الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفريق الشمل". وعلى هذا يكون حذف النتيجة في البيتين لفظيًا لا حقيقيًا.
والغالب على مذهب أبي تمام، إما ذكر النتائج ومقدماتها، وإما حذفها بعد أن يحشد لها من القضايا ما يدل عليها. وهذا شبيه بمذهبه في التأني والتصنيع المحكم.
الخطابة والإخبار:
تظهر صيغة الخطابة في الطباق الازدواجبي حين يقرر الشاعر معيين متقابلين، أو يحمل واحدًا منهما على الآخر بقصد التأكيد والمبالغة، مثال الأول قول أبي الطيب:
متى لحظت بياض الشيب عيني
…
فقد وجدته منها في السواد
ومثال الثاني قوله:
ومن يك ذا فم مر مريض
…
يجد مرا به الماء الزلالا
ويمكننا أن نجمل القول فنحكم بأن الطباق الازدواجي لا يتجلى فيه عنصر الخطابة، إلا إذا كان داخلا في حيز الطباق الذي يجمع بين النقائض، أو الطباق الذي يذهب مذهب القياس. وسنذكر تفصيل ذلك فيما بعد.
وتظهر صيغة الخبر في الطباق الازدواجي، إذا عمد الشاعر إلى تأكيد معنى بعرض مناقضه إلى جواره، وليس غرضه من غرض المناقض إلا إظهار المعنى الأول. كما في قول كعب الغنوي:
لقد كان أما حلمه فمروج
…
علينا وأما جهله فعزيب
فكون جهله عزيبًا يؤكد كون حلمه مروحًا عليهم. والمزاوجة هنا عروضبة صرفية في الجهل والحلم، موضعية في المروح والغريب.
ونحو من هذا قول حبيب:
طال الظلام أم اعترته وحشة
…
فاستأنست لوعاته بسهادي؟
فذكر استئناس لوعات الظلام بسهاد الشاعر، يؤكد معنى قوله:"اعتريه وحشة". والمزاوجة هنا موضعية، لأن "فاستأنست" مناظرة لقوله:"اعترته وحشة".
ومن هذا القري قوله أيضًا.
بياض العطايا في سواد المطالب
وقد أرب الشاعر هنا إذ أدخل الطباق في حيز التشبيه، لأنه افتعل زهرة خارجها المطالب السود، وباطنها العطايا البيض، وجعل ذلك مشبها للنور الذي تفتحه الصبا. وسواد المطالب يؤكد بياض العطايا.
والطباق الذي يعمد فيه الشاعر إلى الجمع بين النقيضين في حكم واحد، أو حمل أحدهما على الآخر، خطابي المنحى من جوهره وسنخه، ويزيد لونه الخطابي وقوع التزواج فيه، مثل قول أبي الطيب:
ولكن ربهم أسرى إليهم
…
فما نفع الوقوف ولا الذهاب
وقوله:
فصبحهم وبسطهم حرير
…
ومساهم وبسطهم تراب
والحرير والتراب كما ترى متوازنان. والتراب نقيض للحرير، وحمله الشاعر عليه ليؤكد معنى الإدقاع، إذ من يبسط التراب ويتوسده، حري ألا يكون عنده الصوف أو القطن، بله الحرير، وحري ألا يكون عنده شيء.
ويجري هذا المجرى قوله:
ومن فيكففه منهم قناة
…
كمن في كفه منهم خضاب
أي صار ذكرهم كالأنثى من العجز، وهذا كمثل قوله "يحهد مرا به الماء الزلالا" ومجيء الطباق الازدواجي مع هذا النوع النقيضي من الطباق، لا يعني الخطابة ضربة لازب. ومع أن هذا النوع تغلب عليه الخطابة وهي من جوهره، يقع إيراده على أسلوب الخبر، كثيرًا عند الشعراء المتأنين، وأكثر ما يفعلون ذلك بأن يقدموا الحكم، ثم يفرعوا عليه بذكر النقائض، هب، مثلا، أبا الطيب لم يقل:
ولكن ربهم أسرى إليهم
…
فما نفع الوقوف ولا الذهاب
ولم يقل:
ومن يك ذا فم مر مريض
…
يجد مرا به الماء الزلالا
ولم يقل:
فصبحهم وبسطهم حرير
…
ومساهم وبسطهم تراب
ولكن قال:
ولكن ربهم أسرى أليهم فما انتفعوا بشيءـ لم يغن عنهم الوقوف ولم يغن عنهم الذهاب.
وقال:
ومنا يك ذا فم مريض يجد كل شيء مرا، حتى الماء الزلال.
وقال:
فصبحهم وهم أغنياء بسطهم الحرير، ومساهم وهم فقراء ليس عندهم شيء ولا بساط لهم إلا التراب.
لو كان قال هذا، لكان أسلوبه قد انتقل من الخطابة إلى الإخبار. ومثل هذا
الإخبار قد يبدو خطابيًا في النثر، ولكنه ليس بخطابي في الشعر، أروحه الخطابي ضعيف جدًا، على أقصى تقدير، ومثال ذلك قول حبيب:
وصيروا الأبرج العليا مرتبة
…
ما كان منقلبًا أو غير منقلب
فقد سبق له تقديم أنهم صيروا الكواكب جميعها، والنجوم كلها مرتبة. ثم ذكر المنقلب وغير المنقلب تفريعًا على ذلك. وهذا كما ترى من طباق التكرار.
ومثل قوله:
بكر فما افترعتها كف حادثة
…
ولا ترقت إليها همة النوب
فقد قدم أنها بكر، وذكر الافتراع بعد ذلك تفريعًا.
ومثل قوله:
وحشية ترمي القلوب إذا اغتدت
…
وسنى فما تصطاد غير الصيد
لا حزم عند مجرب فيها ولا
…
جبار قوم عندها بعنيد
فقد قدم أنها تصطاد الصيد، والبيت الثاني تعقيب وتفصيل. ولو كان المتنبي أراد هذا المعنى لاختصره وقال مثلا:"إذا نظرت هذه الوحشية، قهرت الأصيد والمجرب والجبار" بل لعله كان يقول: "قهرت الجبار" ويكتفي بذلك، حاملا الجبروت على نقضيه القهر.
وأحسب أنك قد تبينت موضع المزاوجة الموضعية في البيت الثاني. ومع هذا، فإن ذلك لم يخرج البيت في جملته عن مذهب الإخبار.
وهنا، ينبغي أن ننبه على أن الخطابة والإخبار في هذا الباب خاضعان إلى مدى بعيد لعامل النسبية. فكلام أبي تمام المذكور، خطابي إن قيس إلى ما هو أشد تأنيًا وتأتيًا من كلامه الوارد في البحور المتريثة. ولكن خبري بالقياس إلى جرير
والمتنبي. ثم لا ننسى أن الطباق في جملته وتفصيله ينحو منحى الخطابة. فتقسيمنا له إلى ذي خطابة وذي إخبار تقسيم فرعي، وكأنما نريد أن نقول: خطابي خطابي، وخطابي خبري. وإذا وضح هذا من مذهبنا، فإن القارئ لن يلقى عنتًا في التوفيق بينه وبين ما سبق لنا تقديمه بمعرض الكلام عن ألوان بحور الشعر.
هذا، والطباق القياسي يكون خبري المذهب، إذ ذكر الشاعر فروع القضايا ووضح المقدمات، مثل قول أبي تمام:
فطول مقام المرء في الحي مخلق
…
لديباجتيه فاغترب تتجدد
فكأنه أراد أن يلقي بالنتيجة "اغترب تتجدد" ثم توهم سؤالا "لماذا؟ " فأورد البرهان: "لأن طول المقام مخلق". فهذا الكلام واضح المقدمات والبراهين كما ترى. وكأن أبا تمام لم يكتف بما ذكره في البيت، فأردفه بآخر، وهو قوله:
فأني رأيت شمس زيدت محبة
…
إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
ومثال آخر قوله:
أعطي ونطفه وجهي في قرارتها
…
تصونها الوجنات النضرة القشب
لا يكرم الظفر المعطى وإن أخذت
…
به الرغائب حتى يكرم الطلب
فالمقدمات والنتائج واضحة هنا.
ومثال ثالث قوله:
كانت لنا ملعبًا نلهو بزخرفه
…
وقد ينفس عن جد الفتى اللعب
فالنتيجة هنا جزئية، وقدم لها الشاعر ما يناسبها.
ويظهر المذهب الخطابي في الطباق القياسي حين يختصر الشاعر المقدمات،
ويختزل البراهين، وهذا مذهب المتنبي، وقد كان جسورًا، يطلب لنهج الواضح، ودفع الشك، والبت وطرح التردد. خذ قوله:
أرى المتشاعرين غروا بذمي
…
ومن ذا يحمد الداء العضالا
وازن بين هذا، وكلام أبي تمام الأول. تجد أن المتنبي حذف كثيرًا، واختصر المقدمات اختصارًا، وفعل مثل ذلك في النتائج، وأثبت في ذهنك أمرًا واحدًا هو أنه داء عضال بالنسبة إلى المتشاعرين. وهذا الوسيط المهم بين القضية الأولى والقضية الثانية حذفه اقتدارًا من هو ثقة أنك ستعرفه. ثم لا تنس أن هذا الوسيط المحذوف، هو المقصود من كلام المتنبي، دون القضية الأولى والنتيجة. وهذا منه غاية الحذق، ثم إنه لما أردف البيت السابق بآخر، هو قوله:
ومن يك ذا فم مر مريض
…
يجد مرا به الماء الزلالا
لم يفعل هذا من أجل البرهان كما فعل أبو تمام في قوله: "فإني رأيت الشمس زيدت محبة"- وإنما فعل ذلك من أدل التأكيد والمبالغة. ألا تراه كأنما أراد أن يقول لكفي البيت الأول: "أنا داء عضال على المتشاعرين، فلذلك يذمونني"؛ ثم أردف هذا بقوله: "وقد أمرضتهم، فهم يجدون حلاوة كلامي مرة". وهذا تأكيد لكونه داء عضالا؟ ولعل هذا الشرح لكلام المتنبي يوضح مواضع الحذف فيه. ولو قد جاء حبيب به لجاء به مشروحًا هكذا. وقد أنصف المقاد القدماء حين شبهوا أبا تمام بالقاضي العدل، الذي يريد أن ينصف، فيضع كل شيء مواضعه، ولا يسلم من تشكك، وحين شبهوا المتنبي بالشجاع الفاتك الذي يهجم على ما أراده ويخطفه.
وهاك مثالا آخر من شعر المتنبي، قوله:
أشد الغم عندي في سرور
…
تيقن منه صاحبه انتقالا
فاجعل هذا بإزاء قول أبي تمام إن الظفر لا يكرم حتى يكون الطلب كريمًا،