الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد سبق أن فصلنا الحديث عن كل واحد منها في موضعه من هذا الكتاب. وإذا أخذنا -على سبيل التمثيل- بعض ما استشهدنا به سابقًا على الموازنة، مثل قول الأنصاري:
أنا جُذيلها المُحكك، وعُذيقها المرجب
وجدنا الموازنة الجزئية هنا في الجناس الازدواجي بين الجُذيل والعُذيق، والمحكك والمرجب، والموازنة الموضعية فيهما معًا، إذ الجُذيل والعُذيق خبران، والمحكك والمرجب صفتان. ومحل التكرار واضح في الآيتين اللتين استشهدنا بهما على الموازنة التدرجية. ومحل الطباق واضح أيضًا من قولهم:"الأخذ سريط، والقضاء ضُريط"، وبين الأخذ والقضاء موازنة موضعية، وبين السريط والضريط جناس ازدواجي، (وسجعي إذا اعتبرت السجع- وخير أن تتجاهله الآن، لأنا نتحدث عن عهد نحسب أنه لم يستعمل القوم فيه الأسجاع).
تطور التقسيم والموازنة:
قلنا من قبل: إن أمر النظم العربي كله، كان يدور على الأقسام، والملاءمة بينها عن طريق الموازنة، حتى عُرفت القافية وعُرف الوزن، وصار الشعر محكمًا رصينًا، على النحو الذي نجده عند الأعشى والنابغة وزهير. ويخيل لي أن النظم قد مر بهذه الأطوار قبل أن يبلغ هذا المبلغ.
1 -
كان الناظم يأتي بقسيم بعده قسيم، مراعيًا في ذلك الموازنة، من غير كبير نظر إلى السجع أو الوزن. وأمثلة هذا النوع كثيرة في أُخيات اللغة العربية، من اللغات السامية، كالعبرية مثلاً، وقد ذكرنا لك ما استشهد به "لُوث". ويشبهه مما وصلنا من كلام العرب، بعض ما ذكره الميداني في كتاب الأمثال، نحو: "إنا لتكشر
في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتقليهم" (1). وقولهم:"إذا كنت في قوم، فأحلب في إنائهم"(2)، وقولهم:"إذا ظلمت من دونك، فلا تأمن عذاب من فوقك"(3)، وقولهم:"إن يبغ عليك قومك، لا يبغ عليك القمر"(4)، وقولهم:"إذا أدبر الدهر عن قوم، كفى عدوهم"(5).
2 -
جعل الناظم يراعي السجع والازدواج، ويغلب على ظني أن السجع دخل أولاً في الكلام، وجعل الساجعون يراعون الموازنة بين كلمة وكلمة في أقسامهم، مثل قول الكاهن:"أقسم برب الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش"(هذا مجرد تمثيل فقط)، والحبش وحنش كما ترى متوازيتان. ومما جاء من كلامهم على السجع من دون وزن، ما ذكره الميداني من قولهم:"إنما هو كبارح الأروي، قليلاً ما يُرى"(6)، وقولهم "أصوص، عليها صوص"(7). وقد أدى السجع بطبيعته إلى المجانسة الازدواجية، فكان الازدواج، وربما صار يُكتفى به وحده دون السجع، أو مع سجع قليل، مثل قولهم:"إن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى"(8)، وهنا تجد الجناس المزدوج في أرض ظهر. وتجد المجانسة الصرفية الموضعية في قطع وأبقى. وقد ذكروا هذا في الحديث. وأحسبه تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. ومثل قوي الأنصاري:"أنا جُذيلها المحكك، وعُذيقها المُرجب"، وأظنه تمثل به أيضًا. ومثل قولهم:"إنك لُتكثر الحز، وتُخطيء المفصل"(9).
3 -
جعل الناظم يحكم المزاوجة والتسجيع، بأن يتعمد الموازنة بين أجزاء الأقسام في مواضع التركيب النحوية، وفي الهيئة الصرفية، وفي الصيغة العروضية،
(1) أمثال الميداني: 62.
(2)
نفسه: 63.
(3)
نفسه: 63.
(4)
نفسه: 30.
(5)
نفسه: 31.
(6)
نفسه: 27.
(7)
نفسه: 26.
(8)
نفسه: 10.
(9)
نفسه: 59.
مثل قولهم: "أمر مُضحكاتك، لا أمر مُبكياتك"(1)، وقولهم:"أنت تئق، وأنا مئق، فمتى نتفق"(2)، فالمُضحكات كالمُبكيات في الوزن. وتئق ومئق كلاهما متوازن. ومثل هذا كثير من الأمثال القديمة، نحو:"الأخذ سُريط، والقضاء ضُريط"(3) و"الأكل سلجان، والقضاء ليان"(4)(وإن كان التوازن بين سلجان وليان، من النوع الصرفي لا العروضي). وكان التكرار كثيرًا ما يدخل هذا النوع ليُقويه. مثل قولهم: "إنما أنت عطينة، وإنما أنت عجينة" فهذا كامل التوازن.
ويبدو أن هذا النوع من التسجيع والازدواج المحكم، أول ما بُدى به، كان يجيء في قسيمين قسيمين، مثل:"إذا قُرح الجنان، بكت العينان، وإذا تلاحت الخصوم، تسافهت الحلوم"(5). ثم تجاوزوا القسيمين إلى ثلاثة، كما في قولهم:"إنه يحمي الحقيقة، وينسل الوديقة، ويسوق الوسيقة"(6). وترى التوازن الموضعي هنا بين الأفعال الحقيقة، وينسل الوديقة، ويسوق الوسيقة" (7). وترى التوازن الموضعي هنا بين الأفعال والمفاعيل، والصرفي أيضًا، إذ كل الأفعال مضارعة، ثم تجد الجناس الازدواجي العروضي في الحقيقة والوديقة والوسيقة، وكما في قولهم المنسوب إلى لُقمان بن عاد وابني تقن (8): قالوا: "كان لقمان رب غنم، وكان ابنًا تقن صاحبي إبل، فأعجبته أبلهما، فراودهما عنها وقال يعرض عليهما ضأئه:"اشترياها ابني تقن، إنها الضأن، تُجز جُفالاً، وتُنتج رُخالاً، وتُحلب كثبًا ثقالاً"(9) فأجاباه بمثل كلامه: "لا نشريها يا لُقم، إنها الإبل، حملن فاتسقن، وجرين فأعنقن، وبغير ذلك أفلتن".
(1) نفسه: 48.
(2)
نفسه: 32.
(3)
نفسه: 43.
(4)
نفسه: 43.
(5)
أمثال الميداني: 80.
(6)
نفسه: 26.
(7)
نفسه: 37.
(8)
الجفال: الصوف الكثير. والرخاء بضم الراء: جمع رخل بكسر الخاء، وهي سخلة الضأن، وهذا من شاذ الجمع، وأحسب أن راحيل أم سيدنا يوسف عليه السلام أصل أسمها من هذا. وقوله تحلب: أي تحلب من كتب لا تتعب الإنسان كالناقة. وضروعها مع ذلك حافلة ثقيلة.
(9)
وهكذا، فكل هذه الأمثلة، كما ترى، فيها الموازنة الموضعية، حتى راعى الناظم بناء الفعل للمجهول في بعض ما جاء به، وفيها المساواة في وزن الرخال والجفال والثقال. والهيس والميس والحيس.
4 -
جعل الناظم يتجاوز مجرد الموازنة في الأقسام، إلى تكميل الوزن نفسه حتى يصير كل قسيم مساويًا للآخر من جهة العروض. وهذه الخطوة، يزعم العقل أنها لابد أن تكون قد جاءت بعد أن درب الناظمون على الإتيان بقسيمين قسيمين متوازيين، وثلاثة أقسام متوازنة، مثل قولهم:"إنه يحمي الحقيقة، وينسل الوديقة، ويسوق الوسيقة". فبتزيين ووشي وصنع قليل، صار هذا إلى قولهم: إنه حامي الحقيقة، نسال الوديقة، سواق الوسيقة.
وعندما وصل الناظمون هذا الطور، خرجوا من مجرد التقسيم المتوازن، إلى التقسيم الموزون، إلى طريق الشعر التي عبدوها فيما بعد. وسُرعان ما كثر في كلامهم أمثال:
حامي الحقيقة
نسال الوديقة
آبي الهضيمة
ناب بالعظيمة
معتاق الكريمة
وبعد التحوير والتشذيب، صارت هذه الأقسام المسجوعة الموزونة، أرصن وأحكم، مثل:
رباء مرقبة
وهاب سلهبة
مناع مغلبة
ويمكنك أن تحدس بكل يسر أن أصل هذا هو: "إنه يربأ المرقبة، ويهب السلهبة، ويمنع المغلبة". ومثل:
شهاد أندية
جواب أودية
حمال ألوية
وهذا كان أصله إنه يشهد الأندية، ويجوب الأودية، ويحمل الألوية. ويمكنك أن تتوهم أن هذا نفسه، قد كان سبقه طراز أقل توازنًا، مثل: إنه يشهد النادي، ويجوب الأودية، ويحمل اللواء.
5 -
وإذ قد بلغ الناظم هذه المرحلة، مرحلة الأسجاع الموزونة، فقد سلك سبيل الشعر، كما (نعرفها الآن)، وقد اهتدى إلى أُولى خُطوات الوزن الرصين. وما هو إلا قليل، حتى جعل يعمد إلى التسميط، كلما جاء بأسجاع ثلاثة متوازنة، أتبعها سجعة تخالفها، وتوافق أخرى تقع في موقعها، بعد ثلاثة أقسام مسجوعة تالية.
وليس لدينا من هذا النوع شيء نستشهد به. ولكن لدينا أشعارًا تحمل آثاره قوية واضحة، مثل قول أبي المثلم:
آبي الهضيمة،
ناب بالعظيمة،
متلاف الكريمة،
جلد غير ثُنيان،
حامي الحقيقة
نسال الوديقة
معتاق الوسيقة
لا نكس ولا واني
وقول أبي صخر:
وتلك هيكلة
خود مُبتلة
صفراء رعبلة
من منصب سنم
عذب مُقبلها
جزل مُخلخلها
كالدعص أسفلها
مخضودة القدم
وهذا النهج من كلام أبي صخر، يمثل أسلوبًا أحدث مما جاء في شعر أبي المثلم.
ومثله قول الخنساء:
جواب قاصية
جزاز ناصية
حمال ألوية
للجيش جرار
حلو حلاوته
فصل مقالته
فاش حمالته
للعظم جبار
وأقول إن الأقسام التي في شعر أبي صخر والخنساء. تمثل أسلوبًا أحدث، لرصانة وزنها، وجريانه على الأرباع التي كُتب لها فيما بعد، أن تكون وزن البسيط.
6 -
أخذ الناظمون يعرفون البيت الكامل، من طريق هذه الأقسام، التي
كانوا يجيئون بها أسماطًا؛ ويغلب على ظني أنهم عرفوا البيت الكامل، بتطويل هذه الأقسام شيئًا. ثم أرجح أنهم لم يقدموا إقدامًا جريئًا على نظم الأبيات الكاملة متواترة أول الأمر، وإنما كانوا يجيئون بالأسماط، ثم يتخلصون منها إلى أقسام أطول منها، مستعملين السجع والازدواج بلا سجع، ثم يتخلصون بعد ذلك إلى البيت الكامل. كلمة أبي المثلم تمثل هذا الأسلوب، وبحسبك أن تنظر في هذه الأبيات الأخيرة منها:
1 -
رباء مرقبة
مناع مغلبة
ركاب سلهبة
قطاع أقران
2 -
شهادة أندية
حمال ألوية
جواب أودية
سرحان فتيان
3 -
يحمي الصحاب،
إذا كان الضراب،
ويكفي القائلين.
إذا ما كبل العاني
4 -
يعطيك ما لا تكاد النفس ترسله
من التلاد، وهوب، غير منان
فالجزء الثالث عمد فيه الشاعر إلى أقسام طويلة كالمسجعة، وإلى التقسيم المزدوج من غير سجع، ليأتي ببيت تام، وكان هذا التنويع منه، بمنزلة التخلص من أسلوب الأقسام المسمطة السابقة.
والجزء الرابع، جاء فيه الشاعر بالبيت تامًا، بعد أن مهد لذلك بالبيت المقسم قبله.
ونحو من هذا تجده في كلمة أبي صخر:
1 -
كأن مُعتقة.
في الدن مُغلقة
صهباء مُصفقة
من رابئ رذم
2 -
شيبت بمرهبة
من رأس مرقبة
جرداء سلهبة
في حالق شمم
3 -
خالط طعم ثناياه وريقتها.
إذا يكون توالي النجم كالنظم،
والشاعر هنا لم يجيء بجزء مُمهد، كما فعل أبو المثلم، لكنه جاء بالزحاف الشديد الظهور في أول الجزء الثالث، ليشعر بالانتقال من التسميط إلى البيت التام ومذهب الخنساء في الرائية أشبه بمذهب أبي المثلم:
1 -
فعال سامية
ورد طامية
للمجد نامية
تعنيه أسفار
2 -
جواب قاصية
جزاز ناصية
عقاد ألوية
للجيش جرار
3 -
حلو حلاوته
فصل مقالته
فاش حمالته
للعظم جبار
4 -
وإن صخرًا،
لكافينا وسيدنا
وإن صخرًا
إذا نشتو لنحار
5 -
وإن صخرًا لتأتم الهداة به
…
كأنه علم في رأسه نار
فأنت ترى هنا أنها قد اتخذت من التقسيم بلا مواقف، سُلما تصعد به إلى البيت الكامل. والتقسيم بلا موقف، كلما قدمنا، أسلوب أقدم من التقسيم المسجوع الموزون، ولكن طلب رصانة البيت وإحكامه (وهو أحدث وأقوى ما وصل إليه النظم من المذاهب) استدعى الرجوع إلى استعمال تقسيم المواقف القديم، حتى تندمج الأقسام بعضها في بعض، وتكون وزنًا تامًا متماسكًا، ومن خير ما يمكن الاستشهاد به، على هذا، قول امرئ القيس من ضاديته:
بلاد عرضية
وأرض أريضة
مدافع غيث
في فضاء عريض
والأقسام هنا كلها، تمثل أسلوبًا أقدم من الذي رأيناه عند أبي المثلم وأبي
صخر والخنساء. وقد اعتمد الشاعر، وهو ممن كانوا يعرفون الوزن التام، في صياغته على سجعتين متوازنتين، وازدواج غير مسجوع. ومثل هذا قوله:
له قُصريًا عير
وساقا نعامه
كفحل الهجان
ينتحي للعضيض
وإذ قد وضح هذا، تبينًا خطأ أبي هلال العسكري الفاحش، في نقده لأبيات أبي صخر وأبي المثلم والخنساء، حين حكم ذوقه العباسي، وجعل يتحذلق، فيزعم أن "تعنيه أسفار" و"سرحان فتيان" أقسام قلقة غير مطمئنة. ولو قد كان أدرك أنها أشطار، لا بل أبيات كل بيت منها قائم بنفسه، لم يُجسر على هذه المقالة.
افتراق التقسيم والموازنة:
كان التقسيم والموازنة، حتى المرحلة الخامسة من المراحل التي قدمناها، متساوقين تساوق الشمس وضوئها؛ الموازنة الشمس، والتقسيم ضوؤها، ومرتبطين ارتباط الهيولي والصورة؛ الموازنة الهيولي، والتقسيم هيئتها، وكان بينها من النسب والقرب ما بين الطباق الكلي والطباق الجزئي. ولو قد وقف النظم عند المرحلة الخامسة ولم يجاوزها، لغبر التقسيم والموازنة يتسايران طوال الدهر. ولكن النظم كما رأيت، اكتشف الوزن، وأقبل عليه أول الأمر حذرًا فرقًا، يتوكأ على التقسيم. ثم ألقى بالتقسيم إلى جانب، وطلب توحيد البيت وإحكامه، وإجادة سبكه.
والموازنة خل لا وفاء عنده، فهي على طول ما صاحبت التقسيم، لم تكن تضمر له من الود، وصدق العلاقة، ما كانت تضمر للنظم. فحين اتجه النظم إلى الوزن، اتجهت معه إليه. ولو قد تجاوز النظم الوزن إلى طراز أنضج منه، وأشد