الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقدمت لم تر للحمية مصدرًا
…
عنها ولم ير فيك قرنك موردا
لما زهدت في جمع الغنى
…
ولقد رغبت فكنت فيه أزهدا
فالمال أني ملت ليس بسالمٍ
…
من بطش كفك مُصلحا أو مفسدا
ولا يخفى كل ما في هذا من التصيد العقلي للصور التي يمكن استخدامها في خلق مقابلات لفظية. ونحو هذا كثير في شعر حبيب البحتري والذين جاءوا بعدهم، واتبعوا أسلوبهم. وهو يقوى ما ذكرناه من قبل، من استحواذ الذوق الزخرفي (الأربسكي) على نفوس المحدثين، وشدة عبثه بأساليبهم. ولعل أبا الطيب المتنبي، وحده شذ عن هذه القاعدة، ونظر في مطابقاته إلى الأسلوب القديم. وسنتحدث عن سر هذا من طريقته في باب التقسيم إن شاء الله.
خلاصة:
1 -
كان القدماء يعنون بالطباق هذه الأشياء المتوازنة الكثيرة التي ترد في الشعر، مثل مقابلة الأضداد، ومقابلة المنفي، بغير المنفي ووضع تركيب مكان تركيب.
2 -
بوب النقاد المتأخرون هذه الأشياء التي كانت تعرف باسم المطابقة، أبوابًا كثيرة، جعلوا الطباق احدها، وحدّوه بأنه الجمع بين الشيء وضده. وجعلوا المقابلة قسمًا آخر وحدوها بأنها إعطاء كل شيء حكمه، بما يوافقه أو يخالفه. وأضاف ابن رشيق إلى هذا التعريف عدم اشتراط الموافقة والمخالفة.
3 -
يؤخذ على المتأخرين أنهم اضطربوا في التفرقة بين الطباق والمقابلة، كما قد اضطربوا في تعريف الطباق نفسه.
4 -
عرفنا الطباق بأنه مباراة كلام سابق بما يناقضه، على سبيل التكرار المضمر أو الظاهر، بواسطة النفي المضمر أو الظاهر؛ فمثال التكرار المضمر: لا
أحلم وأجهل، ومثال النفي والتكرار الظاهرين: أعلم ولا أعلم. ومثال النفي والتكرار المضمرين: الليل والنهار.
5 -
الطباق من حيث ماهيته ثلاثة أقسام: محضٌ، وهذا نادر الورود، كالذي يجيء في الإخبار المحض من قولك: هذا حلوٌ مرٌّ. وجزئي كقولك: ضحك وبكى. وكلي: وهو الذي يقع بين التراكيب، وما من تكرار كلي إلا وتحته طباق جزئي. ولك أن تسمي الطباق الكلي بالمقابلة. كما لك أن تأخذ على القدماء اشتراطها في المقابلة وقوع أكثر من ضدين، بدليل بيت زهير:
ليثٌ بعثر يصطاد الرجال إذا
…
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
6 -
وينقسم الطباق بحسب أنواعه إلى ثلاثة أقسام: (أ) ازدواجي: وهو مـ روعيت فيه موازنة الأضداد، إما من حيث الوزن الصرفي أو العروضي، كقولك: طريفٌ وتلادٌ وتليدٌ، وهذا يمكن إدخاله أيضًا في باب الجناس الازدواجي؛ وإما من حيث موضع الكلمة في التركيب، وهذا سميناه طباقًا ازدواجيًا موضعيًا. (ب) وطباق الجمع بين الأضداد بغرض التأكيد، وهذا إما أن يعمد الشاعر فيه إلى الحصر والاستقصاء، كالذي فعله أبو الطيب في قوله:
فلا ليلٌ أجن ولا نهارٌ
…
ولا خيلٌ حملن ولا ركاب
وإما أن يحمل الشاعر فيه النقيض على نقيضه ادعاءً ومبالغة كما فعل أبو الطيب في قوله:
ومن يك ذا فمٍ مر مريضٍ
…
يجد مرا به الماء الزلالا
(جـ) وطباق القياس، وهو إما أن يذكر الشاعر فيه مقدماته واضحة، وإما أن يحذف منها اعتمادًا على السامع.
7 -
وينقسم الطباق بحسب الأداء إلى خطابي وإخباري أو تقريري. وهذا نسبي، فقد يكون الكلام بالنسبة إلى شاعر بعينه مذهبه الأناة والتمهل خطابيًا، ولكن إذا قيس إلى جنب كلام من هم أدخل وأقعد في مذهب الخطابة، بدا كأنه إخباري، وأوضح ما يكون مذهب الخطابة في الأنواع السالفة، أن تحذف المقدمات في طباق القياس، وألا يذكر شيء جامعٌ نتدرج تحته المتناقضات في طباق الجمع، وأن تكون المطابقة الازدواجية، في الطباق الازدواجي داخلةً في حيز القياس، أو الجمع بين النقائض. ويتجلى عنصر الإخبار في هذا النوع، إذا عمد الشاعر إلى تقوية أمر بذكر نقيضه، وفي النوع الذي يجمع بين المتناقضات، إذا قدم قبله أمرًا يصلح إدخال هذه المتناقضات تحته، وفي القياسي، إذا ذكرت النتائج ووضحت المقدمات، أو افتن الشاعر في عرض المقدمات بحيث تكون النتائج واضحة.
8 -
ليس الطباق بفن من فنون المولدين الخالصة، فهو كثير في أشعار القدماء، وكان مذهب القدماء فيه، مبنيًا على طلب الموازنة بين المعاني، ولكن مذهب المحدثين مبني على طلب المقابلة والمعادلة الهندسية بين الألفاظ والتراكيب، بحسب ما اقتضى حبهم للزخرف.
9 -
من المهم أن نتبين الفرق بين الطباق والجناس من حيث جوهرهما وسنخهما في طبيعة الصناعة الشعرية، والجرس اللفظي. فالجناس عامل يظهره أثره في وحدة الجرس، والطباق عامل يظهر أثره في تنويع هذه الوحدة. ولما كان الأمر كذلك، فان عنصر التحديد الذي أدخله المولدون في باب الجناس، ويبدو أوضح وأظهر من ذلك الذي أدخلوه في باب الطباق.