به
…
يرى ويسمع ما قد أسمع، الفيل (2)
لظل يُرعد إلا أن يكون له
…
من الرسول بإذن الله تنويل
وهذا من أبلغ ما قيل في تصوير المهابة. وهل أدل على الهيبة من أن يرتعد الفيل؟ ثم قال كعب يمدح:
إن الرسول لسيف يُستضاء به
…
مهند من سيوف الله مسلول (3)
في فتية من قريش قال قائلهم
…
ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كُشف
…
عند اللقاء ولا ميل معازيل (4)
فهاتان الكلمتان، كلمة النابغة وكلمة كعب، فيهما إلحاح شديد، وعامل الخوف ظاهر الوضوح في كليهما.
هذا، وإذا كان المدح خالصًا لا يراد به اعتذار أو شيء من ذلك النحو، رأيت الفخامة وعنصر القوة يغلب عليه، كما في قافية زهير:
(1) النافلة: العطاء.
(2)
الفيل: فاعل يقوم التي بعد لو.
(3)
كانت العرب عند الدعوة إلى الحرب ربما تنصب سيفًا أمام نار، فيبرق، فيرى ضوؤه من بعيد. وقوله من سيوف الله: تأكيد للمدح.
(4)
النكس: هو الخسيس. والأكشف والأميل والأعزل، كلها من صفات الضعف والاضطراب في الحرب.
إن الخليط أجد البين فانفرقا
وميميته:
حي الديار التي لم يعفها القدم
…
بلى وغيرها الأرواح والديم
ولإحساس الشعراء بما في رنة البسيط من ملاءمة للعنف، وبما بمجراه من الكلام الصارخ الجهير، تجدهم فيه قد أكثروا من قصائد التحريض والعتاب والهجاء المقرع، وشكوى الدهر، وشكوى الناس. والقصائد الجياد الطنانة التي وردت في هذا المعنى أكثر مما جاء من نظائرها في غيره، وأقوى. من ذلك كلمة لقيط الإيادي (1):
يا دار عمرة من مُحتلها الجرعا
…
أهدت لي الهم والآلام والوجعا
ومن أقوى أبيات هذه القصيدة قوله:
أبلغ إيادًا وخلل في سراتهم
…
إني أرى الرأي إن لم يُعص قد نصعا
يا لهف نفسي إن كانت أموركم
…
شتى وأحكم أمر الناس فاجتمعا
مالي أراكم نيامًا في بُلهنية
…
وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا
فاقنوا جيادكم واحموا ذماركم
…
واستشعروا الصبر لا تستشعروا الجزعا
ولا يدع بعضكم بعضًا لنائبة
…
كما تركتم بأعلى بيشة النخعا (2)
وقلدوا أمركم لله دركم
…
رحب الذراع بأمر الحرب مُضطلعًا
لا مُترفًا إن رخاء العيش ساعده
…
ولا إذا عض مكروه به خشعًا
(1) رغبة الآمل للمرصفي (5: 99 - 102) وروى البكري في مقدمة معجم ما استعجم: «يا دار عبلة» واختلاف الروايتين هنا مصدره التصحيف، لا شك.
(2)
فسر المرصفي النخع بأنه جسر بن عمرو، أبو قبيلة من اليمن، وهذا لا يصلح هنا، لأن السياق يشعر بأن النخع رجل من إياد كانوا قد خذلوه وأسلموه للعدو.
لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه
…
هم يكاد شباه يفصم الضلعا
ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره
…
يكون متبعًا طورًا ومُتبعًا
حتى استمرت على شزر مريرته
…
مستحكم الرأي لا قحمًا ولا ضرعًا (1)
كمالك بن قنان أو كصاحبه
…
عمرو القنا يوم لاقى الحارثين معًا (2)
هذا كتابي إليكم والنذير لكم
…
لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا
وقد استشهد الحجاج بن يوسف بالأبيات الأخيرة من «وقلدوا» - يصف بذلك المهلب حين بلغه إيقاعه بالخوارج.
وموضع القوة من هذا الكلام لا يحتاج إلى تدليل.
ومن قصائد الشكوى البارعة التي جاءت في البسيط رائية عمرو بن أحمر الباهلي «في جمهرة الأشعار» وهي في وصف ظلم السعاة وجورهم؛ وحذوها احتذى الراعي في لاميته الكاملية التي تقدم ذكرها. ومن مشهور ما قيل في شكوى الدهر وآلامه لامية الطغرائي المعروفة بلامية العجم. والشعور بالحسرة والمرارة وحيف الأيام، كل ذلك ينضح من أبياتها ويرشح رشحًا، وما يخلو دهر من العصور التي جاءت بعده من أديب يمتثل بقوله:
ما كنت آمل أن يمتد بي زمني
…
حتى أرى دولة الأوغاد والسفل
تقدمتني أناس كان شوطهم
…
وراء خطوي لو أمشي على مهل
فاصبر لها غير محتال ولا ضجر
…
في حادث الدهر ما يغني عن الحيل
وهذا عين الضجر، وهل حادث الدهر الذي يغني عن الحيل إلا الموت نفسه؟
(1) القحم: هو الكبير الفاني. والضرع: هو الضعيف.
(2)
يظهر أن هذا البيت إسلامي أضيف خطأ إلى القصيدة، إذ لم يرد ذكر عمرو القنا بين فرسان الجاهلية، وهو معروف بين فرسان الخوارج، ولعل أحد الحارثين حارثة بن بدر الغداني، والآخر القباع.
ومن تأمل شعر المتنبي، وجد أعنف ما قاله في البسيط؛ سواء أكان ذلك في شكوى الدهر نحو قوله:
هون على بصر ما شق منظره
…
فإنما يقظات العين كالحلم
ولا تشك إلى خلق فتشمته
…
شكوى الجريح إلى العقبان والرخم
وكن على حذر للناس تكنمه
…
ولا يغرنك منهم ثغر مبتسم
غاض الوفاء فما تلقاه في عدة
…
وأعوز الصدق في الإخبار والقسم
سبحان خالق نفسي كيف لذتها
…
فيما النفوس تراه غاية الألم
الدهر يعجب من حملي نوائبه
…
وصبر نفسي على أحداثه الحطم
وقت يمر وعمر ليت مدته
…
في غير أمته من سالف الأمم
أتى الزمان بنوه في شبيبته
…
فسرهم وأتيناه على الهرم
أم كان ذلك في ذكرى من تنكر عليه من أولي النعمة، كما في قصيدته:
بم التعلل لا أهل ولا وطن
…
ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟
وقد جاء في هذه النونية أبيات من أمر ما صور به الشعراء ما يُحدثه التهاجر والتقاطع في القلوب، وذلك قوله يذكر ما نُمي إليه من أنه كان قد نُعي بمجلس سيف الدولة وشمت بعض الناس بذلك، ولم يكن لدى سيف الدولة من نكير:
يا من نُعيت على بُعد بمجلسه
…
كل بما زعم الناعون مُرتهن
كم قد قتلت وكم قد مت عندكم
…
ثم انتفضت فزال القبر والكفن
قد كان شاهد دفني قبل قولهم
…
جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
…
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
رأيتكم لا يصون العرض جاركم
…
ولا يدر على مرعاكم اللبن
جزاء كل قريب منكم ملل
…
وحظ كل مُحب منكم ضغن
وتغضبون على من نال رفدكم
…
حتى يعاقبه التنغيص والمنن
فغادر الهجر ما بيني وبينكم
…
يهماء تكذب فيها العين والأذن
تحبوا الرواسم من بعد الرسيم بها
…
وتسأل الأرض عن أخفاقها الثفن (1)
هذا، وللمتنبي من الشعر العنيف في بحر البسيط روائع عدة: فأحيل القارئ على ديوانه وليقرأ هجاءه لكافور، وعتابه لسيف الدولة في قوله:«واحر قلباه ممن قلبه شبم» ، وميميته التي قالها في صباه:«ضيف ألم برأسي غير محتشم» - فكل هذا سيجد فيه أصدق تعبير عما كان يجيش بصدر ذلك الشاعر من غيظ وحسرة وكبرياء.
وحسبنا ما ذكرناه في التدليل على قوة البسيط وعُنفه، والآن نأخذ فيما قلناه آنفًا من أنه يصلح لرقيق الكلام. وقد يتبادر لذهنك الغزل عند ذكر الرقة. ثم تعجب بعد ذلك لقلة ما جاء في البسيط بالنسبة إلى غيره. والحقيقة أن رقة البسيط من النوع الباكي فهي تظهر في باب الرثاء كما في رائية الخنساء ولامية جرير في سوادة، وتظهر في كل ما يغلب عليه عنصر الحنين والتحسر على الماضي. فالبكاء على الأوطان المسلوبة يدخل في هذا القبيل، وقد ألمعنا لك عن ذلك عندما أشرنا إلى مراثي الأندلسيين لمرابعهم. وأحسن ما يجيء الغزل في البسيط إذا كان ممزوجًا بلوعة الأسى والذكرى. ولذلك حسن النسيب التقليدي في هذا البحر، لأن في النسيب عُنصرًا من الرمزية المراد منها إثارة الحزن في النفوس- ليس الحزن المر، وإنما الحزن الذي يعرض للإنسان عند التفكر والتذكر والحنين ويمازجه شيء من حلاوة، والعرب تسميه «الشجن» و «الأشجان» وهو عند الإنجليز معروف باسم (نوستالجيا).
(1) الرواسم: الإبل- الرسيم: السير. الثفن بكسر الفاء: جمع ثفنة، وثفنات البعير: هي ركبه الأربع وكركرته. يعني أن الهجر غادر بينه وبين سيف الدولة مسافة شاسعة تشبه صحراء مبهمة لا تهتدي فيها عين الدليل أذنه، وتسلكها الإبل فترقل ثم تخذي ثم تسقط ثفناتها من الجهد وهي غير شاعرة، ثم تجعل بعد ذلك تحبو زحفًا، وأخيرًا يؤلمها لذع الأرض فتسألها كالمتعجبة: ماذا حدث لثفناتي وأخفاقي؟ !
وقد يحلو لبعض النقاد أن يعد النسيب الذي تستهل به القصائد نوعًا متكلفًا من الغزل. وقد يكون كذلك إذا كان الشاعر ضعيفًا، ولكن من يُحسن الشعر يأتي به قويًا، ناصعًا عامرًا بمعاني الشجن. وقد نبه الأستاذ المستشرق (جب) على هذه الظاهرة في مقال نشره بمجلة معهد اللغات الشرقية بلندرة منذ نحو عامين (1)(وأحسبه اعتمد فيه على ما كتبه ابن رشيق في العمدة في باب المبدأ والخروج والنهاية) وخلاصة كلامه، أن العرب أكسبتهم حياة الصحراء شعورًا عميقًا (بالنوستالجيا) فهم لا يفتأون يفتتحون بها في النسيب ونحوه قصائدهم طلبًا لإثارة السامع وتهييجه، فمن فطن لهذا المعنى الدقيق في النسيب العربي لم يزعم أنه غزل متكلف، أو مجرد تقليد «رسمي» لا ينتظر من مثله أن يحمل حرارة أو روحًا، بل لرأي فيه إفصاحًا صادقًا عن ذلك الشجن الدقيق في قلب كل عربي عرف الصحراء وتأثر ببيئتها الرتيبة المظهر، الساحرة العميقة الغور.
فإن فهمنا هذا السر من أسرار النسيب. علمنا أنه يحتاج إلى نوع من الرقة غير ما نجده في شعر ابن أبي ربيعة، وغير ما نجده في شعر جميل والعُذريين ومما يحسن التنبيه عليه أن هؤلاء الغزليين تنكبوا البسيط، وما ذلك إلا لأنهم كانوا يتحدثون عن واقع حاضر من الغرام ينعمون به أو يشقون، لا عن أشجان ولوعات غوامض وابن أبي ربيعة لا تكاد تجد له فيه شيئًا ذا بال، اللهم إلا قوله:
هيهات من أمة الوهاب منزلنا
…
إذا حللنا بسيف البحر من عدن
وهذه مقطوعة رقيقة كتبها من اليمن يصور فيها حنينه إلى الحجاز وإلى ابنته أمة الواحد- وهذا غرض من الأغراض التي قلنا: إن البسيط طريقها المهيع.
والآن أضرب لك أمثالاً من النسيب المُلتاع الذي وقع في هذا البحر ليتضح
(1) أي سنة 1950 م.
عندك معنى ما قدمته؛ خذ قول النابغة في رائيته: «عوجوا فحيوا لنعم» :
رأيت نُعمًا وأصحابي على عجل
…
والعيس للبين قد شُدت بأكوار
فكان ذلك مني نظرة عرضت
…
حينا وتوفيق أقدار لأقدار
وقد نكون ونعم لاهيين معًا
…
والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
أيام تخبرني نُعم وأخبرها
…
ما أكتم الناس من حاجي وأسراري
أقول والنجم قد مالت أوائله
…
إلى المغيب تثبت نظرة حار
ألمحة من سنا برق رأى بصري
…
أم ضوء نُعم بدا لي أم سنا نار
بل ضوء نعم بدا والليل معتكر
…
فلاح من بين أثواب وأستار
تُلوث بعد افتضال البرد مئزرها
…
لوثًا على مثل دعص الرملة الهاري (1)
والطيب يزداد طيبًا أن يكون بها
…
في جيد واضحة الخدين معطار
وقد سبق أن استشهدنا ببعض هذه الأبيات، وناهيك بحسنها وما يسيل من جوانبها من رقة الحنين.
وهاك مثالاً آخر من شعر القطامي (2):
ما اعتاد حب سُليمى حين معتاد
…
ولا تقضي بواقي دينها الطادي (3)
إلا كما كنت تلقى من صواحبها
…
ولا كعهدك من غراء وراد (4)
ما للكواعب ودعن الحياة كما
…
ودعنني واتخذن الشيب ميعادي
أبصارهن إلى الشبان مائلة
…
وقد أراهن عني غير صُداد (5)
(1) أي الكتيب المنهار.
(2)
رغبة الآمل 1: 197.
(3)
الطادي: الواطد: الثابت.
(4)
وراد: أي زوج كثير الورود. والغراء: المرأة.
(5)
صداد: جمع شاذ للمؤنث، وصوابه مع المذكر.
إذ باطلي لم تقشع جاهليته
…
عني ولم يترك الفتيان تقوادي
كنية القوم من ذي الغيضة احتملوا
…
مستحقبين فؤادًا ماله فاد (1)
بانوا وكانت حياتي في اجتماعهم
…
وفي تفرقهم موتى واقصادى
مُحددين لبرق صاب في خيم
…
وبالقرية رادوه برواد
ولا يفوتني أن أذكر لك هنا أن الإكثار من أسماء المواضع من مستلزمات النسيب لأنها معالم الذكرى.
أرمي قصيدهم طرفي وقد سلكوا
…
بطن المجيمر فالروحاء فالوادي
يخفون طورًا وأطوارًا إذا طلعوا
…
طودًا بدا لي من أجمالهم بادي
تأمل هذا الشاعر واقفًا يرقب الظعن، وهي موغلة في الصحراء لا يريم مكانه ليتزود منها أخر نظرة، وكلما غابت عنه وابتلعتها الأهضام جعل يعلل نفسه بأن علل أن تصعد طودًا فتبدو مرة أخرى، ولا يزال هكذا يرقب الأفق حتى يفني الأفق نفسه من أمام البصر.
وفي الخدور غمامات برقن لنا
…
حتى تصيدننا من كل مُصطاد
يقتلننا بحديث ليس يعلمه
…
من يتقين ولا مكنونه باد
فهن ينبذن من قول يصبن به
…
مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
ولا حاجة بي أن أدلل أن هذا الكلام حنين محض انتظمه الوزن والقافية.
وقريب من أبيات القطامي هذه في الروح والمذهب قول جرير:
بأن الخليط ولو طُووعت ما بانا
…
وقطعوا من حبال الوصل أقرانًا
قد كنت في أثر الأظعان ذا طرب
…
مُروعًا من حذار البين محزانًا
(1) مستحقبين فؤادًا: جعلوه كالحقيبة وراء ظهورهم.
لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت
…
أسباب دنياك من أسباب دنيانا
يا أم عثمان إن الحب عن عرض
…
يُصبي الحليم ويبكي العين أحيانًا
كيف التلاقي ولا بالقيظ محضركم
…
منا قريب ولا مبداك مبدانا
يارب عائذة بالغور لو شهدت
…
عزت عليها بدير اللج شكوانا
إن العيون التي في طرفها حور
…
قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا
يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به
…
وهن أضعف خلق الله أركانًا
طار الفؤاد مع الخود التي طرقت
…
في النوم طيبة الأعطاف مبدانًا
بتنا قرانًا كانا مالكون لها
…
يا ليتها صدقت بالحق رؤيانا
قالت تعز فإن القوم قد جعلوا
…
دون الزيارة أبوابًا وخزانًا
لما تبينت أن قد حيل دونهم
…
ظلت عساكر مثل الموت تغشانا
ماذا لقيت من الأظعان يوم قنًا
…
يتبعن مُغتربًا بالبين مظعانًا
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق
…
هل ما ترى تارك للعين إنسانًا
كأن أحداجهم تُحدي مُقفية
…
نخل بملهم أو نخل بقرانا (1)
ترمي بأعينها نجدًا وقد قطعت
…
بين السلوطح والروحان صوانًا
يا حبذا جبل الريان من جبل
…
وحبذا ساكنو الريان من كانا
وحبذا نفحات من يمانية
…
تأتيك من قبل الريان أحيانًا
هبت شمالاً فذكرى ما ذكرتكم
…
عند الصفاة التي شرقي حورانا (2)
هل يرجعن وليس الدهر مُرتجعًا
…
عيش بها طالما احلولى وما لانا
فهذه الأبيات من رقيق النسيب وحلوه، ولا أحسب جريرًا قالها في حادث بعينه،
(1) الأحداج: جمع حدج، وهو من مراكب النساء. ويشير جرير إلى قول المرقش:«كأنهن النخل من ملهم» وملهم، وقران: موضعان.
(2)
فاعل هبت، الريخ، محذوفة للعلم بها. ما زائدة. والمعنى: يا لذكرى ذكرتكم إياها. والبيت من شواهد سيبويه، ذكره يستدل به على نصب شرقي على الظرفية المكانية.
وجرير فيما رووا كان عفا راعيًا لحقوق الإحصان، وإنما قالها ليفصح بها عما كان يملأ جوانب صدره من حنين إلى أيام الشباب التي قضاها بالبادية، وإلى سويعات السعادة التي اختلسها من سوالف الأيام.
وقد يكون موضوع النسيب الحزين الباكي حادثًا من حوادث الغرام الحقيقية وقع للشاعر فيما مضى، كما قد يكون موضوعه توديعًا لحبيب لما تنقطع أواصر العلاقة به، وتكون عاطفة الحنين، ولوعة التذكر أقوى في هذه الحالة. فمثال ذلك كلمة ابن زريق المشهورة، وهي -وإن كان في بعض متنها وهي- جيدة غاية الجودة في جملتها، لا سيما قوله منها:
أستودع الله في بغداد لي قمرًا
…
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
…
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
…
وأدمعي مستهلات وأدمعه
وكم تشفع بي ألا أفارقه
…
وللضرورة حالاً لا تشفعه
ثم يقول فيها يلوم نفسه على ما تجشم من اغتراب:
إذا الزماع أراه في الرحيل غنى
…
ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه
كأنما هو من حل ومُرتحل
…
مُوكل بفضاء الله يذرعه
والله قدر بين الناس رزقهم
…
لم يخلق الله مخلوقًا يضيعه
وهذا الشطر الأخير على سذاجته شفاف بصدق العاطفة، ومما يجري هذا المجرى من استعراض الذكريات لأيام الصفو والوصال نونية ابن زيدون المشهورة. ولا تخلو بعض أبياتها من تكلف إلا أن فيها مواضع غاية في الحسن، وقد تأثر ابن زيدون فيها مذهب جرير في نونيته شيئًا ما، ومن أجود ما قاله فيها (1):
(1) ديوان ابن زيدون تحقيق كيلاني ص 5.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
…
شوقًا إليكم ولا جفت مآفينا
نكاد حين تُناجيكم ضمائرنا
…
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
…
سودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
إذ جانب العيش طلق من تألفنا
…
ومربع اللهو صاف من تصافينا
يا ساري البرق غاد القصر واسق به
…
من كان صرف الهوى والود يسقينا
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا
…
من لو على البُعد حيًا كان يُحيينا
واسأل هنالك هل عنى تذكرنا
…
إلفًا تذكره أمسى يعنينا
ربيب مُلك كأن الله أنشأه
…
مسكًا وقدر إنشاء الورى طينًا
يا روضة طالما أجنت لواحظها
…
وردًا جلاه الصبا غضًا ونسرينا
كأننا لم نبت والوصل ثالثنا
…
والسعد قد غض من أجفان واشينا
سران في خاطر الظلماء يكتمنا
…
حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
أما هواك فلم نعدل بمنهله شُربًا
…
وإن كان يُروينا فيظمينا (1)
لم نجف أفق جمال أنت كوكبه
…
سالين عنه ولم نهجره قالينا
نأسى عليك إذا حُثت مشعشعة
…
فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكوس الراح تبدي من شمائلنا
…
سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا
عليك منا سلام الله ما بقيت
…
صبابة بك نخفيها فتخفينا
(1) هذا معنى يحم حوله الشعراء، وهو ناصع هنا، وقد جاء به شكسبير في رواية انطونيو وكليوباترا، فجعل الاستعارة من الطعام وذلك قوله:
Other women cloy
The appetites they feed، but she makes hungry
Where most she satisfies (Scene II Act II).
وترجمته على وجه التقريب. أوردناها في كتابنا التماسة عزاء (طبعته 1971 ص 94)
سواها من النسوان يتخمن بالجدا
…
وأقوى إذا ما اشبعتك تجيع
فهذا كلام يجمع -إلى صدق العاطفة- سلامة الذوق وتهذيبه، وفيه رقة الحضارة وتهذيبها، ونعمة الملك، وأبهة الإمارة. ولابن زيدون في ولادة بنت المستكفي، بسيطيات كلها تجري هذا المجرى الرفيع الناعم الحواشي. من ذلك قوله (ديوانه 109):
كيف اصطباري وفي كانون فارقني
…
قلبي وها نحن في أعقاب تشرين
شخص يذكرني فاه وغرته
…
شمس النهار وأنفاس الرياحين
وإن بُعدت وأضنتني الهموم فقد
…
عهدته وهو يُدنيني فيسليني
والله ما فارقوني باختيارهم
…
وإنما الدهر بالمكروه يرميني
وما تبدلت حُبًا غير حبهم
…
إذا تبدلت دين الكفر من ديني
أفدي الحبيب الذي لو كان مقتدرًا
…
لكان بالنفس والأهلين يفديني
وبحسبنا هذا القدر من الاستشهاد على ما في البسيط من الصلاحية لتقبل العنيف والرقيق الباكي من الكلام. وأحسب السر في صلاحيته لهذين النقيضين هو أن نغمه يتطلب عاطفة قوية -أنى كان نوعها- يعبر عنها الشاعر تعبيرًا خطابيًا جهيرًا، ويلزم مع ذلك جانب الجلالة والرفعة. وهاتان الصفتان هما اللتان تجمعان بينه وبين الطويل.
هذا، والبسيط بحر مُعرض عنه بين المعاصرين، لا يكاد ينظم فيه إلا من يُدعون بأصحاب المدرسة القديمة. وهذا أمر يثير الأسف، لأن وزن هذا البحر جميل لا يستأهل الإهمال (إن لم يُتح له مكان الصدارة)، وفي نغمه اتساع للكلام القوي، والعواطف الحرة. وقد أكثر منه المرحوم شوقي (من بين طبقة المعاصرين الأولى) ولكن معظم نظمه فيه من الضرب المتوسط بما في ذلك نونيته التي جارى بها ابن زيدون:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
…
نشجي لواديك أم نأسى لوادينا (1)
(1) الشوقيات (2: 127).
وهو طويلة جدًا، وقد اشتط فيها في محاكاة ابن زيدون، فقصر ذلك به عن غاية الإجادة. ذلك بأن المُجاري ينبغي أن يكون له كلام من عند نفسه فيجاري ويباري، أما أن يتكلف الوزن والقافية وما يتبع ذلك من وشي البيان والبديع، ثم يعمد إلى معاني النموذج الذي احتذاه فيسلخها، فليس بمجاراة ولا مباراة، وإنما هو تكلف وصناعة.
وأجود ما جاء في نونية شوقي هذه هو قوله:
ماذا تقص علينا غير أن يدًا
…
قصت جناحك جالت في حواشينا (1)
رمى بنا البين أيكا غير سامرنا
…
أخا الغريب وظلا غير وادينا
آهًا لنا نازحي أيك بأندلس
…
وإن حللنا رفيفًا من روابينا
وقال في مصر:
على جوانبها رفت تمائمنا
…
وحول حافاتها قامت رواقينا (2)
ملاعب؟ ؟ ؟ فيها مآربنا
…
وأربع أنست فيها أمانينا
بنا فلم نخل من روح يراوحنا
…
من بر مصر وإحسان يغادينا
كأم موسى على اسم الله تكفلنا
…
وباسمه ذهبت في اليم تُلقينا
فهذا جيد القصيدة، وهو كما ترى متوسط وفيه حشو كثير.
ولحافظ كلمات في البسيط [منها مرثيته لمحمود سامي الباردوي، «ديوانه 2: 31»] هي دون كلمات شوقي بكثير.
(1) أراد «في أحشائنا» فأعيته القافية.
(2)
جمع راقية.
وأفحل الذين تعاطوا هذا البحر من شعراء العصر المتقدمين هو محمود سامي البارودي، بلا أدنى ريب، وله فيه روائع خالدة، أذكر منها على سبيل المثال قوله (1):
يا حبذا جرعة من ماء محنية
…
وضجعة فوق برد الرمل بالقاع
يا هل أراني بذاك الحي مُجتمعًا
…
بأهل ودي من قومي وأشياعي\
منازل كنت فيها في بُلهنية
…
ممتعًا بين غلماني وأشياعي
إذا أشرت لهم في حاجة بدروا
…
قضاءها قبل أن يرتد إلماعي
يخشى البليغ لساني قبل بادرتي
…
ويُوعد الجيش باسمي قبل إيقاعي
فاليوم أصبحت لا سهمي بذي صرد
…
إذا رميت ولا سيفي بقطاع
أبيت في قُنة قنواء قد بلغت
…
هام السماك وفاتته بأبواع
يستقبل المزن ليتيها بوابله
…
وتصدم الريح جنبيها بزعزاع (2)
يظل شمراخها يبسًا وأسفلها
…
مكللاً بالندى يرعى به الراعي
تكاد تُلمس فيها الشمس دانية
…
وتحبس البدر عن سير وإقلاع
أظل فيها غريب الدار مُبتئسًا
…
نابي المضاجع من هم وأوجاع
لا في سرنديب خل أستعين به
…
على الهموم إذا هاجت ولا راعي
يظنني من يراني ضاحكًا جذلاً
…
أني خلي وهمي بين أضلاعي
لكنني مالك حزمي ومنتظر
…
أمرًا من الله يشفي برح أوجاعي
فإن في مصر إخوانًا يسرهم
…
قربي ويعجبهم نظمي وإبداعي
فهذا كلام حر فحل جزل، ومثله عزيز نادر، وقد كان شعر الباردوي رحمه الله كله من هذا القري.
(1) ديوانه- دار الكتب 1942، 2:285.
(2)
الليت: صفحة العنق، وعنى به جانبي الهضبة.
هذا، ولم تجيء في الشعر العصري قصيدة من هذا النفس العالي بعد موت البارودي إلا أشياء نادرة، منها رائية المرحوم فؤاد بليبل التي في أول ديوانه، ومسلك الجزالة فيها بين، وإن كان لا يبلغ هذا المبلغ (1).
ومنها أيضًا بائية الشيخ حمزة فتح الله: «حمد السرى يا أخي العود والناب» (2) وهي قوية رصينة يغلب عليها مذهب العلماء. وقد وصف فيها الشيخ حمزة رحلته إلى نروج وجاء فيها بكثير من الغريب، ولكنه مع ذلك كان بين الصدق، وحار العاطفة. وأحسب إيراده للغريب فيها هو في ذاته نوع من الصدق، لأن الرجل قد كان محبًا للغة العرب كلفًا بأوابدها. وقد وفق جدًا في نعت السفر، والقصيدة في جملتها ناصعة خالية من تلفيق الألفاظ ورصها من غير ما ذوق.
وتجري مجرى قصيدة الشيخ حمزة هذه نونية للشيخ الطيب السراج [من علماء السودان] مدح بها الإمام يحيى عاهل اليمن رحمه الله، وتعرض فيها لصفة البحر وقد أنشدني الأخ الفاضل الأديب الدكتور محمد الحسن أبو بكر طرفًا منها، فعلق منه بذاكرتي قوله:
يأيها الملك المرجو نائله
…
والمستغاث به في مُخلف المُزن (3)
إليك جئت من السودان ترفعني
…
إلى لقائك أشواقي وتخفضني
مهاجرًا من بلاد الشرك ليس لنا
…
عنها مراغمة إلا إلى اليمن
أهل المصانع من غُمدان تحسبه
…
إذا دجا الليل سح العارض الهتن (4)
(1) ليس لدي ديوانه فأنشد منها طرفًا.
(2)
في المواهب الفتحية، ومكتبتي صفر منه، ولم يعلق بالذاكرة منها شيء.
(3)
يعني في عام ما حل.
(4)
غمدان: من قصور اليمن، شبه سواده في الليل بإنهمال المطر. وقوله ترفعني وتخفضي في البيت الثاني يشير إلى أنه ركب البحر.
ومن ذمرمر أو صرواح أو هكر
…
أو أهجر الهجر أو ناهيك من فدن (1)
أو ذاك بيون أو ذا موكل وهنا
…
سلحين أو تلعم أو دورم العنن
هكذا أنشدنيه، «تلعم» بالعين أخت الغين، و «دورم» بفتح الدال وإسكان الواو (2).
وجاء منها في صفة البحر:
جزعته بأمون جسرة أجد
…
عُبر الهواجر من شيزي ذرا حضن (3)
كأنما الجيش لاقى الجيش فاضطربوا
…
إذا تلاطمت الأمواج بالسفن
والأبيات التي ذكرتها فيها غريب كثير. وهي مع ذلك جيدة. والشيخ السراج كالشيخ حمزة شديد الغرام باللغة القديمة، شديد النفور من بهرج المدنية الحديثة، ألا تراه يسميها شركًا في قوله «مهاجرًا من بلاد الشرك» (4)، والسودان بعد لم ير من شمس الحضارة المعاصرة إلا بصيصًا خافتًا؟
(1) ذمرمر: من حصون اليمن (القاموس). ولم يذكره البكري. وكذلك صرواح وهكر بكسر الكاف وذكرهما البكري. وأهجر لم يذكره القاموس ولا البكري ولا اللسان، وهو قصر باليمن، ذكره نشوان بن سعيد الحميري في كتابه شمس العلوم. وأضافه الشاعر إلى الهجر بمعنى العظم أو الهجر مرفوعة صفة لأهجر، بمعنى الجميل؛ و «أو» بمعنى الواو. ويكون المعنى: وأهجر ذو الطول والعظم وناهيك به.
(2)
بينون: على لفظ جمع المذكر السالم، وموكل بكسر الكاف، وسلحين بكسر السين [كما في البكري] كلها من قصور اليمن. وتلعم ذكره البكري وضبطه بالتاء واللام والفاء أخت القاف المضمومة أو المفتوحة، والميم «تلفم» ، ونص على ذلك وذكر أن بعض الناس يحرفونه ويقولون:«تلثم» بالثاء المثلثة الفوقية (معجم ما استعجم 1: 318)، ولعل الشيخ السراج وجده في نسخة سيئة الطباعة. ودورم ضبطه البكري بالدال المضمومة تليها واو الإشباع والراء المكسورة أو المفتوحة «دورم العنن»: يعني دورم الذي يعن للناظر من بعيد. فالعنن مصدر مضاف إليه.
(3)
جزعته: قطعته. أمون: ناقة قوية مأمونة من العثار، أراد السفينة. والجسرة والأجد كلاهما من صفات الناقة القوية. الشيزي: خشب تصنع منه السفن. حضن: جبل، يقول: قطعته بناقة مصنوعة من خشب الشيزي الذي نما على ذرا حضن.
(4)
يجوز أن يكون عنى أن الحاكم المستعمر على غير دين الإسلام فالدار دار كفر على هذا القول والله تعالى أعلم.
وإلى هنا أمسك بالقلم عن الحديث في بحر البسيط. ونكون بذلك قد استوفينا جميع البحور التي ذكرها أصحاب العروض، وظل عليها مدار الشعر العربي منذ عهد طويل. ولله الحمد أولاً وأخيرًا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.