الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما كان المقصود من علم البلاغة هو إظهار الإعجاز ودلائله، فلا يخفى أن نعت أي شيء من كتاب الله أو أحاديث رسول الله، بأنه ذو جرس وذو دندنة وذو موسيقا، أو مشتمل على صفة من صفات الغناء، يدخل في باب الزندقة. ولهذا فضل العلماء أن يستعملوا كلمة "الفصاحة" المشتقة من البيان والظهور، على استعمال أي كلمة تشتم منها رائحة الترنم والنغم، لوصف الجانب اللفظي من أسلوب القرآن.
ونحن في هذا العصر لا ننظر إلى الغناء أو الرسم أو أي من الفنون التي كانت يتحرج أوائلها منها، نظرة شزر. ونقاد الإفرنج الذين نقتري سبيلهم في منهج البحث، ما زالوا -مذ كانوا- يعدون الغناء والموسيقا من الفنون الرفيعة. وأثر الدين المسيحي في هذا لا يخفي، لأن العبادات والطقوس الكنيسية تعتمد كثيرًا على الترنم والآلات الطرب، فلا غرو أن تنبه النقاد الغربيون إلى دقائق في ناحية الرنين اللفظي، لم ينتبه لها العسكري وأضرابه.
فصاحة الكلمة والكلام
عالج علماء البلاغة ناحية الجرس باسم الفصاحة والسلاسة والطلاوة، في غير ذلك من الألفاظ، كما قدمنا، في بابين مهمين: باب المعاني، وباب البديع. والذي قيل في باب المعاني أهم بكثير في نظرنا، مما قيل في باب البديع، لأن البديع كله يدور على إحصاء المحاسن اللفظية وتسميتها. وأما المعاني فيبحث في الأصول التي تلزم للكلام الجيد، ويحاول إبراز ماهيتها، وتخريج وجوهها المختلفة، على منهج منطقي فلسفي.
والمبحث الذي يهمنا في باب المعاني، هو تلك المقدمات التي يبدأ بها البلاغيون عن فصاحة الكلمة والكلام. وأنقلها هنا مختصرة عن الصفحات الأول من قسم البلاغة، من كتاب المرحوم حفني ناصف "قواعد اللغة العربية"، وهو كتاب معروف مقرر في مدارس مصر والسودان. قالوا:
1 -
تكون الكلمة فصيحة إذا سلمت من الغرابة، ومن تنافر الحروف. ومثلوا للغرابة بنحو جحمرش، وللتنافر بنحو النقاخ والهعخع. ونظم هذه القاعدة صفي الدين الحلي في أبيات مشهورة، منها قول:
إنما الحيزبون والدردبيس
…
والطخا والنقاخ والعلطبيس
لغة تنفر المسامع منها
…
حين تروى وتشمئز النفوس (1)
2 -
ويكون الكلام فصيحًا إذا خلا من تنافر الكلمات، والتعقيد اللفظي، والتعقيد المعنوي، وضعف التأليف. ويفهم من هذا وجوب أن يتركب الكلام من كلمات فصيحة، فمثال التنافر قول الآخر:
وقبر حربٍ بمكانٍ قفر
…
وليس قرب قبر حربٍ قبر
وينسب هذا البيت إلى الجن، ويزعمون أنها قالته بعد قتلها حرب بن أمية. وكان قد نافر هاشم بن عبد مناف، فغلبه هاشم، وخرج أمية من مكة، فأصابته الجن في بعض الطريق.
ومثال التعقيد: قول أبي الطيب من كلمته "لك يا منازل":
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم
…
شيم على الحسب الأغر دلائل
ومثال التعقيد المعنوي: قول الآخر، أظنه العباس بن الأحنف:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
…
وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
فمراده من الجمود غامض.
وقول الطائي:
رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه
…
بكفيه ما ماريت في أنه برد
(1) ديوانه، طبعة بيروت 418 - 419.
وهذا مما عابه الآمدي، وزعم أنه خارجٌ عن مذهب العرب في نعت الحلم (1).
ومثال ضعف التأليف قول الآخر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ
…
وحسن فعلٍ كما يجزى سنمار
وبين القاعدتين الأولى والثانية خصوصٌ وعمومٌ. فلا بد للكلام الفصيح من أن تكون كلماته فصيحة. ولا يترتب على فصاحة الكلمات كون الكلام فصيحا. مثال ذلك بيت مسلم المشهور:
سلت وسلت ثم سل سليلها
…
فغذا سليل سليلها مسلولا
فكلماته إن أفردتها فصيحة، وهي معًا أبعد شيء عن الفصاحة، لمكان التنافر بينها، فيما زعموا.
ومثل هذا قول الطائي:
كريم متى أمدحه والورى
…
معي وإذا ما لمته لمته وحدي
فقد كرهوا توالي الحلقيين في "أمدحه أمدحه"، وعندي أن هذا ليس بقبيح. وتوالي الحلقيين كثير في الكلام الفصيح، منه قوله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]. والذي استشهد بكلام أبي تمام هذا، لم يتدبر قرآنه، ولا يحضرني اسمه.
هذا، والذي ذكره العلماء في باب فصاحة الكلام، فيه أشياء لا تمس "الجرس" من قريب، وإنما تتصل بباب الأسلوب والبيان، كالتعقيد المعنوي وضعف التأليف. [وذكرهما في التعبير من كلمة الفصاحة].
ويستنتج من قاعدة فصاحة الكلمة، أن الكلمات تكون حسنة وقبيحة في
(1) راجع الموازنة، تحقيق محمد محيي الدين، مصر 1944:26.
ذواتها وهذا كان رأي أكثر النقاد، ولا يزال يقول به جماعة من المعاصرين. وكان بعض القدماء ينكره، ويزعم أن الكلمات كلها حسنة في ذواتها، حتى يلحقها النظم، فتعلوا أو تسفل. ونقل ابن الأثير رأي هؤلاء، من دون أن يسميهم، ليخسر منه في مثله السائر (1). وابن الأثير كان من القائلين بنظرية الحسن والقبح في ذوات الكلمات، شأنه في ذلك شأن أبي الهلال العسكري، والجاحظ في البيان والتبيين. وعلى آراء ابن الأثير في الغرابة والتنافر اعتمد المتأخرون. وأنقل للقارئ هنا طرفا منها. قال، بعد أن مهد لقضيته بأن الألفاظ هي من حيز الأصوات:"فالذي يستلذه السمع منها، ويميل إليه، هو الحسن. والذي يكرهه وينفر منه، هو القبيح. ألا ترى السمع يستلذ صوت البلبل من الطير، وصوت الشحرور، ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب، وينفر عنه، وكذلك يكره نهيق الحمير، ولا يجد ذلك في صهيل الفرس؟ والألفاظ جارية هذا المجرى، فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة والديمة حسنة، يستلذها السمع، وأن لفظة البعاق قبيحة، يكرهها السمع. وهذه اللفظات من صفة المطر، وهي تدل على معنى واحد. ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة والديمة وما جرى مجراهما، مألوفة في الاستعمال، وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكًا، لا يستعمل وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة، أو من كان ذوقه غير سليم، لا جرم أنه ذم وقدح فيه، وإن كان عربيًا محضًا من الجاهلية الأقدمين. فإن حقيقة الشيء إذا علمت، وجب الوقوف عندها، ولم كان ظاهرًا بينا لأنه مألوف في الاستعمال. وإنما كان مألوفًا في الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مدرك. والذي يدرك بالسمع، إنما هو اللفظ، لأنه صوت يتألف من مخارج الحروف. فما استلذه السمع فهو الحسن، وما كرهه فهو القبيح (2) ".
(1) المثل السائر لابن الأثير، تحقيق محمد الصباغ 1282 هـ، ص 41.
(2)
المصدر نفسه: 41.
ويستنتج من كلام ابن الأثير هذا، أن الكلمة تكون قبيحة إذا كانت غريبة غير مألوفة، وكونها غريبة غير مألوفة ناشئ من قبح مخارجها. وهذا منطق فاسد، والأساس الذي بني عليه، وهو أن الألفاظ من حيز الأصوات، أساس واه، لأننا نستحسن أصوات البلابل، ونستقبح أصوات الغربان، من حيث أنها جرس محض. أما الألفاظ فلا نقدر أن نتصورها بدون معانيها. خذ مثلًا كلمة "نهيق"، أليست هذه الكلمة حكاية لصوت الحمار المجمع على قبحه؟ أهذا يجعلها قبيحة في ذاتها؟ لو جاز أن يقال هذا، لحرم على الشعراء أن يصفوا الأصوات القبيحة جملة، لا، لبطل التعبير عن مظاهر القبح الموجودة في الدنيا مرة واحدة.
ومما يؤخذ على ابن الأثير أيضًا، فرضه أن المألوف في الاستعمال من الكلمات كان وسيظل مألوفًا، لطبيعة حسنة راسخة في سنخه. وقد أباح لنفسه - دفاعًا عن هذه النظرية - أن يعيب على الجاهلي المحض استعمال كلمة "بعاق". والذي لا شك فيه. أن الكلمة ربما تكون مألوفة اليوم، غير مألوفة غدًا.
وقد ذهب عبد القادر الجرجاني إلى القول الذي كرهه ابن الأثير، من أن الألفاظ كلها متساوية، حتى يفرق بينهما النظم. قال: "
…
ينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي يكون بها الكلم إخبارًا أو أمرًا أو نهيًا أو استخبارًا أو تعجبًا، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة - هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة: تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها على ماهي موسومة به، حتى يقال: إن "رجلًا" أدل على معناه من "فرس" على ما سمي به؟ وحتى يتصور في الاسمين الموضوعين لشيء واحد أن يكون هذا أحسن نبأ عنه، وأبين كشفًا عن صورته من الآخر؟ فيكون "الليث" مثلًا أدل على السبع المعلوم من الأسد، وحتى أنا لو أردنا الموازنة بين لغتين، كالعربية والفارسية، ساغ لنا
أن نجعل لفظة "رجل" أدل على الآدمي الذكر من نظيره في الفارسية؟ وهل يقع في وهم -وإن جهد- أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ننظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم، بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعمله، وتلك غريبة وحشية؟ أو أن تكون حروف هذه أخف، وامتزاجها أحسن، ومما يكد اللسان أبعد؟ وهل تجد أحدًا يقول "هذه اللفظة فصيحة" إلا وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها؟ وهل قالوا:"لفظة متمكنة، ومقبولة"، وفي خلافة:"قلقة، ونابية، ومستكرهة" إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقًا للتالية في مؤداها؟ وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44]"، فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع، أنك ما وجدت من المزية الظاهرة، والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا، إلى أن تستقر بها إلى آخرها، وأن الفضل نتج ما بينها، وحصل من مجموعها؟ إن شككت فتأمل: هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت، لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية؟ قل "ابلعي" واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها. وكذلك فاعتبر سائر ما يليها. وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت ثم أمرت. ثم في أن كل النداء بـ "يا" دون "أي" نحو: "يا أيتها الأرض"، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: ابلعي الماء. ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها، نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها. ثم أن قيل "وغيض الماء"، فجاء بالفعل على صيغة "فعل" الدالة أنه لم يغض إلا بأمر آمر، وقدره قادر، ثم
تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: "وقٌضي الأمر". ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو "استوت على الجودي"، ثم إضمار السفينة قبل الذكر، كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة "قيل" في الخاتمة "بقيل" في الفاتحة. أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها، تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق؟ أم كل ذلك، لما بين الألفاظ والمعاني من الاتساق العجيب؟
قد اتضح إذن، اتضاحًا لا يدع مجالًا للشك، أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلمٌ مفردة. وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك، مما لا تعلق له بصريح اللفظ. ومما يشهد لذلك، أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر. هـ" (1).
ويؤخذ علي عبد القاهر، أن في كلامه نوعًا من التناقض، من حيث إنه يسلم أن الكلمات منها الغريب الوحشي، ومنها الذي يكد اللسان، ثم ينفي بعد هذا كله أن تكون الكلمات متفاضلة غير متساوية قبل أن يشملها النظم. وربما يعتذر لعبد القاهر عن هذا بأنه كان يرى الألفاظ في جملتها غير متفاضلة، وأن فضل المستعمل على غير المستعمل، والخفيف على الثقيل طفيف، بحيث يمكن تجاهله، وأن النظم إذا أجاده صاحبه، قد يسبغ على كلمة وحشية رونقها لا يتهيأ ولا يتأتي إذا وضعنا مكانها كلمة أخرى مألوفة، وقد يتيح لكلمة ثقيلة، تكد اللسان من العذوبة ما لا يتوفر لو استبدلناها بأخرى مما يحسب خفيفًا سهلًا.
ولابن الأثير أن يتعرض على هذا الاعتذار باعتراضات كثيرة: منها أن في تسليم عبد القاهر نفسه بأن في الكلمات ما يكون ثقيلًا كادًّا للسان من طبيعة مخرجه،
(1) دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، طبعة المنار الرابعة 1367 هـ ص 35/ 38.