الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلابة ورصانة، لاتجهت معه، وفارقت الوزن. وبعد أن كانت إنما تحرص على الملاءمة بين قسِيم وقسيم، صار يهمها أن تلائم بين شطر وشطر، وبيت وبيت، وإن شاء التقسيم جاء يخدم بين يديها، ويعينها، فيما تفعل، وإن لم يشأ، طرحته جانبًا، ومضت في سبيلها.
ويصح لنا أن نصف الموازنة، بعد دخول الوزن والقافية في الشعر، بأنها ذلك الوسيط الموسيقى المعنوي، الذي يؤلف بين أطراف الوحدات والتنويع في الكلام، من طباق وتكرار وجناس، وتقسيم واضح وتقسيم خفي، وتقسيم مرصع وتقسيم مقطع، ويجعلها كلها متلائمة متماسكة، مفصحة بالانسجام التام، ولو جاز لنا أن نستعير تشبيهًا من العقيدة المسيحية، فالانسجام بمنزلة الأب، والنظم، بوزنه وجناسه وطباقه وتكراره وتقسيمه ومقابلته، بمنزلة الابن، والموازنة بمنزلة الروح القدس. تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
تعقد الموازنة في الشعر العربي
وبافتراق الموازنة والتقسيم، وتفرد الموازنة وحدها بأمر التوفيق بين أطراف النظم، واعتمادها على أن تبرز في الملاءمة بين شطر وشطر، وبيت وبيت، وفي ما تتكون منه الأبيات والأشطار، تعقدت الضروب المؤلفة للانسجام في جرس الشعر العربي تعقدًا شديدًا؛ فهناك الضرب الذي تحدث فيه الموازنة، من مقابلة تركيب بتركيب أو مجانستهما، وهناك الموازنة التي تكون بين قسيم وقسيم، وهناك الموازنة التي تكون بين أجزاء التفعيلات في البيت، من دون نظر إلى الأقسام والمواقف. وكل هذه الأشياء، تجتمع معًا في حيز وزن البيت، وقد تتجاوزه إلى جزء من القصيدة مكون من بيتين أو أكثر؛ وكل هذا يجعل النظم العربي، غاية في النضج تتجاوب فيه الأصداء، بعضها يتحدث من وراء عهد عاد، وبعضها يشع بنور الحضارة العباسية.
الوزن في نظم الشعر العربي هو في ذات نفسه موسيقًا وإيقاع مُعبر كتعبير الموسيقا بذات نفسه قبل أن يندرج فيه بيان اللفظ والمعنى. ومن أجل هذا ما يصح وصف الجاحظ لوزن الشعر العربي خاصة أنه هو المعجز وأن الترجمة تعجز عنه.
هذا ويمكن حصر الوجوه التي نشأ منها العقد في الانسجام، بعد افتراق الوزن والتقسيم (هذا بعد استثناء ما ذكرناه سابقًا من أنواع الموازنة) في ثلاثة:
1 -
الموازنة التي تطاوع التقسيم وتساوقه، ومثالها، مما التقسيم فيه غير مسجع قول ابن أبي ربيعة:
تهيم إلى نُعم، فلا الشمل جامع
…
ولا الحبل موصول، ولا أنت مقصر
وقول إبراهيم بن المهدي يرثي ابنه:
تبدل دارًا غير داري، وجيزة
…
سواي، وأحداث الزمان تنوب
ومثاله مما التقسيم فيه سجع، قول المتنبي:
الدهر مُعتذر، والسيف منتظر
…
وأرضهم لك مُصطاف ومرتبع
2 -
الموازنة التي تستعين بالتقسيم، وتعينه على الظهور، مثل قول امرئ القيس:
سباط البنان، والعرانين والقنا
…
لطاف الخصور، في تمام وإكمال
فتوازن سباط البنان، ولطاف الخصور، يعين التقسيم الأول على الوضوح. ومن هذا قول الحطيئة (1):
ألم أك نائيًا، فدعوتموني
…
فجاء بي المواعد والدعاء
فلما كنت جاركم، أبيتم
…
وشر مواطن الحسب الإباء
(1) الكامل: 1: 353.
ولما كنت جارهم، حبوني
…
وفيكم كان، لو شئتم حباء
ولما أن مدحت القوم، قلتم
…
هجوت، وهل يحل لي الهجاء
ولم أشتم لكم حسبًا ولكن
…
حدوت بحيث يُستمع الحداء
فقوله: "ألم أك نائيًا" و"فلما كنت جاركم"، وقوله:"ولما كنت جارهم" كلها متوازنة من جهة العروض؛ وقوله: "ولما أن مدحت القوم"، وقوله:"ولم أشتم لكم حسبًا" كلاهما متوازن من جهة العروض؛ وهذا يساعد على ظهور القسمة، والقسمة تساعد على ظهوره. وأما قوله:"قُلتم هجوت، ولكن حدوت" فمتوازنان من جهة العروض، ولكن لا قسمة في موضع حدوت.
وقد نظر إبراهيم بن المهدي إلى هذا الصنف في كلمته التي يقول فيها:
تبدل دارًا غير داري، وجيزة
…
سواي، وأحداث الزمان تنوب
كأن لم يكن كالغصن، في ميعة الصبا
…
سقاه الندى، فاهتز وهو رطيب
كأن لم يكن كالدر، يلمع نوره
…
بأصدافه، لما تشنه ثُقوب
والشاهد ما وضعنا تحته خطًا.
ومن أجود ما جاء في هذا الصنف كلمة امرأة عُبيد الله بن عباس، ترثي ابنيها، وقد سبق أن استشهدنا بها في باب القوافي من الجزء الأول، ونذكر هنا منها بيتين لندل على ما نذكره في هذا الموضع: -
يا من أحسن صغيري اللذين هما
…
كالدرتين، تشظى عنهما الصدف
يا من أحس صغيري اللذين هما
…
سمعي وطرفي، فطرفي اليوم مُختطف
والموازنة العروضية الموضعية واضحة في الأقسام التي بيناها بالخطوط.
3 -
الموازنة التي توهم القسمة ولا قسمة، مثل قول ذي الرمة:
أستحدث الركب عن أشياعهم خبرًا؟
…
أم راجع القلب من أطرابه طرب؟
فهنا يخيل إليك أن البيت مقسم، وإنما هي الموازنة بين أجزائه، تلعب بسمعك وتخادعه. ونحوه قول المتنبي:
ضروب ما بين الحسامين ضيق
…
بصير وما بين الشجاعين مظلم
ونحو هذا كثير في الشعر العربي. وتجده في أبيات الحطيئة السابقة. عند قوله: "حدوت بحيث يستمع الحداء".
وقد وقف ابن رشيق عند بيت ذي الرمة المذكور قبل هذا، وقفة طويلة، استطاع أن يدرك بها سر هذا الذي سميناه الموازنة، وسماه "لوث" بالموازنة "العددية"
…
قال وهو يتحدث عن المقابلة (1): " ومن الشعر ما ليس مخالفًا ولا موافقًا كما شرطوا، إلا في الوزن والازدواج فقط، فيسمى حينئذ موازنة؛ نحو قول النابغة:
أخلاق مجد تجلت ما لها خطر
…
في البأس والجود، بين الحلم والخبر
وعلى هذا الشعر حشا النعمان بن المنذر فم النابغة درًا، وينضاف إلى هذا النوع، قول أبي الطيب:
نصيبك في حياتك من حبيب
…
نصيبك في منامك من خيال
فوزان في قو "حياتك" بقوله: "في منامك" وليس بضده ولا موافقه، وكذلك صنع في الموازنة بين حبيب وخيال؛ وإن اختلف حرف اللين فيهما، فإن تقطيعه في العروض واحد، فأما قول أبي تمام:
فكنت لناشيهم أبا، ولكهلهم
…
أخا، ولذي التقويس والكبرة ابنما
فإنه من أحكم المقابلة، وأعدل القسمة. وقد بينت في هذا الباب أن المقابلة
(1) العمدة 2: 19
(2)
بين التقسيم والطباق، فكما توفر حظهما منهما كانت أفضل. ومن أملح ما رويناه في الموازنة وتعديل الأقسام مما يجب أن نختم به هذا الباب قول ذي الرمة:
أستحث الركب عن أشياعهم خبرًا
…
أم راجع القلب من أطرابه طرب
لأن قوله: "أستحدث الركب" موازنة لقوله: "أم راجع القلب"، وقوله، "عن أشياعهم خبرًا" موزان لقوله:"من أطرابه طرب"، وكذلك "الركب" موازن "للقلب" و "عن" موازن "لمن" و "أشياعهم" موزان "لأطرابه"، و"خبرًا" موازن "لطرب" اهـ.
وابن رشيق يستعمل المقابلة هنا بالمعنى الواسع، وهي تعادل ما نسميه الموازنة وما سماه "لوث": parallelismus Membrorum، وإنما ذكرنا كلامه اعترافًا بفضله وسبقه، وتبركًا بذلك.
هذا، والموازنة الموهمة للقسمة من أفعل الأشياء أثرًا في زيادة جرس الشعر، وكلما بعد موضعها عن التقسيم، وزاد إيهامها به، كانت أقوي، مثل قول الحطيئة:
ملوا قراه، وهرته كلابهم
…
وجرحوه بأنياٍب وأضراس
فجرحوه، موازنة للمواقراه، على أنه ليس بموقف. ومن هذا النوع قول البحتري:
بأروع من طي كأن قميصه
…
يزر على الشيخين زيد وحاتم
فقوله: "يزر على" يوهم القسمة، لموازنته لقوله "بأروع من".
وأحسب القارئ الكريم، قد أدرك ما تفعله الموازنة من ربط جرس الألفاظ، بالوزن الذي وضعت فيه. ومن ربط هذين معًا، بالمعنى الذي يبلغ السمع. وقد سبق أن فصنا الحديث عن الوزن، فليربط القارئ بين ذلك، وبين ما فصلناه هنا من الحديث عن الجرس، فإنما كان الفصل بينهما بغرض الدرس والتحليل. وسبيل الناقد أن ينظر إلى الشعر من حيث إنه كل واحد لا يتجرأ.