المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة عن الطباق: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٢

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌ الجزء الثاني/في الجرس اللفظي)

- ‌[تقدمة الجزء الثاني]

- ‌الإهداء

- ‌كلمة شكر للدكتور طه حسين

- ‌اعتراف وتقدير

- ‌خطبة الكتاب

- ‌الباب الأولالجرس

- ‌فصاحة الكلمة والكلام

- ‌أصول الألفاظ:

- ‌الألفاظ والبيئة:

- ‌الزمن:

- ‌الزمن وتطور الأخلاق:

- ‌المكان:

- ‌الطبقات:

- ‌المودة:

- ‌المزاج والألفاظ:

- ‌مقاييس الألفاظ:

- ‌ضرورة التحسين:

- ‌الباب الثانيحقيقة الجمال

- ‌حقيقة الانسجام:

- ‌الانسجام في لفظ الشعر

- ‌أركان الرنين

- ‌المطلب الأول

- ‌1 - التكرار المحض:

- ‌ التكرار المراد به تقوية النغم

- ‌خلاصة:

- ‌التكرار المراد به تقوية المعاني الصورية:

- ‌قصيدة مالك بن الريب:

- ‌التكرار الصوري في الرحلة والسفر

- ‌التكرار الصوري في المدح والفخر

- ‌التكرار المراد به تقوية المعاني التفصيلية

- ‌خاتمة عن التكرار

- ‌المطلب الثانيالجناس:

- ‌أصناف الجناس الازدواجي

- ‌أصناف الجناس السجعي

- ‌السجعي الاشتقاقي

- ‌الجناس السجعي المتشابه:

- ‌الجناس الموهم:

- ‌الجناس التام:

- ‌مذهب أبي تمام:

- ‌مذهب البحتري في الجناس:

- ‌بعد البحتري

- ‌المتنبي

- ‌أبو العلا المعري

- ‌المعري وبغداد

- ‌المعري وشيطان اللغة:

- ‌انتقام المعري

- ‌المعري والجناس

- ‌خلاصة:

- ‌خلاصة عن قيمة الجناس، من ناحية الجرس:

- ‌المطلب الثالثالطباق:

- ‌آراء القدماء في المطابفة

- ‌أنواع الطباق

- ‌الخطابة والإخبار:

- ‌كلمة عن الطباق:

- ‌خلاصة:

- ‌المطلب الرابعالتقيم

- ‌آراء القدماء في التقسيم

- ‌أنواع التقسيم:

- ‌التقسيم الواضح

- ‌وقفة عند المتنبي

- ‌التقسيم والموازنة:

- ‌تطور التقسيم والموازنة:

- ‌تعقد الموازنة في الشعر العربي

- ‌خلاصه عن التقسيم والموازنة

- ‌خاتمة عن النظم

- ‌تعقيب على الخاتمة

- ‌تذييل

الفصل: ‌كلمة عن الطباق:

وانظر كيف حذف أبو الطيب المقدمات، وفصلها حبيب، وتفصيل حبيب مع أنه يقصد إلى دفع الشك، يصحبه لون من الشك، يجعل النتيجة التي يحصل عليها السامع من كلامه جزئية لا كلية، وهي قولك إن بعض الظفر غير كريم، وذلك حين لا يكون الطلب كريمًا. بينما تجد المتنبي يدفع عنك الشك مرة واحدة، بحذف المقدمات، ويلقي إليك النتيجة كلية، وهي أن كل سرور يصحيه تيقن بالانتقال غم شديد، أو هو أشد الغم.

وانظر في هذا المثال من شعر المتنبي:

وكم ذنبٍ مولده دلال

وكم بعد مولده اقتراب

وجرم جره سفهاء قوم

وحل بغير جازمه العقاب

ومحل الشاهد: البيت الأول، وأنما ذكرنا الثاني للتتميم. فانظر فيه، وقسه إلى جانب قول حبيب:

كانت لنا ملعبًا نلهو بزخرفه

وقد ينفس عن جد الفتى اللعب

فكلا القضيتين جزئية النتيجة. ولكن أبا تمام يذكر المقدمات، والمتنبي يلقي بالنتيجة إلقاء، ويترك لك أن تحدس ما مقدماتها، وهذا شأنه في أكثر القضايا الجزئية، كأنما كان يستكثر أن ينفق في توضيحها جهدًا.

‌كلمة عن الطباق:

يزعم النقاد أن الطباق كان قليلا عند الأوائل، قلة الجناس التام والمورى والمتشابه، وما هو من قري ذلك من ضروب الصناعة. وهذا زعم باطل فيما أرى. وما عليك إلا أن تتصفح دواوين القدماء لتتحقق من صدق ما أقول. وأسوق ليك، على

ص: 286

سبيل التمثيل، لا الحصر، هذه الأدلة - خذ قول امرئ القيس مثلًا (1):

تميم بن مر وأشياعها

وكندة حولي جميعًا صبر

إذا ركبوا الخيل واستلأموا

تحرقت الأرض واليوم قرّ (2)

تروح من الحي أم تبتكر

وماذا عليك بأن تنتظر (3)

أمرخ خيامهم أو عشر

أم القلب في إثرهم منحدر

وفيمن أقام من الحي هر

أم الظاعنون بها من الشطر

وهر تصيد قلوب الرجال

وأفلت منها ابن عمرو حجر

فالبيت الثاني فيه الطباق بين الأرض واليوم، والتحرق القر، والمقابلة بين تحرق الأرض وبرد اليوم؛ وفي البيت الثاني الطباق بين الرواح والابتكار، ثم طباق آخر غاية في الحذق بين قوله:"أأنت مسافر، رائح أم مغتد"، وقوله:"وماذا عليك بأن تنتظر"، وكأنه يريد أن يقول:"ألا تقيم؟ ". وشبيه بهذا في قوله: "أمرخ خيامهم الخ"، إذ معناه: أهم مقيمون ضاربون الخيام، وهذه الخيام أهي مرخ؟ والسؤال عن نوعها إنما هو في الحق كناية عن السؤال بإقامتهم. ويقابل هذا قوله: أم القلب في إثرهم منحدر، وهو كناية عن السؤال بسفرهم. ولذلك لم يقل "أم عشر"،

(1) مختارات الشعر الجاهلي: 86.

(2)

أي إذا ركبوا للحرب ولبسوا الدروع يوم الوغى، وتحرقت الأرض، وإن كان الجو شتاء باردًا. واستلام: أي ليس اللأمة، بفتح اللام وسكون الهمزة: وهي الدروع. والقر: هو البرد.

(3)

تأمل استعمال "أم" التي هي للمعادلة في هذا البيت وفي الذي بعده. ولعلك ستسأل لماذا لم يقل: "أم عشر" عند قوله: "أمرخ خيامهم أو عشر". والجواب عن ذلك هو أن المعادلة ليست بين المرخ والعشر ولكنها بين المرخ العشر معًا من جهة، وانفطار القلب من جهة أخرى. ومثل هذا قول صفيه ترقص الزبير:

كيف رأيت زبرا

أأقطًا أو تمرا

أم قريشًا صقرًا

ذكره سيبويه (1: 488).

ص: 287

ولكن وقال: "أو عشر". وقد فسر هذا كله في البيت الثاني حيث صرّح قائلًا، أهرٌّ فيمن أقام، أم هي ظاعنة مع الذين ظعنوا؟ والشُّطُر: جمع شطير، أي مشطور، أي مشقوق عن أهله، ومُبعد عن أحبابه. والطباق بين الظعن والإقامة واضح هنا. وكذلك في البيت الذي يليه تجد الطباق واضحًا بين الإفلات والصيد. فتأمل هذا -ألا تجد أمرؤ القيس -وقد أجمعوا على أنه أبعد الناس عن التصنيع- قد صنع في كل بيت من هذه الأبيات التي رويناها طباقًا تصحبه مقابلة؟ ومما أستحسن هذه الأبيات أجدني لا أكاد أملك النفس من إنشاد هذا الجزيء الرفيع المتصل بها:

رمتني بسهم أصاب الفؤاد

غداة الرحيل فلم أنتصر

فأسبل دمعي كفض الجمان

أو الدر رقراقه المنتشر

أي رقراقه كالجمان المفضوض.

وإذ هي تمشي كمشي النزيف يصرعه بالكثيب البهر (1)

برهرهة رودة رخصة

كخرعوبة البانة المنفطر (2)

وتأمل موضع الجناس من قوله "البهر برهرهة، رودة الخ".

فتور القيام، قطيع الكلا

م تفتر عن ذي غرب خصر (3)

كأن المدام وصوب الغمام

وريح الخزامي ونشر القطر (4)

يعل به برد أنيابها

إذا طرب الطائر المستحر (5)

(1) البهر: هو الإعياء.

(2)

البرهرهة: المترجرجة، الرودة: الشابة الناعمة، والبانة الخرعوبة: هي اللينة، وجعلها تكاد تنفطر لثقل ورقها النضر، ونورها الغض، ولا يعني أنها قد انفطرت كما قد يتبادر، فكأنه أراد بالمنفطر: الذي بسبيل الانفطار.

(3)

ذو الغروب الخصر: هو ثغرها، والغروب: هي أطراف الأسنان، والخصر: هو البارد العذب.

(4)

الخزامي: من ثبت البرية، طيب الرائحة. والفطر: عود الطيب.

(5)

المستحر: الذي يغرد وقت السحر.

ص: 288

فبت أكابد ليل التما

م والقلب من خشية مقشعر

فلما دنوت تسديتها

فثوب نسيت وثوب أجر

ولم يرنا كاليء كاشح

ولم يفش منا لدى البيت سر

والبيتان الأخيران قد جاء فيهما بالطباق. وللنحويين وقفة عند قوله: "فثوبٌ" هكذا بالرفع، وهو مما يستشهدون به على جواز الابتداء بالنكرة، ولك أن ترويه بالنصب وقد روي به هكذا:"وثوبًا نسيت". وهذه الأبيات أحلى عندي نفسًا، وأدل على النشوة والمتعة من تفصيله في اللاميتين. وأحسب أن البيت الأخير يدل على أنه لم يتجاوز فيما ظفر به من محبوبته حد العفاف، وإلا فلا معنى لقوله "لدى البيت" ألا ترى إنما مراده أن يقول:"لم يرنا كاليء كاشحٌ، ولو قد رآنا لوجدنا على حال العفاف، ".

هذا، ودونك مثلًا آخر من كلام طرفة، وهو ممن أجمعوا على بعده عن الصناعة

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي

فدعني إبادرها بما ملكت يدي

فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى

وجدك لم أحفل متى قام عودي

فمنهن سبق العاذلات بشربة

كميت متى ما تعل بالماء تزيد

وكري إذا نادى المضاف محنبا

كسيد الغضى نبهته المتورد (1)

وتقصير يوم الدجن والدجن معجب

ببهكتة تحت الخباء المعمد

كأن البرين والدماليج عُلقت

على عشر أو خروع لم يخضد

فذرني أروي هامتي هي حياتها

مخافة شرب في الممات مصرد

كريم يروي نفسه في حياته

ستعلم إن متنا غدًا أينا الصدى

(1) المحنب: هو الذي في قوائمه اعوجاج، ومثله المجنب بالجيم المعجمة.

ص: 289

أرى قبر نحام بخيل بماله

كقبر غوى في البطالة مفسد (1)

ترى جثوتين من تراب عليهما

صفائح صم من صفيح منضد

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدد

فالبيت الأول فيه طباق واضح بين "دفع منيتي" و"أبادرها". والثاني طباقه خفي، بين العيشة والموت الذي كنى عنه بقيام العود. والبيت الثامن والتاسع كلاهما فيهما طباق ظاهر عند قوله:"أروى" و"مصرد" و "في حياتها" و "في الممات" وعند قوله: "يروي نفسه"، "الصدى" و "في حياته"، و "إن متنا غدًا" والمقابلة في كل هذا، ظاهرة وخفيه، ناصعة واضحة، والبيت العاشر فيه مطابقة البخيل النحام، والغوى المفسد. في القصيدة بعد أمثلة طباقية أوضح من هذا، نحو:

"متى إدن منه ينأ عني ويبعد"

ونحوه:

"وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي"

وقوله: "طريف ومتلدي" هنا من باب الطباق اللفظي المحض، كالذي في "حلو حامض، " لأن معناه، مالي جميعه، كما معنى ذلك "مز".

هذا، ودونك مثالًا ثالثًا من طباق الجاهلين، وللنابغة (2)، وهو ممن حكموا له بالطبع والبعد عن التكلف والصناعة:

كتمتك ليلًا بالجمومين ساهرًا

وهمين همًّا مستكنًا وظاهرًا

أحاديث نفس تشتكي ما يريبها

وورد هموم لن يجدن مصادرًا

تكلفني أن يفعل الدهر همها

وهل وجدت قبلي على الدهر قادرًا

(1) النحام: هو الذي يتنحنح ويسعل ويبصق من ضيق الصدر حين يسأل سائل.

(2)

مختارات الشعر الجاهلي: 217 - 218.

ص: 290

ألم تر خير الناس أصبح نعشه

على فتية قد جاوز الحي سادرا

ونحن لديه نسأل الله خلده

يُرد لنا ملكًا وللأرض عامرا

ونحن نرجي الخلد إن فاز قدحنا

ونرهب قدح الموت إن جاء قامرا

لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا

وأصبح جد الناس يظلع عاثرا

وردت مطايا الراغبين وعريت

جيادك لا يخفي لها الدهر حافرا

فموضع المطابقة في هذه الأبيات واضح. أما البيتان الأول والثاني ففيهما المطابقة اللفظية البينة، بين المستكن والظاهر، والورد والمصدر. وفي البيت الثالث مقابلة معنوية، أحد طرفيها تكليفها له بالقدرة على الدهر وتكليفه التكاليف، والطرف الأخير عجز كل إنسان عن ذلك. وبين البيتين الرابع والخامس مقابلة معنوية. وفي السادس طباق بين "فاز" وجاء "قامرا".

هذا، وأقف عند هذه الأبيات قليلًا، لشدة ما تعجبني. وقد وجدت بعض الشراح يفسرون النعش بالمحفة، أعني في قوله:

ألم تر خير الناس أصبح نعشه

على فتية قد جاوز الحي سادرا

وعندي أن هذا بعيد. وإنما أراد الشاعر بالنعش، مدلول هذا اللفظ الظاهر وقد عجبت طويلًا للنابغة يذكر موت النعمات في أول الشعر، ثم يعود بعد ذلك ويعتذر له اعتذارًا يُفهم منه أنه يخاطب حيًا؟ وإذن فما الذي جسره على ذكر الموت في مثل ذلك المقام؟ وهل كان يجدر به وهو يعتذر ويرجو العفو، أن يذكر للملك ما عسى أن يكدر عليه؟ ألم يعب النقاد على أبي نواس أنه استهل قصيدة في مدح البرامكة بما يشعر بالشؤم، وعدّوا ذلك من البراهين على أنه كان منحرفًا عنهم؟ ألم يرووا أن الفضل بن يحيى، أو جعفر بن يحيى تطير بغناء المغني:

فلا تبعد فكل فتى سيأتي

عليه الموت يبرح أو يغادي

وكل ذخيرة لا بد يومًا

وإن غبرت تصير إلى نفاد

ص: 291

أترى النعمان يخرج عن سنة التطير والتفاؤل التي درج عليها قومٌ بعده، ممن هم أرقى، وأبعد في الحضارة، وأجدر ألا يتأثروا بالخرافات الوثنية؟ -هذا على أنه كان ملكًا في الرقعة التي كان فيها ملك بابل، مهد السحر، وأرض هاروت وماروت.

والذي أراه أن النابغة أراد أن يستثير جانب الرقة من النعمان، فذكره بالموت؟ وربط هذه الذكرى بما يمكنه هو له من الودّ والمقة وكأنه أراد أن يقول له: أيها النعمان، هبني أتيت الحيرة، فلم أجدك، ولكن وافيت نعشك محمولًا على الأعناق؟ ماذا تراني كنت فاعلًا؟ أكنت أبكي وأرثي وأشجي، أم كنت أشمت كما سيشمت أعداؤك؛ وكأنه طلب من النعمان أن يحتكم إلى خويصة ضميره فإن كان يجد في هاجس نفسه أن النابغة مذنب يستحق العذاب، وعدو لا هوادة عنده، فليفعل ما شاء. أما إن وجد نفسه تخبره بصدق النابغة، فلا سبيل إلا العفو، وجليّ أن النابغة كان صادقًا نبيلًا حرّ النفس حين قال ما قال. وعندي أن هذا من أبلغ ما قيل في الاعتذار، وأصحه وأدله على صفاء النفس، وخلو الجانب من الملامة. وهو يشعر كما ترى، بأن النابغة لم يكن -حين اعتذر إلى النعمان- طالب دنيا وجاه، وإنما كان طالب ود، وعلاقة. وهذه الأبيات من خير ما يفصح بجلية ذلك.

وأحسب أن في الأمثال التي ذكرتها لك أيها القارئ الكريم، نضّر الله ساعتك بالرفة والنعمة، محسبًا، ودليلًا قاطعًا على أن الجاهلين كانوا يكثرون من تعاطي الطباق. وإن رمت أن أعزز لك هذا بأمثلة من شعر الإسلاميين الأولين، فدونك هذه الأبيات من شعر قيس (1) بن ذريح:

إذا خدرت رجلي تذكرت من لها

فناديت لبنى باسمها ودعوت

دعوت التي لو أن نفسي تطيعني

لفارقتها من حبها وقصيت

(1) الأغاني، طبعة الساسي 115:8.

ص: 292

برت نبلها للصيد لبنى وريشت

وريشت أخرى مثلها وبريت

لما رمتني أقصدتني بسهمها

وأخطأتها بالسهم حين رميت

وفارقت لبنى ضلة فكأنني

قرنت إلى العيوق ثم هويت

فيا ليت أني مت قبل فراقها

وهل ترجعن فوت القضية ليت

فصرت وشيخي كالذي عثرت به

غداة الوغى بين العداة كميت

فقامت ولم تضرر هناك سوية

وفارسها بين السنابك ميت

فإن يك تهيامي بلبنى غواية

فقد يا ذريح بن الحباب غويت

فلا أنت ما أملت في رأيته

ولا أنا لبنى والحياة حويت

فوطن لهلكي منك نفسًا فإنني

كأنك بي قد يا ذريح قضيت

وأكثر هذه الأبيات كما ترى يدخله الطباق والمقابلة. ونحو ذلك قوله من أخرى (1):

تكاد بلاد الله يا أم معمر

بما رحبت يومًا على تضبيق

تكذبني بالود لبنى وليتها

تكلف مني مثله فتذوق

وهذا من لطيف الكلام وبارعه، لأنه بعلم أنها كانت تلقى منه، كما كان يلقى منها ولو كان غير حاذق، لقال مثلًا: ترى مثله من مثلنا فتذوق.

ولو تعلمين الغيب أيقنت أنني

لكم والهدايا المشعرات صديق

وهذا موضع الطباق والمقابلة، مع تكذيبها إياه.

تتوق إليك النفس ثم أردها

حياءً ومثلي بالحياء حقيق

أذود سوام النفس عنك وماله

إلى أحدٍ إلا إليك طريق

(1) نفسه 120: 8.

ص: 293

وفي البيت الأول مطابقة بين أن يتوق وأن يرد، وهي نفسها مكررة بلفظ آخر في البيت الثاني.

وإني وإن حاولت صرمي وهجرتي

عليك من أحداث الردى لشفيق

وهذا البيت يعزز ما ذكرناه آنفًا في تفسير كلام النابغة، وهو يعتذر إلى النعمان. ألا ترى أن ابن ذريح يؤكد لها حبه إياها بأنه يشفق من أن تموت، وكأنه يريد أن يقول لها، كما أراد النابغة أن يقول للنعمان، دعي كل هذا الصدود، وانظري هل يغمني.

ولم أر أيامًا كأيامنا الألى

مررن علينا والزمان أنيق

ووعدك إيانا، وإن قلت عاجل،

بعيد كما قد تعلمين سحيق

وحق النحو هنا أن يقول: فهو يعيد كما قد تعلمين ولكنه حمله على أول الكلام.

وحدثني يا قلب أنك صابر

على البين من لبنى فسوف تذوق

أي فسوف تذوق الجزع، الذي هو نقيض الصبر.

فمت كمدا أو عش سقيمًا فإنني

بها مغرم صب الفؤاد مشوق

ويقول قيس من أخرى (1).

أتبكي على لبنى وأنت تركتها

وكنت كآت حنفه وهو طائع

فيا قلب صبرًا واعترافا بحبها

ويا حبها قع بالذي أنت واقع

ويا قلب خبرني إذا شطت النوى

بلبنى وبانت عنك ما أنت صانع

(1) نفسه 127: 8.

ص: 294

أتصبر للبين المشت على الجوى

أم أنت امرؤ ناسي الحياة فجازع

كأنك بدع لم تر الناس قبلها

ولم يطلعك الدهر فيما يطالع

فليس محب دائما لحبيبه

ولا ثقة إلا له الدهر فاجع

كأن بلاد الله، ما لم تكن بها،

-وإن كان فيها الناس- وجش بلا قع

فما أنت إذ بانت لبيني بهاجع

إذا ما اطمأنت بالنيام المضاجع

أقضي نهاري بالحديث وبالمنى

ويجمعني والهم بالليل جامع

نهاري نهار الناس حتى إذا بذا

لي الليل هزتني إليك المضاجع (1)

ولعلك تكون قد لمحت هنا موضع الإيطاء، وقد ذكرنا لك أن مثل هذا كان يجيء من الشعراء القدماء، ولا يلتفتون إليه.

لقد رسخت في القلب منك محبةٌ

كما رسخت في الراحتين الأصابع

أحال على الهم من كل جانب

ودامت فلم تبرح على الفواجع

ألا إنما أبكي لما هو واقع

فما جزعي من وشك ذلك نافع

وهنا مقابلة معنوية خفية جدًا. وهي أنه بالجزع يحاول أن يدفع ما سيقع، وليس ذلك بنافع.

وقد كنت أبكي والنوى مطمئنة

بنا وبكم من علم ما البين صانع

وقوله: "والنوى مطمئنة" ضد لقوله: "البين" كما ترى.

وأشفق من هجرانكم وتروعني

مخافة وشك البين والشمل جامع

فما كل ما منتك نفسك خاليًا

تلاقي، ولا كل الهوى، أنت تابع

وأقف قليلًا عند هذا البيت، فهو عندي من آيات الوجدان، لأنه يدل على أن قيسًا

(1) أي رفعتني إليك المضاجع وذلك أنه يرى طيفا منها وهز بمعنى رفع الآن في لغة أهل المغرب.

ص: 295

قيسًا بالرغم من حبه الشديد للبنى قد حاول أن يتسلى عنها بغير هاثم هو لم يخل من وجد وكلف ببعض من رام ودادهن سواها. إلا أن شبح ذلك الود كان يكنه لها، وشبح تلك الألفة التي كانت بينه وبينها، وشبح ما شاع بين الناس من غرامه بها، وانصرافه إليها، كل ذلك كان يحول بينه وبين أن يزيغ هوى جديدًا، يتسلى به عن هواه القديم الذي قد أخفق.

لعمري لمن أمسي ولبنى ضجيعه

من الناس ما اختيرت عليه المضاجع

هذا البيت يؤكد المعنى الذي ذهبنا إليه قبلًا. ألا ترى أن الشاعر يريد أن يوضح لك فيه سبب انصرافه عن كل ما منته نفسه خاليا، ويبرر سبب انصرافه عن كل الهوى؟ ألا تراه هذا البيت أنه لا يزال يطلب لبنى، وأنه عليها غيور حريص؟

فتلك لبيني قد تراخى مزارها

وتلك نواها غربة ما تطاوع

وليس لأمر حاول الله جمعه

مشت ولا ما فرق الله جامع

فلا تبكين في إثر لبنى ندامة

وقد نزعتها من يديك النوازع

وهل النوازع إلا القدر الذي يسخره الله؟ أم ترى أن القافية لو كانت تستقيم على الهاء، كان استبدل من النوازع اسمه جلّ وتقدّس؟

وبعد، فلا أريد أن أثقل عليك بتبيين مواضع الطباق فيما قد سبق، فكل ذلك ظاهر، سواء ما كان الطباق فيه بين أضداد مفردة الألفاظ، وما كان بين أضداد منفية بالنفي الظاهر، وما كان بين أضداد يتصيدها المرء من مضمون المعنى، على نحو ما في قول هدية:

فإن يك أنفي زال عنه جماله

فما حسبي في الصالحين بأجدعا

وقد تعمدت أن أختار لك من أشعار قيس بن ذريح، دون جرير والأخطل

ص: 296

وعدي بن الرقاع، وكثير عزة، لأنه من أصحاب الطبع، وليس ممن يتوقع منه الطباق والتصنيع في رأي الآمدي وأضرابه. وأحسب أن هذه الأمثلة التي قدمتها لك، كافية لدحض زعم النقاد ودعواهم أن الطباق لم يكن كثيرًا عند القدماء.

والفرق بين طريقتي القدماء والمحدثين في تعاطي الطباق فرق اتجاه وذوق ومذهب، ولا كم وكثرة. ولعل الأمثلة التي سبق تقديمها تعرض لك مذهب القدماء بوضوح، وهو أنهم كانوا يطلبون الطباق من أجل أن يوازنوا بين معنى سابق، وآخر لاحق، ويكون السابق كالمثال، واللاحق يُحذى عليه حذو النعل، أو يقع موقعه، كما تقع الأيدي مكان الأرجل؛ في مشي ذوات الأربع. وإذ كان هذا مذهبهم، فلم يكونوا يتعمدون أبدًا ضربه لازب، أن يطابقوا بين كلمة وأخرى مضادة لها في المعنى، كالليل والنهار، والطريف والتليد. وإنما كان يغنيهم يجزئ عندهم، أن تضاد كلمة كلمة، أو كلمة، عدة كلمات، أو تركيب تركيبًا، أو معنى معنى آخر. وتجد الطباق الذي يمكن تصيده من جملة مدلول الكلام، نحو بيت هدبة السابق، ونحو وقل قيس بن ذريح:

وقد كنت أبكي والنوى مطمئنة

بنا وبكم من علم ما البين صانع

أكثر ورودًا في أسلوبهم من الطباق الذي توازى فيه لفظة لفظة كقول النابغة:

وهمين باتا مستكنا وظاهرًا

ويمكن تشبيه الطباق الكلي المتصيد من جملة الكلام، بحسب ما كان يرد في كلامهم بالجناس الحرفي الذي في قول النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وقول زهير:

إذا لقحت حرب عوان مضرة

ضروس تهر الناس أنيابها عصل

ص: 297

ووجه الشبه: هو أن الجناس الحرفي تتصيده من جملة الكلام، كالطباق الذي في قول قيس بن ذريح وهدبة. على أن الطباق الواضح الظاهر، لم يكن قليلًا في كلامهم قلة الجناس التام والمتشابه. لا، بل كان كثيرًا يلفت سمع السامع بتواتره في نظمهم كما قد رأيت من الأمثلة السابقة.

أما المتأخرون، فقد كان همهم أن يوازنوا بين لفظة ولفظة، وتركيب وتركيب من التضاد. ومقصودهم الذي إليه يرمون، ومن أجله يتكلفون التكاليف، هو الموازنة اللفظية ليس إلا، وتكون الموازنة المعنوية تابعة لها، وخادمة بين يديها. وقد أعانهم الإغراب في المجاز على سلوك هذا المسلك. مثال ذلك قول أبي تمام، وهو شيخ الصناعة (1):

من كان أحمد مرتعًا أو ذمه

فالله أحمد ثم أحمد أحمدا

أضحى عدوا للصديق إذ غدا

في الجود يعذله، صديقًا للعدا

برزت في طلب المعالي واحدًا

فيها تسير مغمورًا أو منجدا

عجبًا لأنك سالم من وحشة

في غابة ما زلت فيها مفردا

واستوقف القارئ عند هذا البيت الذي إنما دعا إليه طلب الزخرفة، بذكر الوحشة والانفراد، والمطابقة بين السلامة من الوحشة، مع الانفراد الجالب للوحشة بطبيعته، ألا ترى الشاعر هنا مع تعمده إلى أسلوب الطباق المجمل، كان يفكر في اللفظ أولا وزركشته، ثم في أداء المعنى. ثم انظر إليه حيث يقول:

وأنا الفداء إذا الرماح تشاجرت

لك والرماح من الرماح لك الفدا

وسلمت إنا لا نزال سوالما

آمالنا بك ما سلمت من الردى

كم جئت في الهيجا بيوم أبيض

والحرب قد جاءت بيوم أسودا

(1) ديوانه: 95.

ص: 298