الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من دون تأثير كبير في جوهر مدللوها. مثال ذلك كلمة "طياز"(1)، فهذه الكلمة تستعمل في مصر مكان "أرادف" المستعملة بشمال السودان، و"كفل" و"صلب" المستعملين في وسطه وسائر أجزائه. ولن يفكر سوداني قط أن يستعملها هذا الاستعمال، لأن معناها عنده مرتبط بلون قبيح يدخلها في فصلية الألفاظ الفاحشة. وكلمة "طيب" لها لون خاص في مصر لا يوجد في السودان، وهكذا، ولا فائدة في الاستكثار من الأمثلة ما دام المقصود واضحًا بينًا.
الطبقات:
كما يؤثر المكان والزمان في الكلمات، فتختلف معانيها وألوانها ودرجاتها من الحسن والقبيح، تبعًا لاختلاف الأمكنة والأزمنة، فكذلك تفعل الطبقات الاجتماعية: الألفاظ المتداولة المألوفة بين السودانيين الآن مثًلا، غير تلك التي كانت مألوفة بالأمس، وغير تلك المألوفة في مصر الآن أو بالأمس، وهي بين السودانيين أنفسهم تتابين، فألفاظ العلية غير ألفاظ السفلة، وألفاظ أهل الحرف والصناعات مباينة لألفاظ أهل الأقلام والمثقفين. وألفاظ المتصعلكة غير ألفاظ المهذبين المحترمين. لا بل إن النساء يتداولن ألفاظ لا يتداولها الرجال. وهن في كل ذلك يختلفن باختلاف طبقاتهن. وهذا الذي نراه من تباين ألفاظ اللهجة الواحدة المستعملة في السودان تبعًا لتباين الطبقات، موجود نظيرة في الشام وفي مصر وغيرها من الأقطار الناطقة بالعربية.
والطبقة التي كان أمرها عاليًا في دولة الأدب إلى القرن الماضي في الشرق العربي، هي طبقة العلية من علماء وأمراء وحاشية تدور حولهم. ثم آل أمر الأدب إلى الطبقات المتوسطة في عصرنا الحاضر، وليس معنى كلامنا هذا أن طبقات السفلة
(1) قال القطاعي:
إذا التياز ذو العضلات قلنا
…
إليك إليك ضاق بها ذراعا
والعامة والسوقية والغوغاء لم يكن هم أدب في الماضي، كلا، ولكن أدبهم كان من نوٍع محتقر، لم تتسع له صدور الكتب. وانفراد العلية بأمر الأدب في الماضي، كان يملي على الكتاب والشعراء ذوقًا خاصًا في تخير لألفاظ، هذا الذوق تسيطر عليه الرغبة في تملق الفضائل الاجتماعية التي يحرص عليه العلية، والازدراء لكل شيء يصدر من السفلة، فكلمات السوقية والغوغاء كان محرمًا علي الأديب استعمالها، خشية أن يتسرب منها قمل أو بق إلى ملاء الأمير أو الوزير، أو ثياب الحاشية الظرفاء. والكلمات التي لا تستعملها السوقة، ولكن يجوز أن يربطها العقل بظاهرة سوقية، تجري هذا المجري. وقد عابوا علي المتنبي قولة:
وكل طريق أتاه الفتى
…
علي قدر الرجل فيه الخطا
لا لشيء إلا لأنه استعمل مثلا تنطق به العامة. وقد مات كثير من الكلمات القديمة المعبرة لتعاطي العامة إياها، وسمي هذا التعاطي بالابتذال والسوقية، وكلمة:"علق" التي يتمثل بها البلاغيون كثيرًا، ما دهاها فأنزلها من مرتبة "العلق النفيس" إلى معني الأبنة، إلا استعمال الدهماء لها، ممن تكون المحبة والغرام والشوق والعشق ونظائرها من الكلمات عندهم من قبيل مرادفات المعنى الآخر. ومنذ استولت الطبقات المتوسطة علي دولة الأدب، أخذ كثيرٌ من أساليب العلية الماضيين وألفاظهم في الانقراض، "وحسبك دليلا على ذلك، أننا لا نستعمل الآن طريقة القاضي الفاضل في استهلال الرسائل، ولا نتكلف الكلمات الديوانية التي كان يتكلفها كتاب القرن الماضي"، كما تسرب كثير من الكلمات التي كانت تعد مبتذلة وسوقية إلى ساحة الأدب الرفيع.
ولا أشك أن انتشار القراءة مكان الأمية التي كانت غالبة على الناس، تغلب الصحافة علي ميدان التعبير في أكثر البلاد. سيجلبان تغيرًا عظيمًا جدًا في الأساليب الأدبية. وشد ما أخشى أن يصير تملق الدهماء هو الغرض الأدبي الأول. وهذا بطبيعة
الحال سيميت أكثر الألفاظ التي تستحسن الآن، ويبدل مكانها ما نسميه سوقيًا ومبتذلا. ولعل جريدة الـ Daily Mirror البريطانية، مثالٌ من أمثلة هذا الاتجاه الخبيث في الأدب الحديث.
هذا، ومما يلائم ما نحن بصدده، أن نذكر أن بعض الشيوعيين قد بلغ بهم الجنون المذهبي، والتطرف السياسي، أن شغلوا أنفسهم دهرًا بتحديد موقف اللغة من الطبقات. وقد كان بعضهم فيما نمي إلينا ينادون بمحو اللغة الروسية الأدبية محوًا تامًا، زاعمين إنها كانت لغة "الأرستقراطية" و"البرجوازية" و"الظلم" وهلم جرًا، ويدعون إلى استبدالها بلغة أخرى شعبية، أشد اصطباغًا بلون "الواقع المادي" كما يقولون، ولكن ستالين تدخل في الأمر، لا أدري أبا لحجة أم بالسيف، وأقنع المتطرفين بأن اللغة القديمة، إن كانت من اختراع ضباع القياصرة والأرستقراطية، فهي صالحة كل الصلاحية لخدمة "الكادحين"، والتعبير عن آلامهم وآمالهم. فارعوى المتطرفون وأنابوا. وكفي عزاءً لهؤلاء المتطرفين، أن الصحافة الحديثة الهجينة سائرة في ضوء نظرياتهم بخطا حثيثة. وعندما تنتصر الألفاظ السوقية "الواقعية" على ألفاظ المتأدبة من الطبقات الوسطى، التي ورثوها عن العلية والأرستقراطية الماضين، فمرحي مرحي لعلق وصرم بالمعنى المبتذل، والويل لعلق مضنة، ولنحو "ولشر واصل خلةٍ صرامها"، ومن يدري فربما امتدت أيدي الحظوظ حتى تنتشل أمثال جحمرش، وخنفقيق، وزلخة، من أعماق المعاجم، لعدم ارتباطها الآن بطبقة من الطبقات. ولعلها -أعني جحمرشا وأخواتها- لو أتيح لها أن تتمثل بالشعر الآن، أن تنشد من قول أبي العلاء المعري بيتيه:
سيطلبني رزقي الذي لو طلبته
…
لما زاد والدنيا حظوظ وإقبال
إذا صدق الجد افتري العم للفتي
…
مكارم لا تكري وإن كذب الخال