الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: "أخاف من سوء أعمالي وآمالي" يكشف لنا في لفظ واحد، هو قاله:"آمالي"، أسرارا عميقة مما اجتهد أبو العلاء دهره في إخفائه ألا تري أن قوله:
"من سوء أعمالي وآمالي" يوقع في خلدك أن هذا الرجل العنيف، لم يستطيع بالرغم من درعه الكثيفة، أن يذود عن نفسه أماني النفس وآمالها وتطلعها، كيما تنحدر من ربوتها إلى وادي الشهوات؟ أم لا يشعر بأن تركه للحيوان -مع أن فيه طلبا للمأثرة -لم يخل من تعمد من جانبه هو لكسر سورة النفس، وإضعاف نزوات الجسد، وإخضاع الرغبة في النساء، التي قد يعين هجر أن اللبن واللحم على تفليل شفرتها؟
لقد كان أبو العلاء رجلا جبارًا وقد أعانه تناقضه هذا المتعقد النواحي، المتنافر الجوانب، على الجبرية والسيطرة والاستحواذ على إكبار معاصريه، وكثير ممن بعدهم وهو بعد من العباقرة النادرين، الذين اتخذوا من إظهار الضعف والمسكنة والإعراض عن اللذات، سلاحا ماضيا، ينالون به اللذة الكبرى، ألا وهي قهر الناس، واغتصاب الإعجاب منهم، والظفر برهبتهم واحترامهم وقديما قال أبو تمام في المعتصم:
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
…
تنال إلا على جسر من التعب
وقد استطاع المعري من علياء ملكه المبني على المسكنة والضعف، أن يهجو الأنبياء، ويذم الأمراء، ويسخر من المجتمع، ويحول بيته إلى كعبة يؤمها القصاد، ثم يعيش بعد ذلك الأمد الطويل، ويموت معززا مكرما، تختم على قبره مئتا ختمة وينشد عند جنازته أكثر من ثمانين شاعراّ وذلك لعمري فوز عظيم (1).
المعري والجناس
وبعد أيها القارئ الكريم، فقد كان من حق هذا الكلام الطويل الذي ذكرناه عن
(1) مر بي هذا في بعض تراجم أبي العلاء، وأحسبها ترجمة البديعي.
المعري، أن نورده في ذيل الكتاب، لأنه قد يظن أنه يقع هنا موقع الاستطراد. غير أنا رأينا الإتيان به في هذا الموضع أقرب إلى أن يكون بمنزلة التمهيد الذي يعين القارئ، ويهيئ ذهنه، لتفهم ما سنذكره بعد من طريقة المعري في استعمال الجناس وغيره من المحسنات البديعية في ديوانه سقط الزيد، وديوانه الدرعيات، وكتابه لزوم ما لا يلزم. وخلاصة ما ذكرناه آنفا أن المعري كان رجلا متناقضا، يجمع بين حب النصوع والوضوح، وطلب الإخفاء والغموض، وبين زخرف الحضارة، وصلابة البداوة، وتأثر مذاهبها، وبين دماثة الأدباء وحزونة العلماء، يضاف إلى جميع هذا عقده النفسية المتراكبة، والقيود التي فرضها على نفسه لقمع الشهوات، مع رغبته الجامحة في الشهوات. فهلم ننظر إلى انعكاس جميع هذا في طريقة استعماله للجناس.
نبدأ أولا بشعره البغدادي، الذي كان يجنح فيه إلى إظهار ملكته، والتجمل إلى العلماء، والتحبب إلى الأدباء، والتملي من ترف الحضارة الأدبية التي وجدها ببغداد، والتظرف باستعمال منهج البداوة والجزالة. في هذا الشعر نجد أن المعري كان حق حريص على أن يكسب حسن رأي الناس فيه، وكان من أجل ذلك يسلك مسلكا أشبه شيء بمسلك الطالب النابه، الذي يريد أن ينال أقصى ما يستطاع نيله من درجات في الامتحان. فكان يستعمل الجزالة، لا لأنه يحبها فحسب، ولكن ليسر العلماء الذين يحبونها، والأدباء الذين يطربون لها، وكذلك كان يحاكي مذاهب البدو، ويتظرف بالغزل في البدويات، لأن أدباء بغداد وظرفاءها كان يعجبهم ذلك. وكان يصف طيف الخيال، وبكاء الفتاة على الكثيب، كل ذلك ليجاري روح تلك المدينة المترفقة المتأنقة، التي كان يلذها أن تسمع مثل هذه الأوصاف مرصعة بالجوهر النادر، من التجنيس والتوشية. وكان يضفي على كل ذلك حرارة عاطفية. وحلاوة فكاهية، وافتنانه في النادرة والإشارة العلمية، والنورية التي هي أخت الجناس، والإغراب في الجرس على نحو دقيق رقيق، يذكر السامع برنات البحتري وطنات القدماء، من أمثال زهير والنابغة.
كان المعري في شعره البغدادي، نابغة يشعر بالحاجة إلى أن يعترف به النوابغ. ولعله أول شعر نظمه وهو يشعر من نفسه بالضعف، خوفا من أن يكون الحكم عليه قاسيا، وفي نفس الوقت يشعر بالثقة، لما كان يملأ قلبه بالعواطف والأماني والمطامح. وقد جاء شعر المعري البغدادي، نتيجة لهذه الدوافع، متدفقا مندفعا صافيا، وجاءت جناساته ممثلة لهذا التدفع والتدفق، والحرص على الإجادة والامتاع والاستماع. فهو كان يستعملها إما لتقوية الصور التي كان يأتي بها، وإما ليرتاح إلى التجميل والتصنيع، بعد أن تبلغ به العاطفة مبلغا بعيدا. وكان هذا الارتياح بين كل غرض عاطفي وآخر يلائم طبيعته، فقد كان رجلا ضريرا، تعجبه الدندنة والترنم. كلما خلا فكرة من آراء وأغراض واضحة الأعيان. كما أنها تتيح له فرصة التخفيف من العنف، فيما كان يقصد إليه من أغراض، إذ قد كان من جوهر نفسه رجلا متشككا، حريصا على ألا يكشف عواطفه كل الكشف. فمتي عنت له الفرصة بعد إفصاحة، حاول أن يضفي عليها ستارا من زخرفة الصناعة ممزوجا بالفكاهة، يوهم السامع أنه لم يكن جادا فيما كان يتناوله من قبل.
وقد تعاطى المعري أصناف الجناس جميعا في شعره البغدادي، وزاد عليها الجناس السجعي، يجئ به لمجرد الإطراب على طريقة البحتري في قوله:
أتسلى عن الحظوظ وآسي
…
لمحل من آل ساسان درس
أو لتقوية الصورة عن طريق النغم، كما فعل زهير في قوله:
إذا لقحت حرب عوان مضرة
…
ضروس تهر الناس أنيابها عصل
وكان أحيانا يتظرف بتعاطي التورية، وهي أخت الجناس وبنته، لأن صاحب التورية إنما يفترض أنه يجانس بين كلمه يوردها في كلامه، وأخري تسبق إلى عقل سامعه، مال قوله:
إذا صدق الجد افتري العم للفتى
…
مكارم لا تكري وإن صدق الخال
فمن أمثلة جناسات المعري التي عمد فيها إلى مجرد الإطراب، قوله (1):
تلاق تفري عن فراق تذمه
…
مآق وتكسير الصحائح في الجمع
والشاهد في "تفري، وفراق". وحسن تخلصه من تاء تفرى وفائها ورائها، إلى فاء فراق ورائها، ليجعلها مسجوعة مع تلاق، ولا يخفى على القارئ طنة ألفات المد في هذا البيت.
ومن ذلك قوله (2):
فذكرني بدر السماوة بادنا
…
شفا لاح من بدر السماءة بال
والشاهد في قوله: "بدر، وبادن، وبال" وما في هذا من رنة الباء والدال والباء والألف.
وقوله:
يلوذ بأقطار الزجاجة بعدما
…
هريقت لما أهديت في الكشر أمثال
والشاهد في قوله "هريقت، وأهديت" وقد كان لو شاء قال: أريقت، ولكنه طلب المجانسة.
وأمثال هذا في الشعر المعري البغدادي، نحو قصيدتيه اللاميتين:
طربن للمع البارق المتعالي
و: مغاني اللوي من شخصك اليوم أطلال
كثير. وأكثر منه أمثلة الجناس المتشابه بأنواعه المتخلفة، مثل:
أأبغي لها شراّ ولم أر مثلها
…
سفائن ليل أو سفائر آل
والشاهد في "سفائن، وسفائر".
(1) من سقطيته: نبي من الغربان ليس على شرع.
(2)
من لاميته: طر بن لضوء البارق المتعالي.
وقوله:
ولاح هلال مثل نون أجادها
…
بجاري النضار الكاتب ابن هلال
وقوله:
تقول ظباء الحزم والدمع ناظم
…
على عقد الوعساء عقد ضلال
ولعل اقتدار المعري في تمثيل أصوات ما ينعته بواسطة الجناس الحرفي، شيء كاد ينفرد بالتبريز فيه بين سائر شعراء العرب. وقد وجد في دقة إحساسه بالصوت، وصفاء ذوقه في تخير الألفاظ، ومحبته للترنم ما أعانه على الإجادة في هذا الباب. خد مثلاّ قوله في النار:
نار لها ضرمية كرمية
…
تأريثها إرث عن الأسلاف
تسقيك والأري الضريب ولو عدت
…
نهي الإله لثلث بسلاف (1)
أنظر إلى هذه الراءات والياءات المشددة، كيف تحمل إليك صوت ضرام النار. ثم تأمل هذا الجناس في قوله:"تأريثها، وإرث"، وقوة الصلة بينه وبين صوت الشيء الموصوف.
وخذ قوله وهو يذكر حنين الإبل، ويزعم متظرفا، أنها ربما تكون قد حلمت ورأت في المنام، أوديتها التي كانت تجاذب فيها ذوائب الطلح والضال:
(1) الأرى: هو العسل. والضريب: هو اللبن. يقول: إن هذه النار من كرم أهلها تسقيك اللبن والعسل، ولو كان لها أن تكرمك بالمحرم، لتسقيك السلاف. وكأن المعري خشي أن يحمل منه هذا الكلام على أنه رجل يحب السلاف، فأضاف قوله:
وإذا تضيفت النعام ضياءها
…
حمل الهبيد لها مع الألطاف
والهبيد: هو حب الحنظل، وهو من فواكه النعام. والفكاهة في هذه الصورة، صورة الخدم يحملون الهبيد والمسامير والحجارة في صحاف، ليكرموا بها ضيوف النعام، تصرف الذهن شيئًا عما ذكره المعري من السلاف.
لقد زارني طيف الخيال فهاجني
…
فهل زار هدي الإبل طيف خيال
لعل كراها قد أراها جذابها
…
ذوائب طلح بالعقيق وضال
ومسرحها في ظل احوي كأنها
…
إذا أظهرت فيه ذوات حجال
فالبيت الأول بهاءاته وراءاته تمهيد لهذه الحركة القوية في البيت الثاني، التي تنقل إلينا صوت مشافر الإبل وكراكرها وهي تجذب الأغصان، والبيت الثالث مع احتفاظه بصدى هذه الحركة، فيه قصد إلى التخلص منها في يسر واختلاس. ولعل من "فهاجني". وقوله:"فهل، وهذي" بعد ذلك، وما داخل هذا من التكرار، ورد الصدر على العجز، وترديد كلمة خيال في قافية البيت.
ثم انظر إلى الفصل "بقد" بين "كراها، وأراها"، وبهما مثل الشاعر جرس الكركرة، التي تصحب انشغال الإبل بجذاب الذائب، ثم انظر التخلص من حركة الراء إلى حركة أخري تمثل أصوات الإبل، هي ذبذبة الذال، وقد أحسن المعري التخلص من "أراها" إلى "جذابها" بهاء المؤنثة وألفها، ثم انتقل من جذابها إلى ذوائب، محتفظا بالذال والألف والياء.
وفي البيت الثالث كرر الراء في مسرحه وأظهرت، وخلص منها إلى الترنم بالحاء في " أحوى، وحجال، ومسرحها". وذلك يسر له أن يستمر في النظم، وينسي صوت الإبل وكركرتها وذبذبتها.
هذا، ومن خير ما يستشهد به المرء، على افتنان المعري في التجنيس ليكسب استحسان الناس، وليعبر مع ذلك عما في نفسه، من نغم مدندن، وحب لموسيقا الأجراس، ومقدرة على تخير اللفظ، عينيته في وداع بغداد، التي مطلعها (1):
(1) التنوير 2: 68.
نبي من الغربان ليس على شرع
…
يخيرنا أن الشعوب إلى الصدع
وهي القصيدة الرائعة التي ودع فيها آماله، وأودعها أحر صرخات قلبه. وكأنما أراد أن يقول بها لأهل بغداد:"أنظروا هذا الجمال، هذا السحر الحلال، هذا الوشي الحبرة، أيسركم أن يركب صاحبه الفلوات"؟ لا، بل قد صرح بهذا القول واضحا في بيته:
فدونكم خفض الحياة فإننا
…
نصبنا المطايا بالفلاة على القطع
ومما يحسن التنبيه عليه، في معرض الحديث عن هذه القصيدة، أن طريقة المعري في تقطيع المسافة بين غرض وآخر، بالترنم والدندنة، واضحة فيها أيما وضوح.
ودونك منها قوله في صفة الحمائم، وهو غرض من الأغراض التقليدية، كان لأبي العلاء به ولع خاص، وما فتئ يكرره في منظومه ومنثوره، ويفتن في ذلك، قال:
وشكلين ما بين الأثافي واحد
…
وآخر موف من أراك على فرع
يشير هنا إلى ما اعتادته العرب من تشيبه الحمام بالرماد، والرماد بالحمام (1).
أتي وهو طيار الجناح وإن مضي
…
أشاح بما أعيا سطيحا من السجع (2)
يجيب سماويات لون كأنما
…
شكرن بشوق أو سكرن من البتع (3)
تري كل خطباء الجناح كأنما
…
خطيب تنمي في الغضيض من الينع (4)
(1) قال الشماخ يصف الرماد:
وإرث رماد كالحمامة ماثل
…
ونؤيان في مطلومتين كداهما
(2)
سطيع: من كهان العرب.
(3)
شكرن: أي امتلأن. والبتع: خمر العسل.
(4)
الخطباء: هي الضاربة اللون إلى الخضرة.
إذا وطئت عوداّ برجل حسبتها
…
ثقيلة حجل تلمس العود ذا الشرع (1)
وهذا الوصف الجيد لا يمنعنا كون موضوعه تقليديا، من إدراك ما فيه من حرارة؛ العاطفة وتحرقها. وقد قدمنا لك أن المعري، لعلة العمي وحدها -ودع عنك ذكاء لبه، وتأجح قلبه-كان شديد الإحساس بوقع الأصوات والأنغام. وقد وجد من الحمامة مثيرا للشجن، كما قد وجد قبله حميد بن ور الهلالي، كما وجد شيلي وكيتس من شعراء الإفراج. وهو هنا قد تمثل في صوت الحامة طرب الثمل، وأنات المشوق، ونغمات العود. وقد اجتهد أن يبرز ما أحس به، لا في معانيه وحدها، ولكن في أصوات ألفاظه أيضا. تأمل نوناته في "سماويات لون، شكرن، سكرن" وتقارب الجرس بين السين والشين. وتعمد الجناس في "شكرن، وسكرن". ومن سمع صوت الحمام، لم يخف عليه ما في هاتين اللفظتين من المحاكاة الشديدة، لأصواتهن وبحسبه دليلا على ما أقول -إن لم يكن قد سمع صوت الحمام- إن العرب حاكته في موسوعتها اللغوية الرمزية بقولها:"ساق حر". ثم إن المعري ألح في إبراز الموسيقا الصوتية التي كان يسمعها من صوت هذا الطائر الغريد، فجنس في قوله "خطباء وخطيب"، وقوله:"العود" بمعني آلة الطرب، وترصيعه "عودا برجل" مع "ثقيلة حجل". ولا يفوتني هنا أن أنبه إلى اللفتة الجنسية في ذكره ثقل الحجل، وهو رجل كانت قوة شعوره بالجمال تبرز عند الملموسات. والمسموعات هذا، ولا تنس هذه الألفات الطويلة والياءات المشبعة التي ينادي بعضها بعضا في قوله:"تنمي، غضيض، وخطباء، وخطيب، وسماويات، وطيار الجناح، أشاح، وسطيحاّ، واعيا" في غير ذلك مما لا يستطاع استقصاؤه.
هذا، وإذ فرغ المعري من صفة الحمامة، وبلغ فيه إلى ذروة عاطفية، عمد بعد
(1) العود الأول: هو عود الشجر، والثاني: هو آلة الغناء. والشرع: جمع شرعة: وهي وتر العود -أي كأن الحمامة مغنية، تترنمبعود.
ذلك إلى الدندنة المحضة، وإضفاء ستر من الصناعة على ما سبق الإفصاح به من صادق العاطفة والشعور، فقال:
متي ذن أنف البرد سرتم فليته
…
عقيب التنائي كان عوقب بالجدع
تأمل النون من "ذن، وأنف"، والجناس في "عقيب، وعوقب". ومعني هذا البيت من النوع البعيد المتصيد على طريقة ابي تمام، فهو يقول: متي جاء الشتا رحلتم فليت الشتاء لم يجئ. وجعل للشتاء أنفاّ، وليت شعري عن الآمدي لو سمع هذا أكان يثور عليه كما قد ثار على ما استعاره حبيب من الانوف والاخادع؟
وما أورقت أوتاد دارك باللوي
…
ودارة حتى أسقيت سبيل الدمع
وأقف بك هنا أيها القارئ عند قوله: "دارك، ودارة"، كيف تلطف وجاء بهما معا في هذا الطراز البديع من الترنم! والبيت كله وشي مرصع، وتصداح مطرب.
ذكرت بها قطعا من الليل وافيا
…
مضي كمضي السهم أقصر من قطع (1)
وما شب نارا في تهامة سامر
…
يد الدهر إلا أب قلبك في سلع (2)
ولا أحسب القارئ إلا قد فطن لأسلوب البداوة في قوله: "يد الدهر إلا"
وانسجامه مع الجناس والسجع في "شب وأب".
ولم يزال أبو العلاء يدندن هكذا، حتى بلغ الذروة من النغني في قوله يصف الأعرابية على طريقة المتنبي:
وفي الحي أعرابية الأصل محضة
…
من القوم إعرابية القول بالطبع
وقد درست نحو الفلا فهي لبة
…
بما كان من جر البعير أو الرفع
(1) القطع بالكسر في آخر البيت: هو السهم وفي أوله الجزء من الليل.
(2)
أب: أي حن واشتاق.
ألفت الملا حتى تعلمت بالفلا
…
رنو الطلا أو صنعة الآل بالخدع (1)
وليس بخاف عنك أيها القارئ الكريم حسن تخلص الشاعر من هذا الترصيع باللام وألف واللين في قوله: "الملا، والفلا، والطلا"، بذكره "الآل" عند آخر البيت، وهي معكوسة من "الألا"(كلمة خالية كان يمكن أن يستمر بها الترصيع إلى ما لا نهاية له).
وإذا قد نال الشاعر حظه من الترنم، دخل في غرض آخر هو شكوى الدهر، والتحسر على فراق بغداد. وقد بدأ في هذا الغرض على طريقة الرمز عند قوله:
ومن يترقب صولة الدهر يلقها
…
وشيكا وهل ترضي الأساود بالوكع
وقال الوليد النبع ليس بمثمر
…
وأخطأ سرب الوحش من ثمر النبع (2)
ولم يخطئ الوليد في قليل ولا كثير، لأن بيته يدل على أنه يعلم أن سرب الوحش وغير سرب الوحش من بعض ما يثمره النبع. وذلك قوله:
وعيرتني خلال العدم آونة
…
والنبع عريان ما في نبته ثمر
فهو هنا يحتج بأن النبع على تعريه يكون أفضل من النباتات ذوات الثمر، وكذلك المعدم على بذاذة مظهره، قد يكون أعظم جدوى من المثري ذي الابهة والمظهر، على حد ما قاله كثير:
تري الرجل النحيف فتزدريه
…
وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتله
…
فيخلف ظنك الرجل الطرير
(1) الملا: الصحراء. والطلا: ولد الظبية.
(2)
الوليد هو البحتري، والمعري يشير على بيته الذي رويناه بعد. والنبع: شجر تصنع منه الأقواس والمعري يقول: ليس النبع بلا ثمر كما زعم البحتري، فالنبع تصنع منه الأقواس، ويصطاد به الصائد سرب الوحش، فسرب الوحش على هذا من ثمر النبع. وقد وضحنا فوق أن البحتري فوق أن البحتري إلى هذا المعنى أراد حين قال ما قاله. (انظر في ديوان البحتري 2: 43، وشروح السقط 3: 1348).
ولا أحسب أن المعري كان يخفى عليه هذا المعنى الذي أراده الوليد. ولكني أظنه خطر بباله بيت الوليد لمعنى في نفسه، ثم رمز إلى هذا المعنى بذكر الوليد والإشارة إليه. ثم أراد أن يعمي، فنسب الوليد إلى الخطأ، وصحح خطأه بكلام إنما هو شرحٌ وتفصيل لما أوجزه الوليد. وعندي أن المعنى الذي دعا المعري إلى تذكر بيت البحتري هذا، هو قوله:"وعيرتني خلال العدم".
ولا شكٌ أن المعري كان معدمًا، أو كالمعدم عندما نظم هذه القصيدة. وأن عدمه كان من الأسباب المباشرة، التي دعت إلى هجرة بغداد، كما نبأنا هو عند قوله:
أثارني عنكم أمران والدة
…
لم ألقها وثراء عاد مسفوتا
ثم خرج المعري من الرمز والإيحاء، إلى التصريح الواضح بما كان يحسه من لذع الفراق لبغداد، وذلك قوله:
أودعكم يأهل بغداد والحشى
…
على زفرات ماينين من اللذع
وداع ضنى لم يستقل وإنما
…
تحامل من بعد العثار على ظلع (1)
إذا أط نسع قلت والدوم كاربي
…
أجدكم لم تفهموا طرب النسع (2)
فبئس البديل الشأم منكم وأهله
…
على أنهم قومي وبينهم ربعي
ألا زودوني شربة ولو أنني
…
قدرت إذن أفنيت دجلة بالجرع
وأني لنا من ماء دجلة نغبة
…
على الخميس من بعد المفاوز والربع
ثم حاول المعري أن يخفف من حرارة هذه العاطفة، ويستر توقدها بشيء من الصناعة، فقال:
(1) الضنى: هو المضنى المنهوك.
(2)
أط: صوت. والنس؟ : سير الرحل. والدوم: شجر شبيه بالنخل. وكاربي: مقترب مني. وهذا البيت عندي فيه محاولة للخروج من العاطفة إلى الصناعة المتئدة، ولكن المعري لم يقدر، فرجع وطاوع قلبه.
وساحرة الأطراف يجني سرابها
…
فتصلب حرباء بريا على جذع (1).
ولكن عاطفته كانت أقوى من أن يسترها بشيء، فاستمر مندفعًا بعد هذه الدندنة المخفقة:
وما الفصحاء الصيد والبدو دارها
…
بأفصح يومًا من إلهكم الوكيع
أدرتم مقالا في الجدال بألسن
…
خلقن فجانين المصرة للنفع
سأعرض إن ناحيت من غيركم فتى
…
واجعل زورا من بناتي في سمعي (2)
ولا أظني محتاجًا إلى أن أنبه القارئ على أن أبا العلاء أعرض مرة واحدة في هذه الأبيات، عن ضروب الجناس المتشابه - فلم يكن سلطان العاطفة يدعه يفكر في ذلك، واكتفى بأسلوب العرب القديم، في الترنم بالحروف المكررة ومزاوجة الكلمات، تجد ذلك في غلبة الألف والمد والتشديد والتنوين على الأبيات الأول، وفي البيت الثاني للعين منه حظٌ وافرٌ. والرابع يكاد يكون كله ضمائر منتهية بالميم. وفي البيت الخامس تجد المزاوجة بين "قدرت" وأفنيت"، والمجانسة بين "دجلة" و "الجرع" و "إذن، وأفنيت، وزودوني، ولو إنني". ولا أحسبك خفي عنك مكان التجنيس. في قوله "الصيد والبو دارها"، أعني تجنيس الحروف، والموازنة عند قوله: "مقالًا في الجدال". وغاية الغايات، كما كان يقول الدكتور زكي مبارك رحمه الله، قوله: "وأجعل زوًا" - ولا ريب أن تعبيره بجعل الإصبع في الأذن تعبير صادق أيما صدق، إذ قد كان جل استمتاعه في بغداد يأتيه من جهة السمع. وقد كان يمكن المعري أن يقول: "وأجعل زوجًا" - ولكنه طلب الحركة المزدوجة، مبالغة في تصيد
(1) ساحرة الأطراف: هي الصحراء. والحرباء: يصعد على الجذوع عند اشتداد الحر ويلصق بها كالمصلوب. والمعري يقول هنا: وأنى لنا بماء دجلة بعد أن يطول بنا السفر في صحراء واسعة الأطراف ذات سراب خلاب ساحر، يجتى بخداعه، ولا يحل به العقاب على جنايته، وإنما يحل بالحرباء المصلوب على الجذوع.
(2)
زوا: يريد زوجًا.
الجرس القوي، والموسيقا اللفظية. ولا مراء في أن زوًا، أقوى من ناحية الصوت في هذا الموضع من "زوجًا".
هذا، وقد استفرغ المعري عند قوله:"أودعكم يا أهل بغداد"، إلى قوله:"سأعرض" قطعة كاملة من معاني اللوعة والشوق. فرأى أن يستريح شيئًا إلى التغني والترنم، ريثما يستجمع في نفسه معنى آخر، ولا يستبعد أيضًا أنه كان يقصد بهذا التغني والترنم صرف القارئ شيئًا عن أن ينتبه إلى ما كان هو فيه من حرارة العاطفة. والذي قد طالت صحبته لأبي العلاء، لابد أن يكون قد استرعى انتباهه أن ذلك الشاعر المشتعل الصدر بالعاطفة، من أحرص خلق الله على ادعاء البرود والجمود، ليوهم الناس أنه مسكين مسكين، لا يملك من أدوات البشرية الساخنة شيئًا، حتى هذه العاطفة التي يفور بها دم الغريزة.
وقد بدأ المعري ترنمه بذكر شيء يناسب المعاني التي فصلها في الشوق، وذلك بأن أخذ يصف المشقات التي لاقته ولاقاها في طريق الرحلة إلى بغداد، من جوع وعطش ولص وسبع. وقارئ المعري، لا يملك نفسه من أن يسأل (لكثرة ما يصف هذا الشاعر مخاوف الطريق في قصائده) هل كان المعري لقي في بعض هذه الأسفار ما ذعره حقًا؟ والمعري يدعي الصبر والشجاعة فيما يصفه لنا. ولكن هل كان المعري صادقًا؟ أليس محتملًا جدًا أنه قد هلع حقًا، ومما زاد في هلعه، ضعفه وحاجته إلى من يأخذ بيده، وانصراف المعونة عنه، وهو في أشد الحاجة إليها، لانشغالها بخويصة نفسها؟ تأمل قوله:
عذيت النعام الروح دون مزاركم
…
وأسهرني زار الضراغمة الفدع (1)
وما ذاد عني النوم خوف وثوبها
…
ولكن جرسا جال في أذني سمع (2)
(1) يوصف النعام بالروح بتحريك الواو، وهو تباعد الرجلين؛ والأسد بالفدع، وهو عكس الروح إذ أنه اعوجاج في الأرساغ، وتأمل الجناس الخفي في "مزاركم، وزار".
(2)
السمع: حيوان قوي حاسة السمع. يقول المعري: لم أسهر لخوفي من وثوب الأسود، ولكن لأني قوي السمع، وكان صوتها يزعجني.
أم لعله لقوة سمعه كان أول من نبه الركب إلى اقتراب الأسد؟
وكم جبت أرضًا ما انتعلت بمروها
…
وجاوزت أخرى ما شددت لها شسعي
أي جاوزتها مجاوزة سريعة، على ظهور الإبل النواجي، لم تمكني من أن أسير عليها حافيًا أو ناعلًا. ولا يعني بهذا البيت أن يتصعلك على طريقة المتنبي في قوله:
ومهمه جنته على قدمي
وإن كان ظاهر لفظه يوهم ذلك.
وبت بمستن اليرابيع راقدًا
…
يطوفن حولي من فرادى ومن شفع
وفي هذا البيت إفصاح قوي بدقة حاسة اللمس عند المعري، ومقدرته على التعبير بها. ولا أظن أحدًا ممن أتيح له أن نام في صحراء تحبو خنافسها ويرابيعها، يفوته ما في هذا البيت من جمال الوصف.
هذا، ثم انتقل المعري من صفة اليرابيع والسباع إلى صفة اللصوص الذين صحبهم في الطريق. واتخذ هؤلاء ذريعة إلى أحد الأغراض التقليدية، التي كان له بها غرام زائد، وذلك وصف السيف. ولعل المعري كان يتوق من أعماق نفسه إلى هذا البريق الذي ينسبه الشعراء إلى السيف. ولعل "عقله الباطن" كان يدفعه إلى وصف كل لماع ذي شعاع كالسماء ونجومها، وكالسراب والدرع والسيف والنار - أليس في عماه ما يبرر مثل هذا الحنين من جانبه إلى الضوء ولا سيما في مظاهره البارعة الرائعة، كفرند السيف، وائتلاق النجوم؟
ولا أريد هنا أن أطيل على القارئ، بإنشاد جميع ما قاله المعري في السيف في هذه القصيدة. وبحسبي أن أعلق على ذلك تعليقًا مجملًا، فأقول: إنه أفعم هذا الوصف بضروب الجثاس والبديع والاستعارات البعيدة، مثل قوله:
ويأبى ذباب أن يطور ذبابه
…
ولو ذاب في أرجائه عمل الرصع
أي يخاف الذباب أن يقترب من ذباب هذا السيف: أي حده، ولو كان هذا الحد ملطخًا بالعسل، الذي هو عمل الصع: أي النحل (1).
وأظن القارئ قد تأمل براعة الجناس التام، وتكميله بالجناس السجعي الحرفي في ذاب.
وانتقل المعري في ترنمه هذا من وصف السيف، إلى غرض آخر تقليدي، من أغراضه التي كان كلفًا بها، وهو وصف النجوم. وشبه الليل ونجومه بالنوق التي عرقت، وعليها قلائد من ودع في قوله:
كأن الدجى نوق عرقن من الونى
…
وأنجمها فيها قلائد من ودع
وألفت القارئ هنا إلى موضع النونات من "نوق، وعرقن"، ومن "الونى"، وأنجمها" - ثم إلى شبه الجملة "فيها"، وهي تمهد للانتقال من هذه النونات إلى نظام آخر من التعبير.
ويبدو لي أن فكرة سواد الليل، وسواد العرق الذي تنضح به النوق، أحدثت في قلب المعري نوعًا من تداعي المعاني، فانتقل من الترنم والتأمل "النوستالجي" في سواد الليل ونجومه، إلى التفكر في حقيقة الحال التي كان يعانيها، فقال:
لبست حداد بعدكم كل ليلة
…
من الدهم لا الغر الحسان ولا الدرع
والدرع من الليالي: هي التي تكون مقمرة شطرًا صالحًا. والصلة المعنوية بين هذا البيت وما قبله واضحةٌ.
أظن الليالي وهي خونٌ غوادرٌ
…
يردي إلى بغداد ضيقة الذرع
وكان اختياري أن أموت لديكم
…
حميدًا فما ألفيت ذلك في الوسع
(1) الصع بفتح الصاد والراء وتسكينها المعري على مذهب الكوفة وهو وجه صحيح وضم الراء الذي في الشروح (1361) غير صحيح لأن الرصع بالضم جمع أرصع ورصعاء وهي في المعنى كأرسح ورسحاء ولا يستقيم المعنى بها هنا وعن أبي عمرو الرضع بالضاد العجمة أي النحل ولعله الصواب والله أعلم.
وهذا معنى واضحٌ صادقٌ، ناطق بحرارة ما كان يشعر به المعري، فرأى أن يترنم بعده، ليخفف شيئًا من حدته:
فليت حمامي حم لي في بلادكم
…
وجالت رمامي في رياحكم المسع
وليت قلاصًا ملعراق خلعنني
…
جعلن ولم يفعلن ذاك من الخلع
والخلع: طعام من أطعمه العرب "وهو أن تنحر الجزور"، ويطبخ لحمها بشحمها، ويطرح فيها توابل، ثم يفرغ في جلد، فيأكلونه في أسفارهم (1)" ولا يخفى أن المجانسة في "حمام. وحم"، والسجع في "رمامي"، وتكلف القافية - "المسع" (أي ريح الشمال)، وقوله: "خلعنني، والخلع"، كل ذلك ترنم، أريد به صرف الذهن عما كان يشعر به المعري من حسرة.
هذا، وبعد أن ظن المعري أنه قد أفرغ جهده من ترنم وبكاء وصناعة، وعرض على البغداديين آخر ما عنده من الإبداع، رأي أن يندمهم على ما فرطوا فيه، وأن يذكرهم بأنهم إنما يطرحون بطرحه درة، لا درة مثلها، فقال:
فدونكم خفض الحياة فإننا .... نصبنا المطايا بالفلاة على القطع
تعجلت إن لم أثن جهدي عليكم
…
سحاب الرزايا وهي صائبة الوقع
ولا يخدعنك ما في البيت الأول من تلطف بالنحو وتسجيع في قوله "الحياة، والفلاة"، عما تحته من الدعوة الملحة لأهل بغداد ألا يفرطوا فيه، وأن يشركوه معهم، كما يشاء هو، في خفضهم.
هذا، ولما رحل المعري عن بغداد، ورأى أن قد حيل بينه وبينها، واستقرت به الحال على الاعتزال، والتبتل، والتزهد، جعل يراسل أصدقاءه بقصائد طوال، تحرى فيها أصنافًا من البديع، على أسلوب من الإغراب والتعمق، عندي أنه قصد
(1) شروح سقط الزند: 1365 ويعرف في المغرب بالخليع.
به إلى ما زعمناه آنفًا، من إظهار الاقتدار والجبرية، كما قصد به إبشام البغداديين، وإتخامهم من هذا الصنف من التعبير الذي كانوا يحبونه، ويودون أن يصنعوه ولا يقدرون عليه (1) هذا المزج الغريب بين مذهب البداوة والحضارة، وبين جزالة القدماء وصناعة المحدثين. والمعري الذي كان يحس الضعف، ويتحرق إلى أن يكتسب إعجاب المجتمع البغدادي المثقف، ويظفر بالاعتراف من قادته، قد صار في قصائده التي أرسلها من بغداد، يشعر بأنه أكبر من أن يقنع بمجرد اكتساب الإعجاب، صار يشعر بأنه قوي في وسعه أن يتفضل على بغداد، بعرض خزائنه في أبهتها الكاملة. ولبغداد أن تتخير منها ما تشاء، أو أن تنظر إليها نظرة الأسف على التفريط في صاحبها. أو تنبهر انبهار العاجز. لقد صار في ركنه المنزوي في معرة النعمان جبارًا طاغية، لا يبالي أن يرضي مجتمع بغداد كله، أو يطر به كله، وإنما يبالي بجانب واحد منه، هو العلماء، وخاصة الأدباء، وهؤلاء إنما كان يبالي بهم، لكي يشعهم بأنه أعلم وأقدر منهم. وقد ذكر بصراحة شيئًا يدل على هذا في قوله:
ولي حاجةٌ عند العراق وأهله
…
فإن تقضياها فالجزاء هو الشرط
سلا علماء الجانبين وفتيةً
…
أبنوهما حتى مفارقهم شمط
أعندهم علم السلو لسائلٍ
…
به الركب لم يعرف أماكنه قط
وما أربي إلا معرس معشرٍ
…
هم الناس لا سوق العروس ولا الشط
وقد انعكس هذا الاتجاه النفسي كل الانعكاس في جناسات المعري، في رسائله الشعرية إلى علماء بغداد. فقد سخر فيها حبه للغة، وغرامه بها، لإعجازهم وقهرهم. وتجد ما يتعاطاه من الجناس في هذه الرسائل، من طراز كأنما أريد به التحدي وحده ليس إلا. والغالب عليها أصناف الجناس المتشابه والتام والموهم دون
(1) لا يناقض هذا ما ذكرناه آنفًا من أن المعري كان له من نفسه شيطان يغريه باللعب اللفظي، فقد كان من دهاء المعري البالغ تسخيره هذا اللعب، للنكاية بعلماء بغداد.
السجعي والحرفي والموسيقي الصرف. وكان يشفعها أحيانًا بالتوريات. وكما قدمنا، فإن التورية شقيقة الجناس وسليلته. تأمل مثلًا قوله من عينيه (تحية كسرى في السناء وتبع (1)):
وطارقتي أخت الكنائن أسرة
…
وستر ولحظ وابنة الرمي أربع
وبيضاء ريا الصيف والضيف والرى
…
بسيطة عذر في الوشاح المجموع
ومرآتها لا يقتضيها جمالها
…
بمرآتها والطبع غير التصنع (2)
وقد حبيت أموالها في أديمها
…
سنين وشبت نارها تحت برقع
أفق إنما البدر المقنع رأسه
…
ضلالٌ وغي مثل بدر المقنع (3)
أراك أراك الجزع جفن مهموم
…
وبعد الهوى بعد الهواء المجزع (4)
فتأمل هذا الإغراب في جعل صاحبة الطيف أختًا لكنائن أربع: كنانة القبيلة، والكنانة التي هي الستر، وعيناها كنانة ترمي بأسهم اللحظ، وقومها ذوو سهام يرمون بها من يهم بها. وأتبع هذا الإغراب إغرابًا آخر، في هذا الجناس المصحف الرائع عند قوله الصيف والضيف. ولا أنسى أن أنبه السامع إلى قوله "البرى" وقوة الشبه بينه وبين قوله "ثقيلة حجل" والبيت الثالث فيه الجناس الشبيه بالتام لفظًا، التام خطًّا، عند قوله "مرآتها ومرآتها".
وأغرب في معنى البيت الرابع، وأشار إلى حادث المقنع الذي ادعى الربوبية في البيت الخامس .. والبيت الأخير فيه أوابد الجناس التام لفظًا وخطًا، والجناس المتشابه، وذلك قوله "أراك أراك"، وقوله:"الجزع" وهو موضع وواد بعينه،
(1) التنوير: 2 - 101.
(2)
أي جمالها ثابت لا يقتضيها أن تنظر في مرآتها، والمرآة الأولى بكسر الميم، وهي هذه الأداة، والثانية بفتحها من رأي: وهي مصدر ميمي بمعنى الرؤية.
(3)
المقنع في آخر البيت رجل ادعى الألوهية، وزعم أنه يطلع على الناس بدرًا.
(4)
أي جفنك المهوم جعلك تبصر أراك الجزع مع أنه بعيد بعد الهواء المجزع بالنجوم.
والمجزع: أي المفصل بالخرز والدر. وهاك مثالًا آخر من الإغراب في هذه القصيدة نفسها أورده المعري بمعرض وصف المطايا:
على عشرٍ كالنخل أبدى لغامها
…
جنى عشر مثل السبيخ الموضع (1)
تود غرار السيف من حبها اسمه
…
وما هي في التوم الغرار بمطمع
مطايا مطايا وجدكن منازلٌ
…
منازل عنها ليس عني بمقلع (2)
تبين قرارات المياه نواكزًا
…
قوارير في هاماتها لم تلفع (3)
مسكينٌ مسكينٌ أبو تمام. لو قد سمع هذا، أظنه كان يضطرب في لحده، على أنه لم يستطع أن يجيء بمثله فيما سهره من ليال. فقد كان أبو تمام، رحمه الله، يعتد أمر هذا الجناس عسرًا عويصًا، وكان يطلبه من بعيد، ويقيم من أجله الألفاظ ويقعدها فما هو إلا أن جاء هذا العبقري الضرير، فجعل يلهو بالألفاظ والمعاني لهوًا، ويعبث بهن عبثًا، انظر مثلًا إلى قوله:"عشرٍ كالنخل" وما فيه من الإيهام. هذا مع أن تشبيه الإبل بالنخل أمرٌ شائع في الشعر لا يلام المعري على المجيء به. ثم إلى لعبه بلفظ "الغرار" و"بالقرارات" و"القوامير". وأما ما جاء به من النحت المحض في "مطايا مطايا"، و"منازل، ومنازل" فأقل ما يقال فيه أنه ليس مما يأتي لعقل خالٍ من شوائب الشذوذ.
وشبيهٌ بهذا الإغراب الذي جاء به في العينية، إغرابه في الطائية التي بعث بها إلى خازن دار العلم ببغداد. والتزام قافية الطاء نفسه أغراب. فمن ذلك قوله:
تجل عن الرهط الإمائي غادةٌ
…
لها من عقيل في ممالكها رهط
(1) العشر بتشديد الشين: هي الإبل العواشر أي الظامئة. واللغام: هو زبد الإبل. والعشر: ضرب من الشجر جناه نفاخات فيها سبائب قطنية بيض منتفشة. والسبيخ: هو الريش.
(2)
مطا الأولى بمعنى: مد، ومنا في الشطر الثاني بمعنى: القدر.
(3)
عنى بالقوارير التي في هاماتها: عيونها، وشبيهها بقرارات المياه النواكز: أي التي غاض ماؤها إلا شيئًا يسيرًا.
الرهط الأولى، هو ما نسميه في السودان: الرحط (والكلمة فصيحة) وهو إزار من سيور الجلد. والرهط الثانية: القبيلة.
وحرفٍ كنونٍ تحت راءٍ ولم يكن .... بدالٍ يؤم الرسم غيره النقط
وهذا نهاية العبث والتقعر. والحرف في أول البيت بمعنى الناقة، وشبهها بحرف النون في الضمر، والعرب تشبه النون بالأهلة. والرائي: هو الراكب الذي يضرب رئتها. والدالي: وهو الشفيق: أي هذا الراكب غير شفيق. والرسم الديار. والنقط: المطر. وهذا إيهام كما ترى، مصدره طلب الجناس، بحسب ما قدمنا لك من رأينا في التورية.
ولا يكاد بيت من هذه القصيدة يخلو من جناس تام أو ناقص أو موهم، أو شيء بمجراه، مثل:
خذت بسواك الناقلاتك في الضحا
…
بمشي سواكٍ لا تجد ولا تمطو (1)
ومثل:
قريطية الأحوال ألمع قرطها
…
فسر الثريا أنها أبدًا قرط (2)
ومثل:
فيا ليتني طارت بكوري إذ دنا
…
بكوري قطاةٌ بالصراة لها وقط (3)
(1) المشي السواك: بين السريع والبطيء كما فسره هو. والشاهد هنا المجانسة بين "سواك" أداة الاستثناء مع الضمير و"سواك" التي هي كلمة واحدة، يراد بها ضرب من مشيالإبل.
(2)
الجناس في قريطية وقرط: أي أخوالها من بني قريط.
(3)
هنا جناس خط في "بكوري"، وهي باء الجر مع الكور، وهو الرحل، وبكور: أي المبادرة في الصبح للسفر. يقول: ليت أن قطاة طارت برحلي وحرمتني السفر. والصراة: نهر بالعراق، والوقط نقرة من الصخر يجتمع فيها الماء.
وفي التائية التي وجه بها التنوخي أوابد نافرةٌ من هذا القبيل، مثل قوله يصف طرائف السيف:
كأن أهل قرى نملٍ علون قرى
…
رملٍ فغادرن آثار مخافيتا (1)
وفي قوله في السيوف:
كأنهن إذا عرين في رهجٍ
…
يعرين بالورد إرعادًا وتصويتا (2)
معظمات عليها كبوةٌ عجب
…
تكبي المحارب أو تثنيه مكبوتا
ومنها في وصف الأعراب:
وأهل بيت من الأعراب ضفتهم
…
لا يملكون سوى أسيافهم بيتا (3)
عنها الحديث إذا هم حاولوا سمرًا
…
والرزق منها حلوا أماريتا (4)
جنٌّ إذا الليل ألقى ستره برزوا
…
وخفضوا الصوت كيما يرفعوا الصيتا
وفيهم البيض أدمتها أساورها
…
رمي الأساور إجلًا حار مبغوتا (5)
وأغرب من هذا قوله، وكنا قد استشهدنا به:
أروى النياق كأروى النيق يعصمها
…
ضرب يظل له السرحان مبهوتا
(1) شبه الطرائق التي على السيف بآثار النمل على الرمل. فهذا قوله: "كأن أهل قرى النمل". والمخافيت هي الخفية غير الواضحة.
(2)
تقول يعرى فلان بالورد، بالبناء المجهول: أي تصيبه عرواء الحمى، وهي شدتها وحرارتها، والورد: هي الحمى الملاريا، لأنها ترد غبًا.
(3)
"البيت" في آخر البيت هنا: أي القوت، وهي بإشباع كسرة الباء.
(4)
الأماريت: هي الصحارى، وهي جمع أمرات، وهذه جمع مرت بسكون الراء.
(5)
الأساور الأولى جمع أسورة، وهي جمع سوار: أي إن هؤلاء البيض من امتلاء سواعدهن وأيديهن تضيق عنهن الأساور فيدمين. والأساور الثانية: جمع اسوار: وهو الرامي بالسهم. يقول هؤلاء البيض يرمين القلوب بلحاظهن كما يرمي الأساورة، إجل الظباء: أي قطيع الظباء؛ بهمزة وكسورة، زجيم معجمة ساكنة، ثم لام، والجمع آجال مثل آمال.
وعمر هند كأن الله صوره
…
عمرو بن هند يسوم الناس تعنيتا
وقوله:
ألفت خوص المطايا إن منكرة
…
إلف الغزال مقاليتا مقاليتا (1)
وخلاصة القول، ما قدمنا آنفًا من أن المعري أكثر من صناعة الجناس التام والناقص والخطي، في رسائله المنظومة إلى علماء بغداد، ليقهرهم ويبهرهم. وكانت جناساته نفسها، لكثرتها وغرابتها، وبعدها، واقتداره على أن يظهرها بمظهر القرب والطبع والجزالة، تنطق نطقًا مبينًا بما كان يملأ جوانب صدره من الرغبة في القهر والسطوة والتشفي، بإبراز ملكته في أعنف مظاهر جبروتها. ولا يخفى أن هذه الطريقة مخالفة لطريقته في القصائد البغداديات التي كان موقفه فيها موقف طالب اعطف والإعجاب.
وفي الدرعيات واللزمات، تجد أن المعري قد ركن إلى مسلك وسط بين طلب القهر وطلب الإعجاب، وهو مذهب الترنم والجنوح إلى التماس العزاء في اللعب بالألفاظ، والتجمل بالإشارات العلمية وفي الدرعيات تجد ناحية طلب السلوى والتعزي أقوى وأظهر، وفي اللزوميات تجد كلامه لا يخلو من قصد على تعجيز السامع وقهره.
وقد وصف الدكتور طه حسين عددًا من قصائد المعري اللزومية ي كتابه مع أبي العلاء في سجنه، مثل قصيدته:
خوى دن شرب فاستراحوا إلى التقى
…
فعيسهم نحو الطواف خوادي (2)
وقصيدته:
أواني هم فألقي أواني
…
وقد حل في الشرخ والعنفوان
(1) مقاليتا: أي مد عنقًا. والثانية: جمع مقلات.
(2)
خوادي: جمع خادية. أنظر اللزوميات.
وكلتا هاتين القصيدتين مما تجد فيه طلب التعزي باللعب اللفظي، مشوبا بالرغبة في إظهار المقدرة والبراعة والتعجيز والتحدي. وقد التزم المعري فيهما أن يجيء في صدر البيت بلفظة مجانسة للقافية، مثل قوله:
توى دين في ظنه ما حرائر
…
نظائر آم وكلت بتوادي (1)
وقد حمل الدكتور طه حسين كلتا هاتين القصيدتين على العبث والتسلي، وسماه عبث الأطفال الكبار وعندي أن المعري قد كان من الشياطين الكبار. وفي هاتين القصيدتين خاصة (ونظائرهما كثير) لم يخل من قصد إلى التعجيز، وإظهار المقدرة. والجناس الموهم التام، أو الشبيه بالتام هو عمدة الصناعة فيهما.
ومن قصائده اللزومية المشعرة بمجرد الترنم لطلب السلوى والعزاء نونيته التي أولها (2):
يا شائم البارق لا تشجك الـ
…
ـروض فما وجدك لما أببن
وقصيدته القصيرة التي يقول فيها (3):
أطربوني وما ابن سبرة في السبـ
…
ـرة إلا منية الأطربون
فعامل تداعي المعاني "والنوستالجيا" وممارسة الكتب، والعيش معها وفيها، واضح في كل هذا ونحيل القارئ بعد على كتاب مع أبي العلاء في سجنه، ففيه أمثلة كثيرة من عبث المعري في كتابه:"لزوم ما لا يلزم".
(1) آم: جمع آمة، والتوادي: جمع تودية، وهي خشبة تشد على ضرع الناقة.
(2)
اللزوميات 2: 391.
(3)
نفسه: 2: 385 وابن سبرة هو عبد الله بن سبرة الحرشي الشاعر، وكان قد بارز روميا يدعى أطربون وقتله.
أما نهج المعري في الدرعيات فقد كان أصفى. وكأنه إنما أراد هذه المنظومات لمجرد التعبير عن نفسه بالدندنة والأنغام. وصفة الرمزية الغالبة عليها -أعني تشبيهه لنوع الحياة التي كان يحياها بالدرع الواقية- تؤكدما ننسه إليها من غلبة العنصر الذاتي عليها، وكذلك ضعف "عامل" طلب افعجاب (الواضح في قصائده البغدادية)، "وعامل" طلب السيطرة (الملموس في رسائله المنظومة وكثير من لزومياته) ولأن المعري قد كان في هذه القصائد مترنما، مناغيا للحروف والأصوات، في اسى وشجن، كان الجناس السجعين أغلب شيء عليها ويرافقه الجناس المتشابه تاما أحيانا، وغير تام كثيرا والمعري لا يحرص على أن يجانس بين كلمة في أول البيت وآخره دائما، وإنما يفعل ذلك حين يتيسر له، فإن لم يتيسر رضي بأن يكون الجناس بين كلمة في بيت سابق وآخر لاحق وعنصر الاطمئنان والثقة والرضا، الذي يكون الجناس بين كلمة في بيت سابق وآخر لاحق وعنصر الاطمئتان والثقة والرضا، الذي يكون أبدا مع المترنم الخالص الترنم، تلمسه جليا واضحا في القصائد الدرعيات ونكتفي هنا بأن نستشهد بجانب من قصيدته الميمية (1)
كم أرفمي من نبي وائل
…
موائل في حلة الأرقم
للدلالة على بعض ما نقول ونلفت القارئ إلى هذه السلاسة والتدفق والصفاء الغامر لروح هذه القصيدة، ولعله يوازن بينه وبين الانفعال والحرارة والتدفع الذي ي قصيدته:
نبي من الغربان ليس شرع
والحزونة والعسر والإشراف من عل، الذي في رسائله المنظومة قال:
كم أرقمي من نبي وائل
…
موائل في حلة الأرقم
يحمل منها صاديًا سابح
…
مثل غدير الديمة المفعم
لاحظ خلو البيت الثاني من الجناس التام، واكتفاء الشاعر بحاء يحمل وسابح
(1) شروح سقط الزند 4: 1789.
ودال "صاديا، وغدير، والديمة"، والميمات المنتظمة لشطري البيت.
قضاء تحت اللمس قضاءة
…
غير قضاء السيف واللهذم
كبردة الأيم العروس ابتغى
…
بها جلاء الحية الأيم
قد درمت من كبر أختها
…
وعمرت عصرًا ولم تدرم
وهنا لا يخلو بيت من جناس يخلطه بنوع من تظرف ونادرة فالدرع القضاء:
هي الخشنة والقضاءة: هي الفعالة من القضاء وهي تقين والسيف واللهذم يخرقان ويعتديان ثم شبهها بجلد الحية على عادة العرب، فجعلها بردًا على أيم عروس أي ثعبان عروس، ينبغي جلوة ثعبانة أيم لا زوج لها. ولا يخفى أن المعري هنا لا يخلو من سخرية خفية لطيفة بمذهب العرب في هذا التشبيه ثم رجع إلى صفة الدرع، فزعم أنها ملساء سالمة النواحي لم تدرم: أي تتفلل أسنانها، كما درمت أخواتها. وبعد هذه الجناسات السائغة المأتى، من حيث انسجامها التام مع ما سبقها، وتوافقها (بخلاف جناساته المفتعلة في الرسائل المنظومة) عدل الشاعر عن التجنيس المتشابه، إلى الترصيع، فقال:
كسابياء السقب أو سافيا
…
ء الثغب في يوم صبا مرهم
ولا يخفى مكان الألفات، وتعمد الشاعر للتقريب بين مخارج الحروف في قوله:
"سابياء وسافياء" و"السقب والثغب" والسابياء كما فسره الشراح: هو الماء الرقيق الذي يخرج مع الولد من بطن أمه والسقب: هو ولد الناقة والسافياء: التراب، والثغب (1): هو الغدير. وسافياؤه: ما تراه طرائق عليه من مرور الرياح.
من أجم الدرعاء أو نابت الفقعاء بل من زرد محكم (2)
(1) الثغب بالغين المعجمة والتحريك هو الغدير وبالعين المهملة هو مسيل الماء والتسكين يجيزه الكوفيون وابن جني.
(2)
كذا في المطبوع 1792، والصواب "القفعاء" بتقديم القاف، أنظر المادة في القاموس وقصيدة كعب بن زهير في السيرة 4: 165 - 166.
والدرعاء: هي الليلة التي نصفها مقمر، والفقعاء: نبات تشبه به الدروع. ومكان السجع واضح (هذا والقفعاء بتقديم القاف على الفاء هي الصواب).
لاقي بها طالوات في حربه
…
جالوت صدر الزمن الأقدم
كانت لقابوس بني منذر
…
إرث الملوك الشوس من جرهم
وأخذ بعد في مدح درعهن ونسبتها إلى القدم والمتانة، بأن نسبها إلى طالوت وداود والأزمنة القدمية. ولا يخفى أن المعري كان يقصد بهذا الوصف الرمز إلى قوة درعه المعنوية التي اندس فيها من سهام الدهر والناس. والقارئ لن يخفى عليه محل التكرار الحرفي والملائمة بين الألفات وحروف الإشباع مثلا قوله:"قابوس والشوس ومنذر وجرهم":
شج عليها قينها أن ترى
…
مجهولة الصانع لم توسم
فلاح للناظر من سردها
…
آثار داود ولم يظلم
لا تنتمي كبرا إلى سابر
…
لكن إليها سابر ينتمي
وهي إذا الموت بدا معلما
…
نعم دثار الفارس المعلم
وهنا اعتماد الشاعر على التكرار كما ترى ثم انتقل إلى التجنيس:
لم تخضم البيض لها حلقةٍ
…
يسيرة الصنع ولم تقضم
تردها اسغب من جذوة
…
وغن غدت آكل من خضم
أردانها أمن غداة الوغى
…
للكف والساعد والمعصم
لو أنها كانت على عصمةٍ
…
في الوقبى لم يدع بالأجذم
ولاحظ هنا تمهله للتجنيس المتشابه بحيث رضي أن يقرن بين بيتين بيتين، ولا يورد الجناس كله في بيت واحد كما كان يفعله في قصائده البغدادية، والرسائل المنظومة، وهذا النوع من التجنيس يقع السمع خفيا، وكأنه غير مقصود انظر إلى
قوله: "تخضم وخضم"، وقوله:"المعصم وعصمة" ثم لا أحسبك خفي عنك مكان الإشارة إلى أخبار العرب في قوله "خضم" وهو العنبر بن تميم، وكان أكولا وإشارته إلى قولهم:
فالنار تأكل بعضها
…
إن لم تجد ما تأكله
في قوله: "تتركها أسغب من جذوةٍ" وإلى خبر الوقبى، وهي حرب قبلية كانت في أخريات خلافة عثمان. وعصمة المشار إليه: هو ابن عاصم المازني. وأحسب المعري إنما أشار إلى الوقبي لورود خبرها في معرض شعر جيد في أول كتاب الحماسة، هو قول الحماسي (1):
فدت نفسي وما ملكت يميني
…
فوارس صدقت فيهم ظنوني
فوارس لا يملون المنايا
…
إذا دارت رحى الحرب الزبزن
هم منعوا حمى الوقبى بضرب
…
يؤلف بين أشتات المنون (2)
واستمر المعري في هذه الإشارات، يسلي بها نفسه، ويترنم كعادته في الترنم حتى قال، ولم يخل في هذا من سخرية بالفرزدق الشاعر:
ما خلت همامًا لو ابتاعها
…
يفر من خوف أبي جهضم
وحاجب لو حجبت شخصه
…
لم يمس في المنة من زهدم
تزاحم الزرق على وردها
…
تزاحم الورد على زمزم
لا مرة الطعم ولا ملحة
…
وكيف بالذوق ولم تعجم
وأسلوب الأبيات الأولى -إذا استثننا الإشارة- جاهلي صريح، حتى ما جاء فيه من جناسه (حاجب لو حجبت). والبيت الثالث إنما هو دندنة من الراء والزاي
(1) هو أبو الغول الطهوي (الحماسة -شرح التبريزي- بولاق 1: 14).
(2)
الوقبى ماء لبني مازن قال في القاموس إنه كجمزي أي بالتحريك والذي في الديوان وفي الصحاح سكون القاف ضبطا.
والدال وفيه جناس تام خفي لا تكاد تشعر به في قوله: "وردها، والورد"، والبيت الرابع آية من آيات تداعي المعاني. فقد جعله ذكر زمزم يفكر فيما ينسبه الناس إليها من الملوحة. وإلى هذا المعنى أشار في اللزوميات:
تباركت أنهار البلاد سوائح
…
بعذب وخصت بالملوحة زمزم
وذكر المرارة والملوحة ذكره بقول الحجاج: "إن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، نثر كنانته بين يديه، وعجم عيدانها، فوجدني أمرها طعما، وأصلبها مكسرا". ثم رجع يصف قوة الدرع وتماسكها، حتى إذا بلغ من ذلك غرضه، أخذ في التحدث عن نفسه، وكأنه -فيما يبدو- ترك وصف الدرع على سبيل الاقتضاب مرة واحدة وأخذ في غرض آخر مباين له كل المباينة. والمتأمل يجد الأمر على خلاف ذلك. فهو بدأ بمدح درعه. ثم ذكر قوتها واقتدارها على رد الأحداث، في قوله:
هازئة بالبيض ارجاؤها
…
ساخرة الأثناء بالأسهم
لو أمسكت ما زل عن سردها
…
لأبصر الدارع كالشيهم
أي هذه الدرع تهزأ بالسيوف والسهام، وتساقط عنها النبال لملاستها. ولو كانت السهام تلصق بها، لصار لابسها أشبه شيء بالقنفذ، لكثرة ما تساقط عليه. وهذا المعنى، كما لا يخفى، ينظر إلى قول المتنبي:
تكاثرت الهموم علي حتى
…
فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام
…
تكسرت النصال على النصال
وما أظن إلا أن المعري قد رمز بقوله هذا، إلى صبره وثباته على الحداث، وسخريته بالنوائب، وعجزها وعجز أعدائه عن أن يؤثروا فيه. وقد كان لهذا الرمز من القوة في نفسه، ما جعله يخرج من التلميح الخفي إلى التصريح الواضح، فيقول
أستغفر الله، ولا أندب الـ
…
ـأطلال فذ الشخص كالتوءم (1)
وما له يستغفر الله لو لم يشعر أنه قد افتخر افتخارا جاوز به القصد، واقترب به من الإثم؟ ولكن هذا الاستغفار لم يمنعه من أن يستخر من العجاج، ويترنم به في نفس الوقت عند قوله:
هل سمسم فيما مضى عالم
…
بوقفة العجاج في سمسم
ثم مضى يصف حقيقة درعه هاته، التي كنى عنها بالأوصاف التقليدية، والتشبيهات المأثورة:
ولست بالناسب غيثًا همى
…
إلى السماكين ولا المزرم (2)
وليس غرباني بمزجورة
…
ما أنا من ذي الخفة الأسحم (3)
مثل خفافٍ ساد في قومه
…
على اجتياب الحسب المظلم (4)
وبعد أن نفى المعري عن نفسه غي هذه الأبيات مذاهب الشعراء، في التظرف بالوصف، والعبث ونعت الطلول، وذكر الغيوث، وزجر الطير، رأى أن ينتقل من النفي إلى الإيجاب، بذكر الحال التي كان عليها من اعتزال وصبر. وقد أحسن التخلص في قوله:
يا ملهم السخل ولا أتبع الـ
…
ـأظعان كالنخل على ملهم
(1) لعله يشير بالتوءم هنا، إلى التوأم اليشكري صاحب امرئ القيس. أو لعله يشير إلى أسلوب الشعراء حين يعمد أحدهم إلى تجيد شخصين من نفسه، ومخاطبتهما بقوله:"قفا نبك"، "وخليلي عوجا" وهكذا.
(2)
ينكر أبو العلاء هنا أن يكون مذهبه كمذهب العرب، في نسبة الغيوث إلى الأنواء، وهذا تأله منه، وقد كان الأصمعي لا يفسر ما كان فيه ذكر النجوم من الأشعار.
(3)
ينكر عادة الزجر والتطير على طريقة الشعراء. وذوالخفة الأسحم: هو الغراب، وكان المعري مولعًا بذكره وتشبيهه بسود الناس، كخفاف وسحيم.
(4)
خفاف: هو ابن ندبة، وكان صاحب راية سليم، وكان أسود، أمه أمة سوداء.
ولا شك أن القارئ قد فطن إلى المجانسة بين "النخل" و"السخل"، وما فيها من غرابة، وإلى إشارة الشاعر هنا إلى قول المرقش يصف الأظعان ويقول:
أم هل شجتك الظعن باكرة
…
كأنهن النخل من ملهم
وحسن تخلص المعري، يبدو في احتفاظه بعنصر النفي، الذي كان آخذًا فيه، ومزجه بشيء من الإيجاب- إذ هذا البيت فيه نفي للمعري عن نفسه، أنه يتبع مذهب الشعراء، في تشبيه الظعائن بالنخل، وهذا كلام منساق مع المعاني السابقة التي بينها، من ذكر الطلول والغيوث وزجر الطير. وفيه إيجاب بذكر ما كان عليه من حال التبتل، والإعراض عن النساء، فهو في هذا لا يخالف الشعراء، وإنما يخالف سائر الناس، ويتشبه بالزهاد والنساك. وقد مهد له هذا الإيجاب أن ينتقل إلى وصف حاله عامة، ببيتين أرادهما أن يكونا بمنزلة الخاتمة والشرح لكلامه السابق، وموضعهما حيث وضعا، يشعر بأن المعري ما أراد إلا إلى الكناية عن توقيه وحذره، وانقباضه واعتزاله، بوصفه الدرع والمبالغة في مدحها قال:
مالي حلس الربع كالميت بعد السبع لم آسف ولم أندم
على أناس من يجاورهم
…
تعوزه فيهم عشرة المكرم
فهو تلخيص شامل لفلسفته المتشائمة (1) والبيتان معا، كما ترى، متلاحمان، يجمع بينهما التضمين. وفيهما بعد إجمال للموسيقا الهادئة المتعددة الأصوات، التي افتن في عرضها آنفا- تبصر ذلك من خلال الترصيع في قوله "الربع" و"السبع"- والمزاوجة في قوله "لم آسف ولم أندم"، وتكرار الراءات في البيت الأخير.
وأحسب القارئ، بعد، قد جمع من هذه القصيدة، فيما اختصرناه منها، صورة واضحة لما كنا زعمناه من أن المعري كان مطمئن النفس، صافي القريحة في
(1) قولنا فلسفته هنا: لا نعني به أن المعري كان فيلسوفًا مثل "كانت" وأرسطو طاليس وهيجل، كلا، وإنما نستعمل هذه الكلمة نريد مدلولها العام أي أديب مفكر مثقف حكيم.