المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المعري وشيطان اللغة: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٢

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌ الجزء الثاني/في الجرس اللفظي)

- ‌[تقدمة الجزء الثاني]

- ‌الإهداء

- ‌كلمة شكر للدكتور طه حسين

- ‌اعتراف وتقدير

- ‌خطبة الكتاب

- ‌الباب الأولالجرس

- ‌فصاحة الكلمة والكلام

- ‌أصول الألفاظ:

- ‌الألفاظ والبيئة:

- ‌الزمن:

- ‌الزمن وتطور الأخلاق:

- ‌المكان:

- ‌الطبقات:

- ‌المودة:

- ‌المزاج والألفاظ:

- ‌مقاييس الألفاظ:

- ‌ضرورة التحسين:

- ‌الباب الثانيحقيقة الجمال

- ‌حقيقة الانسجام:

- ‌الانسجام في لفظ الشعر

- ‌أركان الرنين

- ‌المطلب الأول

- ‌1 - التكرار المحض:

- ‌ التكرار المراد به تقوية النغم

- ‌خلاصة:

- ‌التكرار المراد به تقوية المعاني الصورية:

- ‌قصيدة مالك بن الريب:

- ‌التكرار الصوري في الرحلة والسفر

- ‌التكرار الصوري في المدح والفخر

- ‌التكرار المراد به تقوية المعاني التفصيلية

- ‌خاتمة عن التكرار

- ‌المطلب الثانيالجناس:

- ‌أصناف الجناس الازدواجي

- ‌أصناف الجناس السجعي

- ‌السجعي الاشتقاقي

- ‌الجناس السجعي المتشابه:

- ‌الجناس الموهم:

- ‌الجناس التام:

- ‌مذهب أبي تمام:

- ‌مذهب البحتري في الجناس:

- ‌بعد البحتري

- ‌المتنبي

- ‌أبو العلا المعري

- ‌المعري وبغداد

- ‌المعري وشيطان اللغة:

- ‌انتقام المعري

- ‌المعري والجناس

- ‌خلاصة:

- ‌خلاصة عن قيمة الجناس، من ناحية الجرس:

- ‌المطلب الثالثالطباق:

- ‌آراء القدماء في المطابفة

- ‌أنواع الطباق

- ‌الخطابة والإخبار:

- ‌كلمة عن الطباق:

- ‌خلاصة:

- ‌المطلب الرابعالتقيم

- ‌آراء القدماء في التقسيم

- ‌أنواع التقسيم:

- ‌التقسيم الواضح

- ‌وقفة عند المتنبي

- ‌التقسيم والموازنة:

- ‌تطور التقسيم والموازنة:

- ‌تعقد الموازنة في الشعر العربي

- ‌خلاصه عن التقسيم والموازنة

- ‌خاتمة عن النظم

- ‌تعقيب على الخاتمة

- ‌تذييل

الفصل: ‌المعري وشيطان اللغة:

ولكنه كان رجلا شاذا، يؤثر الجمع بين المتناقضات. وقد آثر هنا أن يجمع بين حب بغداد ومجتمعها، وهجر بغداد والإعراض عن المجتمع كله. فأضف هذا إلى ما ذكرناه آنفًا من أنواع تناقضه.

‌المعري وشيطان اللغة:

كان المعري مقتدرا في لغة العرب، خبيرا بأسرارها، وكان من أخبر الناس بصياغة الكلام، وزخرفة البديع. وكان مشغوفًا بالأخبار والآثار والغريب. وتوفر له في بغداد مجتمع من الخاصة يسمع له، ويلتذ بما يقوله، وبعد الرجعة من بغداد، أتيح له جماعة من علية القراء، تتصل بينه وبينهم الرسائل، وجماعة من أفذاذ الطلاب يستريح إليهم من عناء الوحشة.

ثم كان هو بطبيعة عماه حساسا بالأصوات، ميالا إلى الترنم بها، والدندنة بأجراسها في ساعات الملال.

كل هذا جعله يحرص على الافتنان في البديع، ويحاول التأليف بينه وبين أسلوب الجزالة الذي لم يكن يسع أمثاله ممن عرفوا اللغة وخبروها أن يستعملوا غيره.

ثم إن المعري كان مفكرا دقيق الفكر، وحساساّ متلهب الإحساس، مشتعل العاطفة فهذا كان يدعوه إلى الوضوح كما قدمنا آنفًا، واتباع السهل من القول. وهنا وجد المعري نفسه أمام تناقض من أعنف ما لقيه في حياته الأدبية- أيتنكب سبيل البساطة التي يطلبها فكرة؟ لقد خيل إليه أن الجمع بين هذين النقيضين أمر ممكن في مبدأ حياته الفنية حين كان ينظم:

مغاني اللوى من شخصك اليوم أطلال

ص: 220

ونظائرها، مما يجمع فيه بين الكلام الجزل الواضح، والكلام المصنوع المتأنق فيه. ولكن شيطان البديع واللغة جعل يتغلب شيئًا شيئًا عليه، حتى كاد يستولي على جل تفكيره في قصائده التي نظمها أخريات أيامه ببغداد، مثل كلمته السقطية:

نبي من الغربان ليس على شرع

وكلمته السقطية الأخرى:

كفي بشحوب أوجهنا دليلا

وبعد رجعة المعري من بغداد جعل ينظم ألوانًا من الشعر يبلغ فيها الافتنان في البديع والغريب أقصاه مثل:

هات الحديث عن الزوراء أو هيتا

و: تحية كسري في السناء وتبع

وتجده في هذه القصائد لا يكاد يبلغ الذروة من الإغراب، حتى تثور ثائرة فكرة، وينحدر إلى سهل البساطة- مثال ذلك قوله من التالية:

أروى النياق كأروى النيق يعصمها

ضرب يظل له السرحان مبهوتا (1)

وعمرو هند كأن الله صورة

عمرو بن هند يسوم الناس تعنيتا

وبعد هذا مباشرة قوله:

يا عارضًا لاح تحدوه بوارقه

للكرخ حييت من غيث ونجيتا

لنا ببغداد من نهوي تحيته

فإن تحملتها عنا فحييتا

اجمع غرائب أزهار تمر بها

من مشئم وعراقي إذا جيتا

(1) الأروي: جمع الأروية، وهي ضرب من الوعول يسكن الجبال. وأروي النياق: هي المرأة التي تكون في الهودج، وأروى النيق: هي الوعلة التي تكون في نيق الجبل، وهو العالي من جوانبه. والسرحان هو الأسد أو الذئب. وعمرو هند: أي قرط هند، وعمرو بن هند: هو الملك الجبار المعروف.

ص: 221

إلى التنوخي واسأله أخوته

فقبله بالكرام الغر أوخيتا

فذلك الشيخ علمًا والفتي كرما

تلفيه أزهر بالنعتين منعوتا

ولا شبه بين هذا الكلام السهل وأول هذه القصيدة الصعب العويص. وكلا قصيدتيه:

لمن جيرة سيموا النوال فلم ينطوا

و: تحية كسرى في السناء وتبع

تسلكان هذا المسلك الغريب، الذي يبدأ بالإغراب، وينتهي بالسهولة. وقد بلغت ثورة المعري الفكرية على الإغراب الذي كان يضطره عليه شيطان اللغة، حدًا جعله يفر أحيانًا إلى البساطة المحضة، وادعاء أسلوب الفقهاء، الذين لا يعرفون طريقة الشعر ومنهجه البديعي، مثال ذلك قوله (1):

أذاكر أنت عصرًا مر عندك لي

فليس مثلي بناس ذلك العصرا

أيام واصلتني ودا وتكرمة

وبالقطيعة داري تحضر النهرا

وحملك الشعر من أشعار طائفة

وحشية من تنوخ تنكر الجدرا

قوم من الوبرين الذين غنوا

في البيد يبنون في أرجائها الوبرا (2)

جزء بدرب جميل في يدي ثقة

سألته رد مضمون إذا قدرا (3)

وكم بعثث سؤالًا كاشفًا نبا

عنه فلم اقض من علمي به طرا

والمالكي ابن نصر زار في سفر

بلادنا فحمدنا الناي والسفرا (4)

فظل يثني عليك الخير مجتهدا

ولم تغب عن ذرى مجد متي حضرا

(1) التنوير 2: 139.

(2)

الوبريون: هو بنو كلب بن كلب بن وبرة من قضاعة، وعنى بهم تنوخ.

(3)

درب جميل: موضع في بغداد.

(4)

المالكي بن نصر: من فقهاء القرن الرباع، وهو مغربي، ومر بالعرة في طريقه إلى الأندلس.

ص: 222

والآن أشرح حالي غير معتمد

فيه الإطالة كيما تعلم الخبرا

مد الزمان وأشوتني حوادثه

حتى مللت وذمت نفسي العمرا (1)

وحلت كلي سوي شيب تجاوزني

ولم يبيض على طول المدى الشعرا (2)

فهذا في غاية البساطة واليسر، وهو على امتلائه وتدفقه بالعاطفة، يبدو كأنما نظمه رجل عالم متفقه، لا يدري من أساليب القريض شيئًا.

وقد حاول المعري في الدرعيات أن يوفق بين دواعي قلبه وفكره، ودواعي شيطان اللغة والبديع المستولي عليه، فجعل الدرع رمزًا للقانون الصارم الذي فرضه على نفسه. وتستر وراءها ليرضي من نفسه ناحية العالم، بعرض الأوصاف والأخبار المتصلة بالدرع فيما كان يرويه من شعر القدماء، وناحية الأديب العباسي

بالإكثار من زخرف البديع، وناحية الشاعر الحساس بتخير الألفاظ والتعبير عن رغبات نفسه آنا تلميحًا بوصف النساء والنور، وآنًا تصريحًا بذكر ما كان عليه من حال العزلة، وتحريم الخمر. وقد حاول في كثير من قصائد الدرعيات أن ينظم في قواف عسرة، أو يلتزم مالا يلزم. وبعض القصائد التي التزم فيها مالا يلزم مثل قوله:

عليك السابغات فانهنه

قد سما فيها غاية السمو، وافتن في روح الفكاهة والوصف التصويري. وقد سبق أن تحدثنا عن هذه القصيدة في كتابنا الأول.

على أن نظم الدرعيات لم يكف حاجة المعري من طلب التوفيق بين حاجة الفكر والعاطفة، وناحية اللغة والصناعة. فقد كان شيطان اللغة أغلب عليه، وسلطانه فيه أظهر وأقوي. فعمد المعري إلى التزام مالا يلزم على الطريقة المعقدة في كتابه اللزوميات وقد سبق أن قلت في الجزء الأول من هذا الكتاب، إن قيود المعري في

(1) أشوتني: أخطأتني.

(2)

حلت: تغيرت.

ص: 223