الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما ربع مية معمورًا يطيف به
…
غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من خجل
…
أشهى إلى ناظر من خدها الترب
ولا يخفى هنا أن أبا تمام إنما جسره على نسبة الخد إلى عمورية، ما كان جسر عليه من جعل ربعها مقابلا لربع مية
سماجة غنيت منا العيون بها
…
عن كل حسنٍ بدا أو منظر عجب
وحسن منقلب تبدو عواقبه
…
جاءت بشاشته عن سوء منقلب
وهكذا إلى آخر القصيدة.
مذهب البحتري في الجناس:
لم يكن البحتري محتاجًا إلى أن يقوم "بدور" الرائد المكتشف، كما قد فعل أبو تمام. فقد كفاه صاحبهن والشعراء الذين سبقوا صاحبه أمثال مسلم، أو عاصروه مثل ديك الجن (وقد يأتي الحديث عنه عندما نعرض لمسألة الأساليب والبيان) هذا العناء. فلم يبق أمامه إلا التحسين والتزيين والتجويد، وإزالة خشونة الكشف والابتداء التي نجدها عند أبي تمام، وهي التي سماها ابن رشيق حزونة. وقد خُدع الآمدي عن حقيقة الأمر، فزعم أن البحتري قد حافظ على عمود الشعر، لأنه لم يستكره الاستعمارات، ويوغل في الجناسات. ولو قد تفطن قليلا لوجد أن البحتري لم يحافظ على عمود الشعر، إن كان مقصوده بعمود الشعر هو الإتيان بالكلام مستقيمًا خاليًا من زخرفة المعاني واللفظ على النحو العباسي، وأن كل الذي فعله هو الوصول بالزخرفة إلى سبيل دمثة ترف وسرف، وكلف بالمعادلات الرياضية، في كل ما يمكن أن يصدق عليه اسم الفن والإفصاح عن الجمال.
خذ على سبيل المثال، لتوضيح ما ذكرناه، قول البحتري:
واخضر موشي البرود وقد بدا
…
منهن ديباج الخدود المذهب
وإن كان هذا خارجًا شيئًا عما نحن بصدده، ألا تجد أنه قد نظر إلى قول أبي تمام:
وثنوا على وشي الخدود صيانة
…
وشي البرود بمسجف وممهد
فلأبي تمام كما ترى فضيلة السبق، إذ هيأ الاذهان لتقبل فكرة "وشي الخدود"، المقابلة بين زخرفة الجمال الطبيعة التي فيها، وزخرفة الجمال الصناعية التي في وشي البرود. ولكأنما كان أبو تمام يرمي بهذا التشبيه الغريب، إلى أن يفصح بتلك الحقيقة العنيفة التي كان يحسها عصره، من أن الجمال لا يكون إلا وشيا ومعادلات هندسة "أربسكية". وقد تعمد تكرار الوشي بالمعني المجازي والمعني الحقيقي، ليؤكد التشبيه ويثبته، ولكي لا يترك شكًا فيما خلفه من مقابلة معنوية.
ولم يكن البحتري محتاجًا الى هذا النحو من التوكيد. إذ قد فرغ أبو تمام منه.
ولم يبق أمامه هو، إلا أن يعمد إلى كلام أبي تمام نفسه، فيدمثه بتعريته من خشونة التأكيد المتمثلة في المجانسة المجازية، وإجراء القول على منهج يوهمك بأنه طبعي لا تصنيع في- وقد تأتى له ذلك في هذا المعني الذي تمثلنا به، باستبدال "وشي الخدود" بقوله "ديباج الخدود". وهاك أمثلة أخري منه تجري هذا المجرى:
كيف اهتديت وما اهتديت لمغمد
…
في ليل عانة والثريا تجنب
عفت الرسوم وما عفت احشاؤه
…
من عهد شوق ما يحول فيذهب
فكون الشاعر نفسه مغمدا في جفن هو ليل عانة، وكون الأحشاء تعفو كما تعفو الرسوم، كل هذا من باب الزخرفة المعنوية التي كان يحتاج أبو تمام في إبرازها إلى تكرار الألفاظ في هندسة من الجناس المجازي. واستغنى البحتري عن ذلك لسبق أبي تمام له.
والحق، ان البحتري يكاد يكون قد استغنى عن طريقة التجنيس المجازي الغالبة على شعر حبيب، إذ استبدل منها تنويع الألفاظ، وتمويه المقابلات المعنوية، بطلاء من السلاسة الناشئة من التنويع، يجعل ما تشتمل عليه من زخرف أبرع وأبهر، وعمد في التجنيس إلى تلافي ما قصر عنه حبيب ولاسيما في باب الجناس المتشابه بحسب الأصول. ومع أن حبيبا كان يتعاطى هذا، كان مع ذلك أحرص على الضرب الأول، وكان طلبه للجناس المتشابه بمنزلة الارتياح بعد الحاحه على المعادلات والمقابلات المشتملة على الجناس المجازي
فمن أمثلة الجناس المتشابهة عند البحتري قوله:
راحت لأربعك الرياح مريضة
…
وأصاب مغناك الغمام الصيب
وقوله:
رحلوا فأية عبرة لم تكسب
…
أسفا وأي عزيمة لم تسلب
قد بين البين المفرق بيننا
…
عشق النوى لربيب ذاك الربرب
صدق الغراب لقد رأيت شموسهم
…
بالأمس تغرب عن جوانب غرب
وقوله:
كم بالكئيب من اعتراض كثيب
…
وقوام غصن في الثياب رطيب
وبذي الأراكة من مصيف لابس
…
نسج الرياح ومربع مهضوب
دمن لزينب قبل تشريد النوى
…
من ذي الأراك بزينب ولعوب
ومن مشهور جناساته المشابهة قولة:
ألما فات من تلاق تلاف
…
أم لشاك من الصبابة شاف؟
أم هو الدمع عن جوى الحب باد
…
والجوى من جوانح الصدر خاف
ووقوف على الديار فمن مر
…
تبع شائق ومن مصطاف
وفيها
واعترافي بما اقترفت فكم قد
…
ذهب الاعتراف بالاقتراف
عجب الناس لاعتزالي وفي الأطـ
…
راف تغشي أماكن الأشراف
وجلوسي عن التصرف والأر
…
ض لمثلي رحيبة الأكناف
ليس عن ثروة بلغت مداها
…
غير أني أمرؤ كفاني كفافي
هذا وقد كان البحتري أقعد في الشعر (1)، وأعلم بموسيقاه، وأقدر عليها من حبيب لأن حبيبا كان من أصحاب الصناعة والفكر والترنم عن طريق الفكر. بينما كان البحتري من أصحاب الصناعة والانسياب معا، وممن يفكرون بالعقل والقلب معا، وممن يدركون أن جمال الجرس لا يتسنى عن طريق تسخير الجناس
والطباق للمقابلات المعنوية، وإنما عن جعل الجناس والطباق يسايران المقابلات المعنوية، فينزويان حين تبرز، ويبرزان حين تنزوي. وهذا سر إعراضه عن جناس المجاز، وإكثاره شيئا من جناس المتشابه وجناس الاشتقاق، على النحو الذي تمثلنا به.
ثم إنه قد أدراك من حقيقة الجناس الحرفي السجعي، ما غاب عن أبي تمام. فافتن فيه افتنانا ينظر بعين إلى منهج الجاهلين، وبأخرى إلى حاجة الزخرفة التي يتطلبها عصر وبيئته. وسينيته من أبلغ الأمثلة في هذا الصدد، خذ قوله فيها:
لا ترزني مزاولاّ لا اختباري
…
عند هذي البلوى فتنكر مسي
وقديماّ عهدتني ذاهنات
…
آبيات على الدنيئات شمس
ولقد رابني نبو ابن عمي
…
بعد لين من جانبيه وأنس
وإذا ما جفيت كنت حريا
…
أن أرى غير مصبح حيث أمسي
(1) لا يذهبن القارئ (من أجل قولي هذا) إلى أني أستحسن الأبيات الفانية التي ذكرت، فيها فهي عندي من رديء كلام البحتري. أما كون البحتري أفقد في الشعر فهذا من جهة أنه لو لم يكن شاعرا لم يكن بشيء يذكر وليس كذلك حبيب والله أعلم.
حضرت رحلي الهموم فوجهـ
…
ت إلى ابيض المدائن عنسي
أتسلى عن الحظوظ وآسي
…
لمحل من آل ساسان درس
فهنا تجد تكرار الراء في البيت الأول، وصيغة المؤنث السالم في الثاني، والباء والنون في الثالث، والحاء في الرابع، والسين في السادس. والفرق بين هذا النوع من التكرار والتكرار الجاهلي، هو أن البحتري جمع بينه وبين أصناف من توشية الجرس، كالمزاوجة اللفظية والتقسيم والطباق.
وهاك مثالا آخر قوله:
طربت بذي الأراك وشوقتني
…
طوالع من سنا برقٍ كليل
وذكرنيك والذكرى عناء
…
مشابه فيك بينة الشكول
نسيم الروض في ريح شمال
…
وصوب المزن في راحٍ شمول
عذيري من عذول فيك يلحي
…
على ألا عذيرٌ من عذول
تجرمت السنون ولا سيبل
…
إليك وأنت واضحة السبيل
وقد حاولت أن تخد المطايا
…
إلى حي على حلب حلول
تأمل مجانسة الريح والراح، والشمال والشمول في البيت الثالث، فهذا من الجناس المتشابه. وتأمل تكرار الحاء في البيت الأخير، فهذا من الصنف السجعي القليل الورود عند أبي تمام، الكثير عند القدماء.
وخلاصة القول في البحتري أنه عدل عن مذهب أبي تمام في المقابلات، إما بالتنويع كالمثال الذي ذكرناه من ديباج الخدود، وإما بالتكرار المحض كما في قوله:
عفت الرسوم وما عفت أحشاؤه
وأكثر البحتري من جناس المتشابه شيئا. ورجع إلى مذهب القدماء في الجناس السجعي والمزدوج. ولم تكن رجعته هذه عدولاّ عن طريقة أبي تمام، وإنما