الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانت تقوية لها، بإضفاء جرس لفظي سابغ سلس رنان، على المعادلات المعنوية في الاستعارات والتشبيه والمقابلات اللفظية في الطباق والتقسيم.
بعد البحتري
بلغ فن الزخرف أوجه في أخريات القرن الثالث وسائر القرن الرابع، ثم استقرت عقلية الفن الإسلامي عليه من بعد ذلك قرونا طوالا. وقد دفعت الحاجة إلى التعبير عن الجمال، الذي كان يتعقد فهمه والتذوق له مع ازدياد المعرفة والحضارة وتعقدهما، إلى مزيد من الزخرفة التي ابتدعها أبو تمام، وحسنها البحتري. فبرز أمثال أبي الفتح البستي يبهرون الناس بأنواعٍ من التنسيق والتجنيس، ما كان الطائيان، على جسارتها، ليقدما عليها، مثل قوله:
كلكم قد أخذ الجام ولا جام لنا
ما الذي ضر الراح لو جاملنا (1)
ومثل أصناف تشبيهاته (2) وتشبيهات معاصرية التي أكثروا فيها من وصف النجوم.
وقصيدة المعري:
عللاني فان بيض الأماني
وقصيدة صاحبه التي أولها:
غير مستحسن وصال الغواني
(وقد أورد شراح سقط الزند منها نتفا)(3) من أقوى ما يستشهد به في هذا
(1) شرح الرعيني لبديعية ابن جابر Bm.ms.w. 31/27
(2)
راجع اليتيمة (طبعة مصر- حجازي) 4: 302 وبعدها.
(3)
شروح سقط الزند (الدار 1945: 2: 434).
الباب. وأظن أن زخرفة سمائهم المصحية في الليالي الدرع والدهم، كانت تدفعهم من تلقاء نفسها دفعا إلى وصفها. وكيف لا، وقد كان حب الزخرف قد تربع من نفوسهم في المكان الأول، حتى إنه كان يدعوهم إلى زركشة الألفاظ والمعاني، في صفة كل شيء يستحسونه أو يصادفونه في حياتهم اليومية، كالشمع والمداد والفحم والنار والفاكهة وأصناف المصنوعات والأثاث المنزلي؟ أفلا يدعوهم إلى الافتنان في صفة السماء ونجومها، التي قد صاغتها الطبيعة في أشكال هندسة متقابلة، أشبه شيء بالجناس والطباق وأصناف البديع؟ لا بل ألا يكاد يجزم الشاعر بأن هذه الكواكب والأنجم الزهر ما هي إلا بديع نوراني في القصيدة أبدية لا نهائية، صنعها شاعر السماء الأكبر؟
وقد بلغ من حب الناس للبديع اللفظي، أنهم صاروا ينظرون إلى جناس أبي تمام المجازي، نظرتهم للتكرار المحض، وصاروا ينظرون إلى جناس الاشتقاق (وقد كان هو والبحتري يكثران منه) نظرتهم إلى تصرف الكلمة الواحدة الذي لا يبلغ مبلغ الجناس الأصيل. وقد عرفت رأي الرماني والعسكري وأصحابهما في ذلك. وعلى إكبار الناس لحبيب وأبي عبادة، فإنه قد صار يعجبهم نحو قول القائل:
عارضاه بما جنى عارضاه
…
أو دعاني أمت بما أودعاني
وقد أشبعهم الحريري من هذا النوع في غرائبه التي أودعها المقامات.
وقد بلغ من حب الناس للبديع المعنوي، أنهم تجاوزوا مجرد الهندسة والمقابلة المعنوية التي كان يصنعها أبو تمام، إلى شيء شيبه بالفسيفساء، وكان التشبيه الوصفي عمدتهم في هذا الباب. مثال ذلك قول القائل:
كأنما النار في تلهبها
…
والفحم من فوقها يغطيها
زنجية شبكت أناملها
…
من فوق نازنجةٍ لتخفيها
فانظر إلى هذا الطلب الذهني الملح لشيء أسود شبكي الهيئة يكون محيطا بآخر من أحمر. وقد كان ابن الرومي من أوائل من صنفوا في هذا النوع من التشبيه، وذللوا سبيله لمن بعدهم، من أمثال كشاجم والصنوبري. وقد تنبه ابن رشيق إلى هذه الظاهرة من شعر ابن الرومي، فزعم أنه أشد الشعراء غوصا على المعاني، وأنه أبرع في ذلك من أبي تمام، أستاذ الغوص والإغراب (1)، وصاحب الابتداعات والوساوس، كما يقول الآمدي.
وعندي أن ابن الرومي، على حذقه في زخرفة التشبيه والاستعارة، وبعد غوصه على غرائبهما، لم يكن إلا متبعا لأبي تمام في هذا الباب. وأن مذهبه في الوصف، إنما كان إتماما لمذهب ذلك الشاعر، ووصولا به إلى نهايته. وقد وهم بعض المعاصرين فحسبوا أن ابن الرومي قد كان متقدما على عصره، وأنه كان يدرك من معاني الشعر على وجه الإجمال فوق ما كان يدرك معاصروه. وحقيقة الأمر عندي أن ابن الرومي قد كان من أكثر رجال زمانه تغلغلا في روح زمانه، وتأثرا بذوقه وانحرافاته، وقد كان هو وابن المعتز كلاهما من أصحاب الفسيفساء المعنوية. إلا أن ثانيهما كان من طبقة الملوك والعلية، فهو بذلك أشد بعدا عن فهمنا من صاحبه. (أليس هذا الدهر الذي نحن فيه دهر "البرجوازية والبتروليتاريات"). وقد تنبه ابن الرومي نفسه إلى قوة الشبه بين مذهبه ومذهب ابن المعتر، عندما عرض عليه قول هذا الأخير في صفة الهلال:
وانظر اليه كزورق من فضة
…
قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال، كالمدافع عن نفسه، إن ابن المعتز يصف من ماعونه. ثم أنشد لنفسه في صاحب الرقاق:
ما أنس لا أنس خبازا مررت به
…
يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر
(1) راجع العمدة (2: 226 - 232).
ما بين رؤيتها تنساب في يده
…
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
ألا بمقدار ما تنداح دائرة
…
في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر
وقد أعجب المازني، رحمه الله، في كتابه حصاد الهشيم (1) بهذا المعني، وعده تصويرا للمتحرك. ولم يفطن إلى ما فطن إليه ابن الرومي نفسه، من أن هذا الكلام من سنخ كلام ابن المعتز:
انظر إليه كزورق من فضة
وإنما جاء الفرق بينما من اختلاف بيئته، هذا يصف الفضة والعنبر، وهذا يصف الخباز والرقاق. ولا يخفى أن كلام ابن الرومي إنما هو حذق وبراعة ومهارة ذهنية، وليس داخلا في حيز ما نسميه نحن بالتصوير العاطفي، وإنما يدخل في حيز الزخرفة المعنوية. ونحوه قوله في الأحدب:
قصرت أخادعه وغاب قذاله
…
فكأنه مترقب أن يصفعا
وكأنه قد ذاق أول صفعة
…
وأحس ثانية لها فتجمعا
ونحن في هذا العصر لا نستطيع أن ندرك من عنصر النكتة "الذهنية" في هذا البيت ما كان يدركه معاصرو ابن الرومي، الذين كانوا يستعملون الصفع كثيرا. وما كان أجهلنا بكنه هذه اللفظية ومدلولها لو نقرأها في الكتب.
هذا، ولا يخفي من هذه الأمثلة التي ذكرناها من ابن الرومي ومن غيره، وضرائبها ونظائرها مما هو كثير مبثوث في كتب الأدب، أنها كانت محاولة للرسم من طريق الكلمات. ولا شك أن رغبة العباسيين في الرسم والتصوير والنحت، التي منعها الدين من أن تسلك سبيلها الطبعي، هي التي ألجأتهم إلى هذه المحاولة، وهي التي اضطرتهم إلى أن يجعلوا من الكلمات ألوانا وطلاءات و"فرشا" يرسمون بها
(1) حصاد الهشيم للمرحوم إبراهيم عبد القادر المازني، (الطبعة الثانية "مصر" 178 - 198).