الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد كان أغنى بحر واحد، ووزن واحد، وهل يتصور في المعقول أن يصلح بحر الطويل الأول للشعر المعبر عن الرقص والنقزان والخفة، أو يظن من الممكن أن تصاغ كلمة الأخطل (1):
خف القطين فراحوا منك أو بكرو
…
وأعجلتهم نوى في صرفها غير
في بحر الرجز المجزوء والمخبون، الذي منه قول شوقي (2):
فم اجتماعنا هنا
…
يا عضرفوت ما الخبر
لا أدر تلك ضجة
…
حضرتها فيمن حضر
ومن كابر في مثل هذا، فإنما يغالط نفسه في الحقائق، ويسومها طلب المحال.
النمط الصعب (1)
هذه الكلمة وصف بها أبو عبيد البكري -لامية تأبط شرًا الحماسية، في شرحه لكتاب الامالي المعروف بسمط اللآلئ، واستعرتها هنا لأصف بها ثلاثة من البحور النادرة في الاستعمال. وهي:
المديد: (العروض الأولى والثانية)، ومثال العروض الأولى:
إن بالشعب الذي دون سلعٍ
…
لقتيلا دمه ما يطل
(1) قالها الأخطل في مدح عبد الملك بن مروان، وهجاء زفر بن الحارث "انظر ديوانه صالجاني، ص 98" وهي من عيون الشعر الأموي الجاد.
(2)
رواية (مجنون ليلى) لشوقي. وما أحسب شوقيًا رحمه الله نظمها إلا لتغنى على طريقة الأوبيرا وكذلك فعل، فيما ترجح، في أكثر ما نظم من مسرحياته. والله أعلم.
ومثال العروض الثانية:
لا يغرن امرأ عيشه
…
كل عشٍ صائر للزوال
والخفيف الثاني ومثاله:
رب خرق من دونها قذف
…
ما به غير الجن من أحد
والبسط الثالث، ومثاله:
ماذا وقوفي على رسم عفا
…
مخلولقٍ دارس مستعجم
وقد يجئ مثاله كما في قول لآخر:
يا صاح قد أخلفت أسماء ما
…
كانت تمنيك من حسن الوصال
أما المديد فهو بحر بين الرمل والخفيف. ووزنه:
(تن ت تن، تن ت تن، تن ت تن تن) ×2
وقد يجئ على:
(تن ت تن تن، تن ت تن، تن ت تن أو تن ت تان) ×2
والنغمتان الرئيسيتان فيه: "تن" و "ت تن" سهلتان بسيطتان، وفيهما قعقهة وتقطع، من نوع التقطع الذي تسمعه بين دقات القاطرة. وليس من غريب المصادفات أن القصيدتين اللتين اختارهما الأوائل منه، كلتاهما مرثيتان ثائرتان مفعمتان بروح الانتقام، وهما رائية المهلهل:
يا لبكر أنشروا لي كليبًا
…
يا لبكرٍ أين أين الفرار
ولامية تأبط شرا (1):
إن بالشعب الذي دون سلعٍ
…
لقتيلا دمه ما يطل
(1) هذه القصيدة تنسب لخلف الأحمر. جاء في شرح الحماسة (تحقيق محمد محيي الدين، طبع مصر 2 - 313) في شرح التبريزي: "قال النمري: مما يدل على أنها لخلف الأحمر قوله فيها "جل حتى دق فيه الأجل"، فإن الأعرابي لا يكاد يتغلغل إلى شيء من هذا. قال أبو محمد الأعرابي: هذا موضع المثل: "ليس بعشك فادرجي" ليس كما ذكره، بل الأعرابي قد يتغلغل إلى أدق من هذا لفظًا ومعنى. وليس من هذه الوجهه عرف أن الشعر مصنوع، لكن من الوجه الذي ذكره لنا أبو الندى، قال: مما يدل على أن هذا الشعر مولد، أنه ذكر فيه سلعًا وهو بالمدينة، وأين تأبط شرًا من السلع؟ وإنما قتل في بلاد هذيل، ورمي به في غار .... الخ. أهـ"[سياق هذا الكلام يؤيد نسبة هذه اللامية لابن أخت تأبط شرًا لا تأبط شرا نفسه (×) وعلى كل حال: ليس الشك الأكبر في نسبتها إلى الخال أو ابن الأخت أيهما قالها، وإنما في كونها جاهلية غير منتحلة] قلت إن حجة النمري أقوى عندي من حجة أبي محمد الأعرابي لا من حيث أن العربي لا تغلغل إلى مثل معنى "جل حتى دق فيه الأجل" ولكن من حيث إنه لا يتغلغل إلى مثل هذا اللفظ المنطقي ذي اللف والدوران المعتمدة فيه الصناعة والبديع. ولو فتشت عما في الشطر: "جل حتى دق فيه الأجل" من معنى لم تجده يزيد شيئًا على كلمة امرئ القيس الكندي: "ألا كل شيء سواه جلل"(اللسان 13 - 134 - 16). ولكن لفظه مخالف للطريقة الجاهلية وأحسب أن هذا هو ما أراده النمري.
هذا والنمري المذكور في هذا الحديث هو أحد شراح الحماسة، وقد سبق التبريزي بزمان. وأبو محمد الأعرابي هو الحسن بن أحمد الغندجاني (معجم الأدباء 7 - 261)، وكان مغرى بتعقب العلماء الأجلة والزراية عليهم وأبو الندى -هذا الذي يروى عنه- شخص مجهول، لا يعول عليه، وقد ذكر ذلك ياقوت في ترجمته 171 - 159). ولو "كانت رواية ابي محمد الأعرابي عن غير أبي الندى، لربما كان لها وجه. والعجب من أبي زكريا التبريزي كيف لم يضعفها وينبه على وهم سندها. هذا، وعلى التسليم بصحتها، فإنه لا يستبعد أن يوجد سلع في سوى ما حول المدينة من جزيرة العرب، فما أكثر ما تتشابه الأسماء والمواضع. وفي القصيدة بعد من مظان الانتحال أشياء كثيرة هي التي شككت معاصري خلف والطبقات الأولى من العلماء في صحتها. ألا ترى إلى رصف الصفات في هذه اللامية، كان راصفها تعمد بذلك أن يستقصي كل ما يمكن جاهليًا أن يقوله في معرض المدح؟ ثم ألا ترى إلى استعمال تراكيب جاهلية قحة، مما يحصل متفرقًا في قصائد الأوائل، كل ذلك في موضع واحد؟ خذ على سبيل المثال:
يابس الجنبين من غير بؤسٍ
…
وندي الكفين شهم مدل
غيث مزن غامرٌ حيث يجدي
…
وإذا يسطو فليث أبل
أليس هذا الوصف أشبه بمذاهب الكتاب صدر العهد العباسي؟ هذا، وإنه لمما يدعو إلى التثبت قليلًا في أمر هذه القصيدة، أن أبا تمام قد جاء بها كاملة في الحماسة، وهذا قلما يفعله وقد كان أبو تمام عالمًا رواية ناقدًا. فهل يا ترى استجادها -مع معرفته بانتحالها، لأنه أنس أن مثلها يمكن أن يكون قد قيل بلسان الحال، إن لا بلسان المقال؟ أو يا ترى كان أبو تمام يرجح صحة بعض أبياتها، ويشك في بعضها، ثم آثر إيرادها كاملة، كيلا يفسدها بالتصرف؟ أميل إلى هذا الرأي. ويبدو أن خلفًا وجد من هذه اللامية أبياتًا، فأضاف إليها ما صار به قصيدة طويلة، يحمل "كلها" طابع الانتحال، وإن تبرأ منه بعضها، نحو قوله:
فاسقنيها يا سواج بن عمرو
…
إن جسمي بعد خالي لخل
تضحك الضيع لقتلى هذيل
…
وترى الذئب لها يستهل
وعتاق الطير تغدو بطانًا
…
تتخطاهم فما تستقل
فهذا استبعد أن يكون منتحلًا، إذ في البيتين الأخيرين، كما ترى شبه قوي ببعض ما لا يشك في صحته من شعر تأبط شرًا والشنفري. تأمل قوله:"تضحك الضبع" وذكره للطير والقتلى، ألا يشبه ذلك ما نجده عند هذين الشاعرين من الولوع بذكر الضبع، والتلذذ الغريب بالحديث عن الموت والرمم والأشلاء؟ (راجع مقدمة ترجمة المفضليات لكارلوس ليال 2 - 20 وحاشيتها).
فبحر المديد فيه صلابة ووحشية وعنف، تناسب هذا النوع من الشعر. ولا يستبعد أن تكون تفعيلاته قد اقتبست في الأصل من قرع الطبول التي كانت تدق في الحرب. وقد أعجب به نيكلسون جدًا في أثناء حديثه عن تأبط شرًا في كتابه الكبير "بالإنجليزية" عن تاريخ الأدب العربي، وحاول تقليده في اللغة الإنجليزية، ولكنه لم يوفق.
وبحر المديد على بساطة نغمه يعسر على الناظم. لأن تفعيلاته تطلب كلمات متقطعة نحو "يا""لبكر""أنشروا""لي""كليبًا" ونحو:
"خبر""ما""نابنا""مصمئل"- وأحسب أن هذا العسر هو الذي جعل الشعراء يتحامونه. ثم إن مثل هذا التقطع في ذاته شيء لا يقبله الذوق إلا في الحالات النادرة، كموقف الغضب الشديد، الذي يسبب التمتمة والعي.
والخفيف الثاني شبيه بالمديد في الصلابة مع ثقل وبطء (إن لم يدخله الخبن)(1) نحو البيت: "رب قفر من دونها قذفٍ إلخ"، وإذا دخله الخبن زالت عنه صلابته شيئًا فيما يتراءى لي، مثل قول الشاعر:
والمنايا بين غادٍ وسارٍ
…
كل حي برهنها غلق
ولم أظفر من كلام الأوائل في هذا بغير الشواهد العروضية، وما تكلفه ابن عبد ربه في العقد الفريد، كما أظفر بشيء فيها من كلام المحدثين، إلا قطعة متوسطة النظم في ليالي الملاح التائه، لعل محمود طه (ص 7).
والبسط الثالث وزن قديم مهجور، وهو عبارة عن وزن البسيط محذوفة منه التفعيلة الأخيرة من كل وزن البسط:
(تن تن ت تن، تن ت تن، تن تن ت تن) ×2
وزن البسيط الثالث:
(تن تن ب تن، تن ت تن، تن تن ت تن) ×2
أو -وهذا هو الأكثر:
تن تن ت تن، تن ت تن، تن تن ت تن، في الصدر
تن تن ت تن، تن ت تن، تن تن ت تان، في العجز
ومثال هذا قول المرقش في المفضليات:
يا ابنة عجلان ما أصبرني
…
على خطوب كنحتٍ بالقدوم (2)
(1) الخبن: حذف الساكن الثاني من تفعيلات العروض، حذف سين مستفعلن مثلًا، فيصير:"متفعلن".
(2)
القدوم: بفتح القاف من آلات الحفر، وفي عامية السوادان "قدوم" بتشديد الدال.
كأن فيها عقارًا قرقفًا
…
نش من الدن فالكأس رذوم (1)
في كل ممس لها مقطرة
…
فيها كباء معد وحميم (2)
لا تصطلي النار بالليل ولا
…
توقظ للزاد بلهاء نئوم
أرقني الليل برق ناصب
…
ولم يعني على ذاك حميم
وليلةٍ بتها مسهرةٍ
…
قد كررتها على عيني الهموم
لم أغتمض طولها حتى انقضت
…
أكلؤها بعد ما نام السليم (3)
ولهذه الكلمة نظائر في الشعر القديم. وقد مات هذا الزون في العهد الإسلامي، وهجره المحدثون الى عصرنا هذا. وقد ندت آذانهم عن نغمه، وصار الإتيان به مستقيمًا منتظمًا شيئًا عسيرًا عليهم. وفي الحق إنه وزن بدوي قريب من الزجر، لا يختلف عنه الا في تحريف في النغمة الوسطى.
ومع أن هذا الوزن قد مات في الفصيح منذ العهد العباسي، فإنه لا يزال يستعمل في اللهجة السودانية الدارجة، مع إسقاط الإعراب (مستقل فعل أو فاعل مستقل) مثاله:
شي لله برجالة البركل
…
السهرانه الليل ما بتكسل (4)
التمساح تمساحًا جسر
…
وامره عليكم ما بتعسر
(1) رذوم: ملأى، تسيل من أطرافها.
(2)
المقطرة: إناء يوضع فيه عود الطيب ويحرق. والكياء: من أعود الطيب.
(3)
السليم: الذي لدغته الحية.
(4)
البيتان من قصيدة للمادح الشايقي الحاد الماحي، ذكر فيها شأن تمساح هائل كان أتعب الناس، فاستعدوا أولياء الله على شره، فخرج من البحر، وسقط ميتًا بالعراء، من غير أن يقتله أحد. وهذه الأبيات يذكر فيها الحاج الماحي دعاءه للأولياء. شي لله: لله دركم. البركل: موضع تمساحًا بالتنوين والنصب، وهذا كثير في عامية السودان. ما بتعسر: لا يعسر ولا يصعب.
هذا، وأمثلة هذا الشعر كثيرة في السودان.