الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويبدوا أنه قد بقي شيء بعد هذا كله للطفيلين والخدم وسائسي الخيل والعبيد والمتصعلكة والرقعاء:
ثم جاء المعقبون من السا
…
سة والشاكري والعبدان
فرأيت الصراع والدفع واللطـ
…
ـم وخرم الانوف والآذان
ولا يفوتني هنا أن أنبه على مكان المعقبين بمعنى المعتقبين في البيت الأول من هذين البيتين فهو أسلوب قرآني. وأحسب الواساني أراد أن يشير إلى الآية الكريمة من سورة التوبة: "وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم". هذا ثم يقول:
ثم لما أتوا على كل شيء
…
ختموا محنتي بكسر الأواني
ولم يكتفوا بكسر الأواني، فقد صادوا العصافير والطيور، ثم شربوا عشرين ظرفًا من الراح حتى سكروا، ثم أخذوا في العربدة. وهنا يقول الشاعر:
طالبوني بالشيء في آخر الليـ
…
ـل وجمع النساء والمردان
قم فأسرع فبعضنا يطلب المر
…
د وبعض مستهتر بالغواني
فتوهمته مزاحا فجدوا
…
قلت هذا ضرب من الهذيان
وهكذا يمضي الواساني في الاستقصاء على هذا الأسلوب الظريف اللاذع المتهكم، مستعينا بضروب من التكرار التفصيلي: من ملفوظ وملحوظ وأسلوب كلامي، وبغير التكرار التفصيلي من أنواع البديع. والقصيدة نادرة في بابها، آية من آيات الشعر الخفيف العابث.
خاتمة عن التكرار
وبعد إذ فصلنا الحديث فينا سبق عن أنواع التكرار الثلاثة بفروعها المختلفة، فلا بأس من التنبيه هنا على أن جميع هذه الأنواع متداخلة، وعلى أن الشاعر لا يفرد
قصيدته لواحدٍ منها، لا، ولا يهتم بأن يلتزم واحدًا منها دون غيره في بيت واحدٍ أو بيتين، أو قطعة من بيت، بل الغالب أن يخلط الشاعر بينها، وربما كرر تكرارًا يستفاد منه تقوية المعاني الصورية والتفصيلية معًا، ثم يكون بعد تكراره ترنميًا في سنخه. هذا، ولا ينبغي أن ننسى أن كل تكرارٍ، مهما يكن نوعه، تستفاد منه زيادة النغم، وتقوية الجرس. وتسنيتنا لنوعٍ واحد منه، ترنميا، إنما هي أجل توضيح طبيعته وتبيينها وتذكير
القارئ بأن ناحية النغم أظهر في هذا النوع من النواحي الأخرى. وهاك مثالا، ما استشهد به ابن رشيق القيرواني من شعر يزيد بن مسهر الشيباني (1):
أبا ثابت لا تعلقنك رماحنا
…
أبا ثابت أقصر وعرضك سالم
وذرنا وقوما إن هم عمدوا لنا
…
أبا ثابت واقعد فإنك طاعم
فتكرار أبي ثابت هنا، مع أنه ترنم، ليس من التكرار الترنمي الخالص. وإنما هو أقرب لأن يكون صوريًأ إذا نظرت فيه إلى معنى التهديد، أو تفصيليًا خطابيًا إن شئت. ومن هذا النحو قول ذي الرمة، وهو أيضا مما أستشهد به ابن رشيق (2):
تسمى امرأ القيس بن سعدٍ إذا اعتزت
…
وتأبى السبال الصهب والآنف الحمر (3)
ولكنما أصل امرئ القيس معشر
…
يحل لهم أكل الخنازير والخمر
هل الناس إلا يا أمرأ القيس غادر
…
ووافٍ وما فيكم وفاء ولا غدر
فلك في أمرئ القيس هنا أن تحملها على معنى التوبيخ الصوري المستخلص
(1) العمدة 2: 72.
(2)
نفسه.
(3)
أمرؤ القيس من فروع تميم. وكان ذو الرمة أسود، وتجده هنا يطعن في نسب المرئيين لما يغلب عليهم من الشقرة.
من الهجاء، ولك أن تحملها على التوكيد والتقرير. ومع وضوح ناحية الترنم فيها، ليس فيها تكرار الشاعر من التكرار الترنمي.
هذا، وقبل أن نفرغ من الحديث عن التكرار، ينبغي أن نذكر أن نوعي التكرار الترنمي والخطابي (التفصيلي)، محل لتباين الذواق. وكثيرًا ما تجد ناقدا يستحسن تكرارًا ما، وتجد آخر يهجنه ويستقبحه. والعندة في ذلك كله على مراعاة الاعتدال. خذ مثلا هذه الأبيات التي استشهد بها ابن قتيبة، وعدها مما تأخر لفظه ومعناه (1):
ولائمة لامتك يا فيض في لندى
…
فقلت لها لن يقدح اللوم في البحر
أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى
…
ومن ذا الذي يثنى السحاب عن القطر
مواقع جود الفيض في كل بلدة
…
مواقع ماء المزن في البلد القفر
كأن وفود الفيض لما توافدوا
…
إلى الفيض وافوا عنده ليلة القدر
وقد ذكر ابن رشيق هذه الأبيات كأنه يستحسنها (2)، وعندي أن هذا التكرار ترنمي صوري، وأنه لا غبار عليه. ولا أدري فيم هجنه ابن قتيبة، واستخف به، اللهم إلا أن يكون ذلك فعل الذوق الشخصي وحده أو قل الهوى الشخصي.
ومما عابه ابن قتيبة أيضًا قول الأعشى:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
…
شاوٍ مشل شلول شلشل شول
ونتحدث عن هذا البيت في معرض الحديث عن الجناس. وأختم حديثي عن التكرار بتذكير القارئ بأنواعه المختلفة التي ذكرناها، وهي:
(1) الشعر والشعراء 16.
(2)
العمدة 2: 73.
1 -
التكرار الترنمي، وتدخل فيه إعادة الأبيات كاملة على النحو المسمى "بالشيلة" في العامية، ورد الصدر على العجز، والتوطئة للقافية (1)
2 -
التكرار الصوري، وأكثر ما يجيء في النسيب والحنين، وهو إما ملفوظ كتكرار الغضى في شعر مالك بن الريب؛ وملحوظ كتكرار أسماء المواضع في النسيب وقد تطور أسلوب تكرار المواضع من المنهج الجاهلي، حتى صار رمزيًا صرفًا في أشعار الصوفية.
3 -
التكرار التفصيلي أو الخطابي، وهو ملفوظ بأن يكرر الشاعر كلمة بعينها، أو ملحوظ، بأن يكرر ألفاظًا مترادفة أو متشابهة- ويدخل تحت هذا التكرار ما سماه الجاحظ بالأسلوب الكلامي، كما يدخل أكثر ما يراد به التهويل والمبالة والتأكيد من أنواع التكرار، نحو قول الآخر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
…
نغص الموت ذا الغني والفقيرا
وقول الآخر:
سعاد التي أضناك حب سعادا
…
وإعراضها عنك استمر وزادا
وكلا البيتين مما يستشهدون به النحويون على جواز استعمال الظاهر مكان المضمر. ولعمري إنهم ليقتلون روح اللغة حين يسوون بين مثل هذين البيتين اللذين ذكرناهما آنفًان ومثل قول الآخر:
(1) بعد فروغي من هذا الكتاب بزمن، بينما كنت أقلب صفحات كتاب الأمالي للسيد المرتضى بحثًا عن أبيات ميمية للشماخ ذكرها العلامة الشنقيطي رحمه الله في حواشيه، وقع بصري على فصل نفيس للشريف المرتضى في التكرار استشهد فيه بأبيات المهلهل التي ذكرناها عند الحديث عن التكرار الترنمي، وأشعار حسنة فيها تكرار كثير لليلى الأخلية وغيرها، وتحدث حديثا جيدا عن التكرار في سورة الرحمن. فليرجع القارئ إليه (أمالي السيد المرتضى، مصر 1907، 1 - 83 - 88)، وقد كنت أحسبني مبتكرا في الشواهد التي ذكرتها والحجج التي احتججت بها- فسبحان الله، ما أقل علمنا معشر بني آدم، وابعدنا عنالأصالة!
فيا رب ليلى أنت في كل موطنٍ
…
وأنت الذي في رحمة الله أطمع
فالإظهار في الأولين تكرار تفصيلي، له رنة وجرس وجمال، وفي هذا البيت ضرورة دعا إليها وزن الشعر، وشتان ما بين الضرورة الشعرية، والبديع الشعري. أم لعل الضرورة هنا لا تخلو من أن تكون تمت إلى الوجد والعاطفة بسبب؟ والله تعالى أعلم.