الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"بنو ستاجيا" الصحراء. وهذا أمر سنفيض فيه بابٍ آخر إن شاء الله. ونكتفي هنا بضرب مثل واحدٍ من شعر زهير، قال يشبه ناقته بحمار الوحش، ويصف الحمار:
أذلك أم شتيم الوجه جأب
…
عليه من عقيقته عفاء (1)
تربع صارةً حتى إذا ما
…
فنى الدجحلان عنه والإضاء (2)
ترفع للقنان وكل فج
…
طباه الرعي منه والخلاء (3)
فأوردها حياض صنيبعاتٍ
…
فألفاهن ليس بهن ماء (4)
فشج بها إلا ماعز فهي تهوي
…
هوي الدلو أسلمها الرشاء (5)
كأن سحيلة في كل فجرٍ
…
على أحساء يثمودٍ دعاء (6)
فهنا ترى تكرار المواضع واضحا. وأمثال هذا كثير في الشعر القديم.
التكرار الصوري في المدح والفخر
قد يسلك الشاعر في المدح والفخر مسلك الخطابة، وذلك بتعداد الصفات
(1) مختارات الشعر الجاهلي 307 - يقول: أذلك الظليم -ومر ذكره في أبيات سابقة- يشبه ناقتي أم حمار شتيم الوجد جاب: أي غليظ العنق، لا يزال عليه عفاء من عقيقته: أي شعره الذي ولد به، والعفاء صغار الشعر بكسر العين.
(2)
تربع: رعى الربيع. صار: موضع الدحلان: جمع دحل، وهي الحفرة التي يكون فيها الماء. والإضاءة: جمع اضاة وهي الغدير
(3)
ترفع: سار مرتفعًا كل فج: برفع كل: مبتدأ، وطباه: خبرها، وطبى يطبي ويطبو بمعنى: دعا. وإذا جررت الكل فعلى العطف على القنان، وليس بجيد والخلاء: العشب.
(4)
صنيبعات: موضع.
(5)
الأماعز: جمع أمعز، وهو الطلب من الرض، وشج: بمعنى ضرب: أي سار بها يضرب الأرض بحوافره، والضمير يعود على الآتن التي مع الحمار. والرشاء: هو الحبل.
(6)
يمثود: موضع بديار غطفان، والأحساء: جمع حسى، بكسر الحاءك وهو الغدير. والسحيل: صوت الحمار الذي يخرج من جوفه.
وتفخيمها. وعندئذ يعمد إلي شيء مزيج من التكرار الترنمي والتكرار الملحوظ، على النحو الذي رأيناه في وصف السفر، مثال ذلك قول زهير:
أغر أبيض فياض يفكك عن
…
أيدي العناة وعن أعناقها الربقا
وذاك أحزمهم رأيًا إذا نبأ
…
من الحوادث غادى الناس أو طرقا
ولا أحسبه فاتك هنا موضع الضاد من "أبيض" ومن "فياض" والحاء من "أحزم" و"الحوادث".
وإذا أطال الشاعر المدح والفخر، وسلك فيها مسلك الوصف، فإنه يكثر من التكرار الملفوظ والملحوظ. وهذا الصنف ليس بكثير في أشعار الجاهلية، إذ الغالب على المدح الجاهلي والفخر الجاهلي استعمال الأسلوب الخطابي، وطلب الإيجاز مع الوضوح، وإيجاب الحقوق، كقول زهير (1):
إن البخيل ملوم حيث كان ولـ
…
كن الجواد على علاته هرم
هو الجواد الذي يعطيك نائله
…
عفوًا ويظلم أحيانًا فيظلم
وإن أتاه خليل يوم مسألةٍ
…
يقول لا غائب مالي ولا حرم
وإذا استعمل الشاعر الجاهلي الوصف بقصد التشبيه، فإنه قلما يطيل، ما دام هو في غرض المدح. وأكثر ما يطيلون فيه من تشبيهات المدح وصف الفرات والبحر، إذا أردوا أن يجعلوا الممدوح مثله في العطاء، كقول النابغة (2):
وما الفرات إذا جاشت غواربه
…
ترمي أواذيه العبرين بالزبد
يمده كل وادٍ مترعٍ لجبٍ
…
فيه ركام من الينبوتٍ والخضد
(1) من قصيدته: "عج بالديار التي لم يعفها القدم". وقوله: يظلم، بتشديد الظاء: أي ينظلم، لا من ذلة، ولكن من كرم. وقوله: خليل، يعني صاحب خلة وحاجة.
(2)
من قصيدته: يا دار مية بالعياء- والخيزرانة: سكان المركب. والنجد بالتحريك: هو العرق.
يظل من خوفه الملامح معتصما
…
بالخيزرانه بعد الأين والنجد
يومًا بأجود منه سيب نافلةٍ
…
ولا يحول عطاء اليوم دون غد
وما هو من هذا المجرى، ومن كل ما أريد به تقوية المدح وتأكيده.
والوصف في معرض المدح كثيرٌ جدًا في الشعر الإسلامي ولا سيما وصف الجروب والمغازي، وخاصة عند الشعراء العباسيين، وتجد تكرار المواضع التي دارٍ فيها القتال أو كان إليها سير الجيوش، يحتل في قصائد المدح العباسية، منزلة شبيهة بتلك التي كانت تحتلها توضح والمقراة وجومل من النسيب الجاهلي. خذ مثلًا قول أبي تمام (1):
يا يوم اشق كنت رشق منيةٍ
…
للخرمية صائب الآجال
أسرى بنو الإسلام فيه وأدلجوا
…
بقلوب أسدٍ في صدور رجال
قد شمروا عن سوقهم في ساعةٍ
…
أمرت إزار الحرب بالإسبال
وكذاك ما تنجر أذيال الوغى
…
إلا غداة تشمر الأذيال
قلت: هذا البيت الثاني كالشرح لسابقه. فقد طابق أبو تمام بين تشمير الرجال وجدهم في الحرب، وكون فظيعة هائلة غاطية الأكناف، فشبهها بالأنثى، وجعل هذا الهول وهذه الإحاطة، كالذيل السابغ الذي تلبسه الأنثى، وتخطر فيه مدلة بحسنها وجبروتها وكأنه خشي ألا يفطن السامع إلى ما في هذا التشبيه من حذق ومهارة، فاردفه بهذا اللعب اللفظي الرشيق في قوله:"أذيال الوغى" و"تشمر الأذيال"- والرشاقة في كونه اجترأ ونسب إلى الرجال أذيالا يشمرون عنها. ولعله سوغ له هذه الجرأة، ما كانوا يصفون به دروع الكماة من السبوغ والإكمال.
(1) ديوانه: 197.
رجع:
لما رآهم بابك دون المنى
…
هجر الغواية بعد طول وصال
تخذ الفرار أخًا وأيقن أنه
…
صري عزمٍ من أبي سمال (1)
قد كان حزن الخطب في إحزانه
…
فدعاه داعي الحين بالإسهال (2)
لبست له خدع الحروب زخارفا
…
فرقن بين الهضب والأوعال (3)
ووردن موقانا عليه شوازبا
…
شعثًا بشعثٍ كالقطا الأرسال (4)
يحملن كل مدجج سمر القنا
…
بإهابه أولى من السربال
خلط الشجاعة بالحياء فأصبحا
…
كالحسن شيب لمغرمٍ بدلال
أقول: وهذا المغرم هو أبو تمام نفسه، فما الذي يدعوه إلى ذكر الدلال والحسن وهو بمعرض وصف الأهوال والقتال؟ وما أحسب هذا البيت إلا منزلات القلم واللسان الفاضحة التي تبدو من الشعراء أحيانًا، مثل قول ابن الوردي في اللامية:
واله عن آلة لهو أطربت
…
وعن الأمرد مرتج الكفل
إن تبدي تنكشف شمس الضحا
…
وغذا ما ماس يزري بالأسل
فهذا شر مما نهى عنه. والقارئ يعلم أن أبا تمام كان مغرى بالغلمان، ولا يخالجني شك في أنه كان يعجبه جمال الغلمان الأتراك وهم في الزرد وعلى الخيل
(1) يشير هنا إلى خبر أبي السمال الأسدي، فقد زعموا أنه أضل ناقته، فآلى ألا يعبد الله إن لم يجدها، فخرج غير بعيد فوجدها. فلما وجدها قال:"قد علم أنها صرى": أي أن يمين أبي السمال صادقة، فرد عليه ناقته. وقول أبي تمام:"صرى عزم الخ" معناه: عزم قوي أكيد. راجع المادة في اللسان.
(2)
الحين: هو الهلاك. يعني قد كان بابك ممتنعًا بالجبال، عسيرا التغلب عليه. فدعاه هلاكه إلى النزول إلى السهل.
(3)
يقول: غرته خدع الحرب فنزل. وخدع الحروب تنزل الأوعال من الهضاب، فكيف لا تنزل غيرها، والوعل معروف بلزوم شعا الجبل.
(4)
الشوازب: هي الخيول الضوامر. وجعلها شعثًا لأنها سافرت وجابت بلادا وعليها فرسان شعث. وشبهها في السرعة بالقطا.
المطهمة، وبأيديهم النبال وفي أعينهم الأسهم. وقد أبى هذا الإعجاب الجامح الطامح إلا أن يتسرب إلى حاق الجد من شعر أبي تمام، متخفيًا تحت ستر التشبيه والمجاز والصناعة اللفظية. ونعود بعد إلى ما كنا فيه، قال:
فنجا ولو يثقفنه لتركنه
…
بالقاع غير موصل الأوصال
وانصاع عن موقان وهي لجنده
…
وله أب بر وأم عيال (1)
هيهات روع روعه بفوارس
…
في الحرب لا كشفٍ ولا أميال
جعلوا القنا الدرجات للكذجات ذا
…
ت الغيل والحرجات والأدحال (2)
فأولاك هم قد أصبحوا وشروبهم
…
يتنادمون كئوس سوء الحال
وبهضبتي أبرشتويم ودروز
…
لقحت لقاح النصر بعد حيال
يوم أضاء به الزمان وفتحت
…
فيه الأسنة زهرة الآمال
لولا الظلام وقلة علقوا بها
…
باتت رقابهم بغير قلال
فليشكروا جنح الظلام ودروزًا فهم لدروز والظلام موال
وهكذا. ولعلك أيها القارئ الكريم قد فطنت إلى موضع تكرار المواقع التي دار فيها القتال مثل أبرشتويم، ودروز، وموقان، وأرشيق. وقد كان أبو تمام شديد الطلب للجناس، وكان هذا كثير ما يدعوه للتقليل منذكر المواضع، ضنا بفنه ألا يذكر موضعا غير محلى بجناس يشبهه. على أن أبا تمام مع لإقلاله هذا، قد كان كأنما اخترع طريقة جديدة في وصف الحرب، بالنسبة إلى من سبقوه -فهو يلح في ذكر تسلسل المواقع، ويجعل أسماء الأماكن كالمعالم من هذا التسلسل الملحمي. وفي
(1) قوله أم عيال: فيه إشارة لبيت الشنفري:
وأم عيالٍ قد شهدت تقوتهم
…
إذا أطعمتهم أو تحت وتقلت
(2)
أي جعلوا القنا سلمًا يصعدون به ثم ينزلون إلى الكذجات ذوات الشجر والغابات والأدحال. وهي الحفر.
القصيدة التي استشهدنا منها بالأبيات السابقة. ذكر سبعة مواضع في نسق، أولها أرشقـ وآخرها سر من رأى، التي حدث فيها صلب بابك الخرمي.
ولا نكاد نجد من الشعراء المولدين الذين تقدموا أبا تمام، من يحرص على مثل هذا التسلسل في ذكر المواقع غير مسلم بن الوليد. وكثير من النقاد يعدونه فاتح الطريق التي انتهجها أبو تمام في أصناف الصناعة والبديع. وأحسب أبا تمام نظر شيئًا ما إلى مسلم، ولكنه اعتمد في مذهبه كل الاعتماد، على شعراء العهد الأموي. أمثال كعب بن معدان الأشعري في كلمته:
يا حفص إني عداني عنكم السفر
…
وقد سهرت فآذى جفني السهر
والأخطل في كلمته:
ألا يا اسلمى يا هند هند بني بدر
…
وإن كان حيانًا عدًا آخر الدهر
واعتماد أبي تمام على شعر السير والأخبار واضحٌ ولا سيما في هذه اللامية، خذ منها قوله على سبيل المثال:
ونجا ابن خائنة البعولة لو نجا
…
بمهفهف الكشحين والآطال (1)
ترك الأحبة ساليًا لا ناسيًا
…
عذر النسي خلاف عذر السالي
فهذه فيه إشارة بينة إلى ما ينسبونه إلى حسان من قوله يذكر هرب الحارث ابن هشام يوم بدر (2):
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم
…
ونجا برأس طرة ولجام
(1) يعني بحصان سريع ضامر. والآطال: جمع إطل، بوزن إبل وضرس، وهو موضع الخاصرة من الحصان والفرس.
(2)
سيرة ابن هشام 2: 382 - 385. الطمرة: هي الفرس السيعة.
وقد أجاب الحارث بن هشام عن هذا بقوله:
تالله إني ما تركت قتالهم
…
حتى علوا فرسي بأشقر مزبد
وشممت ريح الموت من تلقائهم
…
وعلمت أني إن أقاتل أجهد
وعلمت أني إن أقاتل واحدًا
…
أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
ففررت عنها والأحبة فيهم
…
طمعًا لهم بعقاب يوم مرصد (1)
هذا، وقد أقدم البحتري على الإكثار من التكرار، منتهجًا منهج أستاذه أبي نمام في مراعة التسلسل، وغير مشفق على فنه من ذهاب الرونق بترك الجناس والاقلال منه. ومن أجود ما جاء في شعره في هذه الطريقة قصيدته (2):
أأفاق صب من هوى فأفيقا
وقد أشرنا إليها في الجزء الأول من كتابنا (3). وفيها يقول، والحديث عن التغلبي الخارجي الذي أصابه أبوسعيد الثغري:
كنا نكفر من أمية عصبة
…
طلبوا الخلافة فجرة وفسوقا
ونقول تيم قربت وعديها
…
أمرًا بعيدًا حيث كان سحيقا (4)
وهم فريش الأبطحين إذا انتموا
…
طابوا أصولا فيهم وعروقا
حتى انبت جشم بن بكر تبتغي
…
إرث النبي وتدعيه حقوقا (5)
(1) ضم الميم من فيهم مع إشباعها أولى هنا، إذ الحارث قرشي، وهذه لغة قريش، وتميم تتبع كسرة الهاء كسرة مسبعة في الميم.
(2)
ديوانه 2: 146.
(3)
المرشد: الجزء الأول: 48 و 294.
(4)
تيم فبيلة سيدنا أبي بكر وعدي فبيلة سيدنا عمر. والإشارة هنا إلى رأي بني هاشم من الإنكار على الصديق والفارق في تقلد الخلافة دون علي.
(5)
جشم بن بكر: من أجداد تغلب.
(6)
جعل له عباءة لأن العباءة لبسة الأعراب. وجعل ثوب خلافته مشربًا يراووق، ليشير إلى أن تغلب في الأصل نصارى أكال خنزير وشراب خمر وأصحاب راووق، والراووق: هو ما تصفى به الخمر.
جاءوا براعيهم ليتخذوا به
…
عمدًا إلى قطع الطريق طريقا
طرحوا عباءته وألقوا فوقه
…
ثوب الحلافة مشربًا راووقا (6)
عقدوا عمامته برأس قناته
…
ورأوه برا فاستحال عقوقا
وأقام ينفذ في الجزيرة حكمه
…
ويظن وعد الكاذبين صدوقا
حتى إذا ما الحية الذكر انكفا
…
من أرزن حنقا يمج حريقا
غضبان يلقى الشمس منه بهامةٍ
…
تعشي العيون تألقا وبريقا
أوفى عليه فظل مندهش يعد البر بحرًا والفضاء مضيقا
غدرت أمانيه به وتمزقت
…
عنه غيابة سكره تمزيقا
طلعت جيادك من ربي الجودي قد
…
حملن من دفع المنون وسوقا (1)
يطلبن ثأر الله عند عصابةٍ
…
خلعوا الإمام وخالفوا التوفيقا
فدعا فريقا من سيوفك حتفهم
…
وشددت في عقد الحديد فريقا
ومضى ابن عمر وقد أساء بعمره
…
ظنا ينزق مهرة تنزيقا
فاجتاز دجلة خائضا وكأنها
…
قعب على باب الكحيل أريقا
لو خاضها عمليق أو عوج إذًا
…
ما جوزت عوجا ولا عمليقا (2)
لولا اضطراب الخوف في أحشائه
…
رسب العباب به فمات غريقا
خاص الحتوف إلى الحتوف معانقا
…
زجلا كفهر المنجنيق عتيقا (3)
(1) الوسق: ضرب من المكاييل. ويعني هنا: حملن أحمالا من دفع الموت.
(2)
عمليق: أبو العمالقة الطوال، وعوج: هو ابن عناق، وكان يتناول السمكة من البحر فيشويها في الشمس، فيما زعموا.
(3)
الزجل، بكسر الجيم وفتح الزاي: هو الحصان ذو الزجل، بالتحريك: أي له دري في السير، ويسمع لصدره أزبر. وهذا الحصان صلب متماسك كحجر المنجنيق، وعتيق: منسوب جيد الأصل.
لو نفسته الخيل لفتة ناظر
…
ملأ البلاد زلازل وفتوقا
لثنى صدور السمر يكتشف كربة
…
ولوى رؤوس الخيل يفرج ضيقا
أقول قد مال البحتري في هذين البيتين إلى جانب الخارجي. والبحتري على رونق لفظه قد كان بدوي النفس، جزلا. أم لعله كان صاحب تقية، وكان لا يريد أن يفرط كل الأفراط في ذم التغلبي، خشية أن يوغر صدور بعض فتاك تغلب عليه! ولا أرى لا أن القارئ قد تنبه إلى فخامة اللام في قوله لثنى، وإلى هذا النهج الفصيح الجزل الذي انتحاه الشاعر في سائر البيت. هذا، ثم يقول:
ولبكرت بكر وراحت تغلب
…
في نصر دعواته إليه طروقا (1)
حتى يعود الذئب ليثا ضيغما
…
والغصن ساقا والقرارة نيقا (2)
هيهات مارس قلقلا متيقظا
…
قلقا إذا سكن البليد وشيقا
مستسلفًا جعل الغبوق صبوحه
…
ومرى صبوح غدٍ فصار غبوقا (3)
لله ركضك إذ يبادرك المدى
…
ومبين سبقك إذ أتى مسبوقا (4)
جاذبته فضل الحياة فأفلتت
…
من كفه قمنا بذاك حقيقا
فرددت مهجته وقد كرع الردى
…
ليجف منهلا مطروقا
أقول: هذا البيت مما أتبع البحتري فيه أسلوب أبي تمام اتباعا بينا. فقد شبه مهجة الخارجي بالمنهل، ولما جعلها منهلا ذلك بأنه مطروق، على عادة
(1) طروقا: أي بليل أليل.
(2)
أي حتى يتفاهم الأمر ويعظم، وعبر عن ذلك بصيرورة الذئب أسدًا، والغصن سافا ضخما، والقرارة من الأرض نيقا. والنيق: هو أنف الجبل عند القمة.
(3)
يعني أن هذا الرجل لا يضيق ولا يجزع، ولا يتقيد منه بالتغلب على الصعوبات آخر الأمر.
(4)
الضمير في يبادرك يرجع إلى الخارجي -يقول: لله درك إذ انبرى الخارجي يبادرك إلى غاية السبق فسبقته.
الشعراء القدامى، والمنهل المطروق يكون في جمه البعر والروث والأوساخ. وتشبيه مهجة الخارجي بالمنهل المطوق يمثل ما أراده البحتري من نعته بالشراسة والعنجهية تمثيلا حسنا. ثم جعل الردى بمنزلة الكارع الظمأن الذي يريد أن يجف ذلك المنهل المطروق. ونسب إلى الممدوح حسن الصفح لأنه رد على الخارجي مهجته بعد أن كرعها الردى كرعا يريد به أن يجف منهلها ويفنيها. وهذا، ثم يقول البحتري:
لبس الحديد أساورا وخلاخلا
…
فكفيته التسوير والتطويقا
بالتل تل ربيع بين مواضع
…
ما زال دين الله فيها يوقى
ساتيدما، وسيوفنا في هضبة
…
يفرى إياس بها الطلى والسوقا (1)
حتى تناول تاج قيصر مشربا
…
بدم وفرق جمعة تفرقا
والجازران، وهتم إبراهيم في
…
ثنييهما تلك الثنايا (2) الروقا
قتل الدعي ابن الدعي بضربةٍ
…
خلس وحرق جيشه تحريقا
والزاب إذ حانت أمية فاغتدت
…
تزجي لنا جعديها الزنديقا (3)
(1) قوله سايتما وسيوفناأجود فيه النصب: أي اذكر ساتيدما وسيوفنا، والشاعر رفعه بدليل قوله: الجازران -ولم أعرف إياسًا ولا الجازرين- ولعله أن يكون قد أراد بإبراهيم، إبراهيم بن الأشتر بدليل قوله الدعي، وهو عبيد الله بن زياد، ويكون الجازر الآخر هو الحصين بن نمير السكوني، وربما كان إياس هو ابن قبيصة من رجال الجاهلية، وكان واليا من قبل النعمان -ويبعد هذه التأويلات عندي كون هؤلاء جميعا من غير طي. على أن في القصيدة ما يشعر بأن البحتري أراد إلى ذكر أبطال نصروا دعوة الشيعة، بدليل لومه لطلحة والزبير وتيمو عدي، وجراءته على هذا القول أمام ممدوحه. ولكن هذا التأويل يفسده ذكر إياس، إذ أن إياسًا هذا إن كان جاهليًا فما للجاهلين والتشيع، وإن كان إسلاميا فمن هو؟ وأبطال الشيعة معروفون عندنا.
(2)
الثنايا الروق: أي العصل المعوجة، وكنى بها عن الدواهي- يقول: هتم إبراهيم في ثنييها: أي في ثني دروعها أنيابًا عصلا: أي قتلها.
(3)
الجعدي: هو مروان بن محمد، وجعله زنديقا لأنه كان يهتم بمذهب القدرية. وقولهم الجعدي نسبوه إلى جعد بن درهم وذبحه خالد لنعبد الله القسري كما يذبح كبش الضحية.
كشفوا بتل كشاف أرواقة الدجى
…
عن عارضٍ ملأ البلاد بروقا (1)
نلناهم قبل الشروق بأذرع
…
يهززن في كبد الظلام شروقا
حتى تركنا الهام يندب منهم
…
هاما ببطن الزابيين فليقا (2)
يا تغلب بنة تغلب حتى متى
…
تردون كفرا موبقا ومروقا
ولقد نظرنا في الكتاب فلم نجد
…
لمقالكم في آيةٍ تحقيقا
أو ما علمتم أن سيف محمد
…
أمسى عذابا بالطغاة محيقا
لا تنتضوه بأن تروموا خطة
…
عسراء تعيي الطالبين لحوقا
خلوا الخلافة إن دون لقائها
…
قدرا بأخذ الظالمين خليقا
قد ردها زيد بن حصن بعدما
…
مدوا عليه رداءها المشقوقا
بالنهروان وعاهدوه فأكدوا
…
عقدا له بين القلوب وثيقا
ورجال طي مصلتون أمامه
…
ورقا هناك من الحديد رقيقا
لم يرضها لما اجتلاها صبعة
…
لم ترضه خدنا لها ورفيقا
لو واصلت أحدا سوى أصحابها
…
منهم لكان لها أخا وصديقا
فالبحتري قد ذكر في هذه القصيدة نحوا من اثني عشر موضعا واثنين وعشرين علما ومع أن الأعلام والمواضع جميعها منتزعة من صميم الوصف المتسلسل الذي أراد إليه الشاعر نجد أن أثرها في تقوية صورة الملحمة الملابسة لهذا الوصف، غير خاف. ومما يحسن التنبيه عليه هنا، أن ترديد الأعلام والمواضع في معرض أوصاف الحروب كان أشبه بترديد أسماء البلدان والعلام في شعر امرئ القيس وعند قدماء الجاهلين، منه بترديدها في أشعار جرير ومتأخرة الجاهلين. أعني بهذا أن امرأ القيس
(1) كشاف على المنع من الصرف، أو تبنيها على الكسر: أي كشفوا أستار الظلام، فانجابت عن خير الخلافة العباسية العميم الذي ملأ البلاد بروقا.
(2)
الهام الأولي: أراد بها الطير الخرافية التي تخرج من رؤوس القتلى وتناري بثاراتهم. والهام الثانية: هي الرؤوس.
والمهلهل وأضرابهما كانوا يكرون أسماء مواضع لها صلة بواقع تجاربهم، زيادة على أنهم كانوا يقصدون بذلك التكرار تقوية ما همبسببه من نسيب أو حنين أو نحوه. أما جرير ومن جاء بعده، كما قدمت، إنما كانوا يكررون مترنمين بقصد إشاعة روح الشجن "والنوستالجيا" من غير مراعاة لوجود صلة بين ما يذكرونه من أسماء، وواقع الحياة التي كانوا يعيشونها أو يتغنون بها. وأبو تمام في اللامية وغيرها والبحتري في القافية وغيرها يرددان مواضع لها صلة حيوية قوية بما هما بصدد وصفه. ولعلك أن تكون قد تنبهت لذكر البذ وأبرشتويم وموقان عند الأول. وفي هذه القافية من شعر البحتري، ورد ذكر موقان (1) كما ورد في شعر أبي تمام، وفي غير هذه القافية ورد ذكر أرشق والبذ وسواهما من أسماء المواضع الأعجمية. ولعلك تذكر ما قدمناه من أن المواضع النسبيية قد التزم الشعراء فيها نهجا خاصا، وهو ألا يتجاوزوا ذكر الأماكن الواردة في أشعار القدماء، خصوصا شعر جرير، اللهم إلا فيما عدا الأديرة، وحتى الأديرة قد وردت في شعر جرير، فهم كما ترى لم يقيدوا أنفسهم في باب الوصف الحربي كما قيدوا أنفسهم في باب النسيب والحنين. والسر في ذلك عندي، أن دينا الحنين والنسيب قد نضج التعبير عنها كل النضج في الشعر القديم، حتى صارت أمثال سلع، ودارة صلصل، وسليمانين، لها بمنزلة المعالم، وحتى جاز للشعراء أن يستشعروا الحنين وشجن النسيب بمجرد ذكر هذه الأسماء. أما مواضع القتال التي ذكرها الجاهليون فإنما كانت ترتبط بأيام العرب ونحوها مما هو بمنزلة العبث إذا قيس إلى اليرموك والقادسية ونهاوند وصفين والغمرات التي خاضها المهلب والأزارقة وقتيبة بن مسلم ورجالات الحروب في الدولة العباسية. ثم إن ذكر المواضع الأعجمية كان أدل على حال هذه الحروب المتسعة الرقعة، وأفصح في التعبير عن مجد الخلافة، وبطولة
(1) وذلك قوله:
وسل الشراة فانهم أشقى به
…
من أهل موقان الأوائل موقا
وهو البيت الثامن عشر من القصيدة.
أبطالها من ذكر ذي قار والرقم والكلاب والحشاك والثرثار وغزوات العرب الأوائل. وفي شعر أبي تمام نجد تعمدا لذكر بلدان الأعاجم كما لا تجد عند شاعر قبله من المولدين. وكأنما نظر كما أسلفنا نظرة مباشرة إلى شعر الفتوح ككلمة كعب الأشقري التي يقول فيها:
ويوم سلي وسلبرى أطاف بهم
…
منا صواعق لا تبقي ولا تذر
وكقول قطري بن الفجاءة:
ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت
…
طعان فتى في الحرب غير ذميم
وكقول يزيد بن حبناء:
لقد كان في القوم الذين لقيتهم
…
بسولاف شغل عن بزوز اللطائم
وقال الشماخ من قبل: "ألا يا أصيحابي قبل غارة سنجال" وفيها قوله:
تذكرتها وهنا وقد حال دونها
…
قرى أذربيجان المسالح والجال
وقد وجد أبو تمام ثروة من الأسماء الأعجمية، فلم يتردد في استعمالها، مثل عمورية وأنقرة (1) والبذ وأرشق وأبرشتويم وعقرقس وميمذ (2) غير أن أبا تمام كما قد ذكرنا، كان كثيرًا ما ينكص به عن إقدامه طلب التجنيس وتحري الصقل والصناعة. والبحتري أجرأ منه في هذا الباب، وسينية البحتري التي ليست من الملاحم الحربية في شيء، ويوشك غرضها أن يشابه أغراض النسيب، لما هو مشرب به من صبغة الحزن والشجن دليل قوي على ما نزعمه. ألا تجد أن الشاعر قد انتهز فيها فرصة الشبه الخفي بين المجد المتحطم الذي وقف على أطلاله وهو يتأمل الإيوان، والمجد
(1) راجع البائية: السيف أصدق أنباء من الكتب.
(2)
انظر قوله: (الديوان 223).
لئن كان أمسى في عقرقس أجدعا
…
فمن قبل ما أمسى بميمذ أجذما
الباهي الذي كان يتغنى به عند مدح قصور المتوكل وبحيراته، ثم (1) أقدم على سرد أسماء المواضع الفارسية سردا شبيها بمسلك الجاهليين في أوائل النسيب وذكر الأطلال، مع تعمد ظاهر للترنم، وإثارة الشجن؟ (وستعرض للسينية فيما بعد)، ونكتفي هنا أن ننبه القارئ إلى نحو قوله:
فكأن الجرماز من عظم الأنـ
…
ـس وإخلاله بنية رمس
وقوله:
مغلق بابه على جبل القبـ
…
ـق إلى دارتي خلاطٍ ومكس
وأجرأ من أبي تمام والبحتري كليهما، على استعمال أسماء البلدان الأعجمية وغير الأعجمية، في باب الأوصاف الحربية، وأقدر افتنانا في ذلك، وأملك لتصريفها وإلباسها روحا جزلا قويا، وجعلها تنطق بجلال يفصح كل الإفصاح عن روعة الجهاد، شاعر المولدين والعباسيين، غير مدافع، أبو الطيب المتنبي. فهو، وإن كان زمانه قد تأخر عن عهد الفتوح الجسام أيام المتصم، والملاحم الرائعة على عهد البحتري، فقد شارك في حروب سيف الدولة، وأحسن من الحرب وهولها ما لم يحسه البحتري وأبو تمام، وأوتي من قوة التعبير ووضوحه ونصوعه وجسارته وجزلته، ما قل نظيره بين المحدثين. وكأن عمل أبي تمام وأبي عبادة، إنما كان إعدادا لما سيأتي به هو من روائع. خذ على سبيل المثال قوله (2):
(1) حين نقول: إن الشاعر انتهز فرصة السبه الخ، لا نريد أن نقرر أنه أمسك بقرطاس وقلم، ثم قال: غرضى فيه نفخة نسيبية، وفيه بكاء على مجد، فدعني أستعمل لغة المجد من ذكر مواضع أعجمية إلى غير ذلك، وأصوغها صياغة النسيب، ثم جعل يثبت على القرطاس، ويمحو في ضوء هذا الخاطر
…
كلا، إنما نحاول أن نصف الانفعال يأتي بها الشاعر دفعة واحدة، بعد انفعالات خفية طويلة الجولان في صدره.
(2)
ديوانه 4: 517 (العكبري).
الراجع الخيل محفاة مقودة
…
عن كل مثل وبارٍ أهلها إرم (1)
كتل بطريق المغرور ساكنها
…
بأن دارك قنسرون والأجم
وظنهم أنك المصباح في حلب
…
إذا قصدت سواها عمها الظلم
والشمس يعنون إلا أنهم جهلوا
…
والموت يدعون إلا أنهم وهموا
فلم تتم سروج فتح ناظرها
…
إلا وجيشك في جفنيه مزدحم
والنقع يأخذ حرانا وبقعتها
…
والشمس تسفر أحيانا وتلتثم
سحب تمر بحصن الران ممسكة
…
وما بها البخل لولا أنها نقم
جيش كأنك في أرضٍ تطاوله
…
فالأرض لا أمم والجيش لا أمم
إذا مضى علم منها بدا علم
…
وإن مضى علم منه بدا علم
وشزب أحمت الشعري شكائمها
…
ووسمتها على آنافها الحكم (2)
ولا أكاد أمسك قلمي عن الاستطراد في هذا الموضع -وألفتك أيها القارئ الكريم إلى هذه الجلبة والضوضاء التي يخلقها الشاعر خلقا، لينقلنا إلى جو المعمعة. ولا أظن أن المعامع التي شهدها أبو الطيب مع سيف الدولة كانت هذا الهول الذي يصفه، ولا أن خليه كانت كما يزعم الشاعر، تزدحم في أجفان المواضع قبل أن ننم فتح نواظرها، ويستر غبارها الشمس، فتسفر أحيانا وتلتثم، ويباري سحابها السحاب في التحليق على آفاق البلاد، ويطاول الأرض، فإن مضى منها علم بدا منه علم- لا أظن أن الواقع كان يشبه شيئا من هذا إلا في صورة مصغرة. وإنما قد كانت المعمعة حقا في صدر المتنبي، وفي خفايا نفسه. ولعلك بعد قد تأملت هذا السرد العنيف القوي للمواضع- وبار، وتل بطريق، وقنسرين، وسروج، وحران،
(1) أي هو -يعني سيف الدولة- يرجع الخيل وقد كلت ووجيت، يقودها الفرسان من بلاد خربت، حتى صارت كل واحدة منها مثل وبار البائدة، التي كانت تسكنها إرم.
(2)
الشزب: هي الخيل. والشعرى تبدو في الصيف. والحكم، جمع حكة: وهي ما يزم به أنف الحصان من اللجام، أو هي حديدة اللجام.
وحصن الران، وقد كان مثل هذا العدد كافيا للبحتري، وأقل منه يكفي أبا تمام. أما أبو الطيب فهذا إنما كان طرفا من نفسه، وفيه بقية صالحة بعد. أنظر قوله:
حتى وردن بسمنين بحيرتها
…
ينش بالماء في أشداقها اللجم (1)
وأصبحت بقرى هنزيط جائلة
…
ترعى الظبا في خصيب نبته اللمم (2)
فما تركن بها خلدا له بصر
…
تحت التراب ولا بازا له قدم
لا هزبرا له من درعه لبد
…
ولا مهاة لها من شبهها حشم (3)
ترمي على شفرات الباترات بهم
…
مكامن الأرض والغيطان والأكم
وجاوزوا أرسناسا معصمين به
…
وكبف يعصمهم ما ليس ينعصم
ولا تصدك عن بحر لهم سعة
…
ولا يردك عن طود لهم شمم
وهكذا وهكذا في تيار من القول قؤي مندفع، لا يكاد يصده شيء. ودونك قوله في أخرى من كلماته (4):
رمى الدرب بالجرد الجياد إلى العدا
…
وماعلموا أن السهام خيول
شوائل تشوال العقارب بالقنا
…
لها مرح من تحته وصهيل (5)
وما هي إلا خطرة عرضت له
…
بحران لبتها قنا ونصول
فلما تجلى من دلوك وصنجة
…
علت كل طود راية ورعيل
(1) جعل الماء ينش، ونشيش الماء: صوته إذا غلا، لأن اللجم كانت محماة من الحر.
(2)
جملة ترعى حالية، والظبا: فاعل ترعى، يقول: جعلت الخيل تجول في قرى هنزيط، وكانت السيوف ترعى مرعى خصيبا: هو الرؤوس التي تنبت اللمم، جمع لمة: وهي شعر الرأس.
(3)
يقول: هذه السيوف لم تغادر أحد إلا قتلته أو سبته، وكان الروم قد اختفوا في مكامن من سراديب فشبههم بالفئران العمى، واحدها: خل، وهي تختفي في الأرض، فقال: إن هذه السيوف لم تترك خلدا ذا بصر إلا قتلته، ولا ظبية تخدمها الظباء إلا سبتها.
(4)
هي ليالي بعد لظاعنين شكول.
(5)
شوائل بالقنا: أي رافعة للقنا.
على طرق فيها على الطرق رفعة
…
وفي ذكرها عند الأنيس خمول
فما شعروا حتى رأوها مغيرة
…
قاحا وأما خلقها فجميل
سحائب يمطرن الحديد عليهم
…
فكل مكان بالسيوف غسيل (1)
وأمسى السبايا ينتحبن بعرقة
…
كأن جيوب الثاكلات ذيول
وعادت فظنوها بموزار قفلا
…
وليس لها إلا الدخول قفول
وكرت فمرت في دماء ملطية
…
ملطية أم للبنين ثكول
وأضعفن ما كلفنه من قباقب
…
فأضحى كأن الماء فيه عليل
ورعن بنا قلب كأنما
…
تخر عليه بالرجال سيول
يطارد فيه موجه كل سابحٍ
…
سواء عليه بالرجال سيول
يطارد فيه موجه كل سابح
…
سواء عليه غمرة ومسيل
تراه كأن الماء مر بجسمه
…
وأقبل رأس وحده وتليل (2)
وفي بطن هنزيط وسمين للظبا
…
وصم القنا ممن أبدن بديل
وهكذا وهلم جرا. وإبداع المتنبي ذي ذكر المواضع الحربية، وتمكنه من إشعار السامع والقارئ بحركة السير، ومنازل القتال، ومن إطفاء الجلال والجلبة على الوصف، كل ذلك مما لا يجاري فيه ولا يباري.
وبعد، فلعل هذه الصورة الخاطفة قد أعطت القارئ فكرة واضحة عما زعمنا من أن الشعراء قد استعملوا تكرار المواضع والأعرم في تقوية المعاني الصورية اللاحقة بالمدح وصفات القتال، كما استعملوه لتقوية المعاني الصورية اللاحقة بالشجن والحنين وما بمجراهما في النسيب ونحوه.
(1) غسيل: أي مغسول. لما جعل السحب، وهي الخيل، تمطر حديدا، جعل البلاد مغسولة بهذا الحديد، لأنه يريق الدم الأحمر.
(2)
يقول: هذه الخيل تفتحم الماء لا يروعها الضحل ولا العميق، وترى الحصان وهو يسبح، قد غاب كله في الماء إلا رأسه وعنقه، وهو تليه، فكأن الماء أخذ جسمه، وأقبل الرأس وحده مع التليل.