الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الماضي ويحاول نسبة الأسلوب القديم الخالي منها، إليها ويحاول أن يعرف سبب خلوه منها، وكيف أمكن أسلوبًا جاء بعده أن يتصف بها.
هذا، وشعر المولدين في جملته قليل الترصيع. وإنك لتجد أمثال حبيب، ممن كانوا يُبالغون في التصنيع، ويتكلفون له الكلف، لا يتعاطون الترصيع والتقطيع إلا أحيانًا، وكأنما يتظرفون به تظرفًا، وأكثر ما يجيء ذلك منهم في البحر الكامل، وقد تجي لهم أشياء في الخفيف. والغالب على مذهبهم، التقسيم الخفي، أو الشبيه بالواضح، على أسلوب زهير. وحتى هذا، ليس بكثير عندهم. وكأنهم قد اكتفوا من القسمة بأشطار البيت، وإتمام الوزن، من دون مُزاحفة، أو تعاطي شيء من الرخص، التي كان يتعاطاها القدماء، وهذا أشبه بمذهبهم في طلب الإحكام والهندسة.
وقفة عند المتنبي
على أن المتنبي، من بين المحدثين، كان يُكثر من التقسيم، وقد نبه الثعالبي إلى هذه الظاهرة من شعره، ومدحها، وأطنب في ذلك، وتمثل له بأشياء منها، زعمها أحسن من تقسيمات إقليدس (1) وقلت قصيدة للمتنبي تخلو من هذا الصنف ولا سيما شعر شبابه الأول، كبائيته في أبي المغيث العجلي، التي يقول فيها متغزلاً:
ناءيته فدنا، أدنيته فنأى
…
جمشته فنبا، قبلته فأبى
وقال حين تخلص:
مرت بنا بين سربيها فقلت لها
…
من أين جانس هذا الشادن العربا؟
فاستضحكت، ثم قالت، كالمغيث: يرى
…
ليث الشرى، وهو من عجل إذا انتسبا
(1) يتيمة الدهر: 1: 194.
جاءت بأشجع من يسمى، وأسمح من
…
أعطى، وأبلغ من أملي، ومن كتبا
لو حل خاطره في مُقعد، لمشى
…
أو جاهل، لصحا، أو أخرس خطبا
ومقطع القصيدة قوله:
فالموت أعذر لي، والصبر أجمل بي
…
والبر أوسع، والدنيا لمن غلبا
وقصيدتاه: "سرب محاسنه حُرمت ذواتها" و"أهلاً بدار سباك أغيدها" مشحونتان بهذا الصنف، والترصيع فيهما واضح المكان ناصعه. وكذلك كلمته في بدر ابن عمار:
أصبحا نرى، أم زمانًا جديدًا
…
أم الدهر في شخص حي أعيدا
ومن تقسيمه الذي يُستشهد به، في إحدى لامياته السيفيات:
معطى الكواكب، والجرد السلاهب، والـ
…
بيض القواضب والعسالة الذبل
ضاق الزمان، ووجه الأرض، عن ملك
…
ملء الزمان وملء السهل والجبل
فنحن في جذل، والروم في وجل
…
والبر في شإل، والبحر في خجل
ليت المدائح تستوفي مناقبه
…
فما كليب، وأهل الأعصر الأول
خُذ ما تراه، ودع شيئًا سمعت به
…
في طلعة الشمس ما يُغنيك عن زحل
وأحيلك من قصائده السيفيات، على بسيطياته، مثل:"عُقبى اليمين على عُقبى الوغى ندم"، و"غيري بأكثر هذا الناس ينخدع". فالتقسيم كثير فيها ومما يستشهد به من وافرياته قوله:
أقمت بأرض مصر، فلا ورائي
…
تخب بي الركاب، ولا أمامي
قليل عائدي، سقم فؤادي
…
كثير حاسدي، صعب مرامي
عليل الجسم، ممتنع القيام
…
شديد السكر، من غير المدام
وزائرتي كأن بها حياء
…
فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطاف والحشايا
…
فعافتها، وباتت في عظامي
وهذا شبيه بنفس امرئ القيس في كلمته "أحار بن عمرو"، على أن البحر مختلف. ويعجبني له، قوله من إحدى قصائده في سيف الدولة:
سقتني بها القطر بلي مليحة
…
على كاذب من وعدها، ضوء صادق
سهاد لأجفان، وشمس لناظر
…
وسقم لأبدان، ومسك لناشق
وأغيد يهوى نفسه، كل عاقل
…
عفيف، ويهوى جسمه، كل فاسق
يُخبر عما بين عاد وبينه
…
وصدغاه في خدي غلام مراهق
وما الحسن في وجه الفتى شرفًا له
…
إذا لم يكن في فعله والخلائق
وعندي أن هذه الأبيات من أفصح ما نطق به اضطراب عاملي الحضارة والبداوة في نفس المتنبي. وألفت نظرك إلى هذه الغانية التي تعد الشاعر وعدًا يريده هو أن يكون كاذبًا على حسب ما توجبه مقاييس البداوة في الحب والغزل ويعجبه في نفس الوقت، أنه وعد غير كاذب، وأنه ليس بوعد أعرابية بخيلة، تحميها الغيرة والصوارم والقنا، وإنما هو ووعد قينة من قيان حاضرة، لا تعرف من الصدود إلا اسمه.
وألفت نظرك أيضًا إلى هذا الأغيد الذي نظر المتنبي إلى جسمه، كما كان ينظر أبو تمام إلى غلمان الترك والخزر، وأعجبه منه ما كان يُعجب الأذواق الحضرية المنحرفة، التي كان يعيش في دنياها، ثم أبت له كبرياؤه البدوية بعد، إلا أن "يغالط في الحقائق نفسه"، ويدعي أنه لم يعجبه من هذا الأغيد غيده وجماله ولكن أعجبته منه نفسه وخلقه، وأعجبه ذكاؤه كما أعجبه علمه "وأنه كان يخبر عما بين عاد وبينه"، ولعله كان يعرف النحو والصرف، ويحفظ كتابي الكامل والفصيح، ويروي أشعار تنوخ وهذيل. ولا ارتاب لحظة في أن المتنبي كان يشعر بالخطيئة، وهو يقول هذا الكلام، خطيئة من سمح لنفسه البدوية الفطرية، أن تستحسن هذا النوع من
الجمال، المحرم في قانون البداوة والفطرة، وأن تنظر إليه بشره كما كان ينظر خلعاء المحدثين. ولا يخدعنك ما في ظاهر هذا الكلام من الفخر بالعفة، وبالحب الذي يكلف بالنفس دون الجسم، فإنما هو ضرب من معاتبة النفس وتقريعها. وفي طيه من التعقد النفساني أشكال وضروب. وبحسبك أن تنظر إلى قوله:"ويهوى جسمه كل فاسق"- ما الذي دعاه إلى ذكر جسمه؟ ألا تجده كأنما يريد أن يقول لنفسه، مالك والغرام بجسم هذا الغلام، إنما يفعل ذلك الفساق! وأنظر إلى قوله "وصدغاه في خدي غلام مُراهق"
…
ولا تظن أنه قد أراد به مجرد الدلالة على صغر السن، فإن موضع التأمل للصدغ والخد بين هنا. ولا تنس أن الغلمان في ذلك الزمان، كانوا يفتنون في زينة أصداغهم وليها وعقصها، حتى سمى الشعراء خصل الشعر التي تتدلى على هذا النحو:"واوات الأصداغ". وأشهد لقد نظر المتنبي نظرة عارمة!
ولا أريد أيها القارئ أن أتهم أبا الطيب بحب المذكر، وعمل قوم لوط، فلست ممن يمتري في صدقه حين يزعم أنه لم يكن يريد ما يريد الفساق، وإنما الذي أمتري فيه هو ما ادعاه من أفلاطونية محضة، وعزوف خالص. وما أرى عفته وعزوفه عن العشق، إلا قد كان ذلك نتيجة شعور منه بالخزي والندم، على أنه قد أحس من الضعف في نفسه ما كان ينعاه على أولئك الحضريين، الذين كان يحتقرهم، ويؤذيه نفاقهم وزيفهم. ومما يؤيد مزعمي هنا، قوله في هذه الأبيات نفسها:
وما الحسن في وجه الفتى شرفًا له
…
إذا لم يكن في فعله والخلائق
فهذا البيت. أقرب لأن يكون نُصحًا منه لنفسه، لا تبريرًا لمذهبه في العشق الأفلاطوني ولا تنس موضع كلمة "الحسن" من هذا البيت، فهي تنضج بألوان من الشعور.
هذا، وفي كتاب "الصبح المنبني، عن حيثية المتنبي" ليوسف البديعي (1)
(1) راجع الخبر في "الصبح المبني، عن حيثية المتنبي»، طبعة دمشق ص 50.
خبر ينسبه إلى أبي الفرج الببغاء، فقد زعم الببغاء، أنه كان من أثراء المتنبي، وخاصته، وأنه أوصل إلى المتنبي ذات ليلة غلامًا، فلما مضى قطع من الليل، دعا أبو الطيب بسرجه فأوقدت، وبدفاتره فأحضرت، وجعل يقرأ والغلام قاعد لا يريم، حتى ذهب من الليل معظمه، ثم صرف أبو الطيب الغلام، بعد أن أمر بأن يُدفع له ثلاثمائة درهم. واستكثر الببغاء هذا العطاء، وقال للمتنبي إن الغلام رخيص، ولا يستحق ما أمر له به. واعتذر المتنبي عن إسرافه، بأن العطية ينبغي أن تكون على قدر المعطي لا الآخذ. فإن صحت هذه القصة (1) فإن فيها أشياء كثيرة تفسر لنا ما رويناه من هذه الأبيات القافية.
منها، هذه الدعوى الطويلة العريضة، أن الغلام كان عالمًا، يعرف أخبار ما بين عاد وبينه، فهل تخيل المتنبي- وهو يُحلي مجلس درسه بهذا الأغيد، كما يُحلي بعض الأدباء اليوم مجالس درسهم بسماع الموسيقا- أن أبا عبيدة والسكري والشيباني والأصمعي حين كانوا يخبرونه الأخبار، من خلال الأسطار، إنما كانوا ينطقون بلسان الجمال الناطق، على صدغ هذا الغلام المراهق؟
ومنها: ما أدعاه للغلام من شرف الخلق، كأنه يرد بهذا على دعوى الببغاء! الذي نسب الغلام إلى الرخص والدناءة، وأن الخلوة معه لا تساوي ثلاثمائة درهم.
والحق أن المتنبي قد كان بدويًا قحًا، نشأة وغريزة، وتركيبًا، وكل الذي أصابه من الدرس والعلم والتحصيل، إنما كان مُغامرة كبيرة، جعلته يَصلى بنار الحضارة العباسية المدنية، وجعلتها هي تَصلى بناره. ولقد لقي الرجل ما فرضه عليه
(1) مما يدفعنا إلى الشك في هذه القصة، والزعم بأنها من مخترعات الببغاء، أنه كان مبتلي بالغلمان. ثم قد روى له البديعي أخبارًا يستفاد منها القصد إلى عيب المتنبي. على أن كون هذه القصة مخترعة، في حد ذاته لا ينقص من قيمتها لدينا، لأنها إنما تمثل حالاً. وقد كان الببغاء فنانًا ماهرًا. راجع يتيمة الدهر:(1: 238، 242).
الدهر من مدح الأمراء، من كل من:
يستخشن الخز حين يلمسه
…
وكان يُبرى بظفره القلم
ودخول القصور، وشم الرياحين، ومجالسة المدنيين المتقعرين، ومحاولة الاندماج فيهم- قد لقي كل ذلك بغزيرة البداوة الصحراوية، غريزة الجمل وصبره، واحتماله للأثقال، ونهوضه بها. على أنه، رحمه الله، لم يخل من أن أصابه من المدنية التي أحتمل ثقلها، واحتملت ثقله، شيء شبيه بما يصيب الجمل الثقال، من دبر. فقد علق بقلبه حب كثير مما عرضته عليه حضارة حلب والعراق. ألم ينظر إلى عراقيب الحضريات الصقيلات، وأوراكهن الماثلات، حين قال:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
…
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام ماثلة
…
أوراكهن صقيلات العراقيب
ألم ينظر بعين شرهة أو ظامئة، إلى الأغيد في قوله:
وأغيد يهوى نفسه كل عاقل
…
عفيف ويهوى جسمه كل فاسق
ألم يصرح بعد أن انحلت عقدته بفارس، أنه خلا بشامية مُحجبة، لعلها خولة أخت سيف الدولة، وأنه غازلها كأرق ما يُغازل حضري عف حضرية عفة، وذلك قوله:
شامية طالما خلوت بها
…
تبصر في ناظري مُحياها
فقبلت ناظري تُغالطني
…
وإنما قبلت به فاها
أحب حمصًا إلى خُناصرة
…
وكل نفس تحب محياها
حيث التقى خدها وتفاح لُبنا
…
ن وثغري على حُمياها
وصفت فيها مصيف بادية
…
شتوت بالصحصحان مشتاها
هذا من الشعر العزيز! أراد أن يقول: جلسنا مجلسًا كان فيه التفاح والخمر، وكان فيه التقبيل والحديث الناعم. وكان فيه خدها المتألق، وثغرها المترقرق، فلم يتسع له البيت، حتى يقول ذلك مُفصلاً. فجمعه لك كله جمعًا على هذا النسق، وتركك تحدس ما أراد. وعندي أنه أراد ثغرها حين قال "ثغري". وأراد أنه كانت ثم مُدامة حين وصف ثغرها بالحميا.
وقال في هذه القصيدة نفسها:
في بلد تُضرب الحجال به
…
على حسان ولسن أشباهًا
فيهن من تقطر السيوف دمًا
…
إذا لسان المُحب سماها
تبل خدي كلما ابتسمت
…
من مطر برقه ثناياها
ما نفضت في يدي غدائرها
…
جعلته في المدام أفواها
وهنا لا يريد أنها تملأ خديه بُصاقًا. كما توهم بعض السخفاء. وإنما حمل هذا الكلام على التذكر. فتذكر بكاءها وهي تبكي، وابتسامها وهي تبتسم، ومناجاته لها، على الكأس، في الخلوة الآنسة، وتلماسه. في رفق غدائر شعرها المضمخة بالطيب، وما تنفضه هذه الغدائر على أنامله من المسك والعرف المُندي، وكيف كان يغمس هذه الأنامل في الكأس، يطيبها بذلك، ثم يضعها في فمه، استمتاعًا بهذا الغرام العنيف- تذكر أبو الطيب كل ذلك، وجمعه جمعًا كما ترى، بحيث لو فسرت الألفاظ على ظاهر تركيبها، لم تحصل على شيء، وإنما سبيلك أن تحاول النفوذ إلى أعماقها، وتنظر إلى جوهر المعنى الذي أراده الشاعر. وقد فسر ابن جنى هذه الأبيات كما فسرناها. ولا شك أنه قد أخذ تفسيره عن المتنبي نفسه (1).
(1) راجع شرح العبكري 4: 271.
وبعد، فلعل هذا كله يثبت عندك، أن المتنبي قد علق بقلبه شيء كثير من حب الحضارة، ولا يصرفنك عن درك هذه الحقيقة، ما تجده في كثير من شعره الذي يتعرض فيه لذكر محاسن عصره، من نفحة سُخط، ومرارة وزراية، كما في الأبيات البائية، والأبيات القافية؛ فأرجح الاحتمالات عندي أن تلك الزراية كانت موجهة منه إلى نفسه. إذ نظر نظرة استحسان إلى هذه المفاتن الحضرية، ولعله كان يرى أن في مثل هذه النظرة نوعًا من الخيانة للقيم البدوية، التي قد سيطت بلحمه ودمه. وقد صرح باضطراب نفسه بين الميل إلى المقام في ظل الحضر، والميل إلى الشظف وعيش البداوة، في قصيدته النونية المشهورية:
مغاني الشعب طيبًا في المغاني
وذلك قوله في شعب بوان:
يقول بشعب بوان حصاني
…
أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم، سن المعاصي
…
وعلمكم مفارقة الجنان
وإنما وقع له هذا التصريح بدخيلة نفسه لما اطمأن شيئًا بفارس، والغالب على مذهبه الكتمان والصبر، وعض الشكيمة، والتحمل على أية حال. وقد كان يجد من هذا التحمل مُتنفسًا في الرمز، يُفصح به عن هذه النيران البدوية، التي كانت متأججة في صدره، فيرمز أحيانًا بهذا العناء الحزين، الذي تجده في أوائل قصائده، وبهذه الغُربة التي يتغنى بها، وبهذه الأسفار التي يصفها، ويدعي القدرة على مقاساتها، والغنى عن الأوطان بها؛ - وما أظن التقسيم، كما استعمله المتنبي، إلا قد كان رمزًَا عروضيًا لفظيًا موسيقيًا، اتخذه ليرمز بدقاته القوية التي تُجاوب أصداء هُذيل، وتناغى امرأ القيس، من خلف غياهب القرون إلى هذه النزعة المتوحشة من قلبه، التي تعطو إلى الحضارة، لتنال من أشربتها الواقفات بلا أوان، ثم تنفر في حياء وهلع إلى مسارح الربد، ومرابض الحفان والعين ومكامن العصم، وسباسب المهرية القود.