الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
الجناس:
(1)
الجناس فيما أرى ضربان: ازدواجي، وسجعي. أما الازدواجي فينظر صاحبه إلى ناحية الزمان من بنية الكلمات التي يستعملها، فيعتمد أن يقارب بينها في الزنة؛ وهو في فعله هذا يشبه صاحب الازدواج، الذي يعتمد المقاربة بين فقراته وجمله في لزنة دون الروي، ومن أجل هذا أطلقنا على هذا النوع من الجناس، اسم الازدواجي ومثاله قول الآخر (2):
فمجدل ومرمل وموسد
…
ومضرج ومضمخ ومخضب
فهذه الكلمات جميعًا تشترك في صيغة "مفعل". ومثال آخر قوله (3):
أعطى فقيل أحاتمٌ أم خالد
…
ووفي فقيل أطلحة أم مصعب
فحاتم وخالد متوازيان، وطلحة ومصعب كلاهما رباعي، والشبه بينهما ليس في قوة الشبه بين حاتم وخالد، ومضرج ومضمخ.
وآمل أن يفرق القارئ بين ما سميناه آنفًا بالتكرار الملحوظ، وهذا الذي اصطلحنا له لقب الجناس الازدواجي. فالتكرار الملحوظ يقع حين تعاد ألفاظ متشابهات المدلول مثل قوله:
بجسرةٍ كعلاة القين دوسرةٍ
…
فيها على الأين إرقال وتبغيل
(1)(() راجع باب الطباق في المطلب الثالث، ففيه تصويب وتكملة لما نذكره هنا.
(2)
هو البحتري في بائيته "عارضننا أصلا فقلنا الربرب".
(3)
هو البحتري في بائيته "عارضننا أصلا فقلنا الربرب".
والجناس الازدواجي يقع عند المشابهة في الزنة. وقد يلتقي الجناس الازدوواجي والتكرار الملحوظ كمما في "مجدل، ومرمل، وموسد
…
اللخ" فكلها بمعنى قتيل مطروح على الأرض؛ وكما في قوله: إرقال وتبغيل، فبين وزننيهما نوعٌ من شبه. ولا يخفى أن الجناس في أصله وجوهره نوعٌ من التكرار كما قدمنا آنفًا.
والجناس السجعي ينظر صاحبه إلى ناحية المكان من الكلمات التي يستعملها، وذلك بأن يعمد إلى أصوات وحروف بأعيانها، فيعتمد تكرارها، بإيراد كلمات تشترك في هذه الحروف والأصوات، نحو قول أبي تمام:
متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل
…
وقلبك منها مدة الدهر آهل
فالهاء مرددة في سائر هذا البيت، والذال والهاء واللام مشتركة بين ذهلية وذاهل، والهاء واللام مشتركتان بينهما وبين آهل في آخر البيت. وإنما سمينا هذا النوع من الجناس سجعيًا لأن صاحبه يفعل كفعل صاحب السجع من اعتماد تكرار حرف للروي، وجعله فاصلة بين كل فقرتين أو ثلاث.
وكثيرًا ما يخلط صاحب التجنيس بين ناحيتي السجع والازدواج؛ بأن يجيء بكلمات تشترك في الأوزان والأصوات، مثل قول البحتري في السينية:"جوب في جنب أرعن جلس"؛ فجوب وجنب وجلس، كلها كلمات متوازنة، وتشترك اثنتان منها في الجيم والباء، وثلاثتها فيها الجيم، وكقوله منها:
أتسلى عن الخطوب وآسى
…
لمحل من آل ساسان درس
فمكان السين والألف هنا واضح. وقد أجاد البحتري هنا أيما إجادة، بإيراده نوعين من الجناس: أحدهما سجعي محص في قوله "أتسلى"، "آسي"، "ساسان" و"درس" والأخير ازدواجي خالص لولا اللام، وذلك قوله:"أتسلى"، وقوله:"لمحل". ثم زاوج بينهما عند قوله: "آسى" و"ساسا" من قوله "ساسان"؛
فهذا جناس ازدواجي سجعي. ونحو هذا لا يقوى عليه إلا عبقري موهوب. ويجري مثل هذا المجرى قوله منها:
فتوهمت أن كسري أبر ويز معاطي والبلهبذ أنسي
"فكسرى" و"أنسى" جناس سجعي لمكان السين. و"توهمت" و"أبر ويز" و"معاطي" كلها فيها جناس ازدواجي، للمشابهة في الوزن. وبين "أبر ويز" و"البلهبذ" تجانس سجعي، وتشابه في الوزن يقرب من الجناس الازدزاجي.
هذا، وقد أهمل النقاد الأوائل أمر الجناس الازدواجي جملة واحدة. إلا ابن رشيق القيرواني، فإنه قد فطن إلى نوع منه، عند حديثه عن التقطيه أو التفصيل (1)، في باب التقسيم. والتقطيع عنده مجيء فقرات متوازية غير مسجوعة في البيت الواحد، نحو (2):
فلا كمدي يفنى، ولا لك رقةٌ
…
ولا عنك إقصار، ولا فيك مطمع
ونحو قول عمرو بن شأس (3):
مدمج سابغ الضلوع طويل الشخص عبل الشوى ممر الأعالي
فإذا جاءت مسجوعة فهو الترصيع.
ولو قد تأمل ابن رشيق قليلًا، وتجاوز توازن الفقرات إلى توازن الكلمات، لكان قد تنبه إلى وجود ما نسميه الجناس الازدواجي. ولكان قد جعله من باب
(1) العمدة 2: 25.
(2)
نفسه.
(3)
نفسه- يصف حصانًا. مدمج: أي غير مترهل. سابغ الضلوع: أي عظيمها. عبل الشوى: أي ضخم الأطراف. ممر الأعالي: أي أعلاه قوي شديد.
الجناس، لا من باب التقسيم. وإني لأعجب منه كيف لم يفعل ذلك، مع أنه تحدث عن أشياء تدخل في صميم هذا الباب، مثل قوله (1): "ثم أدخل المولدون في هذا الباب أشياء، عدوها تقطيعًا وتقسيمًا، وذلك نحو قول أبي العميثل الأعرابي:
فاصدق وعف وجد وأنضف واحتمل
…
واصفح ودار وكاف واحلم وأشجع
والطف ولن وتأن وارفق واتئد
…
واحزم وجد وحام واحمل وادفع
وكقول ديك الجن:
أحل وامرر، وضر وانفع ولن واخـ
…
ـشن ورش وابر وانتدب للمعالي
وقول أبي الطيب:
أقل أنل اقطع احمل عل سل أعد
…
زد هش بش تفضل أدن سرصل
ثم زاد في هذا وتباغض حتى صنع:
عش ابق اسم سد قد جه مرانه ره فه اسرنل
…
عظ احم صب ارم اغزاسب رع زع دل اثن بل (2)
فهذه رقية العقرب، كما قال ابن وكيع، ولا بد من شرحها. قوله:"عش ابق دعا له بالعيش والبقاء". و"اسم" من السمو. و"سد" من السيادة: أي دم هكذا و"قد" من قود الخيل. و"جد" من الجود والسماح، أو من الجود وهو المطر الغزير. "مرانه" من الأمر والنهي. "ره" من الورى، تثبت الهاء فيه، أظنه في الخط دون اللفظ، على أنه ليس موضع وقف (3)، زلا يجب أن يكتب بلا هاء، لئلا
(1) نفسه 2: 28.
(2)
أعجب لخطه دل بحرفين، وهما كلمتان، وهذا مخالف لما سيقوله بعد.
(3)
لأن الهاء تثبت لفظًا في الوقف وحده.
تخالف العادة (1) وتقع كلمة على حرفٍ واحد، والوري: داء في الجوف: أي اصنع ذلك بأعدائك وحسادك. "فه" من الوفاء، و"اسر" من سرى الليل، يصفه بالعزم والغارات. و"نل" من النيل والإدراك. أي نل ما تحب. ويروي "نل": أي أعط من النوال، ويقال "نلته" إذا أعطيته. و"غظ" من غيظ الحسود، يروى "غظ" من الوعظ. و"ارم" من رمي العدو بالمكايد وغيرها. و"صب" من صاب المطر والسهم و"احك" من حميت المكان، و"اغز" من الغزو. و"اسب" من السبي.
و"رع" من الورع. و"زع" من وزعت: أي كففت. و"د" من الدبة. و"ل" من الولاية للأمور، وقد تكون من المطر الولي. و"اثن" من ثني أضداده إذا ردهم.
و"بل" من الوابل. وهذه غاية الغاضة. وإن كان ولا بد فقوله أيضًا:
دانٍ بعيد محب مبغض بهج
…
أغر حلو ممر لين شرس
ندٍ أبي غرٍ وافٍ أخ ثقة
…
جعد سري نهٍ ندب رضا ندس
"ند": من الندى. و"غرٍ" من غرى به. و"نهٍ": من النهي. وأصل هذا كله من قول امرئ القيس.
أفاد فجاد وشاد فزاد
…
وقاد فذاد وعاد فأفضل
"أهـ كلام ابن رشيق".
فهذه الأشياء التي حكاها ابن رشيق ولا سيما أبيات المنتبي وأبي العميثل، أدخل في باب الجناس الازدواجي منها في التقسيم.
هذا، والجناس السجعي نفسه، لم يعن القدماء منه إلا بالكلمات التي يقع
(1) قوله لا يجب: كقولنا في النثر المعاصر: يجب ألا الخ. وما أرى إلا أن ابن رشيق حمل قول الخليل الذي ذكره سيبويه في باب الممنوع من الصرف على غير وجهه وقد ترى أن دل فعلان لا هاء فيهما فلم رضي خلاف العادة هنا ور ليست من الوري ضربة لازم بل أشبه أن تكون فعل الأمر من رأي وليست في المتاب بهاء فتأمل.
التشابه بينهما في أكثر من حرف، وتبدو كأنها من أصل واحد، وتتساوى أحيانًا في الحركات والسكنات، أو توشك أن تساوى. فقول الشاعر:
أتسلى عن الخطوب وآسى
…
لمحا من آل ساسان درس
ليس من الجناس في شيء عند الأوائل. وإنما الجناس نحو ما في قول حبيب:
ما مات من كرم الزمان فإنه
…
يحيا لدى يحيى بن عبد الله
فهذا عندهم جناس تام، للتساوي الحادث في الحركات والسكنات بين "يحيا" الفعل و"يحيى" الاسم.
ونحو قوله:
يمدون من أيد عواصٍ عواصمٍ
…
تصول بأسيافٍ قواضٍ قواضب
وهذا شبيه بالتام.
ونحو:
أرامة كنت مرتع كل ريم
…
لو استأنست بالأنس المقيم
وهذا جناس ناقص.
وقد بلغ التعنت بالنقاد القدماء أن يخرجوا من باب الجناس نوعًا يموه التصرف والتصريف، يعنون به ما كان مشتقًا بعضه من بعض، كأن تجيء بكتب وكاتب ومكتوب قال أبو هلالٍ العسكري بعد أن استشهد بالبيتين الآتيين:
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي
…
بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك
وقول الآخر:
صبت عليه ولم تنصب من كثبٍ
…
إن الشقاء على الأشقين مصبوب
"ليس في هذا الألفاظ تجنيسٌ، وإنما اختلفت هذه الكلم للتصريف"(1). وأحسب أن أبا هلال قد اتبع في هذا المزعم رأي الرماني، فقد كان من رجال عصره، متأخرًا هو عنه شيئًا. وقد ذكر ابن رشيق رأي الرماني في العمدة، قال (2): "وحقيقة المجانسة عند الرماني: المناسبة بمعنى الأصل، نحو قول أبي تمام:
في حده الحد بين واللعب
قال: لأن معناها جميعًا أبلغ. وأما قولك: قرب واقترب، والطلوع والمطلع، وما شاكل هذا، فهذا، فهو عنده من تصرف اللفظ، ولا بعده تجنيسًا. ومن تصرف المعنى عنده، قولك عين الميزان، وعين الإنسان، وعين الماء، ونحو ذلك. ومن التصرف في اللفظ والمعنى جميعًا، قولك الضرب والمضاربة واستضراب وما أشبه ذلك. كل هذه الأنواع عنده من باب التصرف. وما أكثر ما يستعمل هذا النوع بعض شعراء وقتنا المذكورين، ويظن أنه قد أتى بشيء من غرائب التجنيس أهـ.".
قلت: هذه العبارة الأخيرة من كلام ابن رشيق، وليست من كلام الرماني، وبها تعرف ميل ابن رشيق إلى مذهب الرماني. ولا يخفى أنه لو صح هذا المذهب. لوجب إخراج الشطر الثاني من بيت أبي تمام:
أرامة كنت مرتع كل ريم
…
لو استأنست بالأنس المقيم
ونحن إن فعلنا ذلك فإنما نغالط أسماعنا. ولا ريب أن أبا تمام قد أراد المجانسة حين جاء بقوله: "استأنست" وقوله: "الأنس"، وإلا كانت له منادح، كأن يقول:
لو استأنست بالحي المقيم
(1) الصناعتين 321.
(2)
العمدة 1: 299 - 300.