الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
1 - التكرار المحض:
الغرض الرئيسي من التكرار هو الخطابة. ونعني بالخطابة: أن يعمد الشاعر إلى تقوية ناحية الإنشاء "أي ناحية العواطف، كالتعجب، والحنين، والاستغراب، وما إلى ذلك" من طريق التكرار. ولما كانت معاني الشعر الكبرى لا تتألف من لفظه فحسب، وانما من هذين مضافا إليها الوزن ببحوره وقوافيه، فالتكرار يتناول جميع هذه المسائل. ويمكننا أن نحصر التكرار الذي يحدثه الشعراء في ألفاظ شعرهم في الأنواع التالية، مع التذكر بأن عنصر الخطابة يشتملها جميعا، ولا يكاد يخلو واحد منها من تأثيره ولونه.
1 -
التكرار المراد به تقوية النغم
.
2 -
التكرار المراد به تقوية المعاني الصورية.
3 -
التكرار المراد به تقوية المعاني التفصيلية.
وهذه الأنواع الثلاثة قد تلتقي جميعها في بعض التكرار الذي يجئ به الشعراء، وقد يلتقي اثنان منها. ودونك بعض التفصيل.
التكرار المراد به تقوية النغم
من أكثر أصناف التكرار النغمي وروداّ في الشعر المعاصر، ذلك التكرار الذي
يعاد فيه بيت كامل أو بيتان، للفصل بين أقسام القصيدة الواحدة، مثال ذلك قول المهندس رحمه الله:
أين من عيني هاتيك المجالي
…
ياعروس البحر يا حلم الخيال
فقد كرر هذا البيت عدة مرات في قصيدته. وهذا النوع من التكرار في صيغته العصرية التي نجدها عند المهندس وكثير غيره. مأخوذ من الأساليب الافرنجية، حيث يكثر الشعراء من استعمال إعادة الأبيات، ويسمون ذلك بالإنجليزية refrain. ويبدو أن اللغة العربية قد عرفت هذا النوع من الإعادة في دهرها الأول، حين لم تكن أوزانها وقوافيها قد بلغت النضج والقوة والاستواء الذي بلغته في العصر الجاهلي.
والذي يدلنا على أن العربية قد عرفت هذا النوع من التكرار أمران: أولهما أننا نجد نحوا منه في القرآن، في بعض السور المكية، مثل {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في سورة الرحمن، ومثل {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} في سورة القمر. ولا أحسب أن القران قد فاجأ العرب بضرب جديد من التأليف، إذ التزم هذا التكرار في هذا التكرار في هذه السور، ونحوا منه في غيرها. ولو قد كان ضرباّ جديداّ من التأليف، لكانوا قد طعنوا فيه ولكننا لم يبلغنا أنهم قد فعلوا ذلك.
ولعل قائلًا أن يقول: إن القرآن نثر، فكيف نتخذ من أسلوبه أدلة نتحدث بها عن الشعر؟ وهذا الاعتراض في ظاهره مقبول. ولكننا قد أسلفنا بدءًا أن نظام الوزن والتقفية لا بد أن تكون قد سبقتهما أجيال من التجربة. وأن أسلوب السجع لا بد أن قد كان شيء مشابه له هو الأسلوب الشعري عند العرب البادئين الاولين. يدل على ذلك محافظة الكهان عليه. والصلة بين الكهانة والشعر قوية (1). ولما جاء الإسلام كان أسلوب النثر العربي قد استقر على سجع الكهان والخطباء والقصاص.
(1) انظر المرشد 1 - 8.
وهؤلاء هم كانوا المقصودين بالتحدي من جانب القرآن. وقد جرى على أساليبهم ومنهجهم. فكونه نثرًا لا ينافي أن في أسلوبه مظاهر وصيغًا كان يتصف بها المنهج الشعري القديم. ومن أجل هذا جسر بعض الكفار، فسموا النبي شاعرًا، وفاتهم أن الشعر على ذلك العهد قد صار ذا وزن وقافية وأعاريض، وأن السجع قد خرج من ساحة الشعر خروجًا لازمه ولصق به، ألا تجده قد صار النثر الركوب في أواخر القرن الرابع، إلى أوائل عهدنا الحاضر؟
والأمر الثاني الذي نستدل به على أن اللغة العربية قد عرفت أسلوب إعادة البيت في أجزاء القصيدة على سبيل الترنم، هو ما نجده من رواسب هذا الأسلوب وآسانه في بعض الأشعار التي بأيدينا من تراث الجاهلين، وحتى في بعض الاشعار الإسلامية، خذ مثلا هذين البيتين لأمرئ القيس (1):
وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا
…
بذات الخرامى أو على رأس أوعال
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا
…
من الوحش أو بيضًا بميثاء محلال
تأمل هنا تكرار "تحسب سلمى لا تزال". فمثل هذا التكرار ليس المراد منه مجرد الخطابة، ولكن تقوية النغم أيضًا. والشبه بينه وبين إعادة الأبيات (التي يسميها الإفرنج refrain، ويسميها العامة عندنا في أشعارهم الدراجة بالعصا قوي واضح).
وتأمل قول تأبط شرًا في القافية التي في أول المفضليات:
إني إذا خلة ضنت بنائلها
…
وأمسكت بضعف الوصل أحذاق
نجوت منها نجائي من بجيلة إذ
…
ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقي
(1) من اللامية: "ألا عم صباحًا". ذات الخزامى، ورأس أوعال: موضعان. الكل. هو ولد الظبية والميثاء: هي الأرض الناعمة. والمحلال التي يحلها الناس كثيرًا أي وإنك لتتخيل وتظن أن سلمى قريب كعهدك بها نازلة مع الخليط تخرج فترى حولها، إما ولد ظبية يشبهها في الحور والحلاوة، وإما نساء بيضا مثلها يتسامرن على كتيب
ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم
…
بالعيكتين لدي معدى ابن براق (1)
الشاهد هنا تكراره لكلمة ليلة، وكان له عنها مندوحة، كأن يقول:"حزة صاحوا" أو "ساعة صاحوا". وقد تقول إن الليلة أقوي في أداء المعني. ولا أدفع أن تكرارها قد زاد المعني قوة بتقوية النغم، ولكن التعبير "بالساعة" و"الحزة" كان يكون أدق، لأنه جرى لما سمعهم تصايحوا.
وقال تابط شرا في القصيدة:
لكنما عولي إن كنت ذا غولٍ
…
على بصيرٍ بكسب الحمد سياق
سباق غايات مجد في أرومته
…
مرجع الصوت هداّ بين أرفاق (2)
فقوله سباق غايات مجدٍ، يؤكد نغم القافية ويصله بنغم البيت التالي. ولا أشك أن الطريقة التي كان يلقي بها الشعر كانت لها صلة قوية بهذا النوع من التكرار.
وجاء في القصيدة نفسها:
إني زعيم لئن تتركوا عذلي
…
أن يسال الحي عني أهل آفاق
أن يسأل الحي عني أهل معرفة
…
فلا يخبرهم عن ثابت لاق (3)
(1) المفضليات 1: 5 - 8. يقول: إني إذا ضننت على خليلة بودها وجفتني وتقطعت أسباب وصلها، نجوت منها كما نجوت من بني بجليلة في تلك الليلة التي أحاطوا فيها بي وبأصحابي عند المكان المسمى بالرهط. فقد جددت في الهرب ليلتئذ عندما تصايحوا وأغروا بي سراعهم ليلحقوا بي في ذلك الموضع، الذي كان يعدو فيه صاحبي عمرو بن براق.
هذا، وقوله: ضعيف الوصل أحذاق: أي وصل ضعيف أحذاق. والحذاق والسمال والأرمال بمعنى واحد، تقول: ثوب أرمام وأسمال. وتقول: ألقيت أرواقي في العدو: أي لم أدع جدهًا. ولأقت السحابة أوراقها: أي صبت ماءها، هكذا قال الأنباري. والخبت: هو اللين من الأرض كالرمل مثلا.
(2)
يقول: لكنما عولي: أي بكائي (جمع عولة 9 على الرجل البصير الشهم السباق إلى الغايات بين العشيرة، الذي يتزعم رفاقه، ويأمرهم وينهاهم بصوت جهير. ولست أبكي على مفارقة النساء وما هو بمجرى ذلك. هذا وقوله: هدا: أي عاليًا غليظا.
(3)
يقول: إن لم تتركوا عذلي فاني سأهجركم مليا حتى إذا أمضكم هجري جعلتم تسألون عني أهل الآفاق وأصحاب الأسفار. والذين يعرفونني، فلا يخبركم أحد منهم بموضعي. وقوله:"فلا يخبركم الخ" قد يحمل على إرادة عموم النفي وكأن معناه: فلا تجدون أحدًا لقيني فيخبركم عني.
ولعلك تكون لاحظت أن أكثر التكرار الذي تمثلنا به، يقع بين عج بيت سابق، وصدر بيت لاحق، بأن يعيد الشاعر قافية البيت السابق، أو كلمة من العجز قوية المدلول.
ونظير الأبيات التي أوردناها من شعر تأبط شرا، قول صاحبه الشنفري في تائيته المفضلية:
فبتنا كأن البيت حجر فوقنا
…
بريحانة ريحت عشاء وطلت
بريحانة من بطن حلية نورت
…
لها أرج ما حولها غير مسنت (1)
ونحو منه ما رواه القيرواني لأمرئ القيس:
تقطع أسباب اللبانة والهوى
…
عشية جاوزنا حماة وشيزرا
عيشة جاوزنا حماه وشيزرا
…
أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا
ولعل ابن رشيق وهم في رواية هذين البيتين (2).
وقالت ليلى في الحجاج (3):
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة
…
تتبع أقصى دائها فشفاها
(1) المفضليات: 202، يقول كأن البيت قد طيب بريجانة أصابتها الريح عشاء، وترقرق عليها الندى وهذه الريحانة من بطن حلية، وحلية في حزن. وروض الحزن أطيب الروض. وغير مسنت: أراد به طيب الرائح، لا نفي الإسنات فحسب.
(2)
الرواية التي في الديوان (مختارات الشعر الجاهلي 43).
بسير يضج العود منه يمنه
…
أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا
ولعل ما رواه ابن رشيق هو الصواب والله أعلم. والبيت من رائية امرئ القيس: سما لك شوق، وانظر الجزء الأول من المرشد.
(3)
الأماني (بولاق 1: 87). والشرب بكسر الشين وإسكان الراء هو مقدار الشرب. والسجال جمع سجل بفتح السين وسكون الجيم: وهي الدلو العظيمة. والرز بكسر الراء وتشديد المعجمة: هو الصوت. والمسمومة الفارسية: هي السهام. والصرى: هو المشرب الأجن الكريه. والرجال الذين يحلبون صري السهام الفارسية المسمومة: هم الرماة جعلت رميهم بمنزلة المري والجلب.
شفاها من الداء العضال الذي بها
…
غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله
…
دماء رجال حيث مال حشاها
إذا سمع الحجاج رز كتيبة
…
أعد لها قبل النزول قراها
اعد لها مسمومة فارسية
…
بأيدي رجال يحلبون صراها
فأنت ترى هنا إعادة "شفاها""سقاها" و"اعد" وكلهن من الشطر الثاني وشفاها، وسقاها قافيتان. ولا شك أن هذا النوع من التكرار إنما هو سؤر قد بقى من نظام إعادة البيت كاملا، على النحو الذي أحياه في عصرنا الحديث، أحمد شوقي، والمهندس وبعض المعاصرين (وان كان هؤلاء قد نظروا إلى الإفرنج).
ولعل أدل على القصد وأصدق في التمثيل من هذه الأمثلة التي أوردناها من شعر تأبط شرا وليلى، ما جاءت فيه الصدور مكررة في عدة أبيات من الشعر القديم.
مثال ذلك لامية الحارث اليشكري التي كرر فيه قوله:
قربا مربط النعامة مني
وقوله: يا بجير الخيرات لا صلح حتى
عدة مرات. ولعلة أن يقال: إن هذا التكرار من تزيد الرواة. ومع التسليم بذلك، فهو يدل على نهج من القول كان مألوفا في القصص المخلوط بالشعر. وقد روي أبو علي القالي رائية المهلهل (1):
أليلتنا بذي حسم أنيري
…
إذا أنت انقضيت فلا تحوري
(1) نفسه 2: 131 - 135. قال أبو علي القالي: ذو حسم: موضع. وتحوري: ترجعي، يقال ماله لا حار إلى أهله: أي لا رجع إليهم. قلت: إجمال المعنى أنه يشكو طول ليلته المظلمة، ويأمرها بأن تنير بأن يطلع الفجر ويشرق الصبح، ويبالغ في الأمر فيطالبها ألا تحور ولا ترجع إذا ما انقضت.
عن شيوخه الثقات، مكررة فيها الأبيات التالية على النحو الآتي:
وهمام بن مرة قد تركنا
…
عليه القشعمين من النسور (1)
على أن ليس عدلا من كليب
…
إذا طرد اليتيم عن الجزور
على أن ليس عدلا من كليب
…
إذا رجف العضاه من الدبور (2)
على أن ليس عدلا من كليب
…
إذا ما ضيم جيران المجير (3)
على أن ليس عدلا من كليب
…
إذا خيف المخوف من الثغور (4)
على أن ليس عدلا من كليب
…
غداة بلابل الأمر الكبير (5)
على أن ليس عدلا من كليب
…
إذا برزت مخبأة الخدور (6)
على أن ليس عدلا من كليب
…
إذا علنت نجيات الأمور (7)
فدي لبني الشقيقة يوم جاؤوا
…
كأسد الغاب لجت في زئير
(1) همام بن مرة أخو جساس، قاتل كليب. يقول: قتلنا همامًا وتركنا عليه نسرين عظيمين على أنه ليس عدلا من كليب: أي ليس بنظير له ولا كفء لا سيما في زمان الشدة والجوع، حينما يطرد اليتيم عن لحم الجزور- ففي مثل هذا الزمان لا أحد يعدل كليبا جودا وكرما، وعطفا على اليتامى والمساكين. والجزور: هي الناقة التي تجزر.
(2)
العضاه: الأشجار ذات الشوك كالطلح والسيال والسلم والسنط، والدبور: الريح التي تأتي من الغرب. وترجف العضاه في زمن الزوابع والعواصف وخلو الدنيا من الخصب. وعندئذ يلفى كليب مفيدا متلافا للمال على الضعاف.
(3)
أي 'ذا ضيم جيران المجير يلفي كليب محافظا على الجوار. ولا يضيم المرء جيرانه إلا زمن القحط واللأواء.
(4)
الثغر: هو الموضع الذي يرابط فيه الجند للقاء العدو. وعندي أن هذا البيت أشبه بأن يكون قد انتحله الرواة الإسلاميون، لأن كلمة الثغر بمعنى المحل الحربي كثر استعمالها في الإسلام.
(5)
البلابل والتراتر والهزاهز كلها بمعنى. وبلابل الأمر الكبير: هي البلبلة التي تحدث من جرائه، قال أبو طالب فيما زعموا:
خليلي إن الرأي ليس بشركةٍ
…
ولا نهنه عند الأمور البلابل
(6)
المخبأة في الخدور: هي الجارية الحسناء الكريمة. وفي هذا البيت ونظائره من الشعر الجاهلي ما يفيد أن سادة العرب كانت تحجب نساءها.
(7)
إذا علنت نجيات المور: أي حين الجد، عندما يواجه الرجال بعضهم بعضا بالحجج والعداوة والخصومة.
ألا يرى القارئ أن إعادة "على أن ليس الخ" إنما هي رنة لفظية قوية، كررها الشاعر ليصل بها الكلام، ويبالغ في جرسه. أم ليس في ورود هذا التكرار- منتحلا كان أو أصيلا- في شعر المهلهل وشعر الحارث بن عباد اليشكري حيث يقول:
قربا مربط النعامة مني
…
قرباها وقربا سربالي
قربا مربط النعامة مني
…
إن قتل الرجال بالشسع غال
وهو معاصر للمهلهل، ما يدل على أن هذا المنهج من التكرار كان حينئذ طريقًا مهيعًا؟
ونجد في أشعار هذيل- وهي حاوية لأوابد قليل نظيرها في غيرها من أشعار العرب أمثلة متعددة من هذا النوع من التكرار النغمي المراد به تقوية الجرس، والمذهوب به مذهبا قريبا من مذهب Refrain الإفرنجي. من ذلك قول أبي المثلم الهذلي يخاطب قرنه صخر الغي:
يا صخر ان كنت ذا بز تجمعه
…
فإن حولك فتيانا لهم خلل (1)
أو كنت ذا صارم عضب مضاربه
…
صافي الحديدة لا نكس ولا جبل (2)
وسمحة من قسي النبع كاتمة
…
مثل السبيكة لا ناب ولا عطل (3)
(1) ليرجع إلى ديوان هذيل، أوروبا ودار الكتب 2: 230، ومنه أثبت الأبيات. البز: عنى به السيف آلة الحرب من درع وسيف. والخلل: السلاح، أصله من خلل السيوف.
(2)
العضب: القاطع. ويروي هذا البيت:
يا صخر أو كنت تثنى أن سيفك مصقول الخشيبة لا نكس ولا جبل
والنكس: الرديء. والجبل: بكسر الباء، وفتح الجيم: النابي الكز.
(3)
وسمحة بالجر معطوفة على صارم، وبالرفع مبتدأ: أي وبيدك قوس سمحة من الأقواس المصنوعة من شجر النبع. كاتمة: أي تكتم صوتها من جودتها وهي مثل السبيكة لا تنبو وليست بعطل من الزينة.
يا صخر فالمرء يستبقي عشيرته
…
قنية ذي المال وهو الحام البطل (1)
يا صخر يعلم يومًا أن مرجعه
…
وادي الصديق إذا ما حلت الجلل (2)
يا صخر ويحك لم عيرتني نفرا
…
كانوا غداة صباحٍ صادقٍ قتلوا (3)
يا صخر ثم سعي إخوانهم بهم
…
سعيا حثيثًا فما طلوا ولا خملوا
بمنسر مصع يهدي أوائله
…
حامي الحقيقة لا وإن ولا وكل (4)
مشمر وله في الكف محدلة
…
وأصمع نصله في الكف معتدل (5)
يكاد يدرج درجًا أن يقلبه
…
مس الأنامل صات قدحه زعل
يا صخر، وراد ماء قد تمانعه
…
سوم الأراجيل حتى جمه طحل (6)
(1) قنية ذي المال: أي كقنية ذي المال: أي كما يقتني المال ذو المال ويدخره: أي مهلا يا صخر وارفق على قومك، فإن المرء الحازم من يذخر قومه كما يدخر ذو المال المال. ويروى: فالليث يستبقي عشيرته وهو بمعناه. وفي رواية دار الكتب "تعلم" بالتاء الفوقية.
(2)
الجلل: عنى الأمور الجليلة.
(3)
يقول له: ويحك يا صخر، فيم عيرتني مقتل أصحابي الذين قتلوا ذات صباح صادق، أبلوا فيه القتال، لوم يقتلوا هاربين مدبرين. ثم إن دماءهم لم تضع هدرا، وإنما سعى إخوانهم بهم: أي في سبيل ثاراتهم سعيا حثيثا حتى أدركوها فماطلوا: أي فما أضيع دمهم ولا خملوا (وهو بمعناه) بفتح الطاء وضمها.
(4)
يقول هؤلاء الإخوان الذين أدركوا الثأر ساروا في طلبه في منسر بكسر الميم: أي في جماعة من الخيل، هذا المنسر مصع: أي جاد في السير مشمر. هذا المنسر يقوده رجل حامي الحقيقة (عنى نفسه) لا وان ضعيف، ولا وكل (بكسر الكاف) يكل الأمور إلى غيره.
(5)
ثم جعل يصف القائد، ويعني نفسه، فقال: هو مشمر وله قوس محدلة: أي مثنية متسعة (إحدال القوس انثناؤها مع اتساعها 9 وله مع القوس سهم معتدل في الكف، له نصل أصمع: أي قوي من حديد صلب. هذا النصل يكاد يدرج درجا: أي يخرج خروجا، ويطير طيرا، ويرمي الأفئدة بمجرد مس الأنامل له. والعود الذي ركب فيه هذا النصل صات: أي ذو صوت. زعل: أي نشيط سريع حين يقذف به في الهواء.
(6)
يقول لصاحبه: يا صخر، هذا القائد الذي قاد ذلك المنسر -يعني نفسه- وراد ماء (وتقرأ وراد بالرفع لأنها ليست منادى، وإنما هي من صفة القائد. ولك أن تنصبها على المدح لا النداء) هذا الماء عزيز متناذر، قد تمانعه الرجال السائمون الذين يسومون ماشيتهم. وإنما تمانعوه خشية القتل. فلذلك تحوشي هذا المال حتى صار آجنا متغيرا ماؤه. طحل: بكسر الحاء، أي حائل اللون. يا صخر إن هذا الرجل الجريء جاء هذا الماء من غير الطريق المألوف، ومعه صارمان: قلبه، وسيفه لم يثنه خوف ولا وجل.
يا صخر جاء له من غير مورده
…
بصارمين معا لم يثبه وجل
يا صخر خضخض بالصفن السبيخ كما
…
خاض القداح قمير طامعٌ خصل (1)
يا صخر ثم استقى ثم استمر كما
…
يمشي السبنتي سروب ظهره خضل (2)
يا صخرهم يبعثون النوح منقطع ال
…
لميل التمام كما تستوله العجل (3)
فيهم طعان كسفع النار مشعلة
…
إذا معاشر في واديهم تبلوا (4)
تأمل تكرار "صخر" هنا مع يا النداء، كيف جاء به الشاعر في عرض سياقه، حتى أنك لو حذفته، ما تأثر السياق بشيء. فهل تحسب أن تكرار الشعر لهذا الاسم على هذا المنهج جيء به لمجرد الخطابة، أم هو تكرار مساير للوزن، مقو للنغمة، فيه نفحة من نفحات أسلوب شاعري قديم كان يقع فيه التكرار أكثر من هذا.
ولعله يجوز لنا أن نلحق بهذا النوع من التكرار الترنمي الجاري مجرى refrain
نحو قول امرئ القيس في المعلقة:
(1) الصفن: إداوة: يغرف بها الماء. والسبيخ: الريش الطافي على الماء. والقمير: المغلوب في القمار والخصل بكسر الصاد: هو الذي يكبر الخطر في القمار، ويزيد في الخصل طمعا في المكسب. والمعنى أن هذا الرجل خضخض الريش الطافي بصفته ليسقي، فعل ذلك في هدوء ورباطة جأش، كما يفعل المقور ذو الخصل الكبير حينما يخضخض القداح حتى تختلط، ويضمن بذلك أن حظه سيأتيه نزيها من غير مخادعة من مخادع.
(2)
ثم استقى هذا الرجل ومضى يمشي مشية النمر. ووصف الشاعر النمر بأنه ظهر خضل: أي ندي من القطر. ويروى: سبنتي، بدون الألف واللام.
(3)
قوله هم، يعود على الجماعة الذين أدركوا الثأر. يقول: إنهم فرسان بئيسون، لا يغيرون في الصبح وحده، ولكن في "الليل، ويقتلون الرجال، فتقوم النساء نائحة عليهم، كأنها بقر فاقدات، أضللن أولادهن، أو أكل أولادهن السباع. والنوح بفتح النون وسكون الواو: جماعة النساء النائحات. والعجل بضمتين: جمع عجول، وهي التي فقدت ولدها من البقر والإبل.
(4)
أي في هؤلاء القوم الذين أمدحهم، منعة ودقة وإدراك للثأر، ورماح طوال وطعان كسفع النار المحرقة، وإذا رضي الناس بدون، وبأن يتبلوا: أي يصابوا في واديهم وديارهم، فهؤلاء لا يرضون بذلك بل يسعون إلى ديار العدو، ويحدثون التبل فيهم. والتبل: هو الثأر، بسكون الباء وتبلته: أي وترته وسفعته النار: أي لفحته.
فيالك من ليل كأن نجومه
…
بكل مغار الفتل شدت بيذبل (1)
كان الثريا علقت في مصامها
…
بأمراس كتان إلى صم جندل
فأنا أحسب أن الشاعر هنا أراد أن يكرر عجز البيت السابق، ثم نفر من لفظه إلى لفظ آخر خشية أن يقع في الإيطاء. ولا أحسبه أراد إلى مجرد تكرار المعني.
وأوضح من هذا قول لبيد في المعلقة:
فتنازعا سبطا تطير ظلالة
…
كدخان مشغلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج
…
كدخان نار ساطع أسنامها
فهذا أدخل في سنخ التكرار النغمي من الأول. وليبد يصف هنا الحمار الوحشي وأتانه وهما مجدان في السير، وقد تنازعا غبارا طويلا يلقي ظلاله على الأرض، هذه الظلال تشبه دخان نار مشعلة قد غلثت: أي خلطت بنايت عرفج أخضر، فعلا دخانها، وارتفعت اسنامه.
ألا ترى أن لبيد أعاد قولة "كدخان نار ساطع أسنامها" لا لتأكيد المعني كما قد يتبادر إلى الذهن، وانما لتأكيد نغمة الشطر السابق عند قوله "كدخان مشغلة" وكأنه أعجبه ذلك الشطر فأراد أن يتلذذ بإعادته، وإن كان ذلك بلفظ مخالف شيئا فعل هذا يبين لك ما زعمناه من أن امرأ القيس كرر تشبيه الثريا بأنها مربوطة إلى صخور يذبل، بغرض التلذذ بالنغم.
هذا، وسوى هاته الأصناف من التكرار الواضح أنها من أسآر نوع قديم من النظم، شيبه بتكرار الأبيات الذي نجده في الاشعار المعاصرة وفي نظم الأوروبيين،
(1) يقول: يا لك من ليل كأن نجومه شدت بحبال كلها متين أغير فتله إلى جبل يذيل، وكأن الثريا علقت في مصامها: أي موقفها بحبال شديدة إلى صخور هذا الجبل.
تلفى أنواع كثيرة من التكرار قريبة النسب منها، ترى صغبة النغم أوضح فيها وأقوى من صبغة الخطابة والإنشاء. تأمل مثلا قول جرير (1):
متى كان الخيام بذي طلوح
…
سيقت الغيث أيتها الخيام
تنكر من معارفها ومالت
…
دعائمها وقد بلي الثمام (2)
تغالي فوق أجرعك الخزامي
…
بنور واستهل بك الغمام (3)
مقام الحي مر له ثمان
…
إلى عشرين، قد بلي المقام
أقول لصحبتي لما ارتحلنا
…
ودمع العين منهر سجام (4)
أتمضون الرسوم ولا تحيا
…
كلامكم علي إذن حرام (5)
بنفسي من تجنبه عزيز
…
علي ومن زيارته لمام (6)
ومن أمسى وأصبح لا أراه
…
ويطرقني إذا هجع النيام (7)
أليس لما طلبت فدتك نفسي
…
قضاه أو لحاجتي انصرام (8)
فدى نفسي لنفسك من ضجيع
…
إذا ما التج بالسنة المنام (9)
(1) ديوانه: 152.
(2)
"من" بمعنى الاستغراق هنا، وسوغه اشتمال الفعل لمعنى النفي: أي لم يتبين شيء من معارفها، ومالت دعاماتها، وبلى ثمامها. والثمام: ضرب من النبت يستعمل في إقامة الأحوية والأكواخ.
(3)
يدعو لها بأن يتغالى فوقها الخزامي بالنوار الزاهي. والأجرع: هو السهل الدمث.
(4)
أي ساجم. واستعمل الجمع لوصف الدمع، وهو مفرد، لأن فيه معنى الجمع.
(5)
رواية النحويين: "تمرون الديار ولم تعوجوا". والشاهد فيه حذف حرف الجر. ورواية النحويين أقوى فيما يبدو.
(6)
لملم: أي فترة بعد فترة.
(7)
أي يطرقني في الطيف. جعل الشاعر نفسه من ضمن النيام لا صاحيًا والناس نيام، والحبيبة تتسلل إليه تسلل المريب.
(8)
أي لا تعطيني ما أصبوا إليه من الوصل، أم لم يكتب لي أن أسلو عنك وتنصرم -أي تنقطع- حاجتي إليك.
(9)
هذا معنى دقيق. يقول: أنت ذكية الرائحة حتى حين لا تتطيبين. والمعهود في النوم إذا أخذ المرء على غرة أن يغير من رائحة الفم. وهنا يؤكد جرير أن الحبيبة نعم الضجيع حتى حين يفاجئها النوم وتنقلب سنتها إلى نوم عميق.
أتنسى إذ تودعنا سليمى
…
بفرع بشامةٍ شقي البشام (1)
تركت محلئين رأوا شفاءً
…
فحاموا ثم لم يردوا وحاموا (2)
فلو وجد الحمام كما وجدنا
…
بسلمانين لاكتأب الحمام (3)
انظر إلى تكرار الخيام في البيت الأول، والمقام في الرابع والشام في الحادي عشر والجناس التام في البيت الثاني عشر (وهو هنا من قبيل التكرار) والحمام في اليت الثالث عشر. ثم انظر إلى قوله "بنفسي" في البيت السابع، وقوله "فدى نفسي لنفسك" في البيت العاشر -ألا تجد هذا التكرار كله أنما عمد فيه الشاعر إلى تقوية الوزن، وزيادة رنة اللفظ، بالاقتصاد في الكلمات، عن طريق إعادة كلمة واحدة او أكثر منها، وكأنه يرتغ ألا تذهب عنك رنة الوزن وجلجلة اللفظ تحت ثقل كلمات كثيرة متباينة إذا هو لم يعمد لى الترديد والإعادة؟ ألا تجد قول جرير:"سقيت الغيث أيتها الخيام"، وقوله "سقى البشام" كأنما هو تقطيع للوزن وترجيح نغمي محض، وأحسب أنه لو لم يكن في نحو هذا النوع من التكرار زيادة في الأداء وحلاوة في المعنى والنغم، ما كان تردد جرير أن يضع مكانه مثلًا: ترم تم تم، ترم تمتم ترامو. أو شيئًا من هذا المجرى ليكمل الوزن بالتقطيع!
والنوع البديعي الذي يسميه قدامة بالتوشيح (4) وتابعه على ذلك أبو هلال يدخل تحت صنف التكرار النغمي. وحده عند قدامة "أن يكون أول البيت شاهدّا
(1) البشام: ضرب من الشجر من فصيلة العضاء.
(2)
المحلأ: الممنوع من الماء، والماء أماه. فحاموا: أي داروا وطافوا وحاموا الثانية: أي عطشوا، جناس تام.
(3)
إنما خص الحمام لأنه يضرب به المثل في الجد، ويقال: ما زال الحمام ينوح على الهديل وهو هالك من فصيلته، هلك في العهد الخالي.
(4)
نقد الشعر 66، والصناعتين:382.
بقافيته، ومعناها متعلقا به حتى أن الذي يعرف القصيدة التي البيت منها إذا سمع أول البيت عرف آخره وبانت له قافيته" وتمثل قدامة بقول الراعي:
وإن وزن الحصى فوزنت قومي
…
وجدت حصى ضريبتهم رزينا (1)
وقول العباس بن مرداس:
هم سودوا هجنا وكل قبيلةٍ
…
يبين عن أحسابها من يسودها
وقول مضرس بن ربعي:
تمنيت أن ألقي سليما ومالكا
…
على ساعةٍ تنسي الحليم الأمانيا
وزاد أبو هلال:
ضعائف يقتلن الرجال بلا دمٍ
…
ويا عجبًا للقائلات الضعائف
وقول نصيب:
وقد أيقنت أن ستبين ليلى
…
وتحجب عنك لو نفع اليقين
ومما تمثل به أيضًا قول البحتري:
فليس الذي حللته بمحللٍ
…
وليس الذي حرمته بحرام
وهذا الشاهد لا يدخل فيما نحن فيه بشيء، لأنه لا إعادة فيه، وإنما فيه الطباق وعندي أن أبا هلال وقدامة كلاهما قد أخطأ من حيث جعلا إمكان معرفة القافية مقياسا يقيسان به فتكرار الحصى في بيت الراعي و"سودوا" و"يسودها" في بيت العباس و"تمنيت" و"الأمانيا" في بيت ابن ربعي و"الضعائف" و"اليقين" في الأبيات التي استشهد بها أبو هلال، كل ذلك لافتٌ في حد ذاته، بعض
الطرف عن كونه دالا على القافية أولًا. وقد اضطرت قاعدة القافية أبا هلالٍ أن يستشهد ببيت البحتري في ضمن ما أستشهد به، وبيت البحتري كما قد لمحنا، شاهدٌ في الطباق، وأن يستشهد ببيت المتنبي "فقلقلت بالهم" وهو أدخل في باب التجنيس.
وقد فطن ابن رشيق إلى ضعف الاستشهاد بسهولة معرفة القافية وحده. فأدخل التوشيح في باب التصدير (2) وهو الباب الذي سماه أبو هلال: رد الأعجاز على الصدور (3) والعجب لأبي هلال كيف أفرد في كتابه بابين، أحدهما للتوشيح، والآخر لرد الأعجاز على الصدور، ولا يكاد القارئ يتبين فرقا بين البابين- وهاك دليلا على ذلك بعض ما تمثل به من الأبيات، قول أحدهم:
تلفى إذا ما الأمر كان عرمرما
…
في جيش رأيٍ لا يفل عرمرم
(1) الضريبة: هي الطبيعة والشيمة. يعني: إن حلوم قومي تزن الصخر رزانة.
(2)
العمدة أول الجزء لثاني.
(3)
الصناعتين: 385.
وقول عنترة:
فأجبتها إن المنية منهل
…
لا بد أن أسقى بذاك المنهل
ألا ترى أن هذا يمكن إدخاله تحت قاعدة التوشيح؟ والذي زاده أبو هلال في حديثه عن رد الأعجاز على الصدور، أنه زعم أن سلوكه واجبٌ ينبغي ألا يحيد عنه الكتاب. قال: "فأول ما ينبغي أن تعلمه أنك إذا قدمت ألفاظًا تقتضي جوابًا، فالمرضي أن تأتي بتلك الألفاظ في الجواب، ولا تنتقل عنها إلى غيرها مما هو في معناها، كقول الله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] الخ. وقد ند عن أبي هلال أنه قد يكون من المرضي الخروج عن الألفاظ المتقدمة، كما يكون من المرضي اتباعها، مثال ذلك، قول معن بن أوس (من أبيات الحماسة):
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
…
على طرف الهجران لو كان يعقل
فقوله "لو كان يعقل" هنا لا يمت إلى ما سبق بصلة لفظية، وإنما طلبه المعنى واحتاج إليه.
وقد وفق ابن رشيق حين بسط العبارة وجعلها شاملة في معرض حديثه عن التصدير وذلك قوله: "هو أن يرد أعجاز الكلام على صدوره، فيدل بعضه على بعض، ويسهل استخراج قوافي الشعر إذا كان كذلك، وتقتضيها الصنعة، ويكسب البيت الذي يكون فيه أبهة، ويسكوه رونقا وديباجة، ويزيده مائية وطلاوة". فأنت ترى هنا أن ابن رشيق يدرك قوة الصلة بين القوافي وبين ترديد الكلمات من الأعجاز إلى الصدور، ويفهم ارتباط ذلك كله بنغم البيت. إلا أنه لا يجعل سهولة معرفة القافية قاعدة وأصلًا يفهم به جوهر هذا الضرب من البديع. وإنما يكتفي بأن يذكر أن هذا النوع من البديع يسهل استخراج القوافي، ويجعلها شديدة الانتساب إلى سائر لفظ البيت. وهذه العبارة كما ترى أدق من عبارتي قدامة وأبي هلال.
غير أن ابن رشيق يهم وهمًا شديدًا، حين يسمح لنفسه أن ينزلق في دحض قدامة وأبي هلال، فيخص التصدير بالقوافي ويذكر أن له أخًا اسمه الترديد (1)، غير مختص بالقوافي. ولو تأمل المرء حقيقة الترديد كما ذكره اين رشيق ود أنه من صنف التكرار اللاحق بالمعاني لا النغم، وسنفصل الحديث عنه إن شاء الله فيما بعد.
ولعل القارئ قد تبين مما تقدم اضطراب المصطلحات التي اصطلحها قدامة وأبو هلال وابن رشيق على ما بينهم من التفاوت في الدقة والإصابة. ذلك بأنهم غفلوا جميعًا عن طبيعة التكرار من حيث هو تكرار، والطاق من حيث هو طباق، والجناس من حيث هي صياغة فالبيت الذي يجدون فيه قافية ترجع إلى صدر البيت أو كلمة من عجزه زعموا
(1) العمدة 1: 300.
أن فيه تصديرًا. والذي يشعر أوله بمقطعه وتركيبه بقوا فيه، زعموا أن فيه توشيحا- على حد تعبير قدامة وأبي هلال. والذي يشبه قول زهير:
من يلق يومًا على علاته هرمًا
…
يلق السماحة منه والندى خلقا
زعموا أن فيه ترديدا. وما كان أغنانا عن هذه المصطلحات الكثيرة التي تحوم كلها حول سنخ واحد، ولا نفيد إلا تكثير المصاعب أمام الباحث والطالب. والذي أراه أن النوشيح ورد الأعجاز على الصدور كليها (1) داخلان فيما وسمناه بالتكرار النغمي، المراد به تقوية الجرس. وهما من هذه الجهة من قبيل التكرار الذي في شعر أبي المثلم والمهلهل، وأصله في زعمنا، أسلوب قد اندثر من أساليب النظم كان يلتزم فيه الشعراء إعادة الأشعار والأبيات على نحو قريب من Refrain التي عند الغربيين.
ومن أجود الشعراء تكرارًا جرير. وقد رأيت مثالا من نظمه هنا. وقد ذكرنا لك ميميته في هشام، ودماغته في بني نمير. ولعلك تذكر أيها القارئ كيف افتن جرير في تكرار "بني نمير" في البائية، وكيف ردد قوله "أمير المؤمنين في الميمة" (2) وهاك مثالًا آخر من تكراره الذي يلعب فيه بالألفاظ لعبا (3):
ألا حي الديار وإن تعفت
…
وقد ذكرن عهدك بالخميل
وقد خلت الطلول من آل ليلى
…
فما لك لا تفيق عن الطلول
لقد شعف الفؤاد غداة رهبى
…
تفرق نية الأنس الحلول
(1) ستثني من ذلك الأمثلة الكثيرة التي شوش بها النقاد في بابي التصدير والتوشيح مثل قول أبي الأسود:
وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه
…
ولا كل مؤتٍ نصحه بلبيب
فهذا أدخل في باب الموازنة.
(2)
راجع المرشد 1: 38.
(3)
ديوانه: 422 قوله تعفت: أي درست وبليت. شغف بالعين المهملة بمعنى شغف بالغين المعجمة.
إذا رحلوا جزعت وإن أقاموا
…
فما يجدي المقام على الرحيل
أخلاي الكرام سوى سدوس
…
ومالي في سندوسٍ من خليل
وقد علمت سدوس أن فيها
…
منار اللؤم واضحة السبيل
إذا أنزلت رحلك في سدوسٍ
…
فقد أنزلت منزلة الذليل
فما أعطت سدوس من كثيرٍ
…
ولا حامت سدوس عن قليل
ومن أسد المتأخرين طريقة في التكرار النغمي أبو عبادة البحتري، وكأنه كان ينظر من طرف خفي إلى ترنم جرير، ويحاول أن يسلك مسلكه. خذ قوله مثلا (1):
شوق إليك تفيض منه الأدمع
…
وجوي عليك تضيق عنه الأضلع
وهوى تجدده الليالي كلما
…
قدمت وترجعه السنون فيرجع
إني وما قصد الحجيج ودونهم
…
خرق تخب به الركاب وتوضع (2)
أصفيك أقصى الود غير مقللٍ
…
إن كان أقصى الود عندك ينفع
وأراك أحسن من أراه وإن بدا
…
منك الصدود وبان وصلك أجمع
يعتادني طربي إليك فيغتلي
…
وجدي ويدعوني هواك فأتبع
كلفًا بحبك مولعًا ويسرني
…
أني امرؤ كلف بحبك مولع
ألا ترى حرص البحتري هنا على الترنم وتأكيد النغم، والتلذذ بترديده وإعادته؟ دع عنك تكراره "لترجع" في البيت الثاني و"أرى" في البيت الخامس وانظر إلى قوله "أصيفك أقصى لود" في صدر الرابع، وقوله "إن كان أقصى الود" في عجزه؛ وإلى قوله:"كلفا بحبك مولعا" في صدر السابع وقوله "كلفٌ بحبك مولع" في عجزه. فهذان التكراران، مع اشتمالهما على لون عاطفي خطابي، أوضح
(1) ديوانه 2: 75.
(2)
أخب وخب: ثلاثي ورباعي: أي أسرع، والخبب من سير الإبل، وكذلك الإيضاع. والخرق: هو الفضاء. تنخرق فيه الريح.
شيء فيهما إراغة الترنم والتنغيم والاستمتاع بموسيقا التفعيلات، وإظهار الانسجام بينها وبين لفظ البيت وكلماته المؤلفة.
وهاك مثلا م شعره؛ قاله في إبلال الفتح بن خاقان من علة كانت ألمت به (1):
دفاع الله أقر منا
…
نفوسًا جد طائشة العقول
وصنع الله فيك أزال عنا
…
ترجح ذلك الحدث الجليل
وذاك لغيبك المأمون سرًا
…
وظاهر فعلك الحسن الجمل
وما تكفيه من خطبٍ عظيمٍ
…
وما توليه من نيلٍ جزيل
وقد كان أبو الطيب المتني رحمه الله ممن يكثرون من التكرار الترنمي، ويحذقونه غاية الحذق، وكان لشدة حرصه عليه، ربما تكلف له الكلف أحيانا، فأسقطه ذلك في الدهارس. مثال ذلك قوله (2):
قبيل أنت أنت، وأنت منهم
…
وجدك بشر الملك الهمام
فحرص المتنبي هنا على تكرار النغم أوقعه في آبدة نحوية، وذلك تأخيره واو الاستئناف عن موضعها، وكان وجه الكلام أن يقول، قبيل أنت أنت، وجدك كذا وكذا، ولو كان أورد قوله هكذا لجاء مستقيما. ولكن الوزن لم يمكنه فاضطرا إلى التقديم والتأخير. فالعيب هنا ليس من التكرار نفسه، وإنما من التعقيد في التركيب. ويجري هذا المجرى قوله من كلمة أخرى (3):
جفخت وهم لا يجفخون بهابهم
…
شيم على الحسب الأغر دلائل
(1) ديوانه 2: 161.
(2)
من قصيدته: فؤاد ما تسليه المدام.
(3)
من قصيدته: لك يا منازل.
فالتقديم والتأخير في هذا البيت هو سبب الاضطراب. وكذلك ما فعله في قوله (1):
فتبيت تسئد مسئدًا في نيها
…
إسادها في المهمه الإنضاء
وغرضه أن يقول: إن الإنضاء، وهو التعب الشديد والضعف يبيت مسئدا (2)
وساريا في لحمها، فيننقصه ويأكله، كما تسئد هي في المهمه وتنتقصه من أطرافه بالسير المغذ المجد. وهذا البيت ينظر إلى قول أبي تمام:
رعته الفيافي بعد ما كان حقبةً
…
رعاها وماء الروض ينهل ساكبه (3)
وآفة بيت المتنبي كما ترى من تعقيد التركيب لا من التكرار. وللمتنبي بعد في التكرار النغمي آيات لا تجاري، ويزيدها قوة على قوتها ما يحالفها من الأغراض الأخر الكثيرة غير مجرد الترنم، مما يراد إليه بالتكرار في الشعر الرصين الجزل.
خذ مثلا قوله (4):
ما لي أكتم حبًا قد برى جسدي
…
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
إن كان يجمعنا حب لغرته
…
فليت أنا بقدر الحب نقتس
قد زرته وسيوف الهند مغمدة
…
وقد نظرت إليه والسيوف دم
فكان أحسن خلق الله كلهم
…
وكان أحسن ما في الأحسن الشيم
فوت العدو الذي يممته ظفر
…
في طيه أسفٌ في طيه نعم
تأمل تكرار كلمة "الحب" في البيتين الأولين. وانظر كيف تعمد الشاعر أن
(1) الهمزية التي في أول ديوانه.
(2)
الإسأد: ضرب من السير الشديد. تقول: أساد البعير يسئد فهو مسند.
(3)
ديوانه. يقول: هذا البعير رعته الفيافي، لأنه سافر فيها، فأفنت لحمه وشحمه، هذا بعد أن كان رعاها وسمن من أكل حمضها وخلتها أيام الربيع الممرع.
(4)
من قصيدته: واحر قلباه ممن قلبه شبم.
يجعل هذا اللفظ عند النصف الأول من شطي البيت الأول. ثم كيف عكس هذا التركيب بجعل موضع اللفظ في اول النصف الثاني من كلا شطري البيت الثاني. وهذا توفيق غريب لا يجئ إلا بملكة نادرة، وطبعٍ قوي، وإدراك لأصول الصناعة وأسرارها. ولا يخفى ما قصد إليه أبو الطيب من التغني بكلمة الحب في هذه الأشطار الأربعة. ثم انظر في البيت الخامس، كيف جسر الشاعر على إعادة لفظتين معا، وكرر إحداهما ثلاث مرات، وذلك قوله:"فكان أحسن"، ثم قوله:"الأحسن" في الشطر الثاني. وبتوفيق نادر تأتي له أن يحدث تكراره في النصف الأول من كل شطر، قبيل تمام التفعيلة بسبب خفيف واحد؛ ثم بعد أن تدرج بالسامع كل هذا التدرج، من كلمة واحدة تكرر عند نصف البيت، إلى كلمتين تترددان بين الصدر والعجز، جسر على المجيء بالتكرار دفعة واحدة في شطر واحد، وذلك قوله:
في طيه أسف في طيه نعم
ولا أحسب أن في الشع العربي أمثلة كثيرة ترن فيها تفعيلات البسيط هذا الرنين المدوي المستتر في نفس الوقت وراء "تكرارات" بارعة، شبيهة بالخطابية، يلقي بها الشاعر وكأنه غير مكترث.
والمتنبي تجده يستطيع الإتيان بهذا النوع من التكرار الترنمي في كل بحر يرده وكل وزن يتعاطاه، وهو من هذه الجهة يربي على كلا البحتري وجرير، اللذين لأكثر ما تجدهما يكرران في الوافر والكامل.
وهاك مثالا من تكار المتنبي في الطويل، قال يمدح سيف الدولة (1):
ولا كتب إلا المشرفية عنده
…
ولا رسل إلا الخميس العرمرم
فلم يخل من نصرٍ له، من له يد
…
ولم يخل منشكرٍ له، من له فم
(1) ديوانه (شرح العكبري- الحلبية 1936) - 3: 352 يقول لا كتب يكاتب بها الملوك غير السيوف. ولا رسل غير الخميسن وهو الجيش.
ولم يخل من أسمائه عود منيرٍ
…
ولم يخل دينار ولم يخل درهم
ضروب وما بين الحسامين ضيق
…
بصير وما بين الشجاعين مظلم
تباري نجوم القذف في كل ليلة
…
نجوم له منهن ورد وأدهم (1)
يطأن من الأبطال من لا حملنه
…
ومن قصد المران ما لا يقوم (2)
فهن مع السيدان في البر عسل
…
وهن مع النينان في الماء عوم (3)
وهن مع الغزلان في الواد كمن
…
وهن مع العقبان في النيق حوم (4)
إذا جلب الناس الوشيج فإنه
…
بهن وفي لباتهن يحطم (5)
بغرته في الجرب والسلم والحجا
…
وبذل اللها والحمد والمجد معلم (6)
يقر له، بالفضل من لا يوده
…
ويقضي له، بالسعد من لا ينجم
أجار على الأيام حتى ظننته
…
تطالبه بالرد عاد وجرهم (7)
(1) قوله تبارى نجوم القذف، يعني آن له خيلا منها الوردي اللون، والأدهم اللون، هذه الخيل مثل نجوم القذف، لسرعتها وفتكها بالمجرمين، وهي كأنها تباري النجوم القاذفة للأفاعيل التي تفعلها بأعداء الله.
(2)
قوله: لا حملته: أي يحملنه على نحو قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11]. والمران: الرماح، وقصده بكسر القاف وفتح الصاد ما تقصد وتكسر منه وهي جمع قصدة: بكسر القاف، وهي القطعة المكسورة. أي هذه الخيل تطأ الأبطال والقنا المتكسر.
(3)
السيدان: الذئاب. وعسل: جمع عاسل، والعسلان: هو مشية الذئب. والنينان جمع نون، والنون: هو الحوت.
(4)
النيق: هو الجزء الناتئ في أعلى الجبل.
(5)
الوشيج: الرماح. واللبات: ما بين النحر والصدر. يقول: إذا جلب الناس الرماح، فإنها تكسر بهن بأن يطأن عليها بعد مقتل العدا الذين يطاعنون بها. وكذلك فإنها تحطم في لباتهن لأنهن يلقين الرماح قدمًا.
(6)
المعلم بكسر اللام: هو الذي يتخذ علامة في الحرب ليعرف مكانه. يقول سيف الدولة: واضح بكرمه وبحدته ومروءته، وثناء الناس عليه. هذه هي علاماته. واللهاء: العطايا، واحدتها لهوة، وأصلها من لهوة العجين، وهذه الكلمة مستعملة في السودان.
(7)
أجار على الأيام: أي أجار على صرف الأيام. ولو كانت عاد وجرهم سمعتا به لطالبتاه بأن يردهما لتأمنا صرف الليالي.
ضلالًا لهذي الريح ماذا تريده
…
وهديًا لهذا السيل ماذا يؤمم (1)
ألم يسأل الوبل الذي رام ثنينا
…
فيخبره عنك الحديد المثلم
ولما تلقاك السحاب بصوبه
…
تلقاه أعلى منه كعبًا وأكرم
فباشر وجهًا طالما باشر القنا
…
وبل ثيابا بلها الدم
تلاك وبعض الغيث يتبع بعضه
…
من الشام يتلو الحاذق المتعلم (2)
فزار التي زارت بك الخيل قبرها
…
وجشمه الشوق الذي تتجشم
ولما عرضت الجيش كان بهاؤه
…
على الفارس المرخي الذؤابة منهم (3)
حواليه بحر للتجافيف مائج
…
يسير به طود من الخيل أيهم (4)
تساوت به الأقتار حتى كأنه
…
يجمع أشتات الجبال وينظم
وكل فتى للحرب فوق جبينه
…
من الضرب سطر بالأسنة معجم (5)
يمد يديه في المفاضة ضيعم
…
وعينية منتحت التريكة أرقم (6)
كأجناسها راياتها وشعارها
…
وما لبسته والسلاح المسمم
وأدبها طول القتال فطرفه
…
يشير إليها من بعيد فتفهم
(1) روى العكبري عن ابن فورجة أن المتنبي دعا على الريح لضررها، ودعا للمطر لنفعه. وقال العكبري قال للريح ضلالا، لأنها آذتهم في طريقهم، ولما حكاه (أي سيف الدولة) السيل بالجود دعا له.
(2)
أي تبعك الغيث من الشام كما يتبع الحاذق المتعلم، لأنك غيث حاذق الجود، وهذا الغيث إنما يتعلم الجو، والحاذق متبوع، والمتعلم تابع.
(3)
الذؤابة: الضفيرة من شعر الرأس، وعنى بالفارس المرخي الذؤابة: سيف الدولة. وليت شعري هل كانت لهم ذوائب حينئذ يطولونها ويضفرونها، أو سلك الشاعر سبيل المجاز.
(4)
قوله أيهم: أي طويل ضخم لا يهتدي فيه. وهي صفة للطود، وهو الجيل. والتجافيف واحدها تجفاف: وهي ضر من الدروع يلبسها الفارس والفرس.
(5)
أي كل فتى قد وسمته الحرب حتى لترى على جبينه سطرًا من كتابة الأسنة ونقطها.
(6)
المفاضة: هي الدرع، والتريكة. هي غطاء الرأس والوجه في الحرب، يقول: عينا الفارس من الخوذة كعيني الأفعى، ويداه يمدهما من الدرع كيدي الأسد: أي هو هزبر صل في الحرب.
تجاوبه فعلا وما تعرف الوحي
…
ويسمعها لحظًا وما يتكلم (1)
تجانف عن ذات اليمين كأنها
…
ترق لميافارقين وترحم (2)
ولو زحمتها بالمناكب زحمةً
…
درت أي سورينا الضعيف المهدم
على كل طاوٍ تحت طاوٍ كأنه
…
من الدم يسقى او من اللحم يطعم (3)
لها في الوغي زي الفوارس فوقها
…
فكل حصان دارعٌ متلثم
وما ذاك بخلا بالنفوس على القنا
…
ولكن صدم الشر بالشر أحزم
فهذه الأبيات قد جمع فيها المتنبي ضروبا من البديع والتحسين، كالتقسيم، والطباق ولكن التكرار عماد الجرس وأساسه هنا ولا سيما في الأبيات الأولى خذ قوله:
فلم يخل من نصرٍ له من له يد
…
ولم يخل من شكر له من له فم
ولم يخل من أسمائه عود منبرٍ
…
ولم يخل دينار ولم يخل درهم
تأمل أولًا الترصيع (4) في البيت الأول، والترصيع هو السجع في داخل حشو البيت تجد هذا الترصيع مجاريا للوزن ومقويا له، إذ السجعة تأتي عند الربع من البيت والنصف من كلا شكريهن هكذا:
فلم يخل من نصرٍ
فعولن مفاعيلن
(1) الوحي: الصوت الخفي.
(2)
تجانف: أي تتجانف: أي تميل عن ذات اليمين.
(3)
قوله "على كل طاو"- الجار والمجرور متعلق بخبر، وكل فتى الخ. والطاوي: هو الضامر. وأراد بالطاوي الأول: الفرس. وبالطاوي الثاني: الفارس. يقول: كل فتى صفته كذا وكذا على كل حصان ضامر، هذا الحصان الضامر تحت فارس ضامر، كأنه يسقى الدم ويأكل اللحم، والضمير في كأنه يعود على الحصان.
(4)
وعلماء البديع يخصون به السجع المجاري لتقطيع الوزن.
فلم يخل من شكرٍ
فعولن مفاعيلن
ثم إنك تجد هذا الترصيع المجاري للوزن إنما هو جزء من تكرارٍ طويل ليس مجاريًا للوزن، هكذا:
فلم يخل من نصرٍ له من له
فعولن مفاعيلن فعل فع فعل
فلم يخل من شكر له من له
فعولن مفاعيلن فعل فع فعل
فهذا التباين بين مجاراة الترصيع للوزن، ومعارضة التكرار له، ذو أثر قوي في ريادة الرنين وتنويعه. وإذا تأملت البيت الثاني، وجدت أن الشاعر قد اكتفى بتكرار "ولم يخل من" وحدها، واستغنى عن الترصيع في صدره؛ وكأنه قصد إلى أن يهبط بموسيقا شعره عن حالة الجلجلة التي كانت عليها؛ وكأنه يخشى أن يكون في هذا الهبوط مفاجأة للسامع، فهو يلجأ في العجز إلى شيء قريب من الترصيع الذي رأيناه في البيت الأول، وذلك بقسمته نصفين هكذا:
ولم يخل دينار.
…
ولم يخل درهم
فعولن مفاعيلن.
…
فعولن مفاعلن
ولا أحسبك أيها القارئ الكريم قد خفي عنك موضع التدرج في التكرار، من جملة طويلة توشيك أن توازن نصف بيت هكذا:"ولم يخل من نصرٍ له من له" إلى قريب من نصفها "ولم يخل من" إلى قطعة منها واحدة موازنة لتفعيلة طويلة "فعولن" على وجه التقريب وهي "ولم يخل". ومثل هذا التكرار التدرجي في البراعة تدرج المتنبي من تقسيم ذي ترصيع سجعته في أرباع الأبيات، إلى تقسيم بلا
ترصيع حده شطر البيت، ثم الرجعة بعد ذلك إلى تقسيم بلا ترصيع يقف عند أرباع الأبيات. والفرق بين التدرجين أن أحدهما منحدر والآخر ملفوف. وترى صدق ذلك إن مثلته برسم بياني.
هذا، وفي الأبيات:"ضروب وما بين الحسامين"، "تبارى نجوم القذف"، "يطأن من الأبطال"، اكتفى الشاعر بتكرار كلمة من صدر البيت في عجزه، (ما بين) في الأول، (نجوم) في الثاني، (ومن لا) في الثالث. وهذا كما ترى هبوط من ذلك التكرار الشديد الذي في البيتين الأولين.
ثم يرجع المتنبي بعد هذا إلى تكرار أخف وأخفى من هذا، مداره على ضمير النسوة (هن) معادًا عند رأس كل شطر. وإذ بلغ المتنبي هذا الضرب الخفيف الخفي من التكرار، تطرق منه إلى ترك التكرار، واستعمال أصنافٍ بديعية منه كالمترادفات والمتزاوجات. ثم يترك هذه أيضًا ويستعمل لفظا خاليا من الصناعة التحسينية، ليس فيه غير الوزن وجرد الصياغة النحوية، وهو قوله:
ألم يسأل الوبل الذي رام ثنينا
…
فيخبره عنك الحديد المثلم
وهنا يكون قد بعد كل البعد عن تلك الموسيقا المتداخلة المتشعبة التي كان قد بدأ بها عند قوله: "فلم يخل من نصرٍ الخ". ويختار الشاعر هذه اللحظة التي بعد فيها هذا البعد عن التكرار وما يصحبه من رنة وجرس، ليرجع إليه في شيء من التدرج. فيكرر الفعل "تلقاك" و"تلقاه" في الصدر والعجز. ثم "باشر" مرتين في الصدر، و"بل" مرتين في العجز. ويكفي بعد ذلك "بتلا" و"يتلو" ثم يرجع إلى التكرار فيكرر "زار" في الصدر، و"جشم" في العجز. ثم يترك المتنبي التكرار مختارا أول الأمر بيتًا لا صناعة فيه، هو:
ولما عرضت الجيش كان بهاؤه
…
على الفارس المرخي الذؤابة منهم
وهذا يذكرنا بقوله "ألم يسأل"، ثم عامدًا من بعد إلى نوع من التقسيم، حتى إذا خيل إلينا أنه قد ثسي التكرار مرة واحدة وهجره مليا، إذا هو يرجع إليه في نوع من خفية ولطف تأب: أولا يعيد، "وما| في قوله "تجاوبه فعلا الخ"، ثم بعد ثلاثة أبيات يأتي بلفظين قويتين مكررتين في شطر واحد، وذلك قوله:
"على كل طاوٍ تحت طاو"
ويلتزم هذا النوع من التكرار في قوله "الشر بالشر" و"أصلط أصلها".
هذا، والذي يتبع تكرار المتنبي في هذه القصيدة يجد فيه غرائب من الصناعة، يعينها الطبع الصافي المصقول.
وإذ قد يرى القارئ أن الغرض الذي نظمت له هذه الأبيات التي قدمناها، إنما هو غرض حربي، كأكثر سيفيات المتنبي، فإنه لا يملك إلا حسن الثناء على ما تخيره الشاعر لكرمه (مع اللفظ الجزل، والوزن الجليل) من هذا التكرار المتباعد المتقارب الذي هو أشبه شيء بتكرار دق الطبول، وتجاوب الصهيل، وتصايح الأبطال، وزمجرة الرجال. ولا يخفى أن الموسيقا التي تصاحب مثل هذا النوع من الكلام موسيقا حربية الطابع. والتكرار المتأتي له هومن خير ما يصلح لإبراز هذه الموسيقا وتأتي المتنبي هنا في الغاية العليا، من تخير اللفظ، وتنويع طرق التكرار، والافتنان فيها. ولا أشك أن أبا الطيب كان قد راض نفسه رياضة شديدة على استعمال أسلوب التكرار والدربة به. وإلا فكيف تيسر له أن يجئ بمثل هذه لأصناف المتقنة التي شهدت منها أمثلة في الأبيات السابقة؟ فقصارى الذي يستطيعه الطبع الصافي، هو أن يوفق إلى أنواع حلوة من التكرار في البحور التي تتقبل ذلك في يسر وسهولة، مثل الوافر والكامل، وهذا ما نجده عند جرير والبحتري. وأما أن يجئ التكرار خفي المداخل، متشعب الأصناف، لا في الكامل ولا البسيط وحدهما،
ولكن في الطويل كالأمثلة التي ذكرناها، وفي الخفيف كأنواع التكرار التي نجدها في كثير من أبيات:
"ذي المعالي فليعلون من تعالى"
"مالنا كلنا جوٍ يا رسول"
وفي المنسوخ، وسوى ذلك من البحور، وأن يجئ أيضًا لا في غرض الحرب وحده كما في الميمية السالفة، ولكن في غرض العتاب كالأبيات التي اخترناها من:
"واحر قلباه ممن قلبه شبم"
وفي الغزل كما في قصيدته الرائعة (1):
أوه بديل من قولي آها
…
لمن نأت والبديل ذكراها
أوه لمن لا أرى محاسنها
…
وأصل واهًا وأوه مرآها
أقول: افتنان المتنبي ومقدرته على المجيء بالتكرار في هذه الأنواع الكثيرة المختلفة من الأوزان والبحور والطرائق، يدل مع قوة الطبع وسلامة المنشأ والضريبة، على طول روية وتأت وتجارب بعد تجارب، وفي قصائد المتنبي المتعددة من لدن صباه إلى أن صار شاعرا فحلا ناضجا، البرهان الواضح، والحجة الناصعة.
انظر إلى ولعه بالترنم بترداد الألفاظ إلى حد يوقعه في الهجنة والاضطراب، في قصائد صباه وشبابه الأول، مثل قوله في الفائية التي مدح بها أحمد بن الحسين القاضي (2):
ولست بدون يرتجى الغيث دونه
…
ولا منتهى الجود الذي خلفه خلف
ولا واحدًا في ذا الورى من جماعةٍ
…
ولا البعض من كل ولكنك الضعف
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه
…
ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
(1) شرح العكبري 4: 269.
(2)
نفسه 2: 282.
وإلى قوله في العينية التي يمدح بها علي بن أحمد الخراساني (1):
فأرحام شعرٍ يتصلن لدنه
…
وأرحام مالٍ لا تني تتقطع
فتى ألف جزءٍ رأيه في زمانه
…
أقل جزيء بعضه الرأي أجمع
وقوله في الشينية التي مدح بها أبا العشائر (2).
كأن تلوي النشاب فيه
…
تلوي الخوص في سعف العشاش
ونهب نفوس أهل النهب أولى
…
بأهل المجد من نهب القماش
ودع هذه الأمثلة التي ليست من قصائد شبابه الجياد، وانظر إلى هذه الأمثلة من قصائد عدها النقاد من بواكير إحسانه، نحو قوله في التائية (3):
لا سرت من إبل لو أني فوقها
…
لمحت حرارة مدمعي سماتها
وحملت ما حملت من هذي المها
…
وحملت ما حملت من حسراتها
وكقوله في الحاجبية (4):
قد عسكرت فيها الرزايا عسكرًا
…
وتكتبت فيها الرجال كتائبا
أسد فرائسها الأسود يقودها
…
أسد تصير له الأسود ثعالبا
وكقوله من الدالية التي مدح بها شجاع بن محمد المنبجي (5):
أيلت مودتها الليالي بعدنا
…
ومشي عليها الدهر وهو مقيد
أبرحت يا مرض الجفون بممرض
…
مرض الطبيب له وعيد العود
(1) نفسه 2: 235.
(2)
نفسه 2: 207.
(3)
نفسه 1: 225.
(4)
نفسه 1: 122.
(5)
نفسه 1/ 327.